حاوره : محمد يحيى قاسمي
بشرى العبداوي
> س: -بطاقة التعريف – قبل (السجن) – وبطاقة التعريف ثانية – بعد (السجن)- هل هما فعلا اثنتان أم أن الثانية هي امتداد للأولى وانصهار في ذات واحدة تتحدد من خلالها هوية وشخصية "ش" بعد كل ما (مضى)؟
>> ج: خضع وجودي، كما هو وجود غيري ربما، للتدرج الطبيعي الذي انتقل بي من الجهل إلى المعرفة، ومن السكينة إلى الوعي، ومن الماضي إلى الحاضر. ولما كانت تجربتي في الحياة تقترب من عقدها الخامس، فإن المراحل التي قطعتها خلال هذه المرحلة تتكامل فيما بينها تكامل الحلقات المترابطة. وبهذا المعنى فإن السجن في حياتي لم يكن عابرا ولم يكن مستقرا، بل مرحلة عمقت شعوري بنفسي وبتناقضاتي...إلى ما تركته في من أثار وجروح.
لقد ولدت في أواخر العام 1950 (10 أكتوبر)، واعتقلت في أواخر عام 1974 (13 نوفمبر)، وما زلت بينهما بين التاريخين، على قدر ما أستطيع أن أكونه: راغبا في التعلم، مثابرا على الاجتهاد، متواصلا مع الحياة، مع ما يكتنف هذا وذاك من صعوبات فيها ما هو جارح كالهزيمة، وتعقيدات فيها ما هو مؤلم كالإهانات التي نتعرض لها يوميا بسبب مواقفنا أو سلوكنا...الخ
وبهذا المعنى فإني لا أجد فرقا بين حياة قضيتها في السجن وأخرى قضيتها في "الحرية"...إلا من زاوية المعاناة.
> س: (كان وأخواتها)، رواية، سيرة ذاتية، أم أنها تجمع كل الأجناس كما صرحت بذلك ليلى الشافعي، أم هي في حد ذاتها ثورة على كل الأجناس الأدبية وصرخة جديدة في مجال الأدب تجمع: الرواية والسيرة والشعر وكذلك وثائق تاريخية تشهد لمرحلة حساسة في المجتمع المغربي. ومن ثم ألا يمكن أن ندخل هذا الجنس الأدبي ضمن إطار الأدب المغربي الطلائعي أم انه من المفروض مادام يحمل فكر صاحبه أن يدخل ضمن جنس أدبي ثوري شكلا وجريء مضمونا مع مراعاة ظروف الكتابة طبعا؟
>> ج: كتبت (كان وأخواتها) في أواخر 1984، ولم أنشرها إلا في أواخر 1986، ولذلك جاءت مطبوعة بالمعاناة التي عشتها، مع رفاقي في السجن، ولهذا أيضا عالجت تجربتها المشتركة ولما لم تكن قد انقضت في الزمن ولا من حيث المحن، ومن الصحيح أنني حاولت في (كان وأخواتها) أن أحيط بتجربتي الشخصية، فذكرت شيئا من الماضي الذي عشته، والذكريات التي اختزنتها عن طفولتي، وبعض تجاربي في الحياة، غير أن (كان وأخواتها) هي أيضا "سيرة" مجموعة بشرية وسيرة تجربة سياسية، وسيرة صعودها وإخفاقها، وبما أنها كذلك فقد حوت جميع الفنون تقريبا، لأن كتابتها كانت منطلقة منسرحة لا تتقيد بأي شكل تعبيري مخصوص، في (كان وأخواتها) سرود متنوعة وسجلات مختلفة: النضال، السياسية، الذات، المعاناة، الوجود الفردي، الوجود الجماعي، الذكريات، المحاكمة، العنف، التعذيب، المرأة...الخ.
ويمكن اعتبار (كان وأخواتها) أيضا تجربة وجود اجتماعي عام في المغرب، من حيث أرخت لتجربة سياسية كان لها دورها في المجتمع وعلى صعيد بعض فئاته.
> س: "إن معرفتنا بالشيء،...تجعل لنا القدرة على فهمه بعمق، والتعبير عنه بعمق أيضا، ولهذا فإن أفضل كتاب الشعب هم أبناء الشعب".
إلى أي حد/ تعتبر هذه المقولة صحيحة في نظركم لو ربطناها بتجربة اعتقالكم وتحديدا بمدى اكتشاف فضاء السجن وبمدى الدور الذي قام به وجودكم الاجتماعي في تحديد وعيكم باعتناق النضال من أجل الجماهير؟
>> ج: إن الكتابة درجة في الوعي، وهي تجربة خصوصية أيضا تقوم على المعرفة والفكر ولا تستحق الكتابة الواعية أن تكون كذلك إلا إذا ذهبت عميقا في استجلاء جميع الصور والأوضاع والحالات الممكنة، وربما المستحيلة. وعندما تكون الكتابة كذلك يستوي أن يكون الكاتبون بها من "أبناء " الشعب أو من غير الشعب.
لقد كان من الممكن لكثير من المعتقلين أن يكتبوا عن تجارب اعتقالهم، ولكن ذلك لم يتحقق لهم ربما لخشيتهم من أنهم إن كتبوا عن ذلك فسيكون من المفروض عليهم أن يكشفوا عن مختلف الجوانب التي أحاطت بهم، وربما عن مختلف القضايا التي واجهتهم، أكانت ذاتية أم موضوعية. ومن الحق أن نقول إن تجربة اعتقالنا السياسي لم يكتب عنها شيء كثير، ويعود ذلك، في رأيي إلى أن الذين من المفروض أن يكتبوا عنها لم يحسوا لحد الآن بتلك الضرورة... ومن هذه الزاوية فإن (كان وأخواتها) محاولة أولى في الكتابة، أو محاولة أولى في الحديث عن تجربة الاعتقال كما فهمتها وعشتها واكتويت بنارها. وإذا كانت هذه التجربة قد علمتني شياْ في الكتابة فإنها علمتني أن أقول كل شيء بصدق وانفعال.
> س: "الكتابة إذا انطلقت أبحرت وإذا حبست غرقت أو ماتت..." وهي كالنار حارقة إذا كانت صادقة"
"إذ يخيل إلي أنني يجب أن أقول كل شيء حتى ما يحرج من الخفايا المقموعة إذا استطعت كل شيء تقريبا في فوضى وتوتر".
تجربة الكتابة داخل السجن، ما إذا يمكنكم القول عنها لو ربطناها بكل ما يحمله هذا الفضاء من رموز وأحاسيس، إلى أي حد استطعت قول ما يخرج من هذه الخفايا، والآن هل يشعر "ش" أنه حين كان يكتب استجاب للحظة من اللحظات لأوامر جلاد أو حاج قابع في دماغه دون وعي منه فتجاوز بعض الحقائق ولم يتوغل في الجزئيات مخافة هذا الصوت الرهيب "الكرباج" أم أن الصمود والثبات بصوته كان أعلى من أي صوت آخر؟ كما تحدث عن ذلك أحد الكتاب حين أشار إلى أن أدباءنا ما زالوا لم يتخلصوا من شرطي قابع في دماغهم حين يكونون بصدد كتابة تجربتهم عن السجن وهم داخله.
>> ج: الكتابة داخل السجن معاناة إضافية، تصدر عن سؤال هام، لماذا أكتب وماذا أكتب؟ وقد طرحت هذين السؤالين على نفسي، فأجبت عن ذلك بأنني أكتب لكي أعمق وعيي بنفسي وتجربتي، واكتب لكي أتجاوز الحصار المضروب علي، واكتب لكي لأتواصل مع الآخرين. وقد ساعدني على هذا الجواب أنني كنت كاتبا قبل دخولي إلى السجن. فحرصت على تعميق فهمي لنفسي ولما كنت أقرأه، ثم قصدت أن أكتب بوضوح حتى أحقق قدرا من التجاوب مع الآخرين الذين يقرأون.
ولم تكن الكتابة داخل السجن سهلة. إن السجن هو مرادف العقاب والعقاب يتضمن عمليا كل أدوات تجريد الفرد من إنسانيته، وحين تكون هذه الأدوات قمعية فإنها تجردك من القلم والورق، وتحاول التجسس على أفكارك وعواطفك...وهكذا. بل ويمكن الحديث أيضا عن شروط أكثر قمعا ترتبط بالذات، من حيث الوضوح والصراحة، من حيث الحرية والجبر، من حيث الخوف أو الكذب...الخ.
وأفترض أنه كلما كانت الكتابة حرة، طليقة، صادقة كلما كانت قادرة على مواجهة جميع الصعاب الذاتية والموضوعية.
> س: كل جنس أدبي يجب ألا يكتفي بفحص الواقع والبكاء على أطلاله، أو يجعل معارك طوباوية دنكشوطية مزيفة ، وإنما يجب أن يتجاوزه إلى إعادة تشكيله على مستوى التخيل أولا والممارسة العملية أي التطبيق ثانيا ، وبذلك قد يكون قدم البديل بعد النقد وهذه هي رسالة الأدب في نظري، لو سألنا الأستاذ الشاوي عن رسالة الأدب كيف سيكون رده؟
>> ج: ليست هناك رسالة أدبية يتوخاها الأدب إلا أن يكون أدبا. الكتابة نظام لغوي وتركيبي ونحوي...الخ، كما أن الكتابة درجة في المعرفة (الأمي لا يستطيع الكتابة) فإن التعبير هو أداتها المباشرة. وعندما نكتب أدبا فإننا نقوم بترجمة أفكارنا أو بنات مخيلتنا، عن طريق نظام معين، إلى تصورات أو أخيلة...الخ، ومن هنا فإن ارتباط الأدب برسالة ما هو وظيفة تأتيه من السياق الذي ينتج فيه من الناحية الاجتماعية والسياسية والعقدية. ولهذا تختلف وظيفة الأدب باختلاف السياقات والمجتمعات.
إننا ننتمي إلى مجتمع بنياته العامة تقليدية ومختلفة. وما الحداثة التي يتكلمون عنها هنا وهناك إلا من أسباب المناقضة التي كثيرا ما ترى الشجرة بدلا من الغابة، وهنا يطرح دور المثقف.
لقد ارتبط المثقف المغربي الحديث بحركة المجتمع، وظهر هذا الارتباط واضحا في مسار الحركة الوطنية المغربية، بحيث وجدنا كثيرا من رواد هذه الحركة يزاوجون بين عملهم السياسي ودورهم التربوي والأخلاقي والثقافي (علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني...الخ). ومنذ فترة بعيدة نسبيا تواصل هذا الارتباط في ذات المثقف: أن يكون أديبا أو مفكرا أو مبدعا، وأن يكون في نفس الوقت ملتزما بقضايا الأمة والوطن، منخرطا في الحركة السياسية أو الحزب، يريد التأثير في المجتمع بقوله ورؤاه.
وفي ما يتعلق بتجربتي الشخصية فإنني لم أتجاوز هذه القاعدة، وإن كنت قد تعاملت معها بكثير من المرونة، إنه من الصعب تماما أن نفترض بأننا نكتب للشعب، ولكننا في جميع الأحوال نعرض أفكارنا وموقفنا لكي نلامس تجربة حياتنا العامة. وفي هذه الملامسة قد نتواصل مع العالم الخارجي اعتبارا لتوترات المرحلة.
إن وظيفة الأدب، من هذه الزاوية، هو أن ينخرط في التجربة الإنسانية للأمة، أن يلامس قضاياها، أن يبلورها ويعيد تكوينها، أن ينسجها لتحقيق قدر من التواصل. وإذا ما استطاع الأدب ذلك فإنه يكون قد تجاوب، مرحليا أو استراتيجيا، مع التطلعات العامة التي تنشد التغيير.
> س: السجن كمفهوم ماذا يمكن القول عنه؟ وهل السجن لا يوحد إلا بين أربعة جدران داخل الزنزانة وهي الزنزانة المعروفة، وماذا عن الذي يحدثنا عن إحساسه بفقدان الحرية وهو خارج هذه الأسوار وهو في مجتمعه يشعر بأنه مسجون أو عن ذلك الذي يحدثنا عن أسوار عالية ربما أعلى من الأولى وعن زنزانة داخل (نفسه) هو؟
>> ج: السجن مؤسسة عقابية، وهو بناء مادي له أوضاعه وقوانينه وآليته. وبقطع النظر عن الدور التربوي المفترض للسجن ( وهو دور مشكوك فيه)، فإنه يحول السجين إلى كثلة من الاستجابات الشرطية. (الأكل، النوم، الفسحة، التعذيب...). ويمكن أن نلاحظ بأن مفهوم العقاب يتوجه إلى ذات الشخص المعتقل وفكره وعواطفه وحقوقه الطبيعية. وعلى هذا الأساس فإن السجن هو محاولة مستمرة وعنيفة وإرهابية (بالقوة) لتطويع ذات السجين طمعا في انسجامها مع الموضوعات المعروضة والمفروضة عليه في نفس الوقت. وأن تكون مواطنا صالحا داخل السجن في نظر السجان معناه أن مفهوم العقاب قد تمكن من الذات، وأن جميع الاستجابات الشرطية قد أصبحت مقربة.
غير أن السجن، رغم طابعه المادي، قد يكون مجرد مفهوم باستطاعة الفرد / الذات أن يتعالى عليه وأن يقوم بتجاوزه. غير أن هذا التجاوز يتطلب شروطا أخرى لا يبدو أنها تتوفر في غالب الأحيان إلا لمن وعى ظروف سجنه وآلية قمعه والهدف المرسوم للآلة القمعية.
> س: كيف يمكن لواقع السجن أن يؤثر في نفسية السجين؟ وما يمكن القول عن هذه الشخصية (السجين) ؟ وهل واقع السجن السياسي في عهد الاستعمار يترك الأثر نفسه لو قارناه بواقع السجن السياسي بعد "الاستقلال" ؟ أم أن هناك اختلافا في التأثير بين هذا وذاك؟
>> ج: لعل السجون الحديثة في المغرب ارتبطت بقدم الحماية، ولا يعني هذا أن المغرب لم تكن فيه سجون، فمفهوم العقاب قديم، والبحث عن وسائل لحجز الحرية الشخصية قديمة أيضا.
وقد واجهت الحماية في المغرب منذ بداية الثلاثينات حركية سياسية شبه نشيطة وتطورت هذه الحركة فيما بعد إلى المطالبة بالاستقلال. فكان السجن في سياسة الحماية (أو النفي) آلة وقائية وقمعية لاعتقال العاملين في الحقل السياسي وحجز حريتهم والتخلص منهم...وذلك بقصد إبعادهم عن المحيط الذين يتحركون فيه.
ويمكن القول إن السجن في المفهوم السياسي يعني بكل بساطة التخلص من المعارضين والمناوئين للسياسات الرسمية. ويبدو السجن في المفهوم السياسي أخف أدوات هذا التخلص، لنا يمكن أن نتكلم هنا عن الاغتيال والاختطاف...وسوى ذلك من وسائل البطش.
ومشكلة السجن أنه في النظم الديمقراطية امتداد للمؤسسات القائمة في المجتمع. ولكن في الأنظمة التي لا ترعى حقوق الإنسان حالة استثنائية.
> س: الجلاد باعتباره شخصية تمثل التسلط والقمع والعذاب ، وباعتباره شخصية قاهرة، ماذا يمكن القول عنها؟ هل هي شخصية مريضة مركبة ومعقدة، سادية قاهرة؟ أم هي قبل أن تكون شخصية قاهرة هي مقهورة؟ وهل هناك اختلاف بين جلاد وجلاد؟ أم أن ما نقوله عن جلاد سجن الاستعمار السياسي هو نفس ما يمكن قوله عن جلاد السجن السياسي بعد "الاستقلال" ؟أم هناك اختلاف نابع من درجة التأثير بحكم أن هذا الأخير هو ابن البلد، ابن الوطن أما ألأول فهو أجنبي مستعمر؟
>> ج: يمكن أن نرى في الجلاد مستويات مختلفة، بل وربما ثلاث شخصيات متداخلة: فقد يكون فردا عاملا في جهاز من الأجهزة القمعية للدولة. وهو من هذه الناحية يقوم بوظيفة الحفاظ على الأمن العام الذي ترعاه تلك الدولة، وتعتبره الأمن العام الذي يجب أن يسود في المجتمع حفاظا على المصالح المادية التي ترعاها. ويمكن النظر إليه كشخصية إرهابية، تكون وعيها في دائرة إيديولوجية قمعية. ولا تقوم هذه الشخصية بوظيفتها الآلية فقط، بل وتطمح إلى السيطرة بالأدوات التي تملكها للسيطرة. ولذلك يصبح القمع الذي تمارسه قمعا مركبا، فهو للحفاظ على الأمن، ولكن أيضا لحمل الأفراد (أو المجتمع) وتطويعهم على الاعتقاد بأن القمع هو الأسلوب المناسب للحياة في المجتمع لتجنب الفوضى وإثارة القلاقل وسوى ذلك . ويمكن النظر إلى الجلاد أخيرا كشخصية مركبة من نفسية معقدة (لها أصول في التربية والفهم) وتفكير غير سوي (النظرة إلى المواطن على أنه غير أهل للمواطنة).
إن الجلاد جزء من آلية مادية وإيديولوجية و "أخلاقية" تتماهي في بعض الأحيان مع الأهداف المعلنة في الحفاظ على الاستقرار والأمن والنظام. يبدو أن دور الفرد في هذه الآلة على غاية من الأهمية.
> س: ما هي الدلالات التي يمكن أن يقدمها الأستاذ الشاوي لما يلي:
"القلم" – " (الزرواطة) او الكرباج " – " المفتاح" – " رقم السجن" – " نافذة السجن" – "الزيارة" – "فضاء الفسحة" – " الصمت" – "الوحدة" – "الماضي والذكرى" – "المرأة" – "الخوف" – "القلق" – "القمع" – "لحظات السعادة" – "الحزن" – "الخيانة" – "الصمود" – "العصابة" – "القيد" – "خطوات الجلاد" – "الطيارة" – الجنون" – "الاعتراف" – "الظلام" – "التحقيق" – "الممحاة" – "الورقة" – "السجارة".
الحديث طبعا داخل إطار فضاء السجن أو ما يتعلق بالكتابة.
>> ج: يمكن استنباط الدلالة، في الموضوع الذي يعنينا في سياقها. ويمكن القول إن السياق السجني يحول الدلالات تحويلا، أي يخضعها للغة "الخاصة" التي يبتدعها السجناء. ومن المعروف أن الفضاءات المغلقة "تبتدع في معظم الحالات، "لغاتها " الخاصة قصد تحقيق التواصل وابتغاء لتداول المعرفة.
وعندما يتعلق الأمر بالسجناء السياسيين في ظروف الاعتقال فإن "تحويل" اللغة في بعض الأحيان له مظهر رمزي، يفرض التأويل ويقتضيه. وهو حال كثير من المفردات المتداولة في فضائهم.
وقد استعنت (في كان وأخواتها) بـ"اللغة المتبلورة في الفضاء السجني بين المعتقلين السياسيين، واستعملتها في الكتابة عن التجربة:
القلم: أداة الاستحالة، موجود ومفقود. ووجوده أعنف من فقده لأنط لا تستطيع تسخيره للتعبير عن خلجاته.
الكرباج: المحرفة عن الفرنسية، أداة لممارسة العنف.
المفتاح: قد يكون صنويا للحرية، وقد يكون دلالة على الاحتجاز
الوحدة: ليست حالة نفسية فقط، بل وجودية، فمفهوم العقاب سلب الحرية، وتهديم الذات في نفس فتكون الوحدة معادلا للعزلة. وقد تكون الوحدة بين الجماعة، وهي أقسى أنواع الوحدة.
الصمت: قد يكون فيه اكتفاء السجين بعذابه وأصواته الداخلية.
رقم السجن: تشييئ وسلب لخواص الفرد الإنسانية.
نافذة السجن: الإحساس الدائم بالكآبة
الخوف: مرادف الانتظار والتوقع، حاله وجدانية باردة.
لحظات السعادة: فسحة قمعية، أو قمع مخفف
الحزن: إحساس متواصل بالفقد في علاقته بالحرية والحياة
الخيانة: الانهيار أمام جبروت الإرهاب
الصمود: وعي بقدرات الذات على المقاومة المحدودة
الجنون: فرار العقل إلى فضاء الحرية
الاعتراف: الإحساس بالعجز...الخ
> س: هناك جلد معروف هو جلد الجسد، لكن الجلد الداخلي بشن حرب نفسية كيف يتم وأيهما أشد، داخل فضاء السجن دائما؟.
>> ج: يتواجه المعتقل المسلوب الحرية مع جلاده (الآلة القمعية) ومع نفسه. وحين يحاول مواجهة الآلة القمعية بالتحدي (الصمود) يقوم، في نفس الوقت بمواجهة نفسه بالتفكير والتأمل. ومن أولى الأسئلة التي يطرحها المعتقل أمام فعل القمع: هل كان على صواب، أم أنه مذنب؟ الفرق بين الحرية والاعتقال، وجوده في حال اعتقال ماذا يعني؟ ما علاقته بطموحاته وآماله العراض؟ كيف يواصل انسجامه وتطلعاته...الخ
أسئلة كثيرة تنطلق مع اعتقاله تعود إلى ماضيه، وتذهب إلى مستقبله، أسئلة تتحداه وتربكه حول الموت والحياة والمرآة والوجود ككل.
وما من شك في أن هذه الأسئلة وغيرها كثير إعادة صياغة للكينونة الفردية بعد أن تواجهت مع مصير مفروض لا تستطيع تجاوزه إلا بالركوب إلى أجوبة معينة.
ومن المفهوم أن المعتقل بصفة عامة لا يتعرض للقمع المادي فقط، بل ويكون القمع المعنوي الذي يصيب أفكاره وقيمته أشد وأعنف. وينتج عن هذا القمع تشوهات نفسية كثيرة تكون في كثير الأحيان أقوى من التشوهات الجسدية. وتنويعا على ما قلت فلا سجن في تعريفه المباشر هو هذا التشوه المستديم الذي يلحقه بالوجدان والعواطف والفكر.
> س: حين يتحول الدين إلى "كرباج" لمحاربة وقمع الأفكار التقدمية والتحررية الهادفة لنشر الوعي والعدل بين الجماهير يحاول الرجعيون المستبدون توسل الدين كوتر حساس لدغدغة العواطف، وهذا أمر لا يقتصر على المجتمع المغربي العربي الإسلامي فحسب، فنذكر الكنيسة وجاليلي كما نذكر محنة ابن رشد مع "تجار الدين" ونذكر محنة الدكتور حامد أبو زيد في مصر، فليس بالغريب أن تضاف محنتكم مع "الحجاج" وبالوسيلة نفسها وكذلك في المحاكمة، فحين يتحول الدين بأيدي دعاة الرجعية إلى إرهاب فكري وسيلة هدفها السلطة وحين يحاكم الفكر على أنه عقيدة تناقض الشريعة وأنه كفر وزندقة، ماذا يقول الأستاذ الشاوي تعليقا أو رأيا؟
>> ج: النظام السجني كنظام عقابي يستند إلى مجموعة من الأعراف و(القوانين الزجرية) وأشكال الضبط ووسائل التطويع. وغالبا ما يعكس النظام السجني طبيعة السلطة القائمة. وقد أظهرت التجارب أن السلطة المبينة على الدين عادة ما تمتهن هذا الدين لأغراضها الدنيوية فتكفر من يخرج عن ملتها، ومع أن هذا الخروج قد لا يكون اختلافا، وتقمع من لا يتقيد بأعرافها وقيمها، وغالبا ما يكون عدم التقيد بتلك الأعراف أو القيم تعبيرا حرا عن معارضته ...الخ
وبما أن السجن امتداد لطبيعة المجتمع القائم، فإن السجان نفسه جزء منه ومن المؤسسة السجنية نفسها. ومن هذه الزاوية، وخصوصا عندما تدعو الضرورة إلى ذلك، يسخر الدين في التحريض ضد الخروج المحتمل عن جميع القواعد الناظمة للانسجام المفترض في المجتمع كما ترعاه السلطة القائمة. ويمكن أن نتصور في هذا الصدد كيف يصبح الدين وسيلة لمحاكمة النوايا أو العقائد الإيديولوجية أو المواقف السياسية...الخ
> س: الانتظار، التوقع، المجهول "وبقيت هناك انتظر كمن ينتظر هدية مستحيلة "ما هو الإحساس الذي يصاحب إنسان في هذه الحالة، العصابة على عينيه والقيد في يديه؟
>> ج: الانتظار داخل المعتقل (فضاء الاعتقال) جزء التوقع. فأن تكون معتقلا معناه أن تكون عرضة لجميع الاستجابات الممكنة" التعذيب، التجويع، الاستنطاق...الخ. إن الوجود في المعتقل (السجن أيضا) ينفي عن الإنسان أهم خاصية فيه، أعني قدرته على أن يكون حرا، قادرا على التصرف المستقل. والمعتقل (الفرد) في إطار الاعتقال يمكن تشبيهه بالوديعة المنسية، أي "شيئا" مهملا. ولكنه "شيء" خاضع لجميع الإكراهات الممكنة. وعندما تكون شروط الاعتقال قاسية تكون ظروف المعتقل (الفرد) مدمرة: بدون أحاسيس خاصة، لأنها مصادرة، بدون عواطف شخصية، لأنها مقموعة، بدون تفكير، لأنه معتقل خاضع للإرغام...الخ.
> س: الكلمة والسلطة، متى يتمكن أن نتحدث عن سلطة الكلمة في واقع كلمة السلطة؟ كيف سيكون هذا الحديث وهل سيكون هناك حديث أصلا، حين تحدث د. علي أومليل عن السلطة الثقافية والسلطة السياسية فهمت من حديثه أن لا يمكن ان نتحدث عن سلطة ثقافية في غياب الشروط الموضوعية والذاتية التي أفرزتها النهضة في أوربا. ما ٍرأيكم في هذه الإشكالية؟
>> ج: المثقف والسلطة، ربما يكون ذلك هو العنوان العريض لإشكالية تاريخية عميقة. أعني حين تتعارض الثقافة مع السلطة الزمنية فتصبح خصما لها، أو تتصالح معها فتصبح في خدمتها.
ومن المفهوم أن الأمر يتعلق ببنيتين: بية الثقافة التي هي "روح" الشعوب كما يقال، بحكم أنها تتضمن عاداتها وتقاليدها وحضاراتها ككل، وكذا ببنية السلطة، التي هي مؤسسة لتدبير الحياة العامة داخل المجتمع خضوعا للقانون (العقد) أو الإكراه (الاستبداد).
هناك علاقة جدلية بين الثقافة والسلطة، فإذا ما كانت السلطة ديمقراطية، كان ذلك في صالح التطور الثقافي وانفتاحه وازدهار حياة الأفراد به.
وكلما كانت السلطة قامعة أو جاهلة، كلما جعلت من الثقافة مطية لتكريس العبودية والخضوع.
أما إذا تكلمنا عن (سلطة كلمة) فإننا نفترض أنها كلمة متسلطة أيضا. لأن من طبيعة السلطة (السلط) أنها تحتكر جميع الوظائف الضامنة لاستمرارها واستقرارها وسيادتها.
أما إذا تكلمنا عن (سلطة الكلمة) فإننا نتكلم، من منظور آخر، عن تحول الثقافة إلى أداة في تنمية (روح) الشعب وتطوير حساسيته وتقوية هويته. والاختلاف هنا ليس مرتبطا بلعب لغوي بالوظيفة: وظيفة الثقافة إذا كانت هادفة، ووظيفة السلطة إذا كانت استبدادية. إن الاختلاف اختلاف في الطبيعة كذلك.
[1] - تم الحوار عبر مراسلة الكاتب بتاريخ 17 أكتوبر 1998، وجاء الرد بتاريخ 17 فبراير 1999.
بشرى العبداوي
> س: -بطاقة التعريف – قبل (السجن) – وبطاقة التعريف ثانية – بعد (السجن)- هل هما فعلا اثنتان أم أن الثانية هي امتداد للأولى وانصهار في ذات واحدة تتحدد من خلالها هوية وشخصية "ش" بعد كل ما (مضى)؟
>> ج: خضع وجودي، كما هو وجود غيري ربما، للتدرج الطبيعي الذي انتقل بي من الجهل إلى المعرفة، ومن السكينة إلى الوعي، ومن الماضي إلى الحاضر. ولما كانت تجربتي في الحياة تقترب من عقدها الخامس، فإن المراحل التي قطعتها خلال هذه المرحلة تتكامل فيما بينها تكامل الحلقات المترابطة. وبهذا المعنى فإن السجن في حياتي لم يكن عابرا ولم يكن مستقرا، بل مرحلة عمقت شعوري بنفسي وبتناقضاتي...إلى ما تركته في من أثار وجروح.
لقد ولدت في أواخر العام 1950 (10 أكتوبر)، واعتقلت في أواخر عام 1974 (13 نوفمبر)، وما زلت بينهما بين التاريخين، على قدر ما أستطيع أن أكونه: راغبا في التعلم، مثابرا على الاجتهاد، متواصلا مع الحياة، مع ما يكتنف هذا وذاك من صعوبات فيها ما هو جارح كالهزيمة، وتعقيدات فيها ما هو مؤلم كالإهانات التي نتعرض لها يوميا بسبب مواقفنا أو سلوكنا...الخ
وبهذا المعنى فإني لا أجد فرقا بين حياة قضيتها في السجن وأخرى قضيتها في "الحرية"...إلا من زاوية المعاناة.
> س: (كان وأخواتها)، رواية، سيرة ذاتية، أم أنها تجمع كل الأجناس كما صرحت بذلك ليلى الشافعي، أم هي في حد ذاتها ثورة على كل الأجناس الأدبية وصرخة جديدة في مجال الأدب تجمع: الرواية والسيرة والشعر وكذلك وثائق تاريخية تشهد لمرحلة حساسة في المجتمع المغربي. ومن ثم ألا يمكن أن ندخل هذا الجنس الأدبي ضمن إطار الأدب المغربي الطلائعي أم انه من المفروض مادام يحمل فكر صاحبه أن يدخل ضمن جنس أدبي ثوري شكلا وجريء مضمونا مع مراعاة ظروف الكتابة طبعا؟
>> ج: كتبت (كان وأخواتها) في أواخر 1984، ولم أنشرها إلا في أواخر 1986، ولذلك جاءت مطبوعة بالمعاناة التي عشتها، مع رفاقي في السجن، ولهذا أيضا عالجت تجربتها المشتركة ولما لم تكن قد انقضت في الزمن ولا من حيث المحن، ومن الصحيح أنني حاولت في (كان وأخواتها) أن أحيط بتجربتي الشخصية، فذكرت شيئا من الماضي الذي عشته، والذكريات التي اختزنتها عن طفولتي، وبعض تجاربي في الحياة، غير أن (كان وأخواتها) هي أيضا "سيرة" مجموعة بشرية وسيرة تجربة سياسية، وسيرة صعودها وإخفاقها، وبما أنها كذلك فقد حوت جميع الفنون تقريبا، لأن كتابتها كانت منطلقة منسرحة لا تتقيد بأي شكل تعبيري مخصوص، في (كان وأخواتها) سرود متنوعة وسجلات مختلفة: النضال، السياسية، الذات، المعاناة، الوجود الفردي، الوجود الجماعي، الذكريات، المحاكمة، العنف، التعذيب، المرأة...الخ.
ويمكن اعتبار (كان وأخواتها) أيضا تجربة وجود اجتماعي عام في المغرب، من حيث أرخت لتجربة سياسية كان لها دورها في المجتمع وعلى صعيد بعض فئاته.
> س: "إن معرفتنا بالشيء،...تجعل لنا القدرة على فهمه بعمق، والتعبير عنه بعمق أيضا، ولهذا فإن أفضل كتاب الشعب هم أبناء الشعب".
إلى أي حد/ تعتبر هذه المقولة صحيحة في نظركم لو ربطناها بتجربة اعتقالكم وتحديدا بمدى اكتشاف فضاء السجن وبمدى الدور الذي قام به وجودكم الاجتماعي في تحديد وعيكم باعتناق النضال من أجل الجماهير؟
>> ج: إن الكتابة درجة في الوعي، وهي تجربة خصوصية أيضا تقوم على المعرفة والفكر ولا تستحق الكتابة الواعية أن تكون كذلك إلا إذا ذهبت عميقا في استجلاء جميع الصور والأوضاع والحالات الممكنة، وربما المستحيلة. وعندما تكون الكتابة كذلك يستوي أن يكون الكاتبون بها من "أبناء " الشعب أو من غير الشعب.
لقد كان من الممكن لكثير من المعتقلين أن يكتبوا عن تجارب اعتقالهم، ولكن ذلك لم يتحقق لهم ربما لخشيتهم من أنهم إن كتبوا عن ذلك فسيكون من المفروض عليهم أن يكشفوا عن مختلف الجوانب التي أحاطت بهم، وربما عن مختلف القضايا التي واجهتهم، أكانت ذاتية أم موضوعية. ومن الحق أن نقول إن تجربة اعتقالنا السياسي لم يكتب عنها شيء كثير، ويعود ذلك، في رأيي إلى أن الذين من المفروض أن يكتبوا عنها لم يحسوا لحد الآن بتلك الضرورة... ومن هذه الزاوية فإن (كان وأخواتها) محاولة أولى في الكتابة، أو محاولة أولى في الحديث عن تجربة الاعتقال كما فهمتها وعشتها واكتويت بنارها. وإذا كانت هذه التجربة قد علمتني شياْ في الكتابة فإنها علمتني أن أقول كل شيء بصدق وانفعال.
> س: "الكتابة إذا انطلقت أبحرت وإذا حبست غرقت أو ماتت..." وهي كالنار حارقة إذا كانت صادقة"
"إذ يخيل إلي أنني يجب أن أقول كل شيء حتى ما يحرج من الخفايا المقموعة إذا استطعت كل شيء تقريبا في فوضى وتوتر".
تجربة الكتابة داخل السجن، ما إذا يمكنكم القول عنها لو ربطناها بكل ما يحمله هذا الفضاء من رموز وأحاسيس، إلى أي حد استطعت قول ما يخرج من هذه الخفايا، والآن هل يشعر "ش" أنه حين كان يكتب استجاب للحظة من اللحظات لأوامر جلاد أو حاج قابع في دماغه دون وعي منه فتجاوز بعض الحقائق ولم يتوغل في الجزئيات مخافة هذا الصوت الرهيب "الكرباج" أم أن الصمود والثبات بصوته كان أعلى من أي صوت آخر؟ كما تحدث عن ذلك أحد الكتاب حين أشار إلى أن أدباءنا ما زالوا لم يتخلصوا من شرطي قابع في دماغهم حين يكونون بصدد كتابة تجربتهم عن السجن وهم داخله.
>> ج: الكتابة داخل السجن معاناة إضافية، تصدر عن سؤال هام، لماذا أكتب وماذا أكتب؟ وقد طرحت هذين السؤالين على نفسي، فأجبت عن ذلك بأنني أكتب لكي أعمق وعيي بنفسي وتجربتي، واكتب لكي أتجاوز الحصار المضروب علي، واكتب لكي لأتواصل مع الآخرين. وقد ساعدني على هذا الجواب أنني كنت كاتبا قبل دخولي إلى السجن. فحرصت على تعميق فهمي لنفسي ولما كنت أقرأه، ثم قصدت أن أكتب بوضوح حتى أحقق قدرا من التجاوب مع الآخرين الذين يقرأون.
ولم تكن الكتابة داخل السجن سهلة. إن السجن هو مرادف العقاب والعقاب يتضمن عمليا كل أدوات تجريد الفرد من إنسانيته، وحين تكون هذه الأدوات قمعية فإنها تجردك من القلم والورق، وتحاول التجسس على أفكارك وعواطفك...وهكذا. بل ويمكن الحديث أيضا عن شروط أكثر قمعا ترتبط بالذات، من حيث الوضوح والصراحة، من حيث الحرية والجبر، من حيث الخوف أو الكذب...الخ.
وأفترض أنه كلما كانت الكتابة حرة، طليقة، صادقة كلما كانت قادرة على مواجهة جميع الصعاب الذاتية والموضوعية.
> س: كل جنس أدبي يجب ألا يكتفي بفحص الواقع والبكاء على أطلاله، أو يجعل معارك طوباوية دنكشوطية مزيفة ، وإنما يجب أن يتجاوزه إلى إعادة تشكيله على مستوى التخيل أولا والممارسة العملية أي التطبيق ثانيا ، وبذلك قد يكون قدم البديل بعد النقد وهذه هي رسالة الأدب في نظري، لو سألنا الأستاذ الشاوي عن رسالة الأدب كيف سيكون رده؟
>> ج: ليست هناك رسالة أدبية يتوخاها الأدب إلا أن يكون أدبا. الكتابة نظام لغوي وتركيبي ونحوي...الخ، كما أن الكتابة درجة في المعرفة (الأمي لا يستطيع الكتابة) فإن التعبير هو أداتها المباشرة. وعندما نكتب أدبا فإننا نقوم بترجمة أفكارنا أو بنات مخيلتنا، عن طريق نظام معين، إلى تصورات أو أخيلة...الخ، ومن هنا فإن ارتباط الأدب برسالة ما هو وظيفة تأتيه من السياق الذي ينتج فيه من الناحية الاجتماعية والسياسية والعقدية. ولهذا تختلف وظيفة الأدب باختلاف السياقات والمجتمعات.
إننا ننتمي إلى مجتمع بنياته العامة تقليدية ومختلفة. وما الحداثة التي يتكلمون عنها هنا وهناك إلا من أسباب المناقضة التي كثيرا ما ترى الشجرة بدلا من الغابة، وهنا يطرح دور المثقف.
لقد ارتبط المثقف المغربي الحديث بحركة المجتمع، وظهر هذا الارتباط واضحا في مسار الحركة الوطنية المغربية، بحيث وجدنا كثيرا من رواد هذه الحركة يزاوجون بين عملهم السياسي ودورهم التربوي والأخلاقي والثقافي (علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني...الخ). ومنذ فترة بعيدة نسبيا تواصل هذا الارتباط في ذات المثقف: أن يكون أديبا أو مفكرا أو مبدعا، وأن يكون في نفس الوقت ملتزما بقضايا الأمة والوطن، منخرطا في الحركة السياسية أو الحزب، يريد التأثير في المجتمع بقوله ورؤاه.
وفي ما يتعلق بتجربتي الشخصية فإنني لم أتجاوز هذه القاعدة، وإن كنت قد تعاملت معها بكثير من المرونة، إنه من الصعب تماما أن نفترض بأننا نكتب للشعب، ولكننا في جميع الأحوال نعرض أفكارنا وموقفنا لكي نلامس تجربة حياتنا العامة. وفي هذه الملامسة قد نتواصل مع العالم الخارجي اعتبارا لتوترات المرحلة.
إن وظيفة الأدب، من هذه الزاوية، هو أن ينخرط في التجربة الإنسانية للأمة، أن يلامس قضاياها، أن يبلورها ويعيد تكوينها، أن ينسجها لتحقيق قدر من التواصل. وإذا ما استطاع الأدب ذلك فإنه يكون قد تجاوب، مرحليا أو استراتيجيا، مع التطلعات العامة التي تنشد التغيير.
> س: السجن كمفهوم ماذا يمكن القول عنه؟ وهل السجن لا يوحد إلا بين أربعة جدران داخل الزنزانة وهي الزنزانة المعروفة، وماذا عن الذي يحدثنا عن إحساسه بفقدان الحرية وهو خارج هذه الأسوار وهو في مجتمعه يشعر بأنه مسجون أو عن ذلك الذي يحدثنا عن أسوار عالية ربما أعلى من الأولى وعن زنزانة داخل (نفسه) هو؟
>> ج: السجن مؤسسة عقابية، وهو بناء مادي له أوضاعه وقوانينه وآليته. وبقطع النظر عن الدور التربوي المفترض للسجن ( وهو دور مشكوك فيه)، فإنه يحول السجين إلى كثلة من الاستجابات الشرطية. (الأكل، النوم، الفسحة، التعذيب...). ويمكن أن نلاحظ بأن مفهوم العقاب يتوجه إلى ذات الشخص المعتقل وفكره وعواطفه وحقوقه الطبيعية. وعلى هذا الأساس فإن السجن هو محاولة مستمرة وعنيفة وإرهابية (بالقوة) لتطويع ذات السجين طمعا في انسجامها مع الموضوعات المعروضة والمفروضة عليه في نفس الوقت. وأن تكون مواطنا صالحا داخل السجن في نظر السجان معناه أن مفهوم العقاب قد تمكن من الذات، وأن جميع الاستجابات الشرطية قد أصبحت مقربة.
غير أن السجن، رغم طابعه المادي، قد يكون مجرد مفهوم باستطاعة الفرد / الذات أن يتعالى عليه وأن يقوم بتجاوزه. غير أن هذا التجاوز يتطلب شروطا أخرى لا يبدو أنها تتوفر في غالب الأحيان إلا لمن وعى ظروف سجنه وآلية قمعه والهدف المرسوم للآلة القمعية.
> س: كيف يمكن لواقع السجن أن يؤثر في نفسية السجين؟ وما يمكن القول عن هذه الشخصية (السجين) ؟ وهل واقع السجن السياسي في عهد الاستعمار يترك الأثر نفسه لو قارناه بواقع السجن السياسي بعد "الاستقلال" ؟ أم أن هناك اختلافا في التأثير بين هذا وذاك؟
>> ج: لعل السجون الحديثة في المغرب ارتبطت بقدم الحماية، ولا يعني هذا أن المغرب لم تكن فيه سجون، فمفهوم العقاب قديم، والبحث عن وسائل لحجز الحرية الشخصية قديمة أيضا.
وقد واجهت الحماية في المغرب منذ بداية الثلاثينات حركية سياسية شبه نشيطة وتطورت هذه الحركة فيما بعد إلى المطالبة بالاستقلال. فكان السجن في سياسة الحماية (أو النفي) آلة وقائية وقمعية لاعتقال العاملين في الحقل السياسي وحجز حريتهم والتخلص منهم...وذلك بقصد إبعادهم عن المحيط الذين يتحركون فيه.
ويمكن القول إن السجن في المفهوم السياسي يعني بكل بساطة التخلص من المعارضين والمناوئين للسياسات الرسمية. ويبدو السجن في المفهوم السياسي أخف أدوات هذا التخلص، لنا يمكن أن نتكلم هنا عن الاغتيال والاختطاف...وسوى ذلك من وسائل البطش.
ومشكلة السجن أنه في النظم الديمقراطية امتداد للمؤسسات القائمة في المجتمع. ولكن في الأنظمة التي لا ترعى حقوق الإنسان حالة استثنائية.
> س: الجلاد باعتباره شخصية تمثل التسلط والقمع والعذاب ، وباعتباره شخصية قاهرة، ماذا يمكن القول عنها؟ هل هي شخصية مريضة مركبة ومعقدة، سادية قاهرة؟ أم هي قبل أن تكون شخصية قاهرة هي مقهورة؟ وهل هناك اختلاف بين جلاد وجلاد؟ أم أن ما نقوله عن جلاد سجن الاستعمار السياسي هو نفس ما يمكن قوله عن جلاد السجن السياسي بعد "الاستقلال" ؟أم هناك اختلاف نابع من درجة التأثير بحكم أن هذا الأخير هو ابن البلد، ابن الوطن أما ألأول فهو أجنبي مستعمر؟
>> ج: يمكن أن نرى في الجلاد مستويات مختلفة، بل وربما ثلاث شخصيات متداخلة: فقد يكون فردا عاملا في جهاز من الأجهزة القمعية للدولة. وهو من هذه الناحية يقوم بوظيفة الحفاظ على الأمن العام الذي ترعاه تلك الدولة، وتعتبره الأمن العام الذي يجب أن يسود في المجتمع حفاظا على المصالح المادية التي ترعاها. ويمكن النظر إليه كشخصية إرهابية، تكون وعيها في دائرة إيديولوجية قمعية. ولا تقوم هذه الشخصية بوظيفتها الآلية فقط، بل وتطمح إلى السيطرة بالأدوات التي تملكها للسيطرة. ولذلك يصبح القمع الذي تمارسه قمعا مركبا، فهو للحفاظ على الأمن، ولكن أيضا لحمل الأفراد (أو المجتمع) وتطويعهم على الاعتقاد بأن القمع هو الأسلوب المناسب للحياة في المجتمع لتجنب الفوضى وإثارة القلاقل وسوى ذلك . ويمكن النظر إلى الجلاد أخيرا كشخصية مركبة من نفسية معقدة (لها أصول في التربية والفهم) وتفكير غير سوي (النظرة إلى المواطن على أنه غير أهل للمواطنة).
إن الجلاد جزء من آلية مادية وإيديولوجية و "أخلاقية" تتماهي في بعض الأحيان مع الأهداف المعلنة في الحفاظ على الاستقرار والأمن والنظام. يبدو أن دور الفرد في هذه الآلة على غاية من الأهمية.
> س: ما هي الدلالات التي يمكن أن يقدمها الأستاذ الشاوي لما يلي:
"القلم" – " (الزرواطة) او الكرباج " – " المفتاح" – " رقم السجن" – " نافذة السجن" – "الزيارة" – "فضاء الفسحة" – " الصمت" – "الوحدة" – "الماضي والذكرى" – "المرأة" – "الخوف" – "القلق" – "القمع" – "لحظات السعادة" – "الحزن" – "الخيانة" – "الصمود" – "العصابة" – "القيد" – "خطوات الجلاد" – "الطيارة" – الجنون" – "الاعتراف" – "الظلام" – "التحقيق" – "الممحاة" – "الورقة" – "السجارة".
الحديث طبعا داخل إطار فضاء السجن أو ما يتعلق بالكتابة.
>> ج: يمكن استنباط الدلالة، في الموضوع الذي يعنينا في سياقها. ويمكن القول إن السياق السجني يحول الدلالات تحويلا، أي يخضعها للغة "الخاصة" التي يبتدعها السجناء. ومن المعروف أن الفضاءات المغلقة "تبتدع في معظم الحالات، "لغاتها " الخاصة قصد تحقيق التواصل وابتغاء لتداول المعرفة.
وعندما يتعلق الأمر بالسجناء السياسيين في ظروف الاعتقال فإن "تحويل" اللغة في بعض الأحيان له مظهر رمزي، يفرض التأويل ويقتضيه. وهو حال كثير من المفردات المتداولة في فضائهم.
وقد استعنت (في كان وأخواتها) بـ"اللغة المتبلورة في الفضاء السجني بين المعتقلين السياسيين، واستعملتها في الكتابة عن التجربة:
القلم: أداة الاستحالة، موجود ومفقود. ووجوده أعنف من فقده لأنط لا تستطيع تسخيره للتعبير عن خلجاته.
الكرباج: المحرفة عن الفرنسية، أداة لممارسة العنف.
المفتاح: قد يكون صنويا للحرية، وقد يكون دلالة على الاحتجاز
الوحدة: ليست حالة نفسية فقط، بل وجودية، فمفهوم العقاب سلب الحرية، وتهديم الذات في نفس فتكون الوحدة معادلا للعزلة. وقد تكون الوحدة بين الجماعة، وهي أقسى أنواع الوحدة.
الصمت: قد يكون فيه اكتفاء السجين بعذابه وأصواته الداخلية.
رقم السجن: تشييئ وسلب لخواص الفرد الإنسانية.
نافذة السجن: الإحساس الدائم بالكآبة
الخوف: مرادف الانتظار والتوقع، حاله وجدانية باردة.
لحظات السعادة: فسحة قمعية، أو قمع مخفف
الحزن: إحساس متواصل بالفقد في علاقته بالحرية والحياة
الخيانة: الانهيار أمام جبروت الإرهاب
الصمود: وعي بقدرات الذات على المقاومة المحدودة
الجنون: فرار العقل إلى فضاء الحرية
الاعتراف: الإحساس بالعجز...الخ
> س: هناك جلد معروف هو جلد الجسد، لكن الجلد الداخلي بشن حرب نفسية كيف يتم وأيهما أشد، داخل فضاء السجن دائما؟.
>> ج: يتواجه المعتقل المسلوب الحرية مع جلاده (الآلة القمعية) ومع نفسه. وحين يحاول مواجهة الآلة القمعية بالتحدي (الصمود) يقوم، في نفس الوقت بمواجهة نفسه بالتفكير والتأمل. ومن أولى الأسئلة التي يطرحها المعتقل أمام فعل القمع: هل كان على صواب، أم أنه مذنب؟ الفرق بين الحرية والاعتقال، وجوده في حال اعتقال ماذا يعني؟ ما علاقته بطموحاته وآماله العراض؟ كيف يواصل انسجامه وتطلعاته...الخ
أسئلة كثيرة تنطلق مع اعتقاله تعود إلى ماضيه، وتذهب إلى مستقبله، أسئلة تتحداه وتربكه حول الموت والحياة والمرآة والوجود ككل.
وما من شك في أن هذه الأسئلة وغيرها كثير إعادة صياغة للكينونة الفردية بعد أن تواجهت مع مصير مفروض لا تستطيع تجاوزه إلا بالركوب إلى أجوبة معينة.
ومن المفهوم أن المعتقل بصفة عامة لا يتعرض للقمع المادي فقط، بل ويكون القمع المعنوي الذي يصيب أفكاره وقيمته أشد وأعنف. وينتج عن هذا القمع تشوهات نفسية كثيرة تكون في كثير الأحيان أقوى من التشوهات الجسدية. وتنويعا على ما قلت فلا سجن في تعريفه المباشر هو هذا التشوه المستديم الذي يلحقه بالوجدان والعواطف والفكر.
> س: حين يتحول الدين إلى "كرباج" لمحاربة وقمع الأفكار التقدمية والتحررية الهادفة لنشر الوعي والعدل بين الجماهير يحاول الرجعيون المستبدون توسل الدين كوتر حساس لدغدغة العواطف، وهذا أمر لا يقتصر على المجتمع المغربي العربي الإسلامي فحسب، فنذكر الكنيسة وجاليلي كما نذكر محنة ابن رشد مع "تجار الدين" ونذكر محنة الدكتور حامد أبو زيد في مصر، فليس بالغريب أن تضاف محنتكم مع "الحجاج" وبالوسيلة نفسها وكذلك في المحاكمة، فحين يتحول الدين بأيدي دعاة الرجعية إلى إرهاب فكري وسيلة هدفها السلطة وحين يحاكم الفكر على أنه عقيدة تناقض الشريعة وأنه كفر وزندقة، ماذا يقول الأستاذ الشاوي تعليقا أو رأيا؟
>> ج: النظام السجني كنظام عقابي يستند إلى مجموعة من الأعراف و(القوانين الزجرية) وأشكال الضبط ووسائل التطويع. وغالبا ما يعكس النظام السجني طبيعة السلطة القائمة. وقد أظهرت التجارب أن السلطة المبينة على الدين عادة ما تمتهن هذا الدين لأغراضها الدنيوية فتكفر من يخرج عن ملتها، ومع أن هذا الخروج قد لا يكون اختلافا، وتقمع من لا يتقيد بأعرافها وقيمها، وغالبا ما يكون عدم التقيد بتلك الأعراف أو القيم تعبيرا حرا عن معارضته ...الخ
وبما أن السجن امتداد لطبيعة المجتمع القائم، فإن السجان نفسه جزء منه ومن المؤسسة السجنية نفسها. ومن هذه الزاوية، وخصوصا عندما تدعو الضرورة إلى ذلك، يسخر الدين في التحريض ضد الخروج المحتمل عن جميع القواعد الناظمة للانسجام المفترض في المجتمع كما ترعاه السلطة القائمة. ويمكن أن نتصور في هذا الصدد كيف يصبح الدين وسيلة لمحاكمة النوايا أو العقائد الإيديولوجية أو المواقف السياسية...الخ
> س: الانتظار، التوقع، المجهول "وبقيت هناك انتظر كمن ينتظر هدية مستحيلة "ما هو الإحساس الذي يصاحب إنسان في هذه الحالة، العصابة على عينيه والقيد في يديه؟
>> ج: الانتظار داخل المعتقل (فضاء الاعتقال) جزء التوقع. فأن تكون معتقلا معناه أن تكون عرضة لجميع الاستجابات الممكنة" التعذيب، التجويع، الاستنطاق...الخ. إن الوجود في المعتقل (السجن أيضا) ينفي عن الإنسان أهم خاصية فيه، أعني قدرته على أن يكون حرا، قادرا على التصرف المستقل. والمعتقل (الفرد) في إطار الاعتقال يمكن تشبيهه بالوديعة المنسية، أي "شيئا" مهملا. ولكنه "شيء" خاضع لجميع الإكراهات الممكنة. وعندما تكون شروط الاعتقال قاسية تكون ظروف المعتقل (الفرد) مدمرة: بدون أحاسيس خاصة، لأنها مصادرة، بدون عواطف شخصية، لأنها مقموعة، بدون تفكير، لأنه معتقل خاضع للإرغام...الخ.
> س: الكلمة والسلطة، متى يتمكن أن نتحدث عن سلطة الكلمة في واقع كلمة السلطة؟ كيف سيكون هذا الحديث وهل سيكون هناك حديث أصلا، حين تحدث د. علي أومليل عن السلطة الثقافية والسلطة السياسية فهمت من حديثه أن لا يمكن ان نتحدث عن سلطة ثقافية في غياب الشروط الموضوعية والذاتية التي أفرزتها النهضة في أوربا. ما ٍرأيكم في هذه الإشكالية؟
>> ج: المثقف والسلطة، ربما يكون ذلك هو العنوان العريض لإشكالية تاريخية عميقة. أعني حين تتعارض الثقافة مع السلطة الزمنية فتصبح خصما لها، أو تتصالح معها فتصبح في خدمتها.
ومن المفهوم أن الأمر يتعلق ببنيتين: بية الثقافة التي هي "روح" الشعوب كما يقال، بحكم أنها تتضمن عاداتها وتقاليدها وحضاراتها ككل، وكذا ببنية السلطة، التي هي مؤسسة لتدبير الحياة العامة داخل المجتمع خضوعا للقانون (العقد) أو الإكراه (الاستبداد).
هناك علاقة جدلية بين الثقافة والسلطة، فإذا ما كانت السلطة ديمقراطية، كان ذلك في صالح التطور الثقافي وانفتاحه وازدهار حياة الأفراد به.
وكلما كانت السلطة قامعة أو جاهلة، كلما جعلت من الثقافة مطية لتكريس العبودية والخضوع.
أما إذا تكلمنا عن (سلطة كلمة) فإننا نفترض أنها كلمة متسلطة أيضا. لأن من طبيعة السلطة (السلط) أنها تحتكر جميع الوظائف الضامنة لاستمرارها واستقرارها وسيادتها.
أما إذا تكلمنا عن (سلطة الكلمة) فإننا نتكلم، من منظور آخر، عن تحول الثقافة إلى أداة في تنمية (روح) الشعب وتطوير حساسيته وتقوية هويته. والاختلاف هنا ليس مرتبطا بلعب لغوي بالوظيفة: وظيفة الثقافة إذا كانت هادفة، ووظيفة السلطة إذا كانت استبدادية. إن الاختلاف اختلاف في الطبيعة كذلك.
[1] - تم الحوار عبر مراسلة الكاتب بتاريخ 17 أكتوبر 1998، وجاء الرد بتاريخ 17 فبراير 1999.