غلب على الظنّ النقديّ أنّ شهرزاد توسّلت بالحكي وسيلة مُثلى من أجل أن تتفادى الموت الذي يتهدّدها من قِبَل شهريار. وقد فُسِّر هذا الأمر على أوجه مُتعدِّدة، منها أنّ وسيلتها هذه تندرج في نطاق استعمال الحيلة بوصفها استطاعة فعل يستخدم المعرفة، أو أنّها تُعَدُّ شكلا ما للقوّة بديلا عن القوة الفيزيقيّة. وإذا كان هذا التأويل مقبولا في حدود تفسير الفعل السرديّ لشهرزاد فإنّ ما لم يتنبّه إليه هو حذقها في تبليغ الرسائل المُسنّنة codées إلى القوّة الماحقة التي تُجابهها. والمقصود بهذا الكيفيةُ الي صاغت بوساطتها طلبَها العفو من شهريار على نحو غير مباشر. وهذا الطلب اعتمد الحكاية بوصفها كلمة دالة؛ أي بوصفها تعبيرا غيرَ مُباشر عن معنى غير المعنى الذي تُبلِّغه، بما يعنيه هذا من اعتماد وسائل الحكي ومهاراته، ووفق طريقة الرسائل المُسنَّنة التي تُضمَّن في ثنايا رسائل مُضلِّلة. والمراد من هذا أنّ شهرزاد كانت تُلغِّم متنها الحكائيّ بحكايات تلعب دور الإشارة غير الصريحة إلى طلب العفو.
ويُترجم هذا الأسلوب الذي اتّبعته -في صياغة طلبها غير المُباشر- أسلوبا مُتَّبعا في مجال آخر غير مجال الحكي، وسنُؤجِّل الحديث عنه إلى اللحظة التي ننتهي فيها من عرض نموذجيْن من الحكايات التي تُمثِّل كلمة طلب العفو. وهاتان الحكايتان تتأسَّسان وفق الخلفية التي تتشكَّل عليها الحكاية- الإطار، والمُتمثِّلة في مُحاولة شهرزاد تلافي الموت الناجم عن عزم شهريار على قتل كلّ النساء اللواتي يتزوَّج بهنّ.
أـ حكاية هشام بن عبد الملك والغلام: تقوم هذه الحكاية على رفض غلام أعرابيٍّ الخروج مع هشام بن عبد الملك من أجل القبض على ظبي، وتحدّاه بالكلام، فما كان من الجند سوى وضعه رهن الاعتقال. وسيصدر في مجلس هشام الأمر بقتله. وعند المرّة الثالثة التي استأذن فيها السياف الخليفة في قطع رأس الغلام ضحك هذا الأخير، فسأله هشام عمّا أضحكه؛ فروى أبياتا شعريّة جعلته يحصل على العفو.
يتحوّل الغلام في هذه الحكاية إلى استبدال رمزيّ للطريدة (الظبي)، بيد أنّه يُعَدُّ طريدة أثمنَ من مثيلتها الحقيقيّة. لكن ليس هذا هو المعنى المُراد؛ فبفعل المجاز المُرسل (إطلاق المُسبِّب وإرادة المُسبَّب) يكُون المُنتَج (الشعر) هو المُراد، لا المُنتِج (الغلام). ومن ثمّة فصيد الكلام يُعَدُّ أفضلَ من صيد الطريدة (الظبي)، وهو أمتعُ منه وألذُّ. كما أنّ الكلام المُخيَّل يصير مُوازيا للحياة. تُشير هذه الحكاية- بطريقة غير مُباشرة- إلى طلب خفي غير صريح من قِبَل شهرزاد مُوجَّه إلى شهريار، ومضمونه أن يتصرَّف تُجاهها كما فعل هشام بن عبد الملك في صدد الغلام. وينبغي التنبُّه إلى المُساواة في القدر بين الاثنين؛ فكلٌّ من الغلام والمرأة يشترك في الضعف الفيزيقيّ؛ ممّا يجعلهما يستبدلان معرفة الكلام المُخيَّل به. لكن ينبغي فهم هذا الاستبدال في إطار أوسع سنأتي إلى ذكره. إنّ قراءة من هذا القبيل لها صلة بالمُجازاة؛ والتي يحدث تغيُّرٌ في بنيتها؛ حيث لا تصدر عن ذات مُستفيدة من الفعل، وإنّما عن ضدّ ذات. ولا يُمْكِن تفسير هذا القلب في بنية المُجازاة إلّا بفعل تحوّل الخصم إلى مُتفهِّم يقبل تبادل المُنتجات الرمزيّة (الكلام المُخيَّل) بديلا عن الديَّة العينيّة.
ب ـ حكاية التاجر والعفريت: تَرِد هذه الحكاية في الليلة الثالثة، ويُواجه فيها تاجر الموت نتيجة رمي ابن العفريت بنواة ثَمَرَة. وبينما هو جالس تحت شجرةٍ بعد عودته من توديع أهله مُنتظرا ظهور العفريت كي يُنفِّذ فيه القتل ظهر تجّار ثلاثة، فسألوه عن سبب غمّه، فحكى لهم حكايته، وما أن انتهى ظهر العفريت مُبْديا عزمه على تنفيذ وعيده. في هذه اللحظة تدخّل التجّار الثلاثة عارضين على العفريت التنازل لكلّ واحد منهم على ثلث من حياة التاجر المُهدَّد بالقتل مُقابل أن يحكي كلُّ واحد حكاية مُمْتِعة. لم يعترض العفريت على الطلب، وحكى كلُّ واحد حكايته، وكان نتيجة هذا حصول العفو، ونجاة التاجر. لا تقلُّ هذه الحكاية عن الأولى أهمّية في الإشارة بطريقة غير مُباشرة إلى طلب خفي غير صريح من قِبَل شهرزاد مُوجَّه إلى شهريار، ويتمثَّل هذا الطلب في أن يقْتدي بما فعل العفريت تُجاه التاجر. ويتكرَّر المعنى ذاته الماثل في التبادل وفق الأفضلية؛ حيث يكُون الكلام المُخيَّل (الحكاية) أثمنَ بكثير من قتل التاجر، بل أثمن من الابن، لأنّه يتضمَّن فائدة نافعة في الحياة. ولا يكُون طلب العفو في هذه الحكاية أقلّ تمثيلا لوضع شهرزاد بسبب كونه لا يصدر من الذات المعنية بالقتل، بل من وسيط يُمثِّله التجّار؛ فهذه الوساطة تُشير إلى أنّ قوّة الطلب لا تتأتّى من الذات الطالبة، وإنّما ممّا تُقدِّمه في هيئة بديل للقتل؛ ومن ثمّة يُعَدُّ ما يُقدَّم على هذا النحو- في حالة الوضع المُهدِّد الكارثيّ- بمثابة استبدال رمزيّ (وتحوُّل في بنية المُتخيَّل المحكي imaginaire raconté) للقربان الذي يُقدَّم في الحكي الأسطوريّ لتفادي غضب القوى الطبيعيّة أو الخفية. ويمْثُل القربان - هنا- في الكلام المُخيَّل. وترتيبا على هذا، لا تكمن قوّة هذا الأخير في كونه سلاحا يُوضع في خدمة الأنثى، بل في طبيعته القربانيّة. ويتماثل كلٌّ من الذكوري (الغلام- التاجر) والأنثوي (شهرزاد) في التوسّل به (الكلام المُخيَّل) لا يقع الأسلوب التي اتّبعته شهرزاد في تبليغ طلب العفو بطريقة غير مُباشرة في صلب التخييل ذاته، بل هو مُستجلَب إليه من الحياة العامّة، وبالضبط من التعاملات التجاريّة، والمقصود بهذا أسلوب المُقايضة الذي يحدث بمُوجبه تبادل بضاعة بأخرى تكُون في مستوى قيمتها. وهكذا تُترجم بنية المحكي - في بعض الليالي - بنيةَ المُقايضة بما تعنيه من رضى بين الطرفيْن، بيد أنّ عدم المُساواة بين المُقايِض (شهرزاد: الأنثوي) والمُقايَض: الذكوري) يجعل من اسلوب المُقايضة غير مُباشر ومُوسَّطا بحكايات تُعبِّر عنه على نحو صريح. كما لا يُكتفى في هذه الوساطة برسالة مُسنَّنة واحدة (حكاية)، بل تكرَّر بما يُماثِلها في بنية طلب العفو. ويأخذ هذا التكرار طبيعة إلحاح مُستمِرّ يُترجم الإحساس الداخليّ للساردة (شهرزاد) بعدم تحقُّق الرضى التامّ من قِبَل شهريار بما يُعرض عليه من مُقايضة (الكلام المُخيَّل). ومن ثمّة يكُون هذا الإحساس غير المُعبَّر عنه مُبرِّرا لاستمرار الحكي، وتنامي الحكايات وتعدُّدها.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
ويُترجم هذا الأسلوب الذي اتّبعته -في صياغة طلبها غير المُباشر- أسلوبا مُتَّبعا في مجال آخر غير مجال الحكي، وسنُؤجِّل الحديث عنه إلى اللحظة التي ننتهي فيها من عرض نموذجيْن من الحكايات التي تُمثِّل كلمة طلب العفو. وهاتان الحكايتان تتأسَّسان وفق الخلفية التي تتشكَّل عليها الحكاية- الإطار، والمُتمثِّلة في مُحاولة شهرزاد تلافي الموت الناجم عن عزم شهريار على قتل كلّ النساء اللواتي يتزوَّج بهنّ.
أـ حكاية هشام بن عبد الملك والغلام: تقوم هذه الحكاية على رفض غلام أعرابيٍّ الخروج مع هشام بن عبد الملك من أجل القبض على ظبي، وتحدّاه بالكلام، فما كان من الجند سوى وضعه رهن الاعتقال. وسيصدر في مجلس هشام الأمر بقتله. وعند المرّة الثالثة التي استأذن فيها السياف الخليفة في قطع رأس الغلام ضحك هذا الأخير، فسأله هشام عمّا أضحكه؛ فروى أبياتا شعريّة جعلته يحصل على العفو.
يتحوّل الغلام في هذه الحكاية إلى استبدال رمزيّ للطريدة (الظبي)، بيد أنّه يُعَدُّ طريدة أثمنَ من مثيلتها الحقيقيّة. لكن ليس هذا هو المعنى المُراد؛ فبفعل المجاز المُرسل (إطلاق المُسبِّب وإرادة المُسبَّب) يكُون المُنتَج (الشعر) هو المُراد، لا المُنتِج (الغلام). ومن ثمّة فصيد الكلام يُعَدُّ أفضلَ من صيد الطريدة (الظبي)، وهو أمتعُ منه وألذُّ. كما أنّ الكلام المُخيَّل يصير مُوازيا للحياة. تُشير هذه الحكاية- بطريقة غير مُباشرة- إلى طلب خفي غير صريح من قِبَل شهرزاد مُوجَّه إلى شهريار، ومضمونه أن يتصرَّف تُجاهها كما فعل هشام بن عبد الملك في صدد الغلام. وينبغي التنبُّه إلى المُساواة في القدر بين الاثنين؛ فكلٌّ من الغلام والمرأة يشترك في الضعف الفيزيقيّ؛ ممّا يجعلهما يستبدلان معرفة الكلام المُخيَّل به. لكن ينبغي فهم هذا الاستبدال في إطار أوسع سنأتي إلى ذكره. إنّ قراءة من هذا القبيل لها صلة بالمُجازاة؛ والتي يحدث تغيُّرٌ في بنيتها؛ حيث لا تصدر عن ذات مُستفيدة من الفعل، وإنّما عن ضدّ ذات. ولا يُمْكِن تفسير هذا القلب في بنية المُجازاة إلّا بفعل تحوّل الخصم إلى مُتفهِّم يقبل تبادل المُنتجات الرمزيّة (الكلام المُخيَّل) بديلا عن الديَّة العينيّة.
ب ـ حكاية التاجر والعفريت: تَرِد هذه الحكاية في الليلة الثالثة، ويُواجه فيها تاجر الموت نتيجة رمي ابن العفريت بنواة ثَمَرَة. وبينما هو جالس تحت شجرةٍ بعد عودته من توديع أهله مُنتظرا ظهور العفريت كي يُنفِّذ فيه القتل ظهر تجّار ثلاثة، فسألوه عن سبب غمّه، فحكى لهم حكايته، وما أن انتهى ظهر العفريت مُبْديا عزمه على تنفيذ وعيده. في هذه اللحظة تدخّل التجّار الثلاثة عارضين على العفريت التنازل لكلّ واحد منهم على ثلث من حياة التاجر المُهدَّد بالقتل مُقابل أن يحكي كلُّ واحد حكاية مُمْتِعة. لم يعترض العفريت على الطلب، وحكى كلُّ واحد حكايته، وكان نتيجة هذا حصول العفو، ونجاة التاجر. لا تقلُّ هذه الحكاية عن الأولى أهمّية في الإشارة بطريقة غير مُباشرة إلى طلب خفي غير صريح من قِبَل شهرزاد مُوجَّه إلى شهريار، ويتمثَّل هذا الطلب في أن يقْتدي بما فعل العفريت تُجاه التاجر. ويتكرَّر المعنى ذاته الماثل في التبادل وفق الأفضلية؛ حيث يكُون الكلام المُخيَّل (الحكاية) أثمنَ بكثير من قتل التاجر، بل أثمن من الابن، لأنّه يتضمَّن فائدة نافعة في الحياة. ولا يكُون طلب العفو في هذه الحكاية أقلّ تمثيلا لوضع شهرزاد بسبب كونه لا يصدر من الذات المعنية بالقتل، بل من وسيط يُمثِّله التجّار؛ فهذه الوساطة تُشير إلى أنّ قوّة الطلب لا تتأتّى من الذات الطالبة، وإنّما ممّا تُقدِّمه في هيئة بديل للقتل؛ ومن ثمّة يُعَدُّ ما يُقدَّم على هذا النحو- في حالة الوضع المُهدِّد الكارثيّ- بمثابة استبدال رمزيّ (وتحوُّل في بنية المُتخيَّل المحكي imaginaire raconté) للقربان الذي يُقدَّم في الحكي الأسطوريّ لتفادي غضب القوى الطبيعيّة أو الخفية. ويمْثُل القربان - هنا- في الكلام المُخيَّل. وترتيبا على هذا، لا تكمن قوّة هذا الأخير في كونه سلاحا يُوضع في خدمة الأنثى، بل في طبيعته القربانيّة. ويتماثل كلٌّ من الذكوري (الغلام- التاجر) والأنثوي (شهرزاد) في التوسّل به (الكلام المُخيَّل) لا يقع الأسلوب التي اتّبعته شهرزاد في تبليغ طلب العفو بطريقة غير مُباشرة في صلب التخييل ذاته، بل هو مُستجلَب إليه من الحياة العامّة، وبالضبط من التعاملات التجاريّة، والمقصود بهذا أسلوب المُقايضة الذي يحدث بمُوجبه تبادل بضاعة بأخرى تكُون في مستوى قيمتها. وهكذا تُترجم بنية المحكي - في بعض الليالي - بنيةَ المُقايضة بما تعنيه من رضى بين الطرفيْن، بيد أنّ عدم المُساواة بين المُقايِض (شهرزاد: الأنثوي) والمُقايَض: الذكوري) يجعل من اسلوب المُقايضة غير مُباشر ومُوسَّطا بحكايات تُعبِّر عنه على نحو صريح. كما لا يُكتفى في هذه الوساطة برسالة مُسنَّنة واحدة (حكاية)، بل تكرَّر بما يُماثِلها في بنية طلب العفو. ويأخذ هذا التكرار طبيعة إلحاح مُستمِرّ يُترجم الإحساس الداخليّ للساردة (شهرزاد) بعدم تحقُّق الرضى التامّ من قِبَل شهريار بما يُعرض عليه من مُقايضة (الكلام المُخيَّل). ومن ثمّة يكُون هذا الإحساس غير المُعبَّر عنه مُبرِّرا لاستمرار الحكي، وتنامي الحكايات وتعدُّدها.
٭ أكاديمي وأديب مغربي