إن تتبع مكون الزمن في رواية سقوط المرايا يبين أن المؤشرات الدالة عليه كانت موضوع تبئير عميق من طرف الأستاذة مريم بن بختة التي توظف الزمن كفاعل في النص لا يكتفي بكونه عنصرا من عناصر السرد بل يتعداه إلى كونه يؤثر في مجريات الأحداث وتناميها ويخلق ذلك التباعد المنشود على خط الزمان عن طريق تقطيع الزمن وإعادة بنائه ، وعن طريق التقديم والتأخير في أحداث الرواية .
وبالرجوع إلى النص نجد أن الكاتبة ترفع الستار مستهلة هذا العمل بتعاقد بينها وبين القارئ تخبر فيه عن نوع جديد من الكتابة يأتي فيها السرد نقلا عن مصدر حقيقي هو سمير بطل القصة المصري ، وأنه هو الذي بحث عن كاتبة لإخراج قصته ..تقول : " لكن لم يكن من المفارقات أن يبحث بطل رواية عن كاتب لروايته يتحرى عنه بمواصفات خاصة ورؤية تعنيه هو كبطل .." ص 19
لكن الروائية تؤكد أنها لن تكون عنصرا محايدا ، بل ستصير جزءا من الحكاية تتعايش مع أبطالها . تقول : " شغف الكتابة قد يغرقه في عمق الاحداث فيصير جزءا منها يتعايش مع أبطال روايته " ص 19
ويلاحظ القارئ وهو يبحر في متن الحكاية أن الكاتبة تعمدت الإحجام عن تحديد الزمن أو أشارت إليه بعبارات مطلقة مبهمة ..وبالرغم من واقعية الأحداث ( حسب العقد الذي توثقه الكاتبة ) يبقى الزمن غير محدد في البداية . وقد يبدو هذا تناقضا إذا قاربنا الزمن في مستواه السطحي .لكن القراءة المتمعنة تبين أن الكاتبة وظفت هذا العنصر لهدفين :
بنينا أحداثها ذات ليلة على وهج القمر وشعاع الحلم الجديد . ص30
حلقوا بعيدا في زمن الحب ليجدوا أنفسهم مجرد عاشقين لرسومات الربيع .ص30
وهي جميعا مؤشرات عن زمن ماض غير محدد .
ويظهر اهتمام الكاتبة بقضايا الإنسان منذ بداية النص على شكل أطروحات تعالج باقتدار كبير آفات اجتماعية رافقت مسيرة الإنسان منذ الأزل ، فبصمت نفسه بميسم الظلم والطغيان والإستلاب ، لتصيره مجرد كرة تتقاذفه مضارب الزمان..ومن المؤشرات النصية الدالة على ذلك قواها : " كم هي الأحلام التي تغازلنا حنينا وفجأة تختفي كالسراب ولا تبقى " .ص24
وبالإضافة إلى هذا التوظيف العميق للزمن في بعده الفلسفي يمكن أن نمسك بخيوط الزمن الأدبي الممتدة في نسيج الرواية على امتداد الفصول ال 25 لنقسمه الى زمن خارجي ، وزمن داخلي
ونجد أيضا : " لأستفيق نهار يوم لا مثيل له من شهر ماي والذاكرة التي حفرت في قلبي جرحا سمته 14 ماي من السنة نفسها
وهكذا نلفي الكاتبة وضعت للأحداث معلماعلى خط الزمن المعاصر سيكون منطلقا للحكاية من جهة ، ومرجعا تعلق عليه المبدعة تساؤلات حول صور اجتماعية وأوضاع إنسانية مرعبة كنا نظنها انقرضت مع صيرورة الكائن البشري ، لكنها لا زالت تنخر جسد المجتمع رغم نبوءات وزارات التخطيط وأبواق المتشدقين بالتطور الحضاري..وهذا ما يكون لحمة الاطروحات التي تناقشها الكاتبة والتي تحتاج الى دراسة مطولة
2 ) الزمن الداخلي :
ويعيدني الحديث عن الزمنهذه المرة في مستواه الثاني وهو الزمن الداخلي المرتبط بالحكيوالمتمثل في مختلف الأزمنة التي جرت فيها الأحداث والوقائع المتخيلة..ويمكن أن نقسم هذا الزمان إلى مستويين متلازمين هما زمن الحكاية وزمن الخطاب
أ ) زمن الحكاية :
فزمن الحكاية يمكن رصده بالرجوع إلى الرواية لنجد أن قصة سمير سيتم سردها من اللحظة التي وصل فيها البطل إلى تزنيت ليبني بزوجته المغربية نعيمة .. وسيتوقف الحكي برجوع سمير إلى بلده مصر واسترجاع وظيفته ..من هنا نخلص إلى أن زمن حكاية سمير يستغرق 3 سنوات وستة أشهر بدليل قول البطل : " مرت الستة أشهر ونحن نرتع في المحبة .ص64 " وقوله : " ها قد مرت ثلاث سنين على عودتي منكوس الأعلام ". ص125
وهذه المدة ( 3سنوات و6 أشهر ) لا نشعر بما يوازيها على صعيد الأحداث . إذ ليس هناك زخم من الوقائع ، بل نحس باجترار البطل لأحاسيس الخيبة والخذلان ، وللشعور بحرقة السؤال عن صدق نعيمة العاطفي ، ورغبة ملحة في معرفة سبب غيابها..وبهذا يشعر القارئ أن الزمن لا يتحرك خاصة وأن الكاتبة خصصت فصولا لتصور معاناة هذا الضمير القادم من بلاد النيل نورسا عاشقا لينقذ بنت الأطلس من براثين الظلم والإستبداد الممارس عليها من طرف أخ سادي يتلذذ بتعذيب من خرج عن طوعه..ومن هذه الفصول : لحظات من التيه / احتراق / حين تنكسر الأرواح كيف نلملمها
لكننا حينما نتجاوز هذه القراءة نجد الكثير من الإشارات الضمنية التي تدل على مرور الزمن وتعاقبه بشكل عميق وفاعل في الشخصية الرئيسية وفي محيطها ، ومؤثر في نفسية المتلقي من جهة أخرى وهو يركب قطارا زمنيا آخر يصطلح على تسميته : بزمن القراءة
ويكفي أن نقارن بين هاتين العبارتين لنشعر بمرور الزمن
أ ) " كل شيء كان رائعا حد الدهشة منذ أن وضعت رجلي على أول درج سلم الطائرة " ص61
ب ) " أنظر الآن إلى الوجه الشاحب أمامي في المرآة وكأني برجل لا أعرفه ذابل الجسم أصفر الوجه "ص74
فالعبارة الأولى وردت في الفصل المعنون : على بابها يسكن الربيع ..بما لهذا الفصل من دلالات الحيوية والنشاط ووعود بالخصب والنماء ، وبما يوحي من معاني القوة و الفرحة والإقدام ..أما العبارة الثانية فدالة على التحول الذي لحق جسد البطل ونفسيته بتواز مع مرور أيام وشهور قضاها في البحث عن الزوجة الغائبة متوسلا لذلك بكل السبل ، بدءا بمركز الشرطة إلى وسائل الإعلام ومنابر القضاء.
كما أن الكاتبة بحسها الشعري المرهف عادت إلى توظيف عنصر الليل لإبراز الحركة في عجلة الزمان عبر تعاقب الليل والنهار ، وساعات السهد التي يعاني منها البطل والكوابيس التي تؤثت أحلامه..وقد أفردت لليل فصلين هما : " أنا والليل وذاكرة معتقلة " / و "لو يعرف الليل " وهذا يحيلنا على قصائد الشاعرة مريم بن بختة في ديوانها : حديث الليل
فالليل عندها في الشعر كما في النثر يمسك بدفة الأحداث ليوصل القصة الى النهاية عبر مسالك المعاناة ومحطات انتظار قاتل ..تقول على لسان سمير : " يؤرقني الليل كلما وجدت نفسي أعد أيامنا التي مضت وكأنها سقطت من ذاكرة الأيام " وقوله : " ليس سهلا أن تمر عليك 3 سنوات من عمرك عدها بلياليها "
ب ) زمن الخطاب :
إذا استطعنا أن نعرف زمن الخطاب بكونه الكيفية التي يقدم بها القاص أحداث الحكاية ، وأنه المظهر الذي تُعرض بواسطته الوقائع وفق منظور خطاب متميز يفرضه نوع النص السردي ، ودور الكاتب في تشكيل معمار الزمن ، فإن هذا العنصر يكاد يكون المعلم البارز في رواية سقوط المرايا ، ذلك أن المبدعة تناولت الزمن بكثير من التجديد ، وقد أورد الدكتور مصطفى سلوي في تقديمه للنص أن " الأستاذة مريم بن بختة من المبدعات المغرمات بالتجريب " ويضيف : " وكأن القاصة تريد أن لا تكرر صوتها في كل نص لذلك هي تبذل قصارى جهدهاللظهور بأسلوب جديد في الكتابة كلما سمحت لها الفرصة بذلك "
وبتاملنا لترتيب الوقائع في سقوط المرايا نكتشف أن الحكي في الفصلين 1و2 ينطلق من وصف لبطل القصة سمير الباحث عن كاتبة تخرج قصته من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل حسب تعبير الفيلسوف أبي نصر الفارابي ، وأن البطل نفسه يستهل الحكي بإخبارنا عن اختفاء نعيمة .يقول : "ها أنا يا سيدتي أكلمك عن نعيمة التي تركتني ذات يوم من شهر ماي بلا وداع " ص25
في حين يعود بنا الفصل 4 إلى الظروف والملابسات التي قادت سمير من مصر إلى المغرب ليتزوج نعيمة في عقدها الرابع ولينقذها من بين مخالب القهر والإستبداد
وعلى الرغم من ان المنطق كان يقتضي أن تبدأ الحكاية من المقطع 4 أو مما سبق في الفصل 3 من إشارة إلى العلاقة العاطفية التي نشأت بين سمير ونعيمة تلك العلاقة الإفتراضية التي سرعان ما تحولت إلى حب عميق للمرأة وللوطن جعل البطل يغلب كفة هذا الحب على حياته ووظيفته وأبنائه
وهكذا نجد ان الساردة كسرت حلقات الزمن لتخلق تباعدا بين العالم الفني الخيالي والعالم الفعلي الواقعي اعتمادا على توظيف تقنية الإسترجاع .
ويمكن التمثيل كذلك للطريقة التي تناولت بها الأستاذة مكون الزمن على مستوى الخطاب ، بالإشارة إلى التنوع في موضوعات الفصول أو التيمات التي جعلتها الكاتبة أطروحات النص ، بالإضافة إلى تداخل الأصوات : سمير ثم نعيمة ثم الكاتبة التي تبدو ثارة طرفا في النص وطورا رئيس جوقة توزع الأدوار وتصغي لصوت الشخصيات..وهكذا خصصت الساردة الفصول الأربعة الأولى لسمير قبل أن تعطي الكلمة لنعيمة في الفصلين الخامس والسادس : "هبوب الريح" و " حين يتملكك الخوف تعلم أن تصنع لنفسك ملاذا " ليأخذ السرد شكل مونولوج يصور نعيمة الهاربة من بيت الأسرة لتعانق الفرح المؤجل .
بعد ذلك يغيب صوت نعيمة ولا نسمعه إلا في الفصل17 المعنون ب : " في زاوية الأحلام "
وحتى على مستوى القضايا التي يعالجها النص نجد نوعا من التناوب بين الموضوعات .فهناك مراوحة بين المجال العاطفي ( الفصول 3- 7-10-11-23-24 )و المجال الأسري ( الفصول 4-15-17-19) والمجال الإجتماعي والإقتصادي ( الفصول 2-5-8-9-12-13-16) والمجال الديني الفصول 6-14-19-25)
وجدير بالذكر أن الأستاذة مريم سعيا منها على عدم إرهاق القارئ في مضارب السطور الممتدة كالصحاري عطشى للإرتواء من نبع القراءة - على حد تعبيرها - نجدها تمنحنا استراحة فكرية على شكل قراءة شعرية تحمل عنوان " تزنيت " ، وتأتي بعد مونولوج نعيمة ، ونص آخر بعنوان : "الحلم الغائب فيَّ " على مشرفة من نهاية الرواية
ومن ناحية أخرى فإن القارئ لسقوط المرايا يلمس أن حكاية سمير ونعيمة هي بمثابة خيط ناظم تمسك القاصة بطرفيه وتتخلله محكيات صغرى تقطع خط السرد وتؤجله إلى حين استعراض المحكيات التي تلقي الضوء بشكل مواز على عوالم السرد وفضاءاته ، وهي تقنية تمنح النص مساحات زمنية وتخدم فعل الحكي .
ولا نكون مغالين إذا قلنا إن الأستاذة قد تمكنت من إحدى أدوات السرد الحديث وهي المفارقة.. ونلاحظ أن لكل مفارقة في النص مدى واتساعا معينين حسب ضرورة الحكي ، ومعلوم أن مدى المفارقة هو المجال الفاصل بين نقطة توقف السرد الرئيسي ، وبداية الأحداث المسترجعة أو المتوقعة ..أو كما جاء في تعريف جيرار جينيت : " إن مفارقة ما يمكنها أن تعود إلى الماضي أو الى المستقبل وتكون قريبة أو بعيدة عن لحظة الحاضر " ثم يضيف : إننا نسمي مدى المفارقة هذه المسافة الزمنية "
وهكذا نجد أن الأستاذة تخلق عن طريق المفارقة مسافة زمنية توازن بها بين مستويات الزمن . ومن هذه المحكيات : قصة زواج أم نعيمة الذي باء بالفشل . فصل : "غواية " ..وقصة المشروع التجاري الذي أقامه سمير بمعية أصدقائه
هذا وقد ذهبت الكاتبة في هذه التقنية ، أي المفارقة، إلى فتح حوار مع القارئ في مستهل بعض الفصول ، تناقش فيه قضايا الادب ومناهج الفكر ومسالك الإبداع ، مؤجلة مجرى السرد . فنجدها مثلا تسوق مقولة "سيشرون " : " تقوم الرواية الجيدة بإخبارنا الحقيقة عن أبطالها أما الرواية السيئة فتخبرنا عن مؤلفها " ص20
وتتساءل الكاتبة عن فعل الكتابة والعلاقة بين اللغة ووظيفتها التواصلية فتقول : " هل الكتابة إحساس أم صنعة يمارس من يملك زمام اللغة فيروضها كما يشاء " ص37
وتمضي الكاتبة في هاته الإستراحة النقدية لتروي نقلا عن صديق ناقد قوله : " هناك من يكتب اللغة وهناك من تكتبه اللغة وهناك من ينكتب مع اللغة " ص38
بعد ذلك تستأنف الحكي تاركة للقارئ ذلك العصف الذهني عروة يتمسك بها وهو يغامر بالإبحار في لجة الرواية
إنها الكتابة على طريقة الأستاذة مريم بن بختة – يقول الدكتور مصطفى سلوي- التي تسعى على الدوام أن تقدم إلى قرائها المتعة والفائدة والدروس ..ولن أكون مغاليا إذا قلت إن الأستاذة تؤسس لمدرسة جديدة في الأدب العربي عموما وفي الكتابة الروائية خصوصا، تلك المدرسة التي تكسر نظرية الأجناس الأدبية وتلغي حدودها لتنطلق اللغة مرفرفة في كل تجلياتها من أجل تحقيق تواصل هادف بين المرسل والمرسَل إليه
والأستاذة أبانت في هاته التجربة عن تمكنها من آليات السرد ووظفت الزمن في بعده الحقيقي والفلسفي دون إغفال المرجعية الدينية ..لتنتهي الحكاية على هاته النبرة : أتأمل حالي وأتعجب في هاته القدرة التي منَّ الله بها علينا على النسيان والتحمل .
وبالرجوع إلى النص نجد أن الكاتبة ترفع الستار مستهلة هذا العمل بتعاقد بينها وبين القارئ تخبر فيه عن نوع جديد من الكتابة يأتي فيها السرد نقلا عن مصدر حقيقي هو سمير بطل القصة المصري ، وأنه هو الذي بحث عن كاتبة لإخراج قصته ..تقول : " لكن لم يكن من المفارقات أن يبحث بطل رواية عن كاتب لروايته يتحرى عنه بمواصفات خاصة ورؤية تعنيه هو كبطل .." ص 19
لكن الروائية تؤكد أنها لن تكون عنصرا محايدا ، بل ستصير جزءا من الحكاية تتعايش مع أبطالها . تقول : " شغف الكتابة قد يغرقه في عمق الاحداث فيصير جزءا منها يتعايش مع أبطال روايته " ص 19
ويلاحظ القارئ وهو يبحر في متن الحكاية أن الكاتبة تعمدت الإحجام عن تحديد الزمن أو أشارت إليه بعبارات مطلقة مبهمة ..وبالرغم من واقعية الأحداث ( حسب العقد الذي توثقه الكاتبة ) يبقى الزمن غير محدد في البداية . وقد يبدو هذا تناقضا إذا قاربنا الزمن في مستواه السطحي .لكن القراءة المتمعنة تبين أن الكاتبة وظفت هذا العنصر لهدفين :
- خلق عنصر التشويق في سينوغرافيا النص
- حفر الحدث في ذاكرة التاريخ ، والإلماع إلى أن تلك الإشارات الزمنية توثق الصلة بين الحكي وبين الواقع الإجتماعي والثقافي والإقتصادي الذي يشكل خلفية الأحداث والوقائع . وأن تلك الأحداث الإنسانية ، التي تتناسل في النص يمكن أن تتحقق في كل مرحلة من مراحل الوجود البشري ، وهذا ما يعطي للرواية بعدها الإنساني الوجودي
بنينا أحداثها ذات ليلة على وهج القمر وشعاع الحلم الجديد . ص30
حلقوا بعيدا في زمن الحب ليجدوا أنفسهم مجرد عاشقين لرسومات الربيع .ص30
وهي جميعا مؤشرات عن زمن ماض غير محدد .
ويظهر اهتمام الكاتبة بقضايا الإنسان منذ بداية النص على شكل أطروحات تعالج باقتدار كبير آفات اجتماعية رافقت مسيرة الإنسان منذ الأزل ، فبصمت نفسه بميسم الظلم والطغيان والإستلاب ، لتصيره مجرد كرة تتقاذفه مضارب الزمان..ومن المؤشرات النصية الدالة على ذلك قواها : " كم هي الأحلام التي تغازلنا حنينا وفجأة تختفي كالسراب ولا تبقى " .ص24
وبالإضافة إلى هذا التوظيف العميق للزمن في بعده الفلسفي يمكن أن نمسك بخيوط الزمن الأدبي الممتدة في نسيج الرواية على امتداد الفصول ال 25 لنقسمه الى زمن خارجي ، وزمن داخلي
- الزمن الخارجي
- تصر الأستاذة مريم بن بختة على إيهام القارئ بواقعية الأحدات ، بل تتوصل إلى إقناعه بما حشدت في النص من أدوات المتخيل السردي ، والتي تتنوع لتشمل الوصف والحوار والمونولوج إضافة إلى اختيار السجل اللغوي المناسب لكل شخصية في النص ، حتى أنها لجأت إلى استعمال اللهجة العامية في حديث إنفعالي لأخت نعيمة وهي تنقل لهاته الأخيرة غضب أخيها وتخبرها بأن ما أقدمت عليه هو زواج باطل ليس إلا ..تقول :
- صافي هاد شي لي قلبتي عليه ...صمتي حتى عييتي باش فالأخير تشوهينا
- وتضيف : شوفي هاد الكلام ما عندي ما نعمل بيه ..خوك قال ليك رجعي بخاطرك ولا راه هو لي غادي يجيبك فين ما كنت " ص/ص 104و105 في زاوية الأحلام
ونجد أيضا : " لأستفيق نهار يوم لا مثيل له من شهر ماي والذاكرة التي حفرت في قلبي جرحا سمته 14 ماي من السنة نفسها
وهكذا نلفي الكاتبة وضعت للأحداث معلماعلى خط الزمن المعاصر سيكون منطلقا للحكاية من جهة ، ومرجعا تعلق عليه المبدعة تساؤلات حول صور اجتماعية وأوضاع إنسانية مرعبة كنا نظنها انقرضت مع صيرورة الكائن البشري ، لكنها لا زالت تنخر جسد المجتمع رغم نبوءات وزارات التخطيط وأبواق المتشدقين بالتطور الحضاري..وهذا ما يكون لحمة الاطروحات التي تناقشها الكاتبة والتي تحتاج الى دراسة مطولة
2 ) الزمن الداخلي :
ويعيدني الحديث عن الزمنهذه المرة في مستواه الثاني وهو الزمن الداخلي المرتبط بالحكيوالمتمثل في مختلف الأزمنة التي جرت فيها الأحداث والوقائع المتخيلة..ويمكن أن نقسم هذا الزمان إلى مستويين متلازمين هما زمن الحكاية وزمن الخطاب
أ ) زمن الحكاية :
فزمن الحكاية يمكن رصده بالرجوع إلى الرواية لنجد أن قصة سمير سيتم سردها من اللحظة التي وصل فيها البطل إلى تزنيت ليبني بزوجته المغربية نعيمة .. وسيتوقف الحكي برجوع سمير إلى بلده مصر واسترجاع وظيفته ..من هنا نخلص إلى أن زمن حكاية سمير يستغرق 3 سنوات وستة أشهر بدليل قول البطل : " مرت الستة أشهر ونحن نرتع في المحبة .ص64 " وقوله : " ها قد مرت ثلاث سنين على عودتي منكوس الأعلام ". ص125
وهذه المدة ( 3سنوات و6 أشهر ) لا نشعر بما يوازيها على صعيد الأحداث . إذ ليس هناك زخم من الوقائع ، بل نحس باجترار البطل لأحاسيس الخيبة والخذلان ، وللشعور بحرقة السؤال عن صدق نعيمة العاطفي ، ورغبة ملحة في معرفة سبب غيابها..وبهذا يشعر القارئ أن الزمن لا يتحرك خاصة وأن الكاتبة خصصت فصولا لتصور معاناة هذا الضمير القادم من بلاد النيل نورسا عاشقا لينقذ بنت الأطلس من براثين الظلم والإستبداد الممارس عليها من طرف أخ سادي يتلذذ بتعذيب من خرج عن طوعه..ومن هذه الفصول : لحظات من التيه / احتراق / حين تنكسر الأرواح كيف نلملمها
لكننا حينما نتجاوز هذه القراءة نجد الكثير من الإشارات الضمنية التي تدل على مرور الزمن وتعاقبه بشكل عميق وفاعل في الشخصية الرئيسية وفي محيطها ، ومؤثر في نفسية المتلقي من جهة أخرى وهو يركب قطارا زمنيا آخر يصطلح على تسميته : بزمن القراءة
ويكفي أن نقارن بين هاتين العبارتين لنشعر بمرور الزمن
أ ) " كل شيء كان رائعا حد الدهشة منذ أن وضعت رجلي على أول درج سلم الطائرة " ص61
ب ) " أنظر الآن إلى الوجه الشاحب أمامي في المرآة وكأني برجل لا أعرفه ذابل الجسم أصفر الوجه "ص74
فالعبارة الأولى وردت في الفصل المعنون : على بابها يسكن الربيع ..بما لهذا الفصل من دلالات الحيوية والنشاط ووعود بالخصب والنماء ، وبما يوحي من معاني القوة و الفرحة والإقدام ..أما العبارة الثانية فدالة على التحول الذي لحق جسد البطل ونفسيته بتواز مع مرور أيام وشهور قضاها في البحث عن الزوجة الغائبة متوسلا لذلك بكل السبل ، بدءا بمركز الشرطة إلى وسائل الإعلام ومنابر القضاء.
كما أن الكاتبة بحسها الشعري المرهف عادت إلى توظيف عنصر الليل لإبراز الحركة في عجلة الزمان عبر تعاقب الليل والنهار ، وساعات السهد التي يعاني منها البطل والكوابيس التي تؤثت أحلامه..وقد أفردت لليل فصلين هما : " أنا والليل وذاكرة معتقلة " / و "لو يعرف الليل " وهذا يحيلنا على قصائد الشاعرة مريم بن بختة في ديوانها : حديث الليل
فالليل عندها في الشعر كما في النثر يمسك بدفة الأحداث ليوصل القصة الى النهاية عبر مسالك المعاناة ومحطات انتظار قاتل ..تقول على لسان سمير : " يؤرقني الليل كلما وجدت نفسي أعد أيامنا التي مضت وكأنها سقطت من ذاكرة الأيام " وقوله : " ليس سهلا أن تمر عليك 3 سنوات من عمرك عدها بلياليها "
ب ) زمن الخطاب :
إذا استطعنا أن نعرف زمن الخطاب بكونه الكيفية التي يقدم بها القاص أحداث الحكاية ، وأنه المظهر الذي تُعرض بواسطته الوقائع وفق منظور خطاب متميز يفرضه نوع النص السردي ، ودور الكاتب في تشكيل معمار الزمن ، فإن هذا العنصر يكاد يكون المعلم البارز في رواية سقوط المرايا ، ذلك أن المبدعة تناولت الزمن بكثير من التجديد ، وقد أورد الدكتور مصطفى سلوي في تقديمه للنص أن " الأستاذة مريم بن بختة من المبدعات المغرمات بالتجريب " ويضيف : " وكأن القاصة تريد أن لا تكرر صوتها في كل نص لذلك هي تبذل قصارى جهدهاللظهور بأسلوب جديد في الكتابة كلما سمحت لها الفرصة بذلك "
وبتاملنا لترتيب الوقائع في سقوط المرايا نكتشف أن الحكي في الفصلين 1و2 ينطلق من وصف لبطل القصة سمير الباحث عن كاتبة تخرج قصته من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل حسب تعبير الفيلسوف أبي نصر الفارابي ، وأن البطل نفسه يستهل الحكي بإخبارنا عن اختفاء نعيمة .يقول : "ها أنا يا سيدتي أكلمك عن نعيمة التي تركتني ذات يوم من شهر ماي بلا وداع " ص25
في حين يعود بنا الفصل 4 إلى الظروف والملابسات التي قادت سمير من مصر إلى المغرب ليتزوج نعيمة في عقدها الرابع ولينقذها من بين مخالب القهر والإستبداد
وعلى الرغم من ان المنطق كان يقتضي أن تبدأ الحكاية من المقطع 4 أو مما سبق في الفصل 3 من إشارة إلى العلاقة العاطفية التي نشأت بين سمير ونعيمة تلك العلاقة الإفتراضية التي سرعان ما تحولت إلى حب عميق للمرأة وللوطن جعل البطل يغلب كفة هذا الحب على حياته ووظيفته وأبنائه
وهكذا نجد ان الساردة كسرت حلقات الزمن لتخلق تباعدا بين العالم الفني الخيالي والعالم الفعلي الواقعي اعتمادا على توظيف تقنية الإسترجاع .
ويمكن التمثيل كذلك للطريقة التي تناولت بها الأستاذة مكون الزمن على مستوى الخطاب ، بالإشارة إلى التنوع في موضوعات الفصول أو التيمات التي جعلتها الكاتبة أطروحات النص ، بالإضافة إلى تداخل الأصوات : سمير ثم نعيمة ثم الكاتبة التي تبدو ثارة طرفا في النص وطورا رئيس جوقة توزع الأدوار وتصغي لصوت الشخصيات..وهكذا خصصت الساردة الفصول الأربعة الأولى لسمير قبل أن تعطي الكلمة لنعيمة في الفصلين الخامس والسادس : "هبوب الريح" و " حين يتملكك الخوف تعلم أن تصنع لنفسك ملاذا " ليأخذ السرد شكل مونولوج يصور نعيمة الهاربة من بيت الأسرة لتعانق الفرح المؤجل .
بعد ذلك يغيب صوت نعيمة ولا نسمعه إلا في الفصل17 المعنون ب : " في زاوية الأحلام "
وحتى على مستوى القضايا التي يعالجها النص نجد نوعا من التناوب بين الموضوعات .فهناك مراوحة بين المجال العاطفي ( الفصول 3- 7-10-11-23-24 )و المجال الأسري ( الفصول 4-15-17-19) والمجال الإجتماعي والإقتصادي ( الفصول 2-5-8-9-12-13-16) والمجال الديني الفصول 6-14-19-25)
وجدير بالذكر أن الأستاذة مريم سعيا منها على عدم إرهاق القارئ في مضارب السطور الممتدة كالصحاري عطشى للإرتواء من نبع القراءة - على حد تعبيرها - نجدها تمنحنا استراحة فكرية على شكل قراءة شعرية تحمل عنوان " تزنيت " ، وتأتي بعد مونولوج نعيمة ، ونص آخر بعنوان : "الحلم الغائب فيَّ " على مشرفة من نهاية الرواية
ومن ناحية أخرى فإن القارئ لسقوط المرايا يلمس أن حكاية سمير ونعيمة هي بمثابة خيط ناظم تمسك القاصة بطرفيه وتتخلله محكيات صغرى تقطع خط السرد وتؤجله إلى حين استعراض المحكيات التي تلقي الضوء بشكل مواز على عوالم السرد وفضاءاته ، وهي تقنية تمنح النص مساحات زمنية وتخدم فعل الحكي .
ولا نكون مغالين إذا قلنا إن الأستاذة قد تمكنت من إحدى أدوات السرد الحديث وهي المفارقة.. ونلاحظ أن لكل مفارقة في النص مدى واتساعا معينين حسب ضرورة الحكي ، ومعلوم أن مدى المفارقة هو المجال الفاصل بين نقطة توقف السرد الرئيسي ، وبداية الأحداث المسترجعة أو المتوقعة ..أو كما جاء في تعريف جيرار جينيت : " إن مفارقة ما يمكنها أن تعود إلى الماضي أو الى المستقبل وتكون قريبة أو بعيدة عن لحظة الحاضر " ثم يضيف : إننا نسمي مدى المفارقة هذه المسافة الزمنية "
وهكذا نجد أن الأستاذة تخلق عن طريق المفارقة مسافة زمنية توازن بها بين مستويات الزمن . ومن هذه المحكيات : قصة زواج أم نعيمة الذي باء بالفشل . فصل : "غواية " ..وقصة المشروع التجاري الذي أقامه سمير بمعية أصدقائه
هذا وقد ذهبت الكاتبة في هذه التقنية ، أي المفارقة، إلى فتح حوار مع القارئ في مستهل بعض الفصول ، تناقش فيه قضايا الادب ومناهج الفكر ومسالك الإبداع ، مؤجلة مجرى السرد . فنجدها مثلا تسوق مقولة "سيشرون " : " تقوم الرواية الجيدة بإخبارنا الحقيقة عن أبطالها أما الرواية السيئة فتخبرنا عن مؤلفها " ص20
وتتساءل الكاتبة عن فعل الكتابة والعلاقة بين اللغة ووظيفتها التواصلية فتقول : " هل الكتابة إحساس أم صنعة يمارس من يملك زمام اللغة فيروضها كما يشاء " ص37
وتمضي الكاتبة في هاته الإستراحة النقدية لتروي نقلا عن صديق ناقد قوله : " هناك من يكتب اللغة وهناك من تكتبه اللغة وهناك من ينكتب مع اللغة " ص38
بعد ذلك تستأنف الحكي تاركة للقارئ ذلك العصف الذهني عروة يتمسك بها وهو يغامر بالإبحار في لجة الرواية
إنها الكتابة على طريقة الأستاذة مريم بن بختة – يقول الدكتور مصطفى سلوي- التي تسعى على الدوام أن تقدم إلى قرائها المتعة والفائدة والدروس ..ولن أكون مغاليا إذا قلت إن الأستاذة تؤسس لمدرسة جديدة في الأدب العربي عموما وفي الكتابة الروائية خصوصا، تلك المدرسة التي تكسر نظرية الأجناس الأدبية وتلغي حدودها لتنطلق اللغة مرفرفة في كل تجلياتها من أجل تحقيق تواصل هادف بين المرسل والمرسَل إليه
والأستاذة أبانت في هاته التجربة عن تمكنها من آليات السرد ووظفت الزمن في بعده الحقيقي والفلسفي دون إغفال المرجعية الدينية ..لتنتهي الحكاية على هاته النبرة : أتأمل حالي وأتعجب في هاته القدرة التي منَّ الله بها علينا على النسيان والتحمل .