د. أحمد الحطاب - لماذا يحتاج المسلمون إلى فقهٍ جديدٍ؟

العقول النَّيِّرة والمُستنيرة لا تحتاج إلى ذكاءٍ خارقٍ للعادة لتُلاحِظَ أن ظروفَ الحياة، بمعناها الواسع، أي الحياة بجميع تجلِّياتِها، بمعنى الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، الحضارية، المعرفية، العلمية، الزراعية، الصناعية، الإنتاجية…، في عهد الرسول (ص) وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد الأموييين والعبَّاسيين، تختلف، تمام الاختلاف، عن الحياة، كذلك بمعناها الواسع، في عصرنا الحاضر.

قبل أن أدخلَ في تفاصيل هذه المقالة، أريد أن أُثيرَ الانتباهَ أن ما يسميه الإنسانُ "العِلم" la science مِلكٌ للبشرية جمعاء، أي ليس محصوراً على فئةٍ من الناس دون أخرى. لماذا؟ لأن العقلَ وهبه الله، سبحانه وتعالى، لجميع الناس بدون استثناء. وما وهب اللهُ، عزَّ وجلَّ، العقلَ لجميع الناس، إلا و وراءَ هذه الهِبَة غايةٌ من الغايات. والغايةُ الأساسية من هِبة العقل هي أن يكونَ بنو آدمَ واعين بوجودِهم وبمُكوِّنات الوسط الذي يعيشون فيه والذي هو الأرض. والوعيُ بمُكوِّنات وسط حياة بني آدمَ يتمُّ عن طريق تشغيل العقل، علماً أن اللهَ، سبحانه وتعالى، سخَّرَ جميعَ ما في السماوات والأرض للناس أجمعين. فكيف سيُشغِّل بنو آدمَ العقلَ للاستفادة من التَّسخير؟

تشغيلُ العقل يتمُّ عن طريق الملاحظة l'observation والتَّجربات المتكرِّرة expériences répétitives والوصف description والتَّنظير théorisation… وهذا هو ما سَعَت وتسعى إليه كل الحضارات البشرية، ماضياً وحاضراً. بمعنى أن كلَّ حضارة أنتجت رصيداً من المعارف الخاصة بها، أي أن كلَّ حضارة لها عِلمُها الخاص بها sa science particulière الذي يميِّزها عن الحضارات الأخرى. وهذا يعني أن كلَّ حضارة راكمت ما أُتِيحَ لها ما علمٍ، ليس فقط للتَّعرُّف على وسطَ عيشها، بل للتَّعرُّف، قدرَ المستطاع، على الكونَ برمته.

فما دامت الحضارات تتميَّز، الواحدة عن الأخرى، بما أنتجته من علمٍ، وما دام هذا العلمُ ينتقل من حضارةٍ إلى أخرى، فالعلمُ la science مِلكٌ للبشرية جمعاء، وليس لبلدٍ أو لمجموعة بلدانٍ، دون أخرى.

لكن ما تجب ملاحضتُه، هو أن كلَّ حضارة تُضيف إلى ما أنتجته الحضارات السابقة من علمٍ، علماً جديدا أو معارف علمية جديدة. بمعنى أن الحضارات، المتعاقبة على العيش فوق الأرض، تُغنِي الرصيدَ العلمي البشري. وهذا يعني أن الإنتاجَ العلمي سياقُ لا محدود (مستمر) un processus continu ما دام بنو آدمَ موجودين فوق سطح الأرض وما دام تشغيل العقول يتمُّ فيما ينفع البلادَ والعِبادَ.

كل ما سبق من توضيحات، وعلى رأسِها كون العلم ملكاً للبشرية، يجعلني أقول إن كل شيءٍ تغيَّرَ، منذ أن ظهر الإنسانُ على وجه الأرض إلى يومنا هذا. وإن لم يكن هذا التغييرُ تغييراً جذرياً، فإنه، على الأقل، تغييرٌ واضح للعيان. والسبب الرئيسي الذي أدَّى إلى هذا التِّغيير، هو التَّقدُّم والتَّطوُّر اللذان عرفتهما العقول البشرية في مختلف مجالات الإنتاج الفكري والعلمي انطلاقا، بالنسبة لعصرنا الحاضر، من القرن الثامن عشر حيث انتقلت المجتمعات الغربية، على الخصوص، والتي هي جزءٌ لا يتجزَّأُ من البشرية، من مجتمعات زراعية sociétés agraires إلى مجتمعات صناعية.

وعلى سبيل المثال، الطِّبُّ الذي كان سائدا في الحضارات الصينية، الفارسية، اليونانية، الرومانية، الإسلامية… ليس هو الطبُّ الحديث. هذا الأخير عرف تطوُّراتٍ خيالية من حيث تشخيص الأمراض وعلاجها والوقاية منها.

و وسائل النقل التي كانت سائدةً في الحضارات القديمة، ليست هي وسائل النقل الحديثة التي قصَّرت المسافات والوقت وجعلت من أبعد نقطة على وجه الأرض في متناول كل مَن يرغب في الذهاب إليها. فالرِّحَلات التي كانت، في الماضي تستغرق أياما عديدة وربما أسابيعَ وشهوراً… أصبحت على مرمى حجرٍ.

فهل يُعقل أن تتغيِّرَ أمورُ الدنيا الحالية، رأساً على عقِبٍ، بينما بقي ويبقى الفقهُ الذي ينظِّم حياةَ المسلمين من حيث العبادات والمُعاملات، مرتبطاً بماضٍ سحيق؟ فما هو الفِقهُ وكيف ينظِّم حياةَ المسلمين؟

الفقهُ هو الفهمُ. فهمُ ماذا؟ فهمُ أمور الدنيا ومحاولة إخضاعها لما يتطلَّبُه الدين. وعندما أقول إن الفقهَ ينظِّم حياة الناس الدنيوية، فالمقصود هو إنتاج أحكامٍ شرعية تتوافق مع أمور الدنيا، كما يعيشها الناس في حياتهم اليومية. والحياة اليومية التي عاشها المسلمون في عهد الرسول (ص) وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد الأمويين والعباسيين… ليست هي الحياةُ اليومية المعاصرة. فقد تغيَّرت، كما سبق الذكر تغييراً جذريا.

غير أن الفقهَ الذي ينظِّم حباةَ الناس، عبادةً ومعاملاتٍ، بقي على حاله كما أنتجه الأولون، بمعنى أنه لم يتكيَّف مع ما استجدَّ من ظروفٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ. بقي على حاله وكأنه صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ. بل إن علماءَ وفقهاءَ الدين لم يكلِّفوا أنفسَهم عناءَ الاجتهاد والإبداع في إنتاج أحكامٍ شرعيةٍ تستجيب لِما استجدَّ في المجتمعات الإسلامية.

والمجتمعات الإسلامية، بل البلدان الإسلامية، كلُّها، بدون استثناء، وحتى تلك التي تدَّعي أنها تُطبِّق الشريعة الإسلامية، طبَّعت مع/وطبَّقت على أرض الواقع ما حصلَ من تقدُّم وتطوُّرٍ في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا، اجتماعيا واقتصاديا، إن لم نقل، كذلك، ثقافيا. فجل البلدان الإسلامية قوانينها مدنية، أي مُستمدَّة من الواقع المعاش وليس من الشريعة. وجل البلدان الإسلامية تعترف في دساتيرها بحقوق الإنسان، علماً أن هذه الحقوق تتماشى مع ما حصل من تقدُّمٍ في مختلف مجالات الإنتاج الفكري من فلسفة وعلم الاجتماع، وعلم النفس…، وبصفة عامة، تتماشى مع ما حصل من تقدُّمٍ في العلوم الإنسانية sciences humaines، وكذلك، في العلوم التَّطبيقية sciences appliquées من رياضيات وفيزياء وكيمياء وبيولوجيا وطب وصيدلية وصناعة والمعلوميات والذكاء الاصطناعي…
فهل علماء وفقهاء الدين، الحاليون، سيحكمون على هذا هذين التقدم والتطوُّر الحاصلين في حياة المسلمين بفقهٍ تجاوزه الزمان؟

وهل علماءُ وفقهاءُ الدين، الحاليون، عاجزون عن الاجتهاد لتكييف فِقههم مع مُتطلَّبات العصر الحديث، علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، وهب العقلَ لجميع الناس ليُحسنوا استعمالَه لصالح البلاد والعباد؟

وهل علماءُ وفقهاءُ الدين، الحاليون، سيحكمون على الأمور الدنيوية الحديثة والتي لم تكن موجودة لا في عهد الرسول(ص) ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهد البخاري ولا في عهد الأئمة الأربعة ولا في عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، بفقهٍ أكل عليه الدَّهر وشرب؟

مثلا، هل سيستمرُّ علماءُ وفقهاءُ الدين في النظر إلى المرأة كناقصةِ عقلٍ ودينٍ، والحالُ أن وضعيتَها الاجتماعية تغيَّرت، رأسا على عقبٍ؟

وهل سينظر علماءُ وفقهاءُ الدين، الحاليون، للأبناك التي لم تكن موجودة لا في عهد الرسول (ص) ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهد البخاري ومَن عاصره من الفقهاء، بنظرة ماضوية متجاوزة، علما أن الابناكَ تلعب دورا حيويا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، من خلال تمويل المشاريع التي تعود بالنفع على البلاد والعباد؟

وهل سيستمر علماء وفقهاءُ الدين، الحاليون، في تحريم ما لم يُحرِّمه الله، سبحانه وتعالى، كالموسيقى، علما أن كلَّ البلدان الإسلامية اشتهرت بفني الموسيقى والغناء، علما أن هذه البلدان جعلت من الموسيقى ثقافةً تساهم في التنمية البشرية وفي خلق الثروة؟

وهل سيستمر علماء وفقهاءُ الدين، الحاليون، في تحريم ما لم يُحرِّمه الله، سبحانه وتعالى، كالتَّصوير، علما أن هذا الأخير أصبح واحدا من ركائز التواصل بين الناس و واحدا من ركائز العمل الإداري والاجتماعي والاقتصادي…؟

وهل سيستمر علماءُ وفقهاء الدين، الحاليون، وخصوصا المتطرِّفون منهم، في تحريم ما أنتجه الغرب من علمٍ وتكنولوجيا، بحجة أن أهلَ هذا الغرب كلهم كُفَّارٌ، وبالتالي، أن علومَهم وتكنولوجياتِهم، هي الأخرى، كافرة؟

وهل سيستمر علماءُ وفقهاءُ الدين، الحاليون، وخصوصا المتطرفون منهم، في نِفاقِهم، كونهم يتبنَّون كل ما أنتجه الغرب من تكنولوجيات في حياتهم اليومية، بينما يوصون الآخرين بعدم استعمالها؟ واللائحة طويلة.

ما أختم به هذه المقالة، هو أن الفقهَ الأسلامي منذ صدور الصحاح، وخصوصا، منذ صدور الصحيحين للبخاري ومسلم، ومنذ إنشاء المذاهب الأربعة لمالكٍ والشافعي وابن حنبل والحنفي، جمد جمودا لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ البشرية. فكم من تغييرات طرأت على حياة البشر المسلمين منذ وفاة الرسول (ص)، أي بعد مرور أكثر من 14 قرنا من الزمان، والفقه الإسلامي أصابه جمودٌ ما بعده جمود. وكأن المجتمعات أو البلدان الإسلامية، هي نفسُها جامدة. والحال أنها تتحرَّك وتتغيَّر باستمرارٍ، لكن في تناقض صارخ بين ما يظنه علماءُ وفقهاءُ الدين صوابا و واقع يتغيَّر يوما بعد يومٍ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى