محاصر في قفص الشاشة المغلق، ضاع الواقع بوهجه من الكاتب العربي، أضحى معلقاً في الافتراضي منفصلاً عن كل وجود جمعي حيّ. انقطع الحبل أو يكاد.
حين نلتفت لـ 50 عاماً إلى الوراء ونتأمل التبدلات المروعة التي طرأت على سلوك الكاتب العربي في علاقته مع الواقع الذي يعيش فيه، أو يفترض أنه يعيش فيه وله، ندرك على الفور حجم القطيعة وهولها، قطائع تتجلى في كل شيء، في السلوك وفي اللغة وفي المشاعر وفي المواقف، بصورة عامة في فلسفة الوجود كاملة.
بعيداً من كل مفهمة وغموض، لنحاول أن نرسم بعض ملامح صورة الكاتب العربي والمغاربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي المرحلة العربية والمغاربية المميزة بالأحداث السياسية والأحلام الاجتماعية والثقافية والإبداعية، أحداث فيها انكسارات وفيها بعض الانتصارات غير المكتملة.
كان الكاتب في السبعينيات قريباً من السياسة، وهو في الشعر وفي السينما وفي الرواية وفي الإعلام وفي الموسيقى، وكان هذا العالم المليء بالسياسي والذي يأكله من الداخل، ينقله إلى بيته وفراشه ومائدته، حيث يكاد البيت أن يكون امتداداً للشارع، داخل بيته، بين الأبناء والزوجة والأم والأب والإخوة والأخوات، يواصل خطابه الذي يمارسه في الفضاء العام، على رغم الصورة النمطية لشخصية الكاتب سنوات السبعينيات واللصيقة بكتبه وبمجلاته وبجريدته اليومية المفضلة، لكنه وفي الوقت نفسه كان منشغلاً بمن حوله. ويتداول أبناء الحي أخبار الكاتب بكثير من الدقة والإعجاب والخوف أيضاً، ويستشار من قبل العامة حين يغمّ على الجماعة بت قضية من القضايا التي يصعب حلها، وها هنا صوته مسموع ورأيه يؤخذ به.
كانت المقاهي من بغداد مروراً بدمشق وبيروت والقاهرة وتونس والجزائر ووهران والدار البيضاء بيتاً ثانياً للكتاب والمثقفين، كانت المقاهي نوادي مفتوحة ليلاً ونهاراً، يتناقشون بهدوء مرة، وبصخب طول المرات، يتحدثون في الثقافة وفي الشعر والكتب والسينما والمسرح، وبكثير من الحذر والحيطة يتحدثون في السياسة أيضاً، فالسياسة خبز الكاتب الأكثر شهية، يتحدثون ويختلفون على رغم أن المكان العمومي هذا، أي المقهى، عادة ما يكون وكراً مفضلاً للمخبرين والمخبرات، بعضهم وبعضهنّ محسوب على عائلة الكتاب والمثقفين والإعلاميين أنفسهم.
في سبعينيات القرن الماضي، كان الكاتب العربي لا خيار له إلا خيار الالتزام السياسي، وكان الالتزام، تنظيمياً أو تعاطفاً أو فكرياً، إلى معسكر اليسار ظاهرة شبه إجبارية، وكانت غالبية الكتاب من اليسار، ومن لم يكُن يسارياً سياسياً وفكرياً وأدبياً فهو يكاد يكون مرفوضاً ومشكوكاً في وطنيته وفي قيمة كتاباته، فصورة الكاتب الإيجابي هو من يقف ضد أميركا وضد الغرب وضد الإقطاع وضد توريث السلطة وضد فكرة الخلافة، ومع العدالة الاجتماعية وحرية الشعوب واستقلالها.
في المقهى أو البار، بحماسة قد يمتد النقاش إلى مطلع الفجر، لا أحد يتعب، وفي كثير من المرات يكون صاحب المقهى نفسه متورطاً في هذا النقاش بشكل من الأشكال، وكانت للمقاهي ألوانها السياسية التي يصنعها الرواد والزبائن، فالكاتب يتشكل داخل الفضاء ويهندس هذا الفضاء في الوقت نفسه.
كان الكاتب يؤمن بفكرة الالتزام والنضال، ويعتبر ذلك هو روح الإبداع وروح الحياة برمتها، فلا كتابة من دون انتظام في التغيير من خلال السلوك اليومي الاجتماعي والسياسي والجمعوي المدني والنقابي.
كانت الثقافة ممثلة، كما الإبداع، بالشعر والقصة القصيرة والرواية والسينما والمسرح والفن التشكيلي، والموسيقى مرتبطة بالقناعات السياسية والأيديولوجية، وكان هذا الإنتاج الإبداعي على تواصل واحتكاك مع واقع الناس ومع أحلامهم بالتغيير.
اليوم، وبعد نصف قرن من الزمن ما هي يا ترى ملامح صورة الكاتب الجديد، كاتب الألفية الثالثة، كاتب من صناعة التكنولوجيا المتوحشة؟ هل أسقط الكاتب الجديد صورة كاتب السبعينيات؟ هل قاطعه؟ هل طوى هذه الهواجس النضالية والسياسية؟ هل أصبح الالتزام من مخلفات الماضي؟.
بدءاً، علينا الإقرار بأن الكاتب العربي الجديد، من بغداد إلى نواكشوط، يعيش بوعي أو من دونه ضحية تكنولوجيا متوحشة وغير مثقفة، وبكثير من الرضا سجن الكاتب نفسه في "شاشة" لا يغادرها إلا ليعود إليها، حتى أضحت نوعاً من أنواع المخدرات الصلبة.
لقد حجبت الشاشة/السجن الواقع عن عيون الكاتب، وأصبحت بديلاً عنه أو تكاد، وخلقت هذه العلاقة (الكاتب/الشاشة) مجموعة من الأوهام النرجسية والسياسية والإبداعية لدى هذا الكاتب، حتى أضحى شخصية مريضة بالوهم على حد تعبير موليير في مسرحيته الشهيرة.
كانت وسائط التواصل الاجتماعي في بداية وصولها إلى مجتمعات الجنوب، خصوصاً إلى العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا وسيلة مهمة لتعبئة العامة ضد فساد الطبقات السياسية وظلم أصحاب القرارات العليا، وهو ما حدث في ما سمي "الربيع العربي"، إذ كان المتظاهرون والمحتجون والمنظمون يعتمدون على الإنترنت للإعلام وللتنسيق ولشحذ الهمم ولتحميس القوى المطالبة بالتغيير في المضي بعيداً في مسيرة مطالبها الاجتماعية والسياسية والإثنية.
لكن وبمرور الزمن وتتابع الأحداث، غرق الكاتب، شيئاً فشيئاً، في مستنقع التكنولوجيا غير المثقفة، تكنولوجيا استهلاكية، فأدار ظهره للواقع وبدأ يعيش حالاً من الوهم، معتقداً بأنه على اتصال وثيق بالعالم في حين هو منفصل ومقطوع عنه تماماً، وهذه الهوة تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.
وكلما زادت المسافة بينه وبين الواقع واتسعت الهوة السحيقة أكثر، تراجع إيمانه بفكرة الالتزام وسخر من فكرة النضال المباشر اليومي السياسي والاجتماعي، وخرج الإبداع من دائرة السعي إلى التغيير، وفي مثل هذه الحالة الباثولوجية السيكو-سياسية يصبح مفهوم "النضال" عبارة عن "إنشاءات هذيانية" بلا رصيد سياسي ولا تجربة في الواقع.
وفي هذا الانفصال عن الواقع تتضخم الذات وتعمى ويصبح الكاتب شبه معوّق، ويدخل جراء ذلك في متاهة محمومة ويشرع في أكل ذيله كحيوان خرافي حتى يقرض نفسه بنفسه، قطعة قطعة.
تصل به الحال جراء هذه النرجسية التي قد تمنحها له تكنولوجيا غير مثقفة إلى الاستهزاء بقيمة النضال والالتزام، ويعتبر ذلك من باب المراهقة السياسية ومن باب الماضي، وينسحب من دوره في المجتمع كرمز للتغيير وصوت للحق والعدالة، ويبدأ في محاولة تقليد المؤثرين، وينتقل إلى موقع المهرج، ويصبح مريضاً بنفسه المريضة، وهذا الواقع الجديد المختل أنتج لنا مجموعة من الكتاب يعرف الناس أسماءهم وأشكالهم من صورهم التي تملأ وسائط التواصل الاجتماعي من دون أي معرفة أو اطلاع على نصوصهم، فالكاتب المريض بالوهم معروف أكثر من كتاباته، بل إن كتاباته مجهولة كلية.
فبعدما كان الكاتب العربي المتورط في المجتمع يُعرف بقصيدة أو برواية أو بمسرحية أو بمجموعة قصصية، كما هي قصيدة "المطر" لبدر شاكر السياب، أو "الثلاثية" لنجيب محفوظ، أو "الدار الكبيرة" لمحمد ديب، أو "الربوة المنسية" لمولود معمري، أو "قبر من أجل نيويورك" لأدونيس، أو "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، أو "نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، أو "الخبز الحافي" لمحمد شكري، أو "نجمة" لكاتب ياسين، أو "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف، أو قصيدة "لا تصالح" لأمل دنقل، أو "سجل أنا عربي" لمحمود درويش...، أصبح اليوم يعرف من خلال صوره وفيديوهاته المنشورة على "فيسبوك"، أو "تيك توك"، أو "إنستغرام"، أو من خلال بعض النصوص التي تشبه خواطر المراهقين عن الحب والذباب والقهوة!.
إذا كانت صورة الكاتب التي تكرست في مجتمع القراءة والنضال قبل نصف قرن لا يمكنها أن تنتفي أو تمحى ببساطة، فإن صورة كاتب اليوم، الكاتب المريض بالوهم، هي معرضة للمحو بين عشية وضحاها لتعوضها صورة مثقف افتراضي آخر، فالصعود والانتشار بسرعة افتراضية يقابلهما اندثار وانمحاء بسرعة افتراضية أيضاً.
إذا لم يكُن حضور الكاتب مرتبطاً بفلسفة لها جذورها تمتد عميقاً في الواقع وعامرة بحلم بالتغيير، تغيير الأنا والمحيط، فإنه سيظل كائناً معرضاً للنسيان والتجاوز.
حين نلتفت لـ 50 عاماً إلى الوراء ونتأمل التبدلات المروعة التي طرأت على سلوك الكاتب العربي في علاقته مع الواقع الذي يعيش فيه، أو يفترض أنه يعيش فيه وله، ندرك على الفور حجم القطيعة وهولها، قطائع تتجلى في كل شيء، في السلوك وفي اللغة وفي المشاعر وفي المواقف، بصورة عامة في فلسفة الوجود كاملة.
بعيداً من كل مفهمة وغموض، لنحاول أن نرسم بعض ملامح صورة الكاتب العربي والمغاربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي المرحلة العربية والمغاربية المميزة بالأحداث السياسية والأحلام الاجتماعية والثقافية والإبداعية، أحداث فيها انكسارات وفيها بعض الانتصارات غير المكتملة.
كان الكاتب في السبعينيات قريباً من السياسة، وهو في الشعر وفي السينما وفي الرواية وفي الإعلام وفي الموسيقى، وكان هذا العالم المليء بالسياسي والذي يأكله من الداخل، ينقله إلى بيته وفراشه ومائدته، حيث يكاد البيت أن يكون امتداداً للشارع، داخل بيته، بين الأبناء والزوجة والأم والأب والإخوة والأخوات، يواصل خطابه الذي يمارسه في الفضاء العام، على رغم الصورة النمطية لشخصية الكاتب سنوات السبعينيات واللصيقة بكتبه وبمجلاته وبجريدته اليومية المفضلة، لكنه وفي الوقت نفسه كان منشغلاً بمن حوله. ويتداول أبناء الحي أخبار الكاتب بكثير من الدقة والإعجاب والخوف أيضاً، ويستشار من قبل العامة حين يغمّ على الجماعة بت قضية من القضايا التي يصعب حلها، وها هنا صوته مسموع ورأيه يؤخذ به.
كانت المقاهي من بغداد مروراً بدمشق وبيروت والقاهرة وتونس والجزائر ووهران والدار البيضاء بيتاً ثانياً للكتاب والمثقفين، كانت المقاهي نوادي مفتوحة ليلاً ونهاراً، يتناقشون بهدوء مرة، وبصخب طول المرات، يتحدثون في الثقافة وفي الشعر والكتب والسينما والمسرح، وبكثير من الحذر والحيطة يتحدثون في السياسة أيضاً، فالسياسة خبز الكاتب الأكثر شهية، يتحدثون ويختلفون على رغم أن المكان العمومي هذا، أي المقهى، عادة ما يكون وكراً مفضلاً للمخبرين والمخبرات، بعضهم وبعضهنّ محسوب على عائلة الكتاب والمثقفين والإعلاميين أنفسهم.
في سبعينيات القرن الماضي، كان الكاتب العربي لا خيار له إلا خيار الالتزام السياسي، وكان الالتزام، تنظيمياً أو تعاطفاً أو فكرياً، إلى معسكر اليسار ظاهرة شبه إجبارية، وكانت غالبية الكتاب من اليسار، ومن لم يكُن يسارياً سياسياً وفكرياً وأدبياً فهو يكاد يكون مرفوضاً ومشكوكاً في وطنيته وفي قيمة كتاباته، فصورة الكاتب الإيجابي هو من يقف ضد أميركا وضد الغرب وضد الإقطاع وضد توريث السلطة وضد فكرة الخلافة، ومع العدالة الاجتماعية وحرية الشعوب واستقلالها.
في المقهى أو البار، بحماسة قد يمتد النقاش إلى مطلع الفجر، لا أحد يتعب، وفي كثير من المرات يكون صاحب المقهى نفسه متورطاً في هذا النقاش بشكل من الأشكال، وكانت للمقاهي ألوانها السياسية التي يصنعها الرواد والزبائن، فالكاتب يتشكل داخل الفضاء ويهندس هذا الفضاء في الوقت نفسه.
كان الكاتب يؤمن بفكرة الالتزام والنضال، ويعتبر ذلك هو روح الإبداع وروح الحياة برمتها، فلا كتابة من دون انتظام في التغيير من خلال السلوك اليومي الاجتماعي والسياسي والجمعوي المدني والنقابي.
كانت الثقافة ممثلة، كما الإبداع، بالشعر والقصة القصيرة والرواية والسينما والمسرح والفن التشكيلي، والموسيقى مرتبطة بالقناعات السياسية والأيديولوجية، وكان هذا الإنتاج الإبداعي على تواصل واحتكاك مع واقع الناس ومع أحلامهم بالتغيير.
اليوم، وبعد نصف قرن من الزمن ما هي يا ترى ملامح صورة الكاتب الجديد، كاتب الألفية الثالثة، كاتب من صناعة التكنولوجيا المتوحشة؟ هل أسقط الكاتب الجديد صورة كاتب السبعينيات؟ هل قاطعه؟ هل طوى هذه الهواجس النضالية والسياسية؟ هل أصبح الالتزام من مخلفات الماضي؟.
بدءاً، علينا الإقرار بأن الكاتب العربي الجديد، من بغداد إلى نواكشوط، يعيش بوعي أو من دونه ضحية تكنولوجيا متوحشة وغير مثقفة، وبكثير من الرضا سجن الكاتب نفسه في "شاشة" لا يغادرها إلا ليعود إليها، حتى أضحت نوعاً من أنواع المخدرات الصلبة.
لقد حجبت الشاشة/السجن الواقع عن عيون الكاتب، وأصبحت بديلاً عنه أو تكاد، وخلقت هذه العلاقة (الكاتب/الشاشة) مجموعة من الأوهام النرجسية والسياسية والإبداعية لدى هذا الكاتب، حتى أضحى شخصية مريضة بالوهم على حد تعبير موليير في مسرحيته الشهيرة.
كانت وسائط التواصل الاجتماعي في بداية وصولها إلى مجتمعات الجنوب، خصوصاً إلى العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا وسيلة مهمة لتعبئة العامة ضد فساد الطبقات السياسية وظلم أصحاب القرارات العليا، وهو ما حدث في ما سمي "الربيع العربي"، إذ كان المتظاهرون والمحتجون والمنظمون يعتمدون على الإنترنت للإعلام وللتنسيق ولشحذ الهمم ولتحميس القوى المطالبة بالتغيير في المضي بعيداً في مسيرة مطالبها الاجتماعية والسياسية والإثنية.
لكن وبمرور الزمن وتتابع الأحداث، غرق الكاتب، شيئاً فشيئاً، في مستنقع التكنولوجيا غير المثقفة، تكنولوجيا استهلاكية، فأدار ظهره للواقع وبدأ يعيش حالاً من الوهم، معتقداً بأنه على اتصال وثيق بالعالم في حين هو منفصل ومقطوع عنه تماماً، وهذه الهوة تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.
وكلما زادت المسافة بينه وبين الواقع واتسعت الهوة السحيقة أكثر، تراجع إيمانه بفكرة الالتزام وسخر من فكرة النضال المباشر اليومي السياسي والاجتماعي، وخرج الإبداع من دائرة السعي إلى التغيير، وفي مثل هذه الحالة الباثولوجية السيكو-سياسية يصبح مفهوم "النضال" عبارة عن "إنشاءات هذيانية" بلا رصيد سياسي ولا تجربة في الواقع.
وفي هذا الانفصال عن الواقع تتضخم الذات وتعمى ويصبح الكاتب شبه معوّق، ويدخل جراء ذلك في متاهة محمومة ويشرع في أكل ذيله كحيوان خرافي حتى يقرض نفسه بنفسه، قطعة قطعة.
تصل به الحال جراء هذه النرجسية التي قد تمنحها له تكنولوجيا غير مثقفة إلى الاستهزاء بقيمة النضال والالتزام، ويعتبر ذلك من باب المراهقة السياسية ومن باب الماضي، وينسحب من دوره في المجتمع كرمز للتغيير وصوت للحق والعدالة، ويبدأ في محاولة تقليد المؤثرين، وينتقل إلى موقع المهرج، ويصبح مريضاً بنفسه المريضة، وهذا الواقع الجديد المختل أنتج لنا مجموعة من الكتاب يعرف الناس أسماءهم وأشكالهم من صورهم التي تملأ وسائط التواصل الاجتماعي من دون أي معرفة أو اطلاع على نصوصهم، فالكاتب المريض بالوهم معروف أكثر من كتاباته، بل إن كتاباته مجهولة كلية.
فبعدما كان الكاتب العربي المتورط في المجتمع يُعرف بقصيدة أو برواية أو بمسرحية أو بمجموعة قصصية، كما هي قصيدة "المطر" لبدر شاكر السياب، أو "الثلاثية" لنجيب محفوظ، أو "الدار الكبيرة" لمحمد ديب، أو "الربوة المنسية" لمولود معمري، أو "قبر من أجل نيويورك" لأدونيس، أو "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، أو "نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، أو "الخبز الحافي" لمحمد شكري، أو "نجمة" لكاتب ياسين، أو "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف، أو قصيدة "لا تصالح" لأمل دنقل، أو "سجل أنا عربي" لمحمود درويش...، أصبح اليوم يعرف من خلال صوره وفيديوهاته المنشورة على "فيسبوك"، أو "تيك توك"، أو "إنستغرام"، أو من خلال بعض النصوص التي تشبه خواطر المراهقين عن الحب والذباب والقهوة!.
إذا كانت صورة الكاتب التي تكرست في مجتمع القراءة والنضال قبل نصف قرن لا يمكنها أن تنتفي أو تمحى ببساطة، فإن صورة كاتب اليوم، الكاتب المريض بالوهم، هي معرضة للمحو بين عشية وضحاها لتعوضها صورة مثقف افتراضي آخر، فالصعود والانتشار بسرعة افتراضية يقابلهما اندثار وانمحاء بسرعة افتراضية أيضاً.
إذا لم يكُن حضور الكاتب مرتبطاً بفلسفة لها جذورها تمتد عميقاً في الواقع وعامرة بحلم بالتغيير، تغيير الأنا والمحيط، فإنه سيظل كائناً معرضاً للنسيان والتجاوز.