المحامي علي ابوحبله - كيف انفضحت سردية إسرائيل عن السنوار؟

كتب المحامي علي ابوحبله


الصور التي سربها جنود إسرائيليون لجثة رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يحيى السنوار "فضحت سردية إسرائيل بزعمها أن الأخير خائف وفي نفق تحت الأرض"، وتوقع أن يتم فتح تحقيق لتحديد المسئول عن تسريب هذه الصور.

حيث ظهر يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حاملًا سلاحه، مرتديًا جعبة عسكرية والكوفية الفلسطينية، حيث استشهد في مواجهه مع جيش الاحتلال ، حارمًا “إسرائيل”، وبالتحديد رئيسها الوزراء نتنياهو، من صورة نصر تم البحث عنها طوال سنوات، وسعت لاغتياله بكل قوتها خلال السنة الأخيرة، بعدما اتهمته بأنه الرأس المدبر لهجمات “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023.

ختم السنوار في السابع عشر من أكتوبر مسيرة جهادية استمرت منذ شبابه لأكثر من 40 عامًا، مثبتًا السردية التي يعرفها الفلسطينيون عنه كقائد محارب وموجود في الميدان، ومحطمًا السردية “الإسرائيلية” التي حاولت دائمًا تصويره على أنه هارب ومختبئ في الأنفاق.

والواقع أن السنوار قائد الاستثناءات، ظل طيلة حياته في مساحة اللامتوقع، منذ أن اعتُقل في نهاية الثمانينيات، وحتى خرج في صفقة تبادل أسرى مدهشة في عام 2011، وصولًا إلى سطوع نجمه في عام 2016، وتوليه قيادة “حماس” في غزة، ثم رئاسة مكتبها السياسي عقب اغتيال إسماعيل هنية. لقد شكّل الشهيد “أبو إبراهيم” حالة فلسطينية فريدة على مستوى القيادة، كونه أعاد حركة “حماس” التي كان رئيس وزراء حكومة الاحتلال يظن أنه قادر دائمًا على ترويضها وشرائها بالمال، إلى مربع البدايات.

على أن تلك العودة لم تكن إلى بدايات الحركة التي انطلقت عام 1987، وإنما إلى بداية النضال الفلسطيني المعاصر الذي سبق النكبة في عام 1936. ففي ذلك العام، قُتل قائدٌ يشبهه كثيرًا في نسق النهاية، في أحراج يعبد، قرب جنين، وهو الشيخ الشهيد عز الدين القسام. لقد قرر صاحب رواية “الشوك والقرنفل” التي كتبها في أسره، منذ ترؤسه قيادة “حماس”.

ورغم الرمزية التي كان يمثلها يحيى السنوار في الأوساط العسكرية والسياسية والمجتمعية لقوى المقاومة، فقد قُتل الرجل وهو يحارب ويتفقد خطوط القتال، ولم يكن كما صورته آلة الإعلام “الإسرائيلية” بأنه مختبئ في الأنفاق ومتحصن بالأسرى كدروع بشرية. وبكل حال، فإن استشهاد السنوار هو منارة طريق وليست نهاية الطريق حيث يصفه الكثيرون ، وأن طموحات الاحتلال وتمنياتهم لاحتلال دائم لم ولن تتحقق، وإعادة الاستيطان واقتلاع الوجود الفلسطيني من القطاع، ثم من الضفة، كل ذلك يندرج تحت باب الأمنيات، ولن يتحقق لأن الواقع يؤكد أن ما يجري على أرض الواقع هو معركة مصير؛ هكذا هي بالرؤية الفلسطينية.

الصورة الأخيرة لاستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار في غزة، التي نشرها الاحتلال، تهدف إلى تكريس صورة الإنجاز الكبير، والقدرة “الإسرائيلية” على الوصول إلى المطلوب الأول لديها ومهندس الطوفان في السابع من أكتوبر. وكانت قيادة المتطرفين في “تل أبيب” مرتاحة لردود الفعل لدى الجمهور “الإسرائيلي”، دون الالتفات إلى خارج هذا الأفق الضيق المحدود الذي تركز عليه قيادة “تل أبيب”. لم يكن في حسابات “إسرائيل” التأثير الذي سوف تصنعه هذه المشاهد والصور الأخيرة للسنوار على الجمهور العربي والإسلامي الواسع حولها، فقد اصطدم المشهد الأخير للسنوار مباشرة بالسرديات “الإسرائيلية” حول الرجل طوال عام كامل من القتال ضده.

كان السنوار فوق الأرض مسلحًا ويقاتل وسط رجاله، لم يكن يحتمي بالأسرى “الإسرائيليين”، ولم يجلس في نفق تحت الأرض، ولم يتنقل مختفيًا بين خيام النازحين المدنيين الذين قصفتهم “إسرائيل” مرارًا وأحرقت خيامهم بذريعة أن السنوار بينهم. هذا المشهد الأخير للسنوار كفدائي فلسطيني يقاتل حتى النفس الأخير، كان صورة أدهشت الرأي العام العربي والإسلامي وأنصار المقاومة في العالم، هي صورة بطل قومي ومقاتل دافع عن شعبه وأرضه بلا استسلام، هي صورة تنسجم مع الضمير العربي والإرث الثقافي والتاريخي الذي يختصر المشهد بجملة “النصر أو الشهادة”.

لم تكن “إسرائيل” تدرك، وهي تمارس سياسة نفش الريش وإظهار العضلات، أنها حفرت صورة أسطورة تاريخية في أذهان شعوب هذه المنطقة، وأنها أطلقت نموذجًا ملهمًا للمقاومين ولجيل الشباب الغاضب من مشهد الذل والانكسار والاستسلام والخوف الذي تمثله حقيقة الواقع العربي.

استشهاد السنوار مثل لوحة أسطورية تحولت بسرعة إلى مبعث فخر واعتزاز. واللافت هو التفاعل الواسع على وسائل التواصل الاجتماعي الذي بدا غير محدود بالنطاق الجغرافي أو العينة الديمغرافية. حتى إن الأصوات التي طالما شككت بالسنوار وبالمقاومات عمومًا في المنطقة، وتلك التي تم صناعتها في غرف الاستخبارات العربية والغربية للترويج للهزيمة والاستسلام وتحميل المقاومة كل المجازر التي ترتكبها “إسرائيل”، بدت خافتة ومربكة، وانهارت أمام الكم والطوفان من التعليقات والتغريدات والمنشورات والمواقف التي مجدت السنوار باعتباره شهيدًا وبطل أمة وليس فقط لحماس.

اللافت أن بعض وسائل الإعلام العبرية وبعض المعلقين في “إسرائيل” تنبهوا لهذا المعنى، واستدرك موقع إعلامي في تقريره عن استشهاد السنوار بالقول: “بالمناسبة، في غزة يشيرون إلى استشهاد السنوار كقائد قاتل حتى النفس الأخير”.

وهذا استدراك يبدو ناقصًا، لأن هذه النظرة تجاوزت حدود غزة بشكل أبعد بكثير. وهذا، على المستوى الاستراتيجي للصراع في عموم المنطقة العربية، لن يكون في مصلحة “إسرائيل” ولا شركائها العرب ولا الولايات المتحدة، وسوف يدركون معنى ذلك على المستوى البعيد. وهم لا يبدو أنهم يدركون في هذه اللحظة أن الحروب والتدمير لا تكون صراع أسلحة وميدان فقط، وإنما ما تحفره في ضمير وثقافة ووعي هذا الجيل وأجيال قادمة.

والثابت، حسب كل المعطيات، أن حماس لن ترفع الراية البيضاء ولن تعطي “إسرائيل” فرصة لاستثمار استشهاد السنوار لتحقيق مكاسب في المفاوضات، ولن يتنازل قادة حماس العسكريون في غزة أو السياسيون عن سقف السنوار، مهما فعلت “إسرائيل”.

وفي موازاة ذلك، تحركت واشنطن لاستغلال الحدث، وبدأت التصريحات من أركان الإدارة الأمريكية بأن الوقت حان لوقف الحرب وتغيير المسار والذهاب إلى صفقة. المعضلة هنا أن التصريحات الأمريكية ليست ذات مفعول، وهذا ما ثبت خلال عام من الحرب. التقديرات تقول إن “إسرائيل” والإدارة الأمريكية يمارسان نوعًا من الإيحاء بأن الحرب ستتوقف، لتهدئة رفاق السنوار فقط، تجنبًا لأي قرار يمكن أن ينتقم من الأسرى “الإسرائيليين”.

بالمقابل، ماذا لدى “إسرائيل” لتقوم به لاستعادة أسراها في غزة؟ وماذا لو لم يظهر في غزة من يفاوض، ولم تعلن حماس عن أي اسم يكون صلة تواصل لمعرفة مصير الأسرى؟ كلها أسئلة في ضوء حقيقة واضحة تقول إن “إسرائيل” في زخم إنجازاتها العسكرية ومجازرها بحق المدنيين والأطفال في غزة ولبنان، تواجه أكبر الهزائم الاستراتيجية في تاريخها منذ نشأتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى