د. أحمد الحطاب - كل شيءٍ، في الدنيا، مُعرَّفٌ ومُفسَّرٌ من وِجهة نظرٍ أنانيةٍ للإنسان العاقل

المقصود من هذا العنوان، هو أن الإنسانَ العاقلَ، عندما يريد أن يَفسِّرَ أو أن يصفَ ما يجري من أحداثٍ événements ومظاهر الواقع apparences de la réalité والظواهر الاجتماعية أو الطبيعية phénomènes sociaux ou naturels في حياتِه اليومية، فإنه ينطلق، دائما، من رصيده المعرفي، أي من ثقافته ومن تراكم ما تعلَّمه من الحياة، وما علَّمته هذه الحياة، من خلال التَّجارب والممارسات. لكنه يُفسِّر هذه الأشياء من منظور أناني، أي يُفسِّرها معتبِراً نفسَه كأنه المخلوق الحي الوحيد الموجود على سطح الأرض.

والمعارف التي يتوفَّر عليها الإنسانُ، إما أن تكونَ علمية، أي ناتجة عن بحثٍ مُنظَّم ومُمَنهج داخلَ أو خارجَ المختبرات. وإما أن تكون اعتِباطية أو عشوائية arbitraires، راكمها الإنسانُ من خلال احتكاكِه بالآخرين أو راكمها عبر مُعتقداتٍ croyances ناتجة عن القيل والقال commérages أو عن التناقل colportage بين الأجيال.

وهذا يعني أن الإنسانَ يُفسِّر كلَّ الأشياء المُحيطة به ويستوعبها من منظورٍ خاص به. وبما أنه هو الكائن الحي الوحيد الذي يتوفَّر على عقلٍ يفكِّر به ويُحلِّل به ويدرس ويُقارن ويستنتِج…، فإنه يتصرَّف في حياتِه اليومية أو في وسط عيشه كأنه هو مركز الكون.

وبالتالي، كل تفسير لأشياء الواقع أو كل إنتاجٍ للمعرفة التي يستعملها الإنسانُ لوصف الواقع أو مُكوِّناتِه، سواءً كانت علمية أو عشوائية، لا يمكن فصلُهما عن منظور الإنسان المُسبق للأشياء أو للواقع. أو بعبارة أخرى، لا يمكن فصلُهما عن دائرة معتقداته ses croyances. أو لنقول لا يمكن فصلُهما عن ذاتيته sa subjectivité. والذاتية هي الموقف الذي يقود الشخصَ المُفكِّرَ le sujet pensant إلى تفسير الأشياء انطلاقا، أحياناً، من قناعاته الخاصة convictions personnelles وليس انطلاقا من كينونة الشيء المُراد تفسيرُه.

وهنا، لا بدَّ من الإشارة أن العلماء الباحثين، مهما كانوا موضوعيين في أبحاثهم، لا يستطيعون أن يُفلتوا من تأثير ذاتيتهم أثناء تفسيرهم لبعض الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية. لماذا؟ لأن العالِمَ الباحثَ، كأيها الناس، كائنٌ اجتماعي/تاريخي un être socio-historique، أي يعيش داخلَ مجتمعٍ، وبالتالي، لا بدَّ أن تكونَ له آراءٌ opinions حول العديد من الأشياء التي تُؤثِّث الحياةَ اليومية. أو بعبارة أخرى، يجرُّ وراءه مَعِيشاً اجتماعياً un vécu social، لا يمكن أن يتخلَّصَ منه بسهولة، وبالأخص، أثناءَ قيامه بأعمال البحث.

وللتَّذكير، الآراء، كآراء، تختلف عن المعرفة العِلمية التي يمكن التَّأكُّدُ من صحتها عن طريق التَّجريب والمقارنة والبرهنة. أما الآراء تبقى مُجرَّد آراء إذ لا يملك صاحبُها أيَّ دليلٍ يُثبت صحَّتَها أو عدمَ صحتها. الآراء تحتمل الصواب كما تحتمل عدمَ الصواب.

وهذه الطريقة في تفسير الأشياء، انطلاقا من منظورٍ يكون فيه الإنسان هو مركز الكون، يُطلَقُ عليها تسمية "المنظور الإِنسي/المركزي أو النظرة الإِنسية/المركزية vision anthropocentrique. والأمثلة، في هذا الصدد، كثيرة، أذكر من بينها ما يلي :

1.لمَّا تطوَّر عقلُ الإنسان، واستطاع الوصول، تدريجياً، إلى مستويات لا بأسَ بها من الإدراك والذكاء، رأى في مُكوِّنات الطبيعة، وخصوصا الحية منها، أشياءَ قد تصلح لسدّ العديد من حاجياتِه ses nombreux besoins. حينها، صنَّف الكائنات الحية، سواءً كانت حيواناً أو نباتاً، والتي يستفيد منها إلى كائنات حية نافعة êtres vivants utiles، بينما الكائنات الحية الأخرى التي لم يستطع الاستفادةَ منها، في وقتٍ من أوقات وجوده، صنَّفها، حيواناً كانت أم نباتاً، إلى كائنات حية غير نافعة êtres vivants non utiles أو كائنات حية خطيرة أو هدَّأمة أو عدُوَّة للإنسان.

والحقيقة أن هذا التَّصرُّف أو السلوك نسبي relatif قد يُكذِّبه الواقع. والدليل على ذلك أن كثيرا من أنواع espèces الحيوانات، رغم تصنيفه لها ككائنات حية غير نافِعة، أي إما مُضرة nuisibles، وإما وحشِية sauvages وإما شَرِسة féroces، فإن نفسَ هذه الحيوانات، إن تمَّ تدجبنُها ،domestication منذ الصِّغر، تصبح مُروَّضة apprivoisés وغير مؤذية inoffensifs وأليفة familiers…

2.أما النباتات، فكثيرٌ منها صنَّفه الإنسانُ في خانة النباتات السامة أو المُضِرة بصحة هذا الأنسان أو لكونها تتسبَّبُ في التخدير أو التَّسمُّم… غير أن الأبحاثَ بيَّنت، في وقتٍ لاحقٍ، أن نفس النباتات قد تصلح لأغراض طبية أو لأغراضٍ تجميلية cosmétiques…

إن هذين المثالين دليلان قطعيان على أن الإنسانَ يفسِّر الأشياءَ من منظور أناني، أي معتبِرا نفسَه مركزَ العالم، أو بعبارة أخرى، كل شيءٍ، في الأرض مِلكٌ له أو مُسخَّرٌ له وحده، وله وحده. لهذا، كل شيءٍ، في هذه الأرض، يفسِّره هذا الإنسان من هذا المنطلق الأناني égoïste، أي من منظورٍ إنسي/مركزي، كما سبق الذكر.

3.وخير مثالٍ يمكن سياقُه، في هذا الصدد، التَّعريف الذي يُعطيه الإنسان لمفهوم "البيئة". الإنسان يعرِّف البيئةَ بالنسبة لوجوده، فيقول مثلاً : "البيئة هي كل ما يُحيط بالإنسان"، أي أن مُكوِّنات البيئة، حيةً كانت أم غير حية، هي التي تُحيط بالإنسان. والملاحظ هنا، هو أن الإنسان نصَّب نفسَه مركزَ هذه البيئة، بمعنى أن هذه البيئةَ مسخَّرة له وحده، وله وحده. إنه تعريف لا يعترف بوجود الكائنات الحية الأخرى، أي ليس لها الحقُّ في الاستفادة من مُكوِّنات نفس البيئة.

وما يزيد في حجم أنانية الإنسان، هو أنه يتصرَّف في البيئة وكأنه يوجد خارجَها. ولهذا، فتصرُّفات الإنسان داخلَ البيئة متطابقة مع نظرته الأنانية لها. والنتيجة هي الخراب الذي ألحقه الإنسان بالبيئة الطبيعية والمُجدثة من طَرَفِه، ناسِياً أو متناسياً أنه هو المحرِّك الأساسي لكل نشاطٍ داخلَ هذه البيئة.

فكلما أراد الإنسان أن يُفسِّرَ أشياءَ الوسط الذي يعيش فيه، فإنه يُسقِط projette أنانيتَه son égoïsme على هذه الأشياء، فتصبِح مُعرَّفةً ومُفسَّرة انطلاقا من نظرتِه الإنسية/المركزية anthropocentrique.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى