حزب الله بين خطابين متناقضين

إذا حلَّلنا "الخطابَ الشعبي المتداول" حول حزب الله وزعيمه، حسن نصر الله، قبل اغتيالِه من طرَف إسرائيل، فسنجد أنفسَنا أمام خطابين متناقضين، أي أمام خطابين أحدُهما يُمجِِّد هذا الحزبَ وزعيمَه، والآخر يُهينُهما ويحتقرهما. ولا أحدَ من هذين الخطابين يقول الحقيقة التي يُبيِّنها الواقع بكل وضوحٍ. إنه، فقط، خطابٌ تطغى عليه الازدواجية النابعة من الحُكم على الأشياء من منطلق العاطفة، وليس من مُنطلق العقل. فما الذي أقصده ب"الخطاب الشعبي المتداول" وما الذي لأقصدُه ب"الازدواجية"؟

"الخطاب الشعبي المتداول" هو مجموعة الأقوال المتداولة بين الناس، والتي لا يملك مَن يُداوِلها أي دليلٍ يُثبت صحَّتها أو عدمَ صحَّتِها. وإن شئنا، "الخطاب الشعبي المتداول"، عبارة عن مجموعة آراء شخصية opinions personnelles، أي مجرَّد ارتسامات صادرة عن شخصٍ أو أشخاص حول عددٍ من المواضيع أو الأحداث. و"الخطاب الشعبي المتداول" مختلفٌ عن المعرفة العقلانية connaissance rationnelle التي يمكن إخضاعُ إنتاجِها لمنهجية علمية مدروسة.

وهنا، لا بدَّ من إثارة الانتباه أن "الخطابَ الشعبي المتداول" le discours populaire commun، عوض أن يكونَ مُتدبَّراً فيه، منطقيا ومُركَّزاً على المواضيع أو الأحداث التي تشغل بالَ الناس، فإنه، في غالب الأحيان وخصوصا أثناء الأزمات في منطقتما العربية، يتَّسم بجرعةٍ عاليةٍ من الازدِواجيةً le dualisme، أي يتناول نفسَ الموضوع أو الحدَث بخطابين مُتضادَين أو متناقضين antagonistes. بمعنى أن فئةً من الناس تميل إلى هذا الموضوع وتقول في شأنه، كما سبق الذكرُ، كلاما جميلا، بينما فئةٌ أخرى ترى نفس الموضوع أو الحَدَث بنظرة سيِّئة فتقول في شأنه كلاماً قبيحا. فما هو المقصود ب"الازدواجية" وب"الخطاب"؟

مفهوم "الازدواجية" الذي يعنيني، في هذه المقالة، له علاقة بالفكر، أي بالعقول التي تقول، في نفس الوقت وفي نفس الظروف وفي نفس الموضوع أو الحَدَث، القَولَ وعكسَه أو ضدَّه. تقولُ القولَ وعكسَه، لإرضاء أطرافٍ معيَّنة. وهذا يعني أن الشخصَ المُخاطِبَ أو الأشخاص المُخاطِبين، الذي/الذين يقول/يقولون القولَ وعكسَه، يتقمَّص/يتقمَّصون شخصيةَ المنافق، فقط، ليُرضيَ/ليُرضوا، في آن واحدٍ، هذه الأطراف المعيَّنة. ونحن نعرف، حقَّ المعرفة، أن كِلا الطرفين منافقان لأن خطابَهم صادرٌ، كما سبق الذكرُ، عن العاطفة وليس عن العقل. ونعرف، كذلك، أن المُنافِقَ شخصٌ مخادعٌ، أي شخصٌ يُظهِر للناس سلوكا أو تصرُّفاً مُخالفاً لما يُضمِرُه أو يُخفيه من أفكار. والغريب في الأمر أن المنافِقَ يعرف أنه منافقٌ، بمعنى أنه، على الإطلاق، لا يخجل من نفاقه.

أما المقصود من مفهوم "الخطاب"، فهو كل الأقوال الشفوية أو المكتوبة الموجَّهة لعامَّة الناس. وبتعبيرٍ آخر، الخطابُ عبارة عن رسالةٍ يُرادُ إيصالُها إلى الجمهور لإيضاح حدَثٍ من الأحداث أو موضوعٍ من المواضيع. والخطاب أنواع. ففيه ما هو متعلِّقٌ بالدين، وفيه ما هو متعلِّق بما ينفع الناسَ في حياتِهم اليومية، وفيه ما هو إعلامي (صحفي)، وفيه ما هو إشهاري، وفيه ما هو اقتصادي، وفيه ما هو سياسي، وفيه ما هو متداولٌ بين عامة الناس (خطاب شعبي عمومي أو عام)… وعندما أقول " الخطاب الشعبي (العمومي أو العام)"، فالمقصود هو الخطاب الصادر عن ناس موصوفين من طرَق كثيرٍ من النُّقَّاد بإلقاء الكلام على عواهنِه، أي التَّحدُّث بدون تدبُّر أو تفكير. وغالباً ما يكون الخطاب الشعبي المتداول عاطفياً، أي ينقصُه التَّعقُّل.

و"الخطاب الشعبي المتداول" بين عامة الناس، أي الخطاب العمومي، هو موضوعُ هذه المقالة، وهو الذي يستأثِر أكثرَ من غيره بالازدواجية، أي بنفاقٍ واضحِ المعالِم. وحتى أستدِلُّ بمثال نابعٍ من الواقع، سآخذُ كمثالٍ ما وقع مؤخَّرا في جنوب لبنان، أي ما وقع يوم الجمعة 27 شتمبر 2024. وأعني بذلك الهجوم الذي شنَّته إسرائيل على مقرِّ حزب الله وأسفر عن مقتل حسن نصر الله، زعيم هذا الحزب. سأبدأ بالخطاب الذي يُمجِّد حزبَ الله وزعيمَه، حسن نصر الل، أي سأكتفي بالحديث عن الفئة التي تصف حزبَ الله وزعبمَه، حسن نصر الله، بأحسن وأجمل الصفات.

مَن يُمجِّد حزبَ الله ألَّفوا في حقه القصائدَ الشعرية وألَّفوا الكتُبَ ونشروا مقالات في الصحف وفي مواقع التوأصل الاجتماعي. وكلُّ ما نُشِرَ وقيلَ في حق حزب الله وزعيمِه، حسن نصر الله، مدحٌ وتمجيدٌ وحماسٌ ونضالٌ وكفاحٌ ومواطنة ومقاومةٌ وفداءٌ وصمودٌ وانتصارٌ وغيرة ودفاع وقوة وذكاءٌ… غير أن المُتمعِّنَ في هذا النوع من الخطاب الجميل والمُمَجِّد لحزب الله وزعيمِه، حسن نصر الله، يجد أنه مخالِفٌ، بثمانين درجة، عن الواقع، أي عن ما يحدث في ها الواقع. بمعنى أن هناك مسافاتٍ كبيرةً بين الخطاب الجميل وما يفرضه الواقع. فكيف يمكن تفسيرُ ذلك؟

جواباً على هذا السؤال، أكرِّرُ، كما سبق الذكرُ، أن هذا النوعَ من الخطاب صاذرٌ عن العاطفة وليس عن العقل. وكل خطابٍ صادرٍ عن العاطفة، فهو تعبيرٌ عن ضعفٍ لا يجرأ صاحبُه على اللجوءِ إلى العقل، لانَّ العقلَ سيقوده إلى الوقوف على إمورٍ أو حقائق صادمة يُبيِّنها الواقع بكل وضوح. وهذا لا يعني أن حزب الله لا يستحق هذا النوعَ من الخطاب. لا أبدا! حزب الله يستحق المدحَ والتَّمجيدَ لانه يقف وجها لوجهٍ وندّا لندٍّ مع إسرائيل ويقاومها ويتحدَّاها. فأين يوجد الخلل؟

يوجد الخللُ في كون حزب الله حزبٌ سياسي، أولا وقبل كل شيءٍ. والأحزاب السياسية تنشَأُ للدفاع عن مصالح الوطن، وهنا عن مصالح لبنان، والمساهمة في تنمية هذا الوطن والمشاركة في عِزَّته وكرامة مواطنيه. ما لا يُدركُه المتعاطفون مع حزب الله وزعيمه، حسن نصر الله، رحمه اللهُ، أو يدركونه ويتغاضون عليه تحت ضغط العاطفة، هو أن حزبَ الله، أولا وقبل كل شيء واستناداً على ما يفرضه الواقع، هو واحدٌ من الأدرع التي تعتمد عليها إيران لبسط نفوذها السياسي على جزءٍ من الشرق الأوسط، شأنُه شأنَ حماس في غزة أو الحوثيين في اليمَن أو عبر المد الشيعي في العراق وسوريا. حزب الله، حزبٌ سياسي لكنه، خلافا للأحزاب السياسية المعتادة والمتعارف على وجودها كونياً، حزبٌ مسلَّحٌ من طرف إيران. وهنا بيتُ القصيد. أي أن حزبَ الله ليس حزبا سياسياً لبنانياً، أي نابعا من أعماق الشعب اللبناني ويُمَثِّلُه أحسن تمثيلٍ. وكونُه حزبا سياسياً مسلَّحاً جعل ويجعل منه حزباً قوياُ له نفوذ سياسي داخل لبنان إلى درجة أنه يُشكِّل دولةً داخل الدولة اللبنانية. وقد وقف هذا الحزبُ حجر عشرة ضد انتخاب رئيس للبنان، حيث أن هذا البلد، إلى يومنا هذا، لا يزال، بسبب عرقلة حزب الله، بدون رئيس حيث تتولَّى حكومة تصريف الأعمال تسييرَ شؤونه الوطنية. حزب الله تأسَّس سنةَ 1982 بوصاية من إيران الخمينية. هدفُه الأساسي، عوض أن يكونَ مُمَركزاً حول خدمة مصالح لبنان، فقد ركَّز جهودَه لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وهذا شيءٌ مرغوبٌ فيه، لكن ليس على حساب استقرار لبنان وأمنه وسلامة سكانه. وهذا يعني أن استقرارَ لبنان وأمنَه ليسا من أولويات حزب الله. الأولوية الحقيقة لحزب الله وزعيمه، حسن نصر الله، هي خدمة مصالحَ الجمهورية الإيرانية من قلب لبنان. وهذا شيءٌ لا تقبله العقول الرزينة والمُتَّزِنة. بل إن حزبَ الله وزعيمه، حسن نصر الله، يُشاركان في نشر المذهب الإيراني الشيعي داخل البلدان العربية، كما يشاركان في إرساء التَّحكُّم عن بُعد في مصير بعض البلدان العربية كاليمن وسوريا والعراق.

ولمزيدٍ من التَّوضيح، حسن نصر الله، ازداد سنة 1960، وتولَّى مهمة الأمانة العامة لحزب الله منذ سنة 1992. وهوأحد مُؤسِّسي حزب الله. مرشدٌ ديني لحزبه وشخصية سياسية بارزة تكاد تكون هي المُسيِّر الحقيقي للجمهورية اللبنانية سياسيا. قاد الحربَ ضد إسرائيل سنة 2006 وحقَّق بعض المكاسب، وعلى رأسِها تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. وفي الحقيقة، حسن نصر الله امتدادٌ لإيران ولمذهبها الشيعي. فعوض أن تتواجهَ إيران مع إسرائيل، فإن حسن نصر الله ينوب عنها في هذه المواجهة، أي يقود هذه المواجهة بالوكالة، ومن داخل لبنان. إنه، كحماس والحوتيين، يُنفِّد الأجندة السياسية الإيرانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى