د. محمد عبدالفتاح عمار - وهم الحاجة إلى القراءة الحداثية لفهم النص القرآني !!!

إنَّ أحد أهم مشكلات المفكرين والكتاب العرب حتى في تعاملهم مع النصوص العربية التراثية هو محاولة إخضاعها للمناهج الغربية وفلسفتها بعبارات وألفاظ وتعبيرات مستورة من الثقافة الغربية، وإذا رجعت إلى أصل هذه النصوص ستجدها بسهولة بمكان عن تلك الشروح التي يضعها المفكرون الحداثيون العرب، والحقيقة إنَّ المشكلة ليست في الفلسفة أوالفلاسفة، ولكنها في المتفلسفين.

هل أصبحت الغاية هي أن نخلق تبعية للغرب وأن نقول إن ما لدينا هو ما لديه؟! إنَّها عقدة الدونية أمام الثقافة الغربية، وإهمال للفكر الإسلامي، ووصول إلى نتائج شاذة مفرطة في الهوية الفكرية، وترسخ التبعية للفلسفات الغربية والمفاهيم من خلال اتباع مناهج غريبة عن طبيعة النص القرآني المقدس.

الأهم من كل ذلك ما الهدف من اتباع المناهج الغربية في تحليل النص الديني هل هو التحرر من التراث؟! ولماذا؟! المفترض أنَّه الرغبة في التجديد إن صحت النيات، وسلمت المقاصد، ما الذي يمنع من هذا التجديد والإسلام نفسه يدعو إلى التجديد؟ ما الذي يدعو إلى الانسياق وراء المناهج الغربية وتعبيرات، مثل: الثابت والمتحول والتاريخانية او التاريخية والأنسنة والهرمنيوطيقيا والإبستمولوجي والحداثة وما بعد الحداثة وغيرها وغيرها كثير من التعبيرات التي لاتمت لواقعنا الثقافي؟ هل كان الهدف هو إثبات أنَّ الإسلام هو دين يدعو للعقل؟ بالتأكيد أنه لا أحد يختلف في ذلك حتى من يتمسكون بحجية النص، لا أحد يمكنه إغفال دور العقل في العقيدة إزاء هذا الكم الهائل من نصوص القرآن التي تدعو إلى التفكر والتدبر، وكذلك أحاديث الرسول. هل كان المقصد هو الفصل بين الإلهي والبشري أو المقدس وغير المقدس؟ الإسلام بذاته حدد ذلك وبوضوح وبعبارة واحدة قالها الرسول-صلى الله عليه وسلم-:" أنتم أعلم بأمور دنياكم".

ولا شك أن ظاهرة الاستعلاء الغربي والشعور بالانحطاط الثقافي غير المبرر لدى الدارسين العرب كانت من أهم مروجات هذه الكتابات الغثة، فيروج روح الاستعلاء المستشرق الفرنسي كلود جيليو في دائرة المعارف الشاملة نشرة 1990، مؤرخًا ومفاخرًا بما حققه المستشرقون في مجال تطوير الدراسات المرتبطة بالتفسير، فقال:" إن تطور الدراسات القرآنية بالغرب منذ منتصف القرن العشرين تحقق بفعل تأثير التقدم الملحوظ في مجال الدراسات الإنجيلية ونظريات النقد الأدبي أما أثر العلوم الإنسانية وبخاصة الأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان فقد بدأ يظهر من خلال احتفال هذه الدراسات بدور الرموز والخيال الديني، ثم اهتمامها بعملية الانتقال من النصوص المتلوة شفاهة إلى المكتوبة، وأخيرًا اعتنائها بوظيفة الأساطير، ويمكننا أن نميز بين توجهين رئيسين في هذه الدراسات: الأول- يشتغل على تاريخ النص القرآني، من حيث تكوينه وجمعه وتدوينه، أمَّا التوجه الآخر فيهتم بإعادة قراءة القرآن انطلاقًا من الوسائل التي توفرها مختلف العلوم الإنسانية، كما يعني أيضًا بالدراسة النقدية لأمهات التفاسير القديمة التي تعد شاهدًا على الطريقة التي أسهم بها النص القرآني في تكوين الخيال الإسلامي في مختلف مراحل التاريخ أي صورة الإسلام كما ينظر إليه، وصورته كما جاء، وصورته في مخيلة المسلمين"[SUP][1][/SUP].

ولا يمكن وصف مثل هذا القول إلَّا أنَّه مجرد خزعبلات وأوهام في ذهن قائلها، فسيادته يتصور أنه لا توجد أي مناهج تفسير، ولا أعمال قيمة يمكن الاستناد إليها حتى أن العالم الإسلامي كان في انتظار هذه التخاريف؛ ليكشف ويتعرف حقيقة الإسلام، ثم ينسب سيادته لمناهجهم أنها ميزت بين الإسلام وصورته في مخيلة المسلمين، كما لو كانا شيئين منفصلين.

وقد صدق بعض الباحثين فيما انتهى إليه أنَّ هذه التخاريف ناتجة عن التصور الخاطئ للدين عند الغربين حيث يعدون طقوس المسيحية وتعاليمها مِمَّا استحدثه الرهبان فقط، ولا صلة لها، بالنصوص الدينية في الأنجيل والتوراة[SUP][2][/SUP]، وبالطبع هذا التصور لا صلة له ألبتة بالدين الإسلامي وتعاليمه، وتكشف عن غياب تام وغيبوبة لمثل هذا المؤرخ الذي تجاوز السبعين، ويعد من أكثر الكتاب في هذا المجال

إذًا ما المقصد من جر النص إلى دائرة الفكر الغربي؟

الواقع أنَّ هناك ثلاثة فئات عدَّت أنَّ إخضاع القرآن لمناهج العلوم الإنسانية أمرًا مهمًا: الفئة الأولى- رأت أنَّ ذلك نوعًا من الحداثة في مجال الدرس القرآني، والثانية- عدت هذه الدعوى لونًا من ألوان التجديد في فهم القرآن تبعًا لما يقتضيه العصر، والثالثة- ركبت هذه المناهج للتلبيس بها عن آراء مذهبية وشاذة في السلوك والاعتقاد.

ويرصد بعض النقاد الطائفة الأولى في مجموعة من خريجي الجامعات الفرنسية، وأغلبهم من تونس تحلقوا حول مجلة اسمها 21x15 يرمزون إلى القرن الخامس عشر والقرن الواحد والعشرين،وكان ناشريها يعدونها منبرًا للحداثة فيما يتعلق بفهم الإسلام، واعتمت بتعريب الكتب تحتفي بمناهج اليسار الكاثوليكي، وترجم لها عبد المجيد الشرفي تلميذ محمد أركون كثيرًا من مقالات الأخير، وتجسدت الحداثة لديهم في تلقي وترويج آخر النظريات الغربية في التعامل مع الدين.

أمَّا الفئة الثانية فتجمع عددًا من المؤلفين المرتبطين بفرع القاهرة للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، والتجديد الذين يدعون إليه يقوم على فهم القرآن تبعًا لمعطيات العلوم الاجتماعية ، وكثير منهم تخصص في مجال النقد الأدبي الحديث، ومنه انتقلوا للاشتغال بالقرآن، ومنهج تجديده بحسبهم، أما الفئة الثالثة فهم عدد من الرافضة في بيروت وقم، ركبوا بآخرة هذه الدعوة في مرحلة خريفها، وأكثر منشوراتهم بالعربية تصدر في بيروت، عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي[SUP][3][/SUP].

والواقع إن كنا لانسلم بالصحة المطلقة لهذا التقسيم إلا أننا نرى أن ثمة تقسيم موضوعي آخر فبعض الباحثين يحاول مواكبة الحداثة الغربية متصورًا عجز التراث الإسلامي عن خلق منهج حديث يمكن أن يخرج لنا مكنون القيمة الدائمة والمستمرة للحضارة الإسلامية ونصوص القرآن، أما بعضهم الآخر فهو يرى أن النص القرآني سواء استخدمنا مناهج حداثية أو غير حداثية، فهو نص توقف به الزمن عند مراحل معينة، وهو ركام علينا أن نخلعه تمامًا؛ لذا فإنَّهم دائمًا يخلقون النتيجة، ثم يحاولون إيجاد مبرر لها، فيدعون إلى المساواة في الميراث، وحرية المرأة في تطليق نفسها، وإنكار فرضية الحجاب، إلى آخر ماتكشف عنه الآيام من دعاوى بعيدة كل البعد عن أحكام القرآن القطعية، وتكون الحجة دائمًا هو عنصر الزمن.

أما وسيلة هؤلاء فقد كانت واضحة وهي إخضاع النص القرآني لنظريات الحداثة الغربية، وتحت مفهوم قراءة النص القرآني، وكأنه لم يقرأ من قبل، ولم يفسر غير مرة بموضوعية واتقان ووفقًا لأصول منضبطة.

إنَّ فهم القرآن لدى هؤلاء انطلق من مناهج قراءة النصوص الأدبية والقراءة لدى هؤلاء كانت تعني بالضرورة إعادة توليد وإنتاج معانٍ جديدة أو تعدد معان بتعدد القراءة والقارئ المتلقي، وقد ظهرت كتب للمستشرقين تصب في هذا الاتجاه، مثل: كتاب "إعادة قراءة القرآن" لجاك بيرك 1995 ، وكتاب "القرآن دليل القراءة" لروجيه أرلنديز 2006، و"كيف نقرأ القرآن؟" لمحمد أركون 2010 وغيرها من كتب أبوزيد وأدونيس،وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه.

المهم أنَّه حتى بالنسبة لهؤلاء المستشرقين الغربيين، فالسؤال الذي يطرح نفسه ما صلتهم بقراءة النص القرآني وتأويله التي لاتقف فقط عند حدود الكلمة أو المنطوق، وإنَّما كثيرًا ما ترتبط بالسنة من جهة وأحكام اللغة العربية من جهة أخرى، وأسباب النزول وعمومية اللفظ؛ أي: ما يمكن أن نطلق عليه بيئة النص القرآني، وهي بيئة معرفية متكاملة خليط من الواقع واللغة وعلوم السنة وأصول الفقه والتفسير والآخير غدا علمًا قائمًا بذاته يدرس في كليات جامعة الأزهر والجامعات الإسلامية، فهو ليس مقولات متناثرة، متنافرة ، توجد في كتاب هنا وكتاب هناك، بل هو علم قائم له مناهجه منذ عصر الصحابة والتابعين، يلتحم مع علم اللغة وأصول الفقه والسنة لكشف دلالات ألفاظ القرآن، والوصول إلى المعاني والأحكام الشرعية، وهو علم منضبط له حدود وشروط وقواعد موضوعية وشخصية تتعلق بضوابط يتعين توافرها فى شخص المفسر .

ونعود إلى سؤالنا المهم عن مدى حاجتنا إلى هذه المناهج الحداثية، وهل استخدام هذه المناهج في فهم الديانات الأخرى يصلح بذاته لفهم القرآن الكريم، الكتاب المقدس الإلهي الذي يختلف جملة وتفصيلًا ومبنى ومعنى عن الإنجيل والتوراة ؟! إنها محاولة بائسة وجدت مروجيها من أنصار السير وراء كل غريب وتقديس كل مستورد، والشعور بالزهو والذات باستخدام مصطلحات غربية، مجرد إطلاقها قد يضفي نوعًا من الفخامة والثقافة على هؤلاء الذين يخوضون في علم لا صلة لهم به، وأكثرهم قربًا منه متخصص في النقد الأدبي واللغة العربية، ولم يعرف أنَّه درس علوم التفسيرو الحديث وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي والناسخ والمنسوخ وغيره من علوم الإسلام الجامعة.

وإذا تجاوزنا هذا السؤال وافترضنا حُسن النية، وأن الأمر لا يعدو تأثرًا بما درسوا، يبقى السؤال الأهم، وهو ماذا حققوا من وراء ذلك؟ ما الفائدة التي عادت على الإسلام ؟ وما الفائدة التي عادت على الشعوب؟ وما الفائدة التي عادت حتى على الفكر مجردًا؟

أما بالنسبة للإسلام فمحاولاتهم لم تُضِفْ جديدًا عن صلاحية دائمة ومطلقة للإسلام فهو أمر مسلم به في فكرنا وتراثنا، ولم تُخرج لنا محاولاتهم قواعد ومناهج وأساليب يمكن أن تُطبَّق في أرض الواقع، وتخدم المسلمين، ولم تؤدِّ أفكارهم إلَّا إلى خلط بين النص وتفسيره، وبين الإسلام والتراث الإسلامي، فأحدثت بلبلة لدى المسلمين أنفسهم وهم يجدون مشقة بالغة في متابعة مقالاتهم وأحاديثهم فما بالك بمن لا يعرفون العربية؟!

أمَّا على صعيد الشعوب فلم يرفعوا من ثقافتهم، ولم يُحدِثوا تغييرًا نوعيًّا ولا كيفيًّا، وإنَّما جنى أصحاب هذا الاتجاه عداوات غير محدودة، وصلت إلى حد اتهامهم بالكفر والردة والزندقة، خاصة أنَّهم هُم أنفسهم لم يحرصوا على وضع حدود فاصلة بينهم وبين من يدينون بالعلمانية ، واحيانا الإلحاد، ويتهمون الإسلام بكونه قاصرًا عن معايشة الواقع ومهاجمة الحدود التي نزلت بنصوص قاطعة للردع أكثر من العقاب، بل سمحوا في أكثر من موضع لمن يستخدم أفكارهم ومبادئهم للوصول إلى الهجوم على الإسلام، ومحاولة تغيير ثوابت العقيدة تحت دعاوى المساواة، كقضية الميراث والمساواة بين المرأة والرجل، وهدم الثوابت كالحدود، وإنكار شرعية الحجاب، وكان الأحرى أن يضعوا حاجزًا بين أفكارهم العقلانية وبين من سمحوا لهم باستخدامها في مهاجمة الإسلام والنيل منه.

أما على مستوى الفكر فيمكن القول إنهم حققوا نجاحًا ملحوظًا في خلط الفكر العربي الإسلامي بالمناهج الغربية، ولكنهم لم يطوروا الفكر الإسلامي، ولم يحققوا أيّ نهضة فكرية مستقلة، هذا الخلط لا طائل منه، ولا فائدة إلَّا أنَّه نوع من الاعتراف منهم بالهزيمة أمام الثقافات والفلسفات والمناهج الغربية، وتسليم بعُقَد نقص غير موجودة إلَّا في مخيلتهم.

إذا كانت الانتقادات السابقة معظمها يغلب عليه الطابع الشكلي فإنِّي أرى أن أهم أخطاء هذا التيار هو التعامل مع النص القرآني بصورة جزئية غير متكاملة، فنصوص القرآن يفسر بعضها بعضًا، وأحيانًا تقيد السنة المطلق، وتخصص العام، فهناك منهج كامل ومتكامل للتفسير بل حتى للتأويل، كما يحبون أن يستخدموا هذا التعبير، فالحقيقة أنهم راحوا يبحثون عن المعنى من خارج النص تارة بما يفهم القارئ، وتارة بما تفرزه البيئة الاجتماعية مع العلم أنَّ النص القرآني هو كلام الله لا يجوز تجزئته أو تفسيرة دون الرجوع إلى تكاملية القرآن من جهة، وإلى صحيح السنة وقطعيتها، فإذا كانت الصلاة وردت في القرآن فإن أركانها وسننها فسرتها السنة، ونحن مع الرأى القائل بالاعتماد على السنة الثابتة ثبوتًا قطعيًّا لرسول الله، ولا بأس في النظر في سنة الآحاد فقط لا نردها إلى العقل أولًا بل نردها إلى النص القرآني من جهة، ثم إلى المقاصد الشرعية من جهة أخرى، ثم المصلحة بصفة عامة ثم العقل في آخر مرحلة، والأمر فيه تفصيل ليس هذا موضعه.

إذا كانت الحجة التي يطلقونها هي محاولة إثبات صلاحية النص لكل زمان ومكان فهي حجة واهية ولا طائل من ورائها، فصلاحية النص مقطوع بها من مبدأين أساسيين: أولًا- أنَّ العبادات مبنية على العلة، وقد يأتي زمان لا توجد فيه العلة، فلا مجال لتطبيق الحكم، وأظهر دليل على ذلك ما فعله عمر في عام الرمادة من وقف العمل بحد السرقة وسهم المؤلفة قلوبهم، فقد أوقفه لانتفاء العلة، وهي احتياج الإسلام لمن تؤلف قلوبهم.. وسبق أن فصلنا ذلك، أكثر من ذلك فإنه حتى فيما يتعلق بالمعاملات كثير من الفقهاء غيروا من فقههم نزولًا على الواقع كإيقاع الطلاق ثلاثًا في عهد عمر -رضي الله عنه- ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنَّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.

وقد كان -رحمة الله عليه، ورضي الله عنه وعن أصحاب النبي- نموذجًا للمفكر الإسلامي قبل أن يكون صحابيًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.وكثير من الأحكام الشرعية يبيح الإسلام تركها للضرورة والدليل على ذلك ترك الغسل عند الهلاك كما جاء في الحديث حينما أمر الصحابة أحدهم بالاغتسال رغم مرضه فمات فقال لهم الرسول لقد قتله أصحابه، وإقراره-صلى الله عليه وسلم- لخالد بن الوليد بالوضوء فقط عند الجنابة دون الغسل لشدة البرد.

أمَّا الأمر الثاني فهو أنَّ كل الأحكام التي تتعلق بأمور الدين من سياسة أو اقتصاد أو اجتماع أو حياة وردت مجملة في قواعد عامة أشبه بإعلان حقوق الإنسان، مع الفارق، ولله المثل الأعلى، ليستخلص المسلمون المبادئ التفصيلية على نهجها، فالشورى ليس لها شكل معين، والخليفة ليس له سلطات محددة ولا طريقة فرضت لاختياره والقوانين الاقتصادية قائمة أساسًا على عدم الاحتكار، وحرية الأرباح دون مغالاة أو استغلال، مع الالتزام بالزكاة.

إذًا ما الدافع إلى البحث عن معانٍ جديدة لألفاظ القرآن حسب المناهج الغربية؟! إنَّه يبدو لنا نوعًا من الاشتغال بما لا يفيد، ونوعًا من الهرطقة لا طائل منها.

هل معنى التأويل استخلاص النص بمعرفة القارئ دون الاهتمام بقصد منشئ النص أو مبدعه؟

هنا سيتغير مفهوم النص بحدود العقل وبظروف البيئة المحيطة بقراءة النص، وسيجعل للنص قدرة على توليد الكثير من المعاني المتغيرة والمتجددة، لكن إذا كان هذا يصلح للنص الأدبي فهل يصلح هذا الكلام بالنسبة للنصوص الدينية؟

إنَّ النص القرآني إنَّما نبحث فيه عن المعنى الذي أراده الشارع لا ما يريد أن يحصله القارئ من النص أو زمن النص أو ظروف العصر المطروح فيه.

إنَّ النص القرآني إنَّما يخضع لقواعد عامة في تفسيرة أو تأويله وإن المبتغى مختلف عن المناهج النقدية، نحن نبحث عن قصد الشارع من خلال ذلك عن طريق حمل المطلق على المقيد، وتفسير العام بالخاص، وتبيين المجمل، وردّ المتشابهات إلى المحكمات، والعلاقة بين الناسخ والمنسوخ، وهذا الربط والتقييد والشمولية عند التفسير يؤدي إلى تحديد المعنى وتقييده، وعدم انفلاته، بغية الوصول للمعنى الذي أراده الشارع من خلال هذا الخطاب، فلا يجوز النظر للنص منفردًا بمعزل عن غيره من النصوص الشرعية.

إنَّ من أوضح أخطاء هذ المنهج التعامل مع نص كتاب الله على أنَّه نص تراثي مثله مثل الفقه، وليس نصًّا قائمًا بذاته ومتجددًا، وهي بداية فاسدة في مقدمة نصر أبوزيد في كتابه "إشكاليات القراءة وآليات التأويل"[SUP][4][/SUP]، يشير إلى أنَّ هذه الدراسة يجمعها فكر واحد، هو: هَم إشكاليات القراءة بشكل عام وقراءة التراث بشكل خاص، ولأن التراث متعدد متنوع من حيث المجالات والاتجاهات؛ فقد تعددت المجالات التي تتناولها هذه الدراسة بين اللغة والنقد والبلاغة والعلوم، ولمّا كان التعدد والتنوع لا ينفي الوحدة في إطارها النظري العام. ويضيف أن التراث منظومة فكرية واحدة تتجلى في أنماط وأنساق جزئية متغايرة في كل مجال معرفي خاص.

البداية قد تكون جيدة، لكننا نجده في أكثر من موضع يتعامل مع النص الديني، القرآن أو حتى السنة وليس الفقه المنبعث من إشعاعات هذا النص، بذات الأدوات والمناهج العلمية الغربية، فمِمَّا لا شك فيه أنَّ تلك مقدمة فاسدة، فللنص الديني قراءة يجب أن تنبع من ذاتيه وخصوصية كون النص القرآني نصًّا إلهيًّا، وليس بشريًّا، ولا يمكن أنسنته كما انتهى إلى ذلك أبوزيد ومعلمه حسن حنفي.

المهم أنَّ صلاحية النص القرآني التي نبحث عنها لكل زمان ومكان موجودة فيه تمثل ذاتية خاصة به لتكامله، وليس لاستخلاص المفسرين أو تأويلاتهم، هي التي جعلت له هذه الميزة أو الخصيصة دون أن يصبح هناك خلط بين البشري والإلهي كما انتهى هو، وإنَّما الحقيقة أن ذاتية النص القرآني هي التي جعلته صالحًا لكل زمان ومكان، كما أنه من جهة ثالثة لا يمكن اعتبار معنى النص أومفهوم النص القرآني كاملًا متغيرًا بتغير البيئة أو الظروف أو المجتمعات فقد تكون بعض النصوص -كما قلنا- المتعلقة بالحياة وعلاقة البشر بالبشر قابلة للاجتهاد وتغير المعنى، أمَّا تلك النصوص المتعلقة بالعبادات والفرائض والأحكام القطعية كالحدود أو الميراث فلا يمكن أن يتغير مفهومها تاريخيًّا أو بحسب البيئة أو المجتمع أو فهم المتلقي، وإلَّا كان القرآن كتابًا ناقصًا يتجرد من صفة الإعجاز الإلهي والتعالي والسمو عن البشر. إنَّ المجمل في النص القرآني جاء عمدًا لتحقيق هذا الغرض، وليقوم أهل العقل بتفسيره بما يتفق ومنهجية التفسير في الإسلام وليس وفقًا لما يراه أصحاب المناهج الغربية، ولا لما يفهمه القارئ.

والسؤال المهم ما المقصود بالمتلقي أو القارئ لديهم هل هو أي قارئ أو القارئ الفيلسوف فقط؟

إن كانت الأولى فقد تعددت المفاهيم، وإن كانت الثانية فإننا أحللنا سلطة عقل الفيلسوف محل سلطة النص.

كما أنَّ نصوص القرآن ليست واحدة، فمنها: المجمل والموضح المفصل، ومنها: الخاص والمطلق، ومنها: الأحكام التعبدية، ومنها: الأحكام المعاملاتية، ولا يمكن إخضاع النصوص ذات الطبيعة المختلفة لذات الفهم والمنهج، ولم نسمع عن أن أحدًا من الحداثين أنصار هذا الاتجاه يفرق بين النصوص بحسب طبيعتها، ناهيك عن تنوع أساليب القرآن وتعدد المضامين، وقد سبق وأن أفضنا في ذلك.

إنَّ محاولات الحداثيين فقط تأتي في محاولات إثبات نظرياتهم وهي خضوع النص للتأويل البشري، وإذا كان ذلك قد حدث في عصور متقدمة فإنه يجب أن يخضع كذلك لهذه التأويلات في عصرنا الحالي، لكن ثمة فارقًا كبيرًا هو أنَّ خضوع النص في الفترات الزمنية الأولى والعصور المتقدمة قام على ضوابط خاصة بشريعة الإسلام وفقه علماء القرآن أنفسهم ومنضبطة على أحكامه وسنة الرسول، أمَّا تأويلات أبوزيد ورفاقه فهي وفقًا للهرمنيوطيقا وغيرها من المناهج الغربية التي لا يمكن أن يخضع له نص إلهي جاءت السنة النبوية مكملة ومفسرة له، ولا يعقل أن نتبنى اتجاهات تخفي دور المؤلف عند تفسير النص كما يعرف بنظرية (موت المؤلف) على النص القرآني.

إننا نبحث عمَّا يريده رب السماء، لا ما يريده الفلاسفة والعقل البشري.

ونضيف على ما تقدم، إن كان هذا أمرًا طبيعيًا، أن تفشل الهرمنيوطيقا في الغرب، فإنَّها من باب أَوْلَى لا بد أن مصيرها الفشل بل صفائح القمامة الفكرية حينما تتعامل مع نص قرآني، وُضعت مناهج تفسره على مدار أكثر من أربعة عشر قرنًا، وجميع هذه المناهج تقوم أيضًا على العقل والفكر، ولا تتعامل معه بجمود، ولكن من خلال ضوابط عقلية وليست عبثية، لعل أخصها أنه نص ليس جزئيًا، بل إن القرآن يفسر بعضه، ثم إنه جاء مجملًا فسرته السنة الثابتة القطعية، والتي قال عنها القرآن نفسه "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا" (سورة الحشر:الآية7) مع مراعاة أسباب النزول دون أن نجعل منها منتهى غرض النص، كما حاول هؤلاء جعل نصوص القرآن نصوصًا تاريخية، انقضت بانقضاء أسباب نزولها، وفوق ذلك فإنه إذا لم توجد السنة ولم يوجد من داخل النص ما يفسره فإن ما يُعرف بالمقاصد الشرعية والمصالح المرعية التي لا يجب أن يتجاوزها أي تأويل أو تفسير تكفي لتحقيق مبتغى النص وإرادة المولى من ورائه بتفسير عقلي، يستند إلى أساس قويم، وليس أساسًا عبثيًّا.

والحقيقة، وفي كلمة واحدة، فإن مناهج التفسير في الإسلام قامت على ما يعرف بالتفسير الموضوعي القائم على الغاية والمضمون من النص والوصول إلى قصد الشارع مع مراعاة قواعد اللغة العربية لغة النص بما لها من تميز وخصوصية، في مقابل التفسير اللغوي الهرمنيوطيقي أو الإبستمولوجي الذي يكون مصدره المتلقي ودون الاهتمام بالنص وغايته، فالآخيرة مناهج الاعتبار فيها شخصي أكثر منه موضوعيًّا، وهو ما يحتاج إلى دراسة مستقلة.




[HR][/HR]
[1] مشار إليه في البحث الرائع للأستاذ الدكتور عبد الرزاق هرماس، دعوى فهم القرآن في ضوء مناهج العلوم الإنسانية والغربية من طلقاتها وحقيقتها وآفاقها، مقدم للمؤتمر الدولي لتطويرالدراسات القرانية،2013م، مركز تفسير الدراسات القرآنية، جامعة الملك سعود، ص 51.
[2] المرجع السابق، ص52.

[3] المرجع السابق، ص 59.

[4] نصر حامد أبوزيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل ، طبعة المركز الثقافي العربي، 2005، ص1 وما بعدها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى