د. أحمد الحطاب - أحزاب سياسية فاشلة، وعلى طول الخط، في محاربة الفساد

لماذا أقول "أحزاب سياسية فاشلة، وعلى طول الخط". لا شكَّ أنكم لاحظتُم أنني لم أُسَمِّ أيَّ حزب من الأحزاب السياسية، وخصوصا، تلك التي تمكَّنت، عبر الانتخابات، أن تصلَ إلى ممارسة السلطة، أي إلى الإشراف على تدبير الشأن العام. لماذا؟

لأن أي حزبٍ سياسي وصل إلى السلطة، بإرادة شعبيةٍ، كان عليه، إن كانت نواياه صافية، أي مبنيةً على حب الوطن والإخلاص له، أن يجعلَ من محاربة الفساد أولويةَ الأولويات. وإلا كيف لهذا الحزب أن يُدبِّرَ الشأنَ العامَّ في مناخ أصبح فيه الفسادُ ثقافةً وخيطاً ناظِما لواقع أمور الناس، العامة منها والخاصة.

وعندما قلتُ، في عنوان هذه المقالة، "وعلى طول الخط"، لأنه، لو حاربت الأحزابُ السياسيةُ الفسادَ منذ الستينيات، لاختفى هذا الفسادُ، أو على الأقل، لخفَّت حِدَّته وانتهينا من مصائبه وكوارثه! بل الملاحظ، هو أنه كلما تعاقبت الأحزاب السياسية على تدبير الشأن العام، كلما زاد الفسادُ انتشارا وحِدَّةً. لماذا؟

لأنه، داعيَ للقول أن الفسادَ له انعكاسات سلبية على التنمية وعلى خلق الثروة وعلى حجم الناتج الداخلي الخام Produit Intérieur Brut PIB، وما هو مهمٌّ، على سُمعة البلاد وتقديرها بين الأمم.

لستُ انا مَن يقول هذا الكلام. بل إنه صادرُ عن آخر تقرير نشرته، سنةَ 2023 الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الفساد ومحاربته Instance Nationale de la Probité et de la Lutte .contre la Corruption وهذه الهيئة هي مؤسسة دستورية استشارية consultative، شأنها شأنَ مؤسسات أخرى استشارية، كمجلس المنافسة والمجلس الوطني الاجتماعي، الاقتصادي والبيئي ومحلس الشباب… أُنشِئت لمساعدة الدولة/الحكومة على تدبير الشأن العام طِبقا لما ينص عليه دستورُ البلاد والقوانين التنظيمية للمؤسسات العمومية.

وهذه المساعدة تتمُّ من خلال إصدار تقاريرَ سنويةً تبيِّن، بكل وضوح، الاختلالات التي قد تُعرقل السيرَ العادي لتدبير الشأن العام.

ناهيك عن التقارير السنوية التي يُصدرها المجلس الأعلى للحسابات Cour des Comptes، الذي هو مؤسسة دستورية تنفيذية، مستقلة عن الحكومة والبرلمان. والمجلس الأعلى للحسابات مُناطةٌ به مهمة مراقبة المالية العمومية les finances publiques للدولة، من خلال السهر على احترام مبادئ الشفافية وقِيم الحكامة الجيدة la bonne gouvernance.

وكل التقارير، سواءً تلك الصادرة عن المؤسسات الاستشارية أو عن المجلس الأعلى للحسابات تُقدَّم للجهات الحكومية أو البرلمانية المختصة للبثِّ فيما جاء فيها من توصيات.

هذه المؤسسات الاستشارية إصافةً إلى المجلس الأعلى للحسابات الذي هو هيئةٌ مستقلة، هي، في الحقيقة، تلعب دورا أساسيا في تقديم المشورة أو التقارير للدولة أو للحكومة لتدارُكِ ما قد يحصل من اختلالات في تدبير الشأن العام.

إضافةً إلى كل هذه المؤسسات الدستورية الاستشارية والمجلس الأعلى للحسابات، تجب الإشارة إلى أن كلَّ الوزارات، بدون استثناء، تتوفَّر على مفتِّشياتٍ عامة inspections générales دورها الأساسي هو السهر على مراقبة أنشطة الوزارات، إداريا وماليا، وما لهذه الوزارات من مؤسسات تابعة لها.

وفي هذا الصدد، هناك ثلاثة أسئلة لا مفرَّ منها :

السؤال الأول : "هل الحكومة تأخذ بعين الاعتبار ما تقدِّمه لها المؤسسات الدستورية الاستشارية من مشورات؟"

السؤال الثاني : "هل تقارير المجلس الأعلى للحسابات تؤخذ بعين الاعتبار وتؤدي إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة في حق كل مَن ثبتت مسئوليتُه في الإخلال بالقانون؟"

السؤال الثالث : "هل المفتِّشيات العامة للوزارات تقوم بأدوارِها القانونية؟".

الجواب على هذه الأسئلة لا يحتاج إلى توضيح. الحكومة والبرلمان لا يأخذان بعين الاعتبار، لا تقارير المؤسسات الاستشارية ولا تقارير المجلس الأعلى للحسابات، والمفتِّشيات العامة للوزارات لا تقوم بالأدوار المنوطة بها طِبقاً للقانون.

الحكومة والبرلمان لا يأخذان بعين الاعتبار تقارير المؤسسات الاستشارية مُدَّعيةً أنها غير مُلزَمة بآرائها ما دامت استشارية.

الحكومة والبرلمان لا يأخذان بعين الاعتبار تقارير المجلس الأعلى للحسابات لأنه، إلى حدِّ الآن، لم نسمع أن بعضَ الملفات أحيلت على القضاء لاتخاذ الإجراءات الازمة في حق كل مَن أخلَّ بقوانين الحكامة الجيدة.

الحكومة والبرلمان لم نسمع أنهما تساءلا عن عدم قيام المفتِّشيات العامة بالأدوار المنوطة بها قانونيا. وعلى سبيل المثال، الجماعات المحلية، قانونيا، تابعة لوزارة الداخلية. فهل تقوم المفتِّشية العامة لهذه الوزارة بمراقبة السير العادي والقانوني للجماعات المحلية، علما أن هذه الجماعات أصبحت أوكارا للفساد؟

ما هو ملموسٌ و واضِحٌ للعيان، هو أن الحكومةَ والبرلمان يلتزمان صمتا رهيباً إزاءَ كل التَّقارير الصادرة عن المؤسسات الدستورية الاستشارية وعن تقاريرِ المجلس الأعلى للحسابات. وهذا الصمت الرهيب، هو الذي يجعل متتبِّعَ تدبير الشأن العام أو لنقولَ يجعل كثيرا من المواطنات والمواطنين يطرحون على أنفسِهم تساؤلات عِدة من قبيل :

-ما الفائدة من وجود مؤسسات استشارية ومن المجلس الأعلى للحسابات ومن المفتِّشيات العامة؟

-لماذا الحكومة والبرلمان يواجهان تقارير المؤسسات الدستورية الاستشارية وتقارير المجلس الأعلى للحسابات بصمتٍ رهيب؟

هذان التساؤلان، هما الآخران، لا يحتاجان إلى توضيح. مَن لا يحارب الفسادَ، يُساهم في انتشاره، عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ.! والحقيقة، كل الحقيقة، هو أن الأحزابَ السياسيةَ التي تُدبِّر الشأن العام، حكومياً أو برلمانياً، تضرب عرض الحائط مشورات المؤسسات الدستورية الاستشارية ولا تجرُأ على تفعيل تقارير المجلس الأعلى للحسابات. لماذا؟

لأنه، اولا، الحكومةَ والبرلمان يفضِّلان ضياع المال العام في تسيير المؤسسات الدستورية الاستشارية وتسيير المجلس الأعلى للحسابات، على أن يُطرحَ مشكلُ الفساد على طاولة النقاش والمحاسبة.

ثانياً، لأنه كما قلتُ أعلاه : "مَن لا يحارب الفسادَ يُساهم في انتشاره". بمعنى أن الأحزابَ السياسيةَ، المُدبِّرة للشأن العام، أن لم تحارب الفسادَ، فهي مسئولة عن انتشاره. وبعبارة أخرى، الفساد نابعٌ عن سوء تدبير الشأن العام، إما باختلاس المال العام أو عن طريق المحسوبية népotisme والزبونية clientélisme أو favoritisme ونزولاً أو إرضاءً للقضايا الحزبية الضيِّقة. وما دامت الأحزابُ السياسيةُ التي تُدبِّر الشأن العام هي المسئولة عن انتشار الفساد، فكيف لهذه الأحزاب أن تحاربَ نفسَها بنفسها؟

لهذا، الأحزابُ السياسيةُ التي تدبِّر الشأن العام، لم تجرأ ولن تجرأَ على محاربة الفساد. إن هي عملت بمشاورات المؤسسات الدستورية الاستشارية، وعلى رأسها، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الفساد ومحاربته، فهذا اعترافٌ صريح، من طرَف هذه الأحزاب، بوجود الفساد. إن هي فعَّلت تقاريرَ المجلس الأعلى للحسابات، فالمسئولون السياسيون الحزبيون الكبار هم مَن سيكونون مُورَّطين في قضايا الفساد. وهذا هو ما جاء في التقرير الأخير الصادر عن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الفساد ومحاربته وعن التقارير الصادرة عن الجمعية الدولية للشفافية Transparency International.

ولعل أهمَّ ما جاء في التقرير السنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الفساد ومحاربته، هو أن الحكومة، أي الأحزاب السياسية المسئولة عن تدبير الشأن العام، عجزت أو عاجزة، إلى حد الآن، عن محاربة الفساد! بل الفساد يزداد حِدَّةً وانتسارا، من ولايةٍ حكوميةٍ إلى أخرى! لماذا؟

لأنه، لما يكون الفسادُ صادرا عن الأحزاب السياسية نفسها، من المستحيل محاربتُه. وكل ما تقوم به الحكومات من تبنِّي لاستراتيجياتٍ لمحاربة الفساد، ليس إلا ذرٌّ للرماد على العيون، بل للاستهلاك الخارجي.

لكن، سرعان ما تُفضَح هذه الاستراتيجيات وهذا الاستهلاك الخارجي من طرف التقارير السنوية التي تُصدِرها الجمعية الدولية للشفافية، المشار إليها أعلاه. تعتمد هذه الجمعية على حساب ما تُسمِّيه "مؤشِّر إدراك الفساد" indice de perception de la corruption، الذي يتمُّ تنقيطُه sa notation من 0 إلى مائة نقطة. والدولُ الاسكندينافية هي بطلةُ هذا التنقيط الذي يتراوح بين 80 و 90 نقطة.

بالنسبة لبلادنا، بقي تنقيطُ هذا المؤشرُ، طيلةَ سنوات، تحت المعدَّل الذي هو 50%. بل طيلةَ العشر سنوات الأخيرة، تأرجح هذا التنقيط بين 36 و 41 نقطة، أي دائما أقل من المعدل. ولهذا، فالمغرب مُصنَّفٌ ضمن البلدان التي تعاني من الفساد، علما أن نسبةَ 50% لا تعني، على الإطلاق، أن البلدانَ التي وصلت إلى هذه النسبة لا تعاني من الفساد. بل إنها تُعاني منه لكنها نجحت شيئا ما في الوقاية منه أو في محاربتِه.

من دون أدنى شكٍّ أن انتشارَ الفساد له علاقة بغياب، أو على الأقل، بنقصٍ في الديمقراطية. فكلما كانت الدولُ ديمقراطيةً، كلما قلَّ فيها الفساد. والدليل على ذلك أنه لا توجد دولةٌ تنقيطُها يُساوي مائة بالمائة. وهذا يعني أن الدولَ الحاصلةَ على تنقيطٍ أقل من خمسين بالمائة، إما أنها توجد في حالة انتقالٍ ديمقراطي transition démocratique، كما هو الشأنُ بالنسبة لبلادنا، وإما لا تزال تعاني من الاستبداد، وخصوصا، إذا كان تنقيطُها ضعيفا جدا.

ما أختم به المقالة، هو أن بلادَنا، وحتى إن كانت في طور الانتقال الديمقراطي، بفضل الطموح الملكي، فإن أحزابنا السياسية بعيدةٌ كل البعد عن هذا الانتقال. بل إنها تفضِّل أن يبقى الفسادُ مُستشرياً لأنه يخدم مصالحَها وتستخدمه كشعار للوصول إلى السلطة. والدليل على ذلك أن حزبَ العدالة والتنمية استخدم هذا الشعارَ في حملاته الانتخابية، ولما وصل إلى السلطة، قال رئيسُ الحكومة، آنذاك : "عفا اللهُ عن ما سلف".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى