تراب سخون هي آخر روايات الكاتبة أميرة غنيم. صدرت طبعتها الأولى في أفريل 2024 عن دار مسكلياني للنشر ، عدد صفحاتها 316 صفحة ، صورة الغلاف لوسيلة بورقيبة وهي لوحة للفنان سمير بن قويعة. هذه الصورة المشروخة على امتداد الغلاف ربما هي عتبة أولى من جملة العتبات التي تمثل فسيفساء حياة وسيلة بن عمار أو الماجدة وسيلة بورقيبة في رحلتها من فتاة أصابها السلّ حتى كاد يقضي عليها بعد أن قضى على مستقبلها الدراسي، ولكن الأقدار لن تتركها فريسة الإحباط والفشل، بل إن لها من الهمة والإرادة ما جعلها عبر مسارات وسياقات مختلفة تصل إلى القمة بفضل قوة شخصيتها ووعيها بإمكانياتها الهائلة ، تقول مخاطبة الزعيم الحبيب بورقيبة : « و ما دريت أن الصبيّة التي انقطعت مبكرا عن التعليم كانت أوسع . حيلة وأعلى همّة وأنفذ في بلوغ المراد ...» ( ص 224 ) .
ربما هذا القول هو محور شخصية وسيلة بورقيبة التي ستعرفنا عليها أكثر أميرة غنيم من خلال مزج المتخيّل بالواقع التاريخي في بعض جزئياته ، فتنطلق بنا في رحلة خيالية وفق مسار تداولي محكم البناء لتبعث لن رسائلها وتعبث بنا بفضل حيلها السردية حتى تجعلنا انتماهى مع الشخصيات والأحداث، فنتعاطف معها حينا، وننقم عليها حينا آخر منذ وقوع ذلك السائق الأجنبي الملغز بين يدي البوليس ثم سقوط « الفلاش ديسك flash disc » من جيبه لتجده جيهان على قارعة الطريق حيث : « لا أحد يقدّر حقّا قوّة الصّدفة » ( ص 08 ) . و في الحقيقة ما هذه الصّدفة إلاّ حيلة سرديّة تخرجها لنا أميرة غنيم من جمالها الرّوائي بواسطة جيهان التي « سترسل [ .... ] عن طريق البريد الإلكتروني ، إلى الكاتبة المغمورة محتويات المفتاح موزّعا على ملفّات ، و ترفق آخرها بفقرة قصيرة كاذبة : « صديقتي الغالية ، حوّلت لك وثائق سريّة تحصّلت عليها عن طريق صديق يشتغل في الدّاخليّة . فكرة رواية رائعة لو أنّك فقط تحسنين التصرّف في المادّة . حظّا سعيداً ! » (ص12/11) .
من هنا نتساءل ، هل أحسنت أميرة غنيم التصرّف في هذه المادّة التي ستنشرها لنا مادّة خاما حسب ما تصوّره لنا ؟
تعقد معنا أميرة غنيم ميثاقا سرديّا غريباً قوامه أنّها مجرّد ناقلة رسائل وجدتها جيهان في هذا المفتاح ، لتنقلنا ضمنيّا إلى « أدب الترسّل » بين وسيلة بورقيبة و سعاد الكامل
و جاكلين غاسبار و درّة ، هذه الرسائل وظّفتها لكشف أغوار جملة الوقائع و الأحداث في سياقاتها المختلفة عبر آليّة هي أقرب إلى التّداعي الحرّ من وجهة نظر نفسيّة ، فإذا بجميع المتحدّثين يقومون بعمليّة « تطهّر » من ذكريات فيها الكثير من الألم و الشّعور بالذّنب ، دون إغفال جانب الخوف
و خاصّة عند وسيلة بورقيبة حين وقع الإنقلاب الطبّي في 7 نوفمبر 1987 ، فتقول : « لمّا بلغني الخبر ، و أنا وحيدة في شقّتي بباريس فجر السابع من نوفمبر ، تنازعتني مشاعر متناقضة. جزع على الشيخ المغدور من أيّام مريرة تنتظره ،
و راحة من قفز بمظلّة النّجاة قبل شعرة من سقوط الطائرة ، اختلطت مشاعري فلم أدر أ أحزن لانقضاض الجدار الذي أنفقت عمرا أصدُّ عنه المعاول ، أم أفرح لأنّي لم أكن تحته إذ انهار » . ( ص 49 ) .
هذا الخوف الذي لم ينقطع عنها و هي في أوج قوّتها حين كانت الحاكمة بأمرها في مفاصل الدّولة حتى لقّبت بالرّئيسة.
خوفها من « التّسميم البطيء » ، أو الطعن بخنجر أو رصاصة قنّاص ، لتتساءل: « من يصدّق أنّ زوجة رئيس الجمهورية أقلّ نساء الجمهوريّة إحساسا الأمان في بيتها الزوجي
و في طرقات المدينة ؟ » ( ص 211 ) .
و لكنّها تحوّل هذا الخوف إلى شجاعة في مغامرتها للوصول إلى الزّعيم في « دار الوالي بالمنستير » ، هذه المغامرة التي حرّكت بها أميرة غنيم أحداث الرواية حسب سياقات لا تخلو من مكر سردي موظّفة الوقائع التاريخية لخدمة حيلتها السّرديّة ، فتلاعب القارئ المطّلع على التاريخ و تأخذه معها في رحلة تمتح من التاريخ و لكنها تشكّله من جديد وفق رؤيتها السردية و حسب حاجة شخصياتها الثانوية مثل جاكلين غاسبار و سعاد الكامل و الزّهواني ( عامل الضيعة حامل مراسيل الغرام بين بورقيبة و وسيلة) و درّة ابنة أخت سعاد الكامل ، و علي زوج وسيلة السابق ، و شخصيتها الرئيسية و المحورية وسيلة بورقيبة.
و قد لا نجانب الصواب إذا قلنا أنّ هذه الرواية ، رغم تعدّد الأصوات داخلها ، تبقى رواية الصوت الواحد بامتياز ، وهو صوت وسيلة بورقيبة ، سواء بسردها هي للأحداث من وجهة نظرها ، أو من خلال الحديث عنها و تكريس جميع السياقات لخدمتها و إبراز صورتها بالفعل و القوّة إنطلاقا من قصّة حبّها مع الزّعيم و ذلك الشعور بالقهر الذي انتاب زوجها سي علي حين صارحه الزعيم بحبّه لوسيلة قبل أن يفرض عليه طلاقها ليتزوّجها هو ، و هو ما جاء على لسان سي علي : « فخامته ربي يبقيه ، قال لي:" آش قدّمت يا سي علي من أجل استقلال بلادك ؟ [ ... ] ألا تضحّي الآن بشيء ، و لو صغير ، من أجل استقرار الجمهورية ؟ " » ، ليواصل خطابه متوجّها إلى وسيلة :« فخامته قال لي ، ربي يبقيه ، إنّه لا يقدر على العيش بعيدا عن وسيلة ، أنا أيضاً لا أقدر ... هو رجل و أنا رجل » ( ص 48 ) .
إنّها معركة شرف مسفوح كادت أن تعصف بحياة وسيلة في واقعة البئر لولا عامل الضيعة الزهواني الذي أنقذها و أنقذه من موت محقق .
و لعلّ اللاّفت للإنتباه أنّ أميرة غنيم تقوم بتصدير الشعور بالغيرة من سي علي إلى وسيلة أو « فاسيلا » التي أصبحت بدورها شديدة الغيرة على الزعيم ، سواء في عنفوانه أيام إقامته بمصر حين وجدت صورته على غلاف مجلّة مع فتاة شبه عارية : « كان " مكبوب السّعد " على شاطئ البحر في شرخ الشّباب ، عاري الصّدر إلاّ من منشفة معلّقة على كتفه الأيسر ، يضع راحتيه على كتفي أنثى شبه عارية ، وقفت أمامه في مايوه خليع ، ملتصقة به في رقاعة ، و تبتسم إلى عدسة الكاميرا. » ( ص 89 ) . و تكمل غيرتها عليه وهو شيخ مع « نجاة » الإطار السّامي بوزارة التجهيز ، فتقول :« كانت أخباره مع تلك العاهرة بوزارة التجهيز قد بدأت تتسرّب إليَّ تباعا من عيوني المبثوثة هنا و هناك » ( ص 251 ) .
إنّ هاتين الواقعتين البعيدتين في الزمن تبرزان لنا بعضا ممّا تعالجه أميرة غنيم في هذه الرواية وفق خطّة لا تغفل المشاعر الإنسانية عامّة
و الأنثوية خاصة ، وهي مشاعر تتطوّر بتطوّر الأحداث التي تعتمد على نظام اللّواحق السردية وفق الخطّ الكرونولوجي المتداخل أحياناً ، فإذا بنا أمام شخصيات هشّة و إن أظهرت العكس ، و لكنّ المواقف تفضحها ، فنرى ألم الشيخوخة و ألم النكران و الجحود و الخيانة و النّدم .
هذه النّوازل لم تغفلها أميرة غنيم كما سبق
و أن قدّمتها في « نازلة دار الأكابر » مع « لـلاّ زبيدة » التي لم تتكلّم مفضّلة الصّمت ، تاركة المجال لحفيدتها « هند » ، فـ « مايزال الأمل قائما يا عند هند. السرّ ههنا في المحفظة المقفلة. و قريبا .. قريباً جدا تفتّح الأقفال. » ( نازلة دار الأكابر ص 457 ) ، فإنها ستفتح هذه الأقفال التاريخية المغلقة ، و لكن على لسان وسيلة بورقيبة و سعاد الكامل و جاكلين غاسبار
و درّة و الطفلة آمال ، في عالم تخييليّ لا يخلو من المغامرة التي تقوم بها وسيلة للوصول من جديد في رحلتها الأخيرة إلى الزّعيم في منفاه الأخير بدار الوالي بالمنستير ، لتكون هذه الرحلة العجيبة كما تقول أميرة غنيم في إحدى لقاءاتها
:« الرواية من غاياتها تعريف القارئ بشيء يجهله » ، فتنتقل بنا من القضايا الإجتماعية في " نازلة دار الأكابر" إلى القضايا السياسيّة في " تراب سخون" ، بل هي تقدّم لنا جوانب من كواليس المطبخ السياسي الذي نجهله عن زمن بورقيبة ، فتعرّيه لنا على لسان « الماجدة » ، خاصة مع شيخوخته
و عجزه اللّذين جعلاه غافلا عمّا يحاك له من دسائس :« بلى كان الزعيم غافلا. غفل عن ألاعيبهم القذرة و صفقاتهم النّجسة و تحالفاتهم الدّنيئة مع شياطين الدّاخل و الخارج إن لزم الأمر » ( ص 225 ) ، إلاّ أنّ وسيلة المحبّة للزعيم رغم غدره بها في عدة مناسبات ، لم تتركه لهذه الذّئاب ، بل هي ملاكه الحارس مادامت إلى جانبه ، وهو ما يؤكّده لها بورقيبة بقوله : « الآن فقط عرفت لِـمَ وضعك الله في طريقي... أنت و لا شكّ ملاكي الحارس الذي لا منجَى لي إلاّ به » (ص 174) ، بل هي واعية بأنّ القدر جمعهما في رحلة الحياة ، إذ تقول:
« ما لم يخامر ذهني قبل صدمة المتحف هو أنّ كلينا كان في واقع الأمر مرتبطا بالآخر بحتميّة التّاريخ. كنّا قدرا يتشابك مع قدر لتتحقّق على الأرض كلمة الأفلاك » (ص112).
و لكن أنّى لها أن تواصل هذه المهمّة التي اختارها لأجلها القدر وهي الثمانينيّة ؟
تلعب هنا أميرة غنيم دورها ككاتبة لتصل الماضي بالحاضر بين بورقيبة و وسيلة ، فتجعل بينهما جامعا سحريا بمثابة
« الطّوطم » الذي يدفع البلاء و يعيد الحياة ، وهو ذلك « الحزام النّحاسيّ » الذي تخرجه سعاد الكامل بعد سنوات و تعيد من خلاله الحكاية كالمارد الخارج من القمقم فيكون ذلك القادح لبقية الأحداث المرتبطة بالرحلة الأخيرة لوسيلة من أجل إنقاذ الزعيم بالتعاون مع ممرّضته سعاد الكامل ، فإذا بوسيلة تستحيل شابّة مقدامة من أجل إنقاذ حبيبها النائم بين أسوار سجنه الأخير رغم تطليقه لها و تألّمها الشديد من ذلك ، فتقول: « أما هذه العجوز التي بسطت له قلبها فراشا لم ترفعه قطّ ، و قاست من مرضه الطويل ، و صبره القليل ،
و أقامت دهرا على نزقه و عناده و سرعة غضبه و تقلّب مزاجه ، فقد أسند لها شهادة اعتراف بالفضل أصدرتها المحاكم التونسية و كتب أعلاها بخطّ جميل: القضيّة عدد 86678 . » ( ص 227 ) .
و لكن رغم هذا الألم ، تحافظ وسيلة على شيء من الحبّ للزعيم ، فتخوض رحلتها و معركتها متنكّرة مواجهة خلالها مصاعب عدّة ، جسدية و نفسية إلى سوسة و القنطاوي
و منها إلى المنستير. هذه الرحلة التي كاد يفسدها الزهواني الذي فطن بها ، فكان معرقلا و قادحا في آن معا لتتخلّص منه بحيلة ماكرة و كذلك الأمر مع بوليس بن علي المتواطئ مع سعاد الكامل من أجل تحقيق لحظة اللقاء بين وسيلة
و بورقيبة ، هذا اللقاء المرتبط بإنقاذ الزعيم من نزف « وحمته » و من : « إنّي أرى في منامي ، مذ غادرتني ، سفينة غارقة في بحر من الظلمات و الأهوال و أمام حطامها دلفين يراقص إمرأة عارية تشبهك ، و لكنّها أنحف قليلا... أراها تقبض على شيء لا أتبيّنه [ ... ] فهلمّي سريعا لإنقاذ الذي يبقى بعد أن يفنى كل شيء » ( ص 137 ) .
تستجيب وسيلة إذن لهذا النّداء ، « و أمتطي للوصول إليه في ذلك الفجر النّدي شاحنة نقل ريفي إلى جوار شيخ غريب تفوح من أنفاسه رائحة الكحول ، حاضنة بين ذراعيّ قفّة من السّعف كأنّ بها الدنيا و ما فيها... » ، و تسعى لتحقيق آخر أمنية لها و للزعيم وهي ذلك اللقاء الموعود الذي يتحقق أخيراً في ليلة عاصفة تسترجع فيها وسيلة مع الزعيم ما مضى من حياتهما معا في حوار يكشف جانبا من معاناة كل منهما قبل و بعد الفراق . ولكن هذا اللقاء الأخير بطلب من بورقيبة لم يكن لمجرّد اللقاء واسترجاع الذكريات فقط بل إنه لقاء بورقيبة للماجدة استنجادا بها لمساعدته على استعادة عرشه المسلوب غدراً فيقول : « لا شيء قصمني إلاّ الغدر يا وسيلة ... الغدر وحده خرّب ما صنعته و سيظلّ يخرّب كلّ شيء... » ( ص 293 ).
هذا الغدر الذي نالت منه وسيلة من الزعيم و تجرّعت مرارته
و كانت واعية بقيمتها في حمايته لولا أن تخلّى عنها ، فتقول: « و لن يسقط من عليائه و تعفّره أقدام الغادرين ، إلاّ يوم أضمر التخلّي عنّي بلا ذنب اقترفته فكان كمن يقطع بمنشار أعمى الغصن العالي الذي يجلس عليه » ( ص 34 ) .
وهكذا كانت رحلة أميرة غنيم من خلال وسيلة بورقيبة في تراب سخون رحلة في أغوار النفس البشرية من خلال تقاطع المتخيّل بالتاريخ في بحث عن صورة تونس في مسارات ومناخات مختلفه تجمع السردي بالتراسلي والواقعي بالأسطوري انطلاقا من رسائل جمعت بين وسيلة بورقيبة وجاكلين غاسبار وسعاد الكامل فإذا بهذه الرسائل تستحيل رسائل القدر الذي خلّد ذكرى حبيبين في ذاكرة التونسيين الباحثين عن كواليس السياسة خاصة في عهد الزعيم ومسار حياته من الصعود الى قمة المجد و وصولا إلى الهاوية وسجنه الأخير انطلاقا من المقولة الشعبيه : «يخرج من المنستير دنفير فيه الأمم تحير » ، هذه الحيرة التي ستزيلها عنا أميرة غنيم عبر تلك الرسائل التي تعتمد أسلوب التداعي الحر بين جميع الشخصيّات لتصل بنا الى البنيّة آمال في علاقتها بذلك الحزام النحاسي الذي تستطيع فكّه ولكنها تنزف « وحمة ربلتها » مثل الزعيم لنتساءل عن تواصل رحلة إنقاذ تونس مع آمال التي جعلتها أميرة غنيم عنوانا للأمل القائم من أجل تونس جديدة منشودة .
م أ مخلوف
ربما هذا القول هو محور شخصية وسيلة بورقيبة التي ستعرفنا عليها أكثر أميرة غنيم من خلال مزج المتخيّل بالواقع التاريخي في بعض جزئياته ، فتنطلق بنا في رحلة خيالية وفق مسار تداولي محكم البناء لتبعث لن رسائلها وتعبث بنا بفضل حيلها السردية حتى تجعلنا انتماهى مع الشخصيات والأحداث، فنتعاطف معها حينا، وننقم عليها حينا آخر منذ وقوع ذلك السائق الأجنبي الملغز بين يدي البوليس ثم سقوط « الفلاش ديسك flash disc » من جيبه لتجده جيهان على قارعة الطريق حيث : « لا أحد يقدّر حقّا قوّة الصّدفة » ( ص 08 ) . و في الحقيقة ما هذه الصّدفة إلاّ حيلة سرديّة تخرجها لنا أميرة غنيم من جمالها الرّوائي بواسطة جيهان التي « سترسل [ .... ] عن طريق البريد الإلكتروني ، إلى الكاتبة المغمورة محتويات المفتاح موزّعا على ملفّات ، و ترفق آخرها بفقرة قصيرة كاذبة : « صديقتي الغالية ، حوّلت لك وثائق سريّة تحصّلت عليها عن طريق صديق يشتغل في الدّاخليّة . فكرة رواية رائعة لو أنّك فقط تحسنين التصرّف في المادّة . حظّا سعيداً ! » (ص12/11) .
من هنا نتساءل ، هل أحسنت أميرة غنيم التصرّف في هذه المادّة التي ستنشرها لنا مادّة خاما حسب ما تصوّره لنا ؟
تعقد معنا أميرة غنيم ميثاقا سرديّا غريباً قوامه أنّها مجرّد ناقلة رسائل وجدتها جيهان في هذا المفتاح ، لتنقلنا ضمنيّا إلى « أدب الترسّل » بين وسيلة بورقيبة و سعاد الكامل
و جاكلين غاسبار و درّة ، هذه الرسائل وظّفتها لكشف أغوار جملة الوقائع و الأحداث في سياقاتها المختلفة عبر آليّة هي أقرب إلى التّداعي الحرّ من وجهة نظر نفسيّة ، فإذا بجميع المتحدّثين يقومون بعمليّة « تطهّر » من ذكريات فيها الكثير من الألم و الشّعور بالذّنب ، دون إغفال جانب الخوف
و خاصّة عند وسيلة بورقيبة حين وقع الإنقلاب الطبّي في 7 نوفمبر 1987 ، فتقول : « لمّا بلغني الخبر ، و أنا وحيدة في شقّتي بباريس فجر السابع من نوفمبر ، تنازعتني مشاعر متناقضة. جزع على الشيخ المغدور من أيّام مريرة تنتظره ،
و راحة من قفز بمظلّة النّجاة قبل شعرة من سقوط الطائرة ، اختلطت مشاعري فلم أدر أ أحزن لانقضاض الجدار الذي أنفقت عمرا أصدُّ عنه المعاول ، أم أفرح لأنّي لم أكن تحته إذ انهار » . ( ص 49 ) .
هذا الخوف الذي لم ينقطع عنها و هي في أوج قوّتها حين كانت الحاكمة بأمرها في مفاصل الدّولة حتى لقّبت بالرّئيسة.
خوفها من « التّسميم البطيء » ، أو الطعن بخنجر أو رصاصة قنّاص ، لتتساءل: « من يصدّق أنّ زوجة رئيس الجمهورية أقلّ نساء الجمهوريّة إحساسا الأمان في بيتها الزوجي
و في طرقات المدينة ؟ » ( ص 211 ) .
و لكنّها تحوّل هذا الخوف إلى شجاعة في مغامرتها للوصول إلى الزّعيم في « دار الوالي بالمنستير » ، هذه المغامرة التي حرّكت بها أميرة غنيم أحداث الرواية حسب سياقات لا تخلو من مكر سردي موظّفة الوقائع التاريخية لخدمة حيلتها السّرديّة ، فتلاعب القارئ المطّلع على التاريخ و تأخذه معها في رحلة تمتح من التاريخ و لكنها تشكّله من جديد وفق رؤيتها السردية و حسب حاجة شخصياتها الثانوية مثل جاكلين غاسبار و سعاد الكامل و الزّهواني ( عامل الضيعة حامل مراسيل الغرام بين بورقيبة و وسيلة) و درّة ابنة أخت سعاد الكامل ، و علي زوج وسيلة السابق ، و شخصيتها الرئيسية و المحورية وسيلة بورقيبة.
و قد لا نجانب الصواب إذا قلنا أنّ هذه الرواية ، رغم تعدّد الأصوات داخلها ، تبقى رواية الصوت الواحد بامتياز ، وهو صوت وسيلة بورقيبة ، سواء بسردها هي للأحداث من وجهة نظرها ، أو من خلال الحديث عنها و تكريس جميع السياقات لخدمتها و إبراز صورتها بالفعل و القوّة إنطلاقا من قصّة حبّها مع الزّعيم و ذلك الشعور بالقهر الذي انتاب زوجها سي علي حين صارحه الزعيم بحبّه لوسيلة قبل أن يفرض عليه طلاقها ليتزوّجها هو ، و هو ما جاء على لسان سي علي : « فخامته ربي يبقيه ، قال لي:" آش قدّمت يا سي علي من أجل استقلال بلادك ؟ [ ... ] ألا تضحّي الآن بشيء ، و لو صغير ، من أجل استقرار الجمهورية ؟ " » ، ليواصل خطابه متوجّها إلى وسيلة :« فخامته قال لي ، ربي يبقيه ، إنّه لا يقدر على العيش بعيدا عن وسيلة ، أنا أيضاً لا أقدر ... هو رجل و أنا رجل » ( ص 48 ) .
إنّها معركة شرف مسفوح كادت أن تعصف بحياة وسيلة في واقعة البئر لولا عامل الضيعة الزهواني الذي أنقذها و أنقذه من موت محقق .
و لعلّ اللاّفت للإنتباه أنّ أميرة غنيم تقوم بتصدير الشعور بالغيرة من سي علي إلى وسيلة أو « فاسيلا » التي أصبحت بدورها شديدة الغيرة على الزعيم ، سواء في عنفوانه أيام إقامته بمصر حين وجدت صورته على غلاف مجلّة مع فتاة شبه عارية : « كان " مكبوب السّعد " على شاطئ البحر في شرخ الشّباب ، عاري الصّدر إلاّ من منشفة معلّقة على كتفه الأيسر ، يضع راحتيه على كتفي أنثى شبه عارية ، وقفت أمامه في مايوه خليع ، ملتصقة به في رقاعة ، و تبتسم إلى عدسة الكاميرا. » ( ص 89 ) . و تكمل غيرتها عليه وهو شيخ مع « نجاة » الإطار السّامي بوزارة التجهيز ، فتقول :« كانت أخباره مع تلك العاهرة بوزارة التجهيز قد بدأت تتسرّب إليَّ تباعا من عيوني المبثوثة هنا و هناك » ( ص 251 ) .
إنّ هاتين الواقعتين البعيدتين في الزمن تبرزان لنا بعضا ممّا تعالجه أميرة غنيم في هذه الرواية وفق خطّة لا تغفل المشاعر الإنسانية عامّة
و الأنثوية خاصة ، وهي مشاعر تتطوّر بتطوّر الأحداث التي تعتمد على نظام اللّواحق السردية وفق الخطّ الكرونولوجي المتداخل أحياناً ، فإذا بنا أمام شخصيات هشّة و إن أظهرت العكس ، و لكنّ المواقف تفضحها ، فنرى ألم الشيخوخة و ألم النكران و الجحود و الخيانة و النّدم .
هذه النّوازل لم تغفلها أميرة غنيم كما سبق
و أن قدّمتها في « نازلة دار الأكابر » مع « لـلاّ زبيدة » التي لم تتكلّم مفضّلة الصّمت ، تاركة المجال لحفيدتها « هند » ، فـ « مايزال الأمل قائما يا عند هند. السرّ ههنا في المحفظة المقفلة. و قريبا .. قريباً جدا تفتّح الأقفال. » ( نازلة دار الأكابر ص 457 ) ، فإنها ستفتح هذه الأقفال التاريخية المغلقة ، و لكن على لسان وسيلة بورقيبة و سعاد الكامل و جاكلين غاسبار
و درّة و الطفلة آمال ، في عالم تخييليّ لا يخلو من المغامرة التي تقوم بها وسيلة للوصول من جديد في رحلتها الأخيرة إلى الزّعيم في منفاه الأخير بدار الوالي بالمنستير ، لتكون هذه الرحلة العجيبة كما تقول أميرة غنيم في إحدى لقاءاتها
:« الرواية من غاياتها تعريف القارئ بشيء يجهله » ، فتنتقل بنا من القضايا الإجتماعية في " نازلة دار الأكابر" إلى القضايا السياسيّة في " تراب سخون" ، بل هي تقدّم لنا جوانب من كواليس المطبخ السياسي الذي نجهله عن زمن بورقيبة ، فتعرّيه لنا على لسان « الماجدة » ، خاصة مع شيخوخته
و عجزه اللّذين جعلاه غافلا عمّا يحاك له من دسائس :« بلى كان الزعيم غافلا. غفل عن ألاعيبهم القذرة و صفقاتهم النّجسة و تحالفاتهم الدّنيئة مع شياطين الدّاخل و الخارج إن لزم الأمر » ( ص 225 ) ، إلاّ أنّ وسيلة المحبّة للزعيم رغم غدره بها في عدة مناسبات ، لم تتركه لهذه الذّئاب ، بل هي ملاكه الحارس مادامت إلى جانبه ، وهو ما يؤكّده لها بورقيبة بقوله : « الآن فقط عرفت لِـمَ وضعك الله في طريقي... أنت و لا شكّ ملاكي الحارس الذي لا منجَى لي إلاّ به » (ص 174) ، بل هي واعية بأنّ القدر جمعهما في رحلة الحياة ، إذ تقول:
« ما لم يخامر ذهني قبل صدمة المتحف هو أنّ كلينا كان في واقع الأمر مرتبطا بالآخر بحتميّة التّاريخ. كنّا قدرا يتشابك مع قدر لتتحقّق على الأرض كلمة الأفلاك » (ص112).
و لكن أنّى لها أن تواصل هذه المهمّة التي اختارها لأجلها القدر وهي الثمانينيّة ؟
تلعب هنا أميرة غنيم دورها ككاتبة لتصل الماضي بالحاضر بين بورقيبة و وسيلة ، فتجعل بينهما جامعا سحريا بمثابة
« الطّوطم » الذي يدفع البلاء و يعيد الحياة ، وهو ذلك « الحزام النّحاسيّ » الذي تخرجه سعاد الكامل بعد سنوات و تعيد من خلاله الحكاية كالمارد الخارج من القمقم فيكون ذلك القادح لبقية الأحداث المرتبطة بالرحلة الأخيرة لوسيلة من أجل إنقاذ الزعيم بالتعاون مع ممرّضته سعاد الكامل ، فإذا بوسيلة تستحيل شابّة مقدامة من أجل إنقاذ حبيبها النائم بين أسوار سجنه الأخير رغم تطليقه لها و تألّمها الشديد من ذلك ، فتقول: « أما هذه العجوز التي بسطت له قلبها فراشا لم ترفعه قطّ ، و قاست من مرضه الطويل ، و صبره القليل ،
و أقامت دهرا على نزقه و عناده و سرعة غضبه و تقلّب مزاجه ، فقد أسند لها شهادة اعتراف بالفضل أصدرتها المحاكم التونسية و كتب أعلاها بخطّ جميل: القضيّة عدد 86678 . » ( ص 227 ) .
و لكن رغم هذا الألم ، تحافظ وسيلة على شيء من الحبّ للزعيم ، فتخوض رحلتها و معركتها متنكّرة مواجهة خلالها مصاعب عدّة ، جسدية و نفسية إلى سوسة و القنطاوي
و منها إلى المنستير. هذه الرحلة التي كاد يفسدها الزهواني الذي فطن بها ، فكان معرقلا و قادحا في آن معا لتتخلّص منه بحيلة ماكرة و كذلك الأمر مع بوليس بن علي المتواطئ مع سعاد الكامل من أجل تحقيق لحظة اللقاء بين وسيلة
و بورقيبة ، هذا اللقاء المرتبط بإنقاذ الزعيم من نزف « وحمته » و من : « إنّي أرى في منامي ، مذ غادرتني ، سفينة غارقة في بحر من الظلمات و الأهوال و أمام حطامها دلفين يراقص إمرأة عارية تشبهك ، و لكنّها أنحف قليلا... أراها تقبض على شيء لا أتبيّنه [ ... ] فهلمّي سريعا لإنقاذ الذي يبقى بعد أن يفنى كل شيء » ( ص 137 ) .
تستجيب وسيلة إذن لهذا النّداء ، « و أمتطي للوصول إليه في ذلك الفجر النّدي شاحنة نقل ريفي إلى جوار شيخ غريب تفوح من أنفاسه رائحة الكحول ، حاضنة بين ذراعيّ قفّة من السّعف كأنّ بها الدنيا و ما فيها... » ، و تسعى لتحقيق آخر أمنية لها و للزعيم وهي ذلك اللقاء الموعود الذي يتحقق أخيراً في ليلة عاصفة تسترجع فيها وسيلة مع الزعيم ما مضى من حياتهما معا في حوار يكشف جانبا من معاناة كل منهما قبل و بعد الفراق . ولكن هذا اللقاء الأخير بطلب من بورقيبة لم يكن لمجرّد اللقاء واسترجاع الذكريات فقط بل إنه لقاء بورقيبة للماجدة استنجادا بها لمساعدته على استعادة عرشه المسلوب غدراً فيقول : « لا شيء قصمني إلاّ الغدر يا وسيلة ... الغدر وحده خرّب ما صنعته و سيظلّ يخرّب كلّ شيء... » ( ص 293 ).
هذا الغدر الذي نالت منه وسيلة من الزعيم و تجرّعت مرارته
و كانت واعية بقيمتها في حمايته لولا أن تخلّى عنها ، فتقول: « و لن يسقط من عليائه و تعفّره أقدام الغادرين ، إلاّ يوم أضمر التخلّي عنّي بلا ذنب اقترفته فكان كمن يقطع بمنشار أعمى الغصن العالي الذي يجلس عليه » ( ص 34 ) .
وهكذا كانت رحلة أميرة غنيم من خلال وسيلة بورقيبة في تراب سخون رحلة في أغوار النفس البشرية من خلال تقاطع المتخيّل بالتاريخ في بحث عن صورة تونس في مسارات ومناخات مختلفه تجمع السردي بالتراسلي والواقعي بالأسطوري انطلاقا من رسائل جمعت بين وسيلة بورقيبة وجاكلين غاسبار وسعاد الكامل فإذا بهذه الرسائل تستحيل رسائل القدر الذي خلّد ذكرى حبيبين في ذاكرة التونسيين الباحثين عن كواليس السياسة خاصة في عهد الزعيم ومسار حياته من الصعود الى قمة المجد و وصولا إلى الهاوية وسجنه الأخير انطلاقا من المقولة الشعبيه : «يخرج من المنستير دنفير فيه الأمم تحير » ، هذه الحيرة التي ستزيلها عنا أميرة غنيم عبر تلك الرسائل التي تعتمد أسلوب التداعي الحر بين جميع الشخصيّات لتصل بنا الى البنيّة آمال في علاقتها بذلك الحزام النحاسي الذي تستطيع فكّه ولكنها تنزف « وحمة ربلتها » مثل الزعيم لنتساءل عن تواصل رحلة إنقاذ تونس مع آمال التي جعلتها أميرة غنيم عنوانا للأمل القائم من أجل تونس جديدة منشودة .
م أ مخلوف