حسن الرحيبي - مَا تشوفيشْ ليَ في ضَوّي!... حكاية من مغرب آخر لا يعرفه الكثيرون، أو سّي بوشعيب صَايم على زرعُه وانا مَانّي؟

بهجة الحصَاد . جِمال تتعاقب على البيادر بتتابع وتناوب . بعضُها يأتي محمّلاً بالرّفدة الثقيلة انطلاقاً من سهل أريري الخصب والبعيد . بعضها الآخر يزحف ببطء شديد نحو الدوار ذي المباني البيضَاء المتلألئة تحت أشعة شمس الصّيف السّاطعة والحارقة . والبوخاريَات أو المداخن الشّامخة فوق مطابخ اولاد سي بوحيى الذين لم تكن نارهم تنطفيء أبداً . آتيةً من سهول أقرب كالكرَيْكير والواد الاخضَر وامّو دنان والقاق والرّگبة والحصْيَة وضاية الجّبلي . نساء أيّير تتوافدن مع أطفالهنّ سائقات دوابّهم ومواشيهنّ… بعضهنّ يبنين أكواخاً أو نوايل بطريقة مستعجلة لحاجة أهل الدوار الأغنياء الأرستقراطيين ليد عاملة رخيصَة ولهم فيهن مآرب أخرى في وقت لم تظهر فيه نعمة مطيشة la manne des tomates وتصديرها للسوق الأوروبية المشتركة بعد . نحن في الأربعينات وبداية الخمسينات . لما تنتهي أشغال التكربيل ونتف عروش الجلبان يبدأ الحصَاد مع التقاط السّنابل le glanage des épis في المساء عندما تخلو الحصائد من الغمار والمطّ ينادي ولد بوعلام أو الجّيلالي ولد قدّور وانوضُوا اللّگّاطات ! جحافل من الأطفال والنساء والحيوانات تندفع صَوب الحصيدة الخصبة يتسابقون للسنابل وبقايا المطّ التي أفلتها الحصّادون . زغاريد جميلة تنطلق من كل مكان كتعبير عن فرحة الحصَاد ووفرة المحصول . تستولي النساء على كل شيء . بعضُهنّ تلقين بإزارها على مطة قمح بحالها لإخفاء آثار ومسرح الجريمة معاً … ينادي ولد رقيْوَة من تاوريرت قصير القامة والمتزوج بامرأتيْن على أمه رغم كبر سنه كي تسرع بالإتيان بالشواري لحمل محصُول اللّگطة من الشوّاط : وادادا ! وادادا … يضحك الجميع وتستمرّ حركة الأيادي والأصَابع بخفّة كبيرة ومهارة فائقة استعملنها أثناء الربيع لحفر قصّيد التّرفاس les truffes والتعرف عليه بمهارة وحذق لا يضَاهيهن فيه أحد . فاطمة بنت رحمة كي تسرع في السباق للگطة ألقت بأختي زهرة بظهرها معتقدةً أنها بنتها لصفرة رأسيْ الطّفلتيْن معاً ، وانطلقت تلقط السنابل بخفة منقطعة النظير.. بينما نسيت فّيطنة ولدها الصغير نائما في الحد ولم تتذكره حتى الليل لما حان وقت العشاء لتهرع راكضَة نحو بوهشهوش للبحث عنه لتجده لا زال نائما باطمئنان..
تتفاخر نسوة الساحل صباح يوم الثلاثاء بمشترياتهن من السوق من الكُرشة : الكنبس وبوباينوط والمجبنة والرّية والمصران لغليظ وشحمة لمصَارن والكبدة…يصفن جميع مراحل تهييء الگميلة أو بالأحرى الحمّاس المليء بخليط سحري من الكروش وخضَر سواني المصَابحة وتيمگرت وزاوية سيدي احمد بن رحّال … تذكّرت تتابعنا وراء أمي للصعود نحو الدوار حيث تتواجد نوالة دادا فرَيْحة والتي تبادر بطبخ گاميلتها بعد الظهر مباشرةً حتى تتمكن أمي ابنتها الوحيدة من مشاركتها في الوليمة . تتضايق من مجيئنا جميعنا رغم محاولتها التمويه والخروج بدون غطاء كي تتظاهر بعدم قصدها لوليمة أمها من التقلية الفاخرة . رائحة أمعاء البهائم تملأ الجو وتزكم الأنوف … تذكرت الآن ركل بن مّينة العوفير العاشق لسنابل الكيف لكتامي للگاميلة المليئة بالكروش حين بدأت تتتربخ وتصدر أصواتاً غريبة ومختلفة عن أنغام گوامل الناس الراقين والمتحضّرين المطربة مثل طواجين الرّويحات الزّاهية واللّذيذة التي اعتاد التذوق من بعض فُتاتها الرّائع حين ترمي به الأقدار للصّديگات عند سي عبسلام .. ليقذفها بعنف بقدمه الحافية والصلبة نحو سقف النوالة وهو يردد : تّربخي عليّ بوك حينث عامرة زبل ! هو نفسه الذي اختبأ في عز شهر رمضَان وراء الرفدة لتناول حصّته من الكيف أثناء الحصَاد فيذكّره أحدهم بأن سي بوشعيب غادي يشم رائحة الكيف ورمضَان هذا… فردّ مستنكراً : سي بوشعيب صَايم على زرعه وانا مالي آش شايط لي ؟
نلتهم گاميلة دادا ونعود لخيمتنا لالتهام گاميلة لحم الراس نأخذ لدادا نصيبها منها قبل العشاء . لا نتركها تنتظر لأنها تعودت على ذلك منذ عشرات السنين . نجد سّي مّيكْ القادم من منطقة لحضر قد قيّد حماره ونام بين عيون الشواري في انتظار الصّباح ليطوف على منازل الصّديگات ضَارباً على الطّعريجة مادحاً أبناء الأغنياء من أجل الحصُول على شيء من قمح الرّويحات المذهب . وقبل ذلك تذوق مرقة الحمرية خادمة سي امحمد وغنّو الفّرقشة خادمة لفقيه السطاهر..توصينا دادا فريحة بعدم أخذ الخبز وأكله من جارتها ومنافستها مرت خالي احمد زوجة السطاهر ولد سي عباس لأنه عامر خنونة.. رغم أن السّطاهر تزوجها عن حب كبير وظل يدعي أن له معها ابنا يسمى المختار اختفى من غير رجعة.. لكن مناجاتهما لبعضهما كان يستمع إليها شبان الدوار من خلف النوالة حين كان يغني لها أغنية نادرة اعتقدت أنها من آيات الدين : الطيارة في السما دارت علامة
يموتوا اولاد الحرام ويعيشوا ليتامى
فتصيح هي من شدة الإعجاب : إييييه الله يرحم من قرّاك ! لأنها تزوجته فقط لأصله الأرستقراطي . فيتكئ على جنبه بخيلاء مالئاً شقفه الطيني بألذ وأمتع أصناف الحشيشة أخذها من خزائن سي عبسلام الوافرة.. لينتقلا إلى السرعة القصوى بالارتشاف من كؤوس المتعة الطبيعية بكل انتشاء وفرحة فتسأله باشتياق ولهفة : كي جيتك ؟ نوض زيدك ..
بقينا نجتمع بنوالة دادا لحنانها ومحبتها الكبيرة لنا رغم صرامتها وحرصها على عدم ترك أي أحد منا لوحده بمن فينا ابنتها خوفاً من المسّ بقدسية وحُرمة أشيائها الثمينة التي لا يمكن فتحها أو تحويلها من مكانها : قرعة صغيرة من زيت البون (أو الزّيت الكخكاخي ) ووقية من زيت العود وتبخة من أتاي النسر الرخيص تشتريه يوم الإثنين خصّيصاً وحصرياً من حانوت كْحَيْلْ ولد عبد المالك معبّرةً باستمرار عن سعادتها به ورضاها عنه لكرَمه معها وحسن تعامله بالقول : هاذاك الذّريري مسيكين كيقوّي ليَ ! إلى أن عدنا ذات يوم من أيام ربيع سنة 1967 من المدرسة لنجد شاحنةً من أيّير جاءت لنقلها مع متاعها البئيس وكوخها بقصبه وحطبه ودجيجاتها وفريكساتها القلائل… لتقترب من ابنها وأختها وأهلها من اولاد السكّاف الأدارسة الشرفاء لتترك لنا فراغاً كبيراً قبل رحيل أبي الأبدي بعد بضعة أشهر . حين كنا نلجأ إليها كلما جعنا أو احتجنا لشيء هي التي كانت فقط تعتمد على مساعدات الناس حين كانت تطوف على البيادر والحصادين حاملةً قفتها على رأسها فيما كان يسمى بالتّسارية.. وفي فصل الخريف والشتاء تغزل الصّوف وتنسج لمن تحتاج لخدماتها من نساء الدوار .. كلما أراد المعلم غسل الطاولات يوم الأحد بماء جاڤيل javel يأمرنا بجمع ريال لكل تلميذ فيمتنع أبي عن منحه لنا قائلاً سيروا عد داداكم تعطيكم . عندما تكون في حالة رائقة تكون الأمور ميسرة وعندما نرى عينيها حمراوتين نتردد في مفاتحتها بالموضوع الهام . وأيضاً كلما حاولوا تنظيم حفلة بالمدرسة في آخر الدورات الدراسية فيذهب عندها أخي متحدثاً بسرية تامة في أذنها : دادا خاصّني واحد ستّ ريالات باش نديروا الحفلة في السّكويلة . يقولها بوشوشة وخفوت تام كي لا تستمع النساء الأخريات بالجمع . لتردّ هي جهراً وبدون قيود : آش گلت ؟ ستّ ريالات ؟ أنا سايرة ندُگّ فيها ؟ فيرجع خائباً حزيناً ومنكسراً للفضيحة والحرمان معاً !
حياة متناقضة بشكل تام في نفس الدوار : أرستقراطيون يملكون كل شيء ويسكنون منازل جميلة . وفقراء مهاجرون موسميون يسكنون الأكواخ أو الحفر أو التوافرية (الكهوف) كلما أراد أحدهم شراء شمعة لا يمكن أن يجود بضوئها مجاناً وتكرماً على الجيران مما يضطره لجمع ثمن الاشتراك بالضوء وما على الجميع سوى الانصياع والخضُوع لرغبته . بينما يكون على الرافضين المتنعنتين أن لا ينظروا إلى ضَوء الشمعة الجميل والساحر وهي تنشر رحمتها ودفءها داخل الكهف المسحور في المساء البهيم والدامس … وإلا صاحت صاحبتها مستنكرةً استباحة ضَوئها الثمين من طرف الأخريات الانتهازيات بعمق حفرة مولاي الطاهر أو التّوفري الذي كانت تسكنه عدة أسر بقلب الدوار التاريخي . فينشب الخصَام والهرج والمرج حين يمتنع البعض عن دفع حصتهم لشراء شمعة بأقلّ من ريال واحد فتمنعهم صاحبة الحق من النظر للضّوء الخافت الضّروري ليلة السوق حيث يزهو العشاء بمختلف سقائط اللحم والعظام والمخاشفة Les tripes وخضَر الدنجال والفلفلة امّو شكارة ودلّاع الگرّوم ومنون البزاغلة واولاد الاحمر الاحرش . وباكور الطالوع ولگباگبة واولاد بوعشّة وعنب بني خلف وشريحة اولاد سي بوحيى … بالقول : ما تشوفوش ليَ في ضوّي ! هم جميعاً الذين تعودوا على الاستضَاءة بشعالة نار يسهر أحد المتطوعين على دوام لهيبها واستمراره حتى ينتهوا من التهام عشائهم الهزيل من السميدة والخبّيزة والبسباس تحت قصف الرياح العاتية وجحافل حشرات قنديل الّليل الغازية انطلاقاً من كروم البساتين المجاورة … تاركين له حصته على طرف من القصعة الخشبية القديمة..

…يُتبع

حسَن الرّحيبي..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى