د. نور الدين السد - تعدد الفهوم بتعدد المتلقين

الفهم نشاط ذهني ينتج من التفاعل بين الذات والموضوع، وهو استثمار حصيلة الوعي الذي راكمه الإنسان من الخبرات المباشرة وغير المباشرة، وخلاصة ما نسج من علاقات مع الظواهر المحيطة به، وما خزنت ذاكرته من تجارب عبر سيرورتها التاريخيًّة، والفهم هو حاصل القدرة على فك شفرات ما يتلقى المتلقي من علامات ورموز وإشارات، كما أنه ترجمة شعور المتلقي لحظة تلقي الخطاب، وقراءة ما حوله من الموجودات، وإدراك كنه مكوناتها، وتقصي دلالاتها الرمزية، وإنتاج المعاني مما يتلقاه. وتختلف فهوم الناس باختلاف مستوياتهم، واختلاف تلقيهم الخطاب والأشياء، واختلاف مداركهم، ومستويات وعيهم، واختلاف تجاربهم ، واختلاف مشاربهم الفكرية، والثقافية والأيديولوجية وانتماءاتهم الاجتماعية، وفروقهم الاقتصادية، فيكون الفهم في هذه الحال مرهون بين الموضوعية والذاتية، وكلما كان الفهم موضوعيا؛ كلما كان فهم معاني العلامات والرموز والإشارات مشتركا أو قريبا من المشترك بين المرسل والمتلقي، وكلما غلبت الذاتية على الفهم، وفقد التجرد من طغيان الأنانية؛ كان الفهم محصوراً في حدود ذاتية موهمة، وتتعدد الفهوم بتعدد التآويل وتعدد الذوات، وتنوع المشاعر وتتشعب الانفعالات، وتختلف التفاسير، وتكثر الأقاويل، وكلما كانت قدرة المتلقي مستوفية شروط الإدراك كان فهم جوهر الخطاب، وما يحمل من رموز وأشارات ومقاصد ومعان، فالفهم في هذه الحال هو إدراك دلالات الرموز والإشارات والأمارات المضمنة في الخطاب وترجمتها إلى معان، وهنا يكون الفهم بناء خطاب على خطاب ذهنيا، وهنا يكون الفهم شكلا من أشكال الحوار التفاعلي بين المتلقي والخطاب.
إن نقل الأشياء من الواقع والتعبير عنها لغة حسب المتواضع عليه يفقدها شيئا من صدقيتها، لأن اللغة ليست الأشياء ذاتها، وليست الواقع ذاته؛ إنما هي تعبير رمزي عن الأشياء في الواقع وتعبير عن الأحداث والوقائع، وليس محمول الخطاب أحداث ووقائع كما هي في الواقع بل محمول الخطاب مجرد تعبير لساني رمزي عنها، ومن هنا يكون الخطاب مفارقا للواقع أي مفارقا للمرجع، وقد يكون مجرد تعبير في مقولات ومجردات، فالفهم هنا هو قبض على المعاني المعبرة عن المرجع أو قبض رمزي على الأشياء في الواقع العياني أو الافتراضي، وكلما كان الخطاب منسجما مع المرجع متوافقا مع المتواضع عليه لغة؛ كان حاملا بعض المصداقية؛ وفي هذه الحال يمكن أن يكون الفهم أقرب إلى الموضوعية، وقد يبلغ الفهم مداه حين يحقق المتكلم قصده إلى المتلقي دالا ومدلولا ومرجعا، ويحقق مرامه حين يوصل معنى الخطاب المتداول كاملا غير منقوص إلى إدراك المتلقي، حيث تتماثل عوالم الشركاء مخاطباً مرسلا، ومخاطبا متلقيا، وخطابا متلقى، ويحدث بينها هذه الأقطاب التجاوب والانسجام، ويكون إنتاج المعنى لدى المتلقي أقرب إلى جوهر معنى منشيء الخطاب، وقصد الخطاب ومضمونه، فالفهم يكون حين يسخر الإنسان قدراته ومهاراته لفك شفرات الخطاب، وإدراك حقيقة وجوده ضمن السياق المحيط به، فالسياق العام الذي يرد فيه الخطاب له دور وظيفي في عملية الفهم، كما للمقام وظيفة مؤازرة فيه، ولذلك قيل: «لكل مقام مقال ومراعاة مقتضى الحال»، ويجسد الفهم ما يتضمن الخطاب من المعاني السطحية والمعاني العميقة، فالفهم بهذا المعنى هو الحال التي يكون عليها المتلقي لحظة تلقي الخطاب، وهي لحظة يستدعى فيها المؤهلات،ويجند القدرات، ويوظف المهارات للقبض على المعاني الخفية في الخطاب، مع الإشارة إلى أنه لا يتم الفهم بدون تأويل، لأن العلاقة بين الفهم والتأويل علاقة تلازم جدلي، ومن هنا يمكن أن ينظر إلى الفهم على أنه شكلٌ من أشكال اشتغال الذاكرة، وتفعيل الإدراك، وتحفيز المهارات، وبهذا يكون الفهم نتيجة النشاط الذهني لحظة تلقي الخطاب في أشكاله وأجناسه وأصنافه وأنواعه،
والفهم بهذا المعنى نشاط مصاحبٌ لكل فعل من أفعال التأويل، ويكون نتاج الفهم على حسب استعداد المتلقي، فإذا تلقى الخطاب بحسن نية ودون خلفيات استباقية يكون الفهم أقرب إلى الموضوعية، وأما إذا تلقى الخطاب بسوء النية فمن الطبيعي أن يكون سوء الفهم نتيجة لسوء النية وهنا يكون تأويلا انطباعيا مبنيا على مرجعية أيديولوجية، أو خليفة من الخلفيات الأخر، ومن هنا يمكن القول إن الأيديولوجية لها تأثير بشكل مباشر أو غير مباشر في الفهم، وبالتالي يمكن القول بأن الفهم مرتبط بموقف المتلقي، وفي المحصلة فإن ماهية الفهم هي لحظة كشف إمكانات المرء وثقافته وموقفه من الوجود...
•• إنتاج المعاني وبناؤها
إن المعاني في الخطاب بأنواعه؛ الأدبي والسياسي والتشريعي والفلسفي والتربوي والإعلامي والديني والسينمائي والمسرحي وسوى ذلك؛ ليست شيئًا ثابتًا وقارا وجليا وجاهزا يمكن أن يصل إليها المتلقي بسهولة ويسر -باعتباره ذاتا منتجة- من خلال عملية بحث منهجية وموضوعية فقط، بل بالإضافة إلى استعمال المنهج سواء كان سياقيا أو نسقيا، وتوظيف آلياته الإجرائية بدقة علمية متناهية في تحليل الخطاب وإنتاج معانيه، لابد من نشاط ذهني يبذله المتلقي قارئا ومشاهدا ومستمعا، لإبراز مهاراته بإنتاج معاني لم تطلها فهوم جمهور المتلقين دارسين وبحاثة وقراء قبله، كما أنه لابد على المتلقي من توظيف خبراته الثقافية الموسوعية، وتوظيف مكاسبه العلمية والمعرفية، وتفعيل ملكاته الفكرية، وتركيز مداركه، وحضور وعيه أثناء تفكيك مكونات الخطاب، وخلال عملية التأويل التي تتجلى فيها قدرات القارئ ومهاراته في إنتاج المعاني وبنائها..
مع العلم أن إنتاج المعاني وبناءها لا يمكن أن يكون إلا خطابا عن خطاب، وكلا الخطابين وسيلتهما اللغة، واللغة تعبير رمزي عن الواقع، بمعنى أن الخطاب الأول المحلل، والخطاب النقدي المتضمن المعاني المنتجة تأويلا من الخطاب الأصل، هما مفارقان للمرجع بالضرورة كيفما كان أداؤهما..
إن استخراج المعنى من الخطاب وإنتاجه وبناءه يقتضي الإلمام بكل مكونات الخطاب وهي متعددة، وتستدعي مقاربة شاملة، اعتمادًا على تصنيف الخطاب، وفهم خصائصه وسياقه وأهدافه، باعتماد المعارف والعلوم المساعدة في إطار التحاقل والتضايف المنهجي الوظيفي اللساني، والبلاغي والفلسفي والاجتماعي والنفسي والتاريخي والأسلوبي والسيميائي وما إلى ذلك... إضافة إلى مهارة المتلقي القائمة على الفطرة السليمة المرادفة لمنجز العقل وقدراته التأويلية، وكفاءته على إنتاج المعانى الكامنة في الإشارات والرموز والعلامات، والتي يوحي بها كل مكون من مكونات الخطاب...
وفي هذا السياق لابد من التنبيه إلى أن عملية تأويل الخطاب تظهر مهارة القارئ وفرادته وتميزه وكفاءته وقدرته، وتفتح آفاقا كبيرة أمام الخطاب بأنواعه، وتجعله أكثر تحررًا من قيود التنميط التي هيمنت على الدراسات والمقاربات النقدية المقولبة والمنمطة، وتجعله أكثر انفتاحا، وأكثر خروجا عن الأحكام المعيارية المتوارثة، وأكثر تجاوزا للمقولات السائدة، كما تجعله أكثر خروجا عن الأطر المتواترة، والآراء الارتجالية الباهتة، والمسكوكات النقدية المحدودة والجاهزة،...



(من كتاب: «الأسلوبية التأويلية وتحليل الخطاب» بتصرف) نورالدين السد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى