عصري فياض - شمال القطاع... وخطة الجنرلات

منذ أن بدأ العدوان الوحشيّ على قطاع غزة في السابع من أكتوبر من العام 2023،رفعت حكومة الاحتلال الاسرائيلي الاهداف الاربع لهذه الحرب،والتي تتلخص فيما يلي:- هزيمة حماس هزيمة تامة،وإنهاء حكمها لقطاع غزة،وإعادة الاسرى او الرهائن،وإيجاد جسم فلسطيني يتعاون مع المحتل في ادارة شؤون القطاع،والإمساك بالملف الامني كضمانة لعدم تكرار أحداث السابع من اكتوبر.
هذه الاهداف،ورغم مرور أكثر من عام على هذه الحرب المجنونة،وما اشتملت عليه من تدمير وقتل وتشريد وتغيير لمعظم معالم القطاع،لم يتحقق ايّ منها بشكل كامل على الاقل،فلا هزمت حماس،ولا انتهى حكمها،ولا عاد كل الرهائن والأسرى الاسرائليين،ولم تجد اسرائيل جسدا فلسطينيا يتعاون معها في ادارة القطاع،ولا نالت إسرائيل الامن المطلق لقواتها الغازية،ولا مستوطنيه،لتقدمه لمناطق جوار القطاع والمدن التجمعات الاسرائيلية القريبة من قطاع غزة،لذلك كان لابد من البحث عن وسائل وخطط أخرى لتحقيق تلك الاهداف،فوضع مجموعة من الجنرلات الاسرائيليين خطتهم القائمة على محاولة معالجة جزء من أزمة غزة المستعصية بان اتفقوا على وجوب افراغ منطقة شمال القطاع المكونة من محافظتي شمال القطاع والتي تشمل تجمعات:- بيت لاهيا وبيت حانون والعطاطرة والتوام ومخيم جباليا وجباليا البلد،ومحافظة مدينة غزة والتي تشمل المدينة الكبرى في القطاع وأحيائها ومخيماتها القريبة منها مثل مخيم الشاطئ حتى ممر نتساريم الذي اوجدته سلطات الاحتلال كممر قاطع لمحافظات شمال القطاع عن باقي محافظات الوسط والجنوب،والذي تم توسيعه مؤخرا لبلع عرضه اربعة كيلومترات،بطول يصل الى عشرة كيلومتر.
وحتى يتم تنفيذ هذه الخطة بنجاح،كان لابد من تجزئة هذه الخطة تنفيذا لمرحلتين،الاول المنطقة الشمالية منها والتي تضم محافظة شمال قطاع غزة،والتي تضم ربع مليون نسمة تقريبا،فحصل التوغل نحو هذه المنطقة للمرة الرابعة خلال الحرب من جهتين الاولى شرقا وصولا لجنوب غرب مخيم جباليا المنطقة الاكثر ازدحاما في هذه المنطقة،ومن جهة الغرب وصولا لمنطقة التوام لإيجاد حصار فكي كماشة على مخيم جباليا النواة الصلبة في تلك المنطقة،كما شرعت قوات الاحتلال بالقصف والتدمير الواسع والعنيف ونسف المنازل والمربعات السكنية بطريقة ممنهجة من أجل إجبار السكان للرحيل صوب الجنوب موقعة لغاية الان ما يزيد على 700 شهيد وآلاف الجرحى والمصابين وعشرات الالف المشردين في رهان على ان هذا العنف وهذا البطش سيؤدي مع مرور الزمن لإخلاء تلك المناطق وتفريغها من سكانها،ومن ثم الانتقال للمرحلة الثانية وهي تفريغ سكان مدينة غزة وأحيائها ومخيماتها والدفع بكافة السكان للنزوح جنوب ممر نتساريم،والحصول على شمال قطاع غزة بمحافظتيه وتوابعهما فارغة تماما من السكان والمقاومين كهدف استراتيجي له ما بعده من استكمال في حال نجح ذلك المخطط.
لكن هذا المخطط،وما يجسده في حال نجاحه يعتبر حسب وجهة نظر الجنرالات الاسرائيلين تحقيق لبعض الاهداف السياسية والعسكرية للحرب،فإيجاد تلك المنطقة الخالية يحقق امن اكثر لمدن وتجمعات اسرائيلية مثل سديروت وعسقلان ومعسكرات ومستوطنات تقع في المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية للقطاع،وجعل تلك المنطقة منطقة حزام واسعة لحماية تلك التجمعات،وبالتالي اعادة رسم خارطة القطاع بما يتلائم مع الرغبات الاسرائيلية،والزج بمئات آلاف الغزّيين إلى منطقتي الوسط والجنوب مما سيؤدي إلى إكتظاظ هائل للسكان وازدحام كبير يصعب إدارته والسيطرة عليه بعدما تكون مساحة القطاع البالغة 365 كيلومتر مربع قد تقلصت الى الثلثين.وهذه السياسة ليست جديدة في عقلية اليمين الاسرائيلي المتطرف وخاصة حزب الليكود،ففكرة ما يسمى بالعرف العسكري الاسرائيلي " الحلق " استخدم في القطاع ومخيمات القطاع نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي ضد مخيمات وتجمعات القطاع بعد ظهور مجموعات فدائية مقاتلة كانت تشن الهجمات على قوات الاحتلال عندما كان ارئيل شارون قائدا للمنطقة الجنوبية،والتي استخدمت هذه السياسة في معركة مخيم جنين في عملية ما سماه الاحتلال عملية السور الواقي في نيسان من العام 2002.
هذه بالمختصر هي الاهداف السياسية والعسكرية،لكن الجنرالات يقصدون ايضا من تنفيذ هذه الخطط،تحقيق مصالح أخرى للاحتلال خاصة لجهة المصالح الاقتصادية،فمن المعروف أن ساحل شمال قطاع غزة المقابل للمنطقة المستهدفة يحوي حقل غاز مارينا 2 والذي يبعد عن الساحل حوالي 37 كم ويحوي ما يقارب مليار وثلاثماية مليون متر مكعب من الغاز،وإذا ما تم الاستيلاء عليه،وأضيف لمجموعة حقول اسرائيل في شرق المتوسط يصبح ثروة جديدة،ويسلب من القطاع وأهل القطاع والشعب الفلسطيني أحد اسباب نهضتهم الاقتصادية القادمة،وبالتالي يحقق للإسرائيليين أحد مقومات الابقاء على الحصار والخنق والتضييق،لإرغامهم على القبول بالتسويات التي يريدها.
أمر آخر في الجانب الاقتصادي وهو تنفيذ مشروع ما يسمى بقناة "بن غوريون" التي تخطط اسرائيل حفرها بشعبتين ( إحداها للسفن القادمة،والشعبة الثانية للسفن المغادرة ) بحيث تصل من البحر الابيض المتوسط إلى البحر الاحمر قرب خليج ايلات،هذه القناة ستنطلق من اقرب نقطة من البحر المتوسط جنوب عسقلان الى ايلات،ومنطقة شمال القطاع في حال افراغها ستكون الانسب والأقل تكلفة،وهذه القناة تنظر اليها اسرائيل كمشروع استراتيجي سينافس قناة السويس،ويسمح للسفن الغربية وغير الغربية للمرور بها ذهابا وإيابا بتكلفة ورسوم أقل من تكلفة ورسوم قناة السويس.
إن خطة الجنرلات هذه هي الخطة الاخطر حتى من الحرب نفسها،وستكون في حال نجاحها لا سمح الله الحدث الابرز في التغيير الديمغرافي منذ نكسة عام 1967،وسيترتب عليها ضم الجزء المُفَرَّغْ لدولة الاحتلال،والجعل منه منطقة عسكرية واقتصادية تكون جدار صد أمام أي خطر قد يهدد التجمعات الاستيطانية والعسكرية الاسرائلية في شمال القطاع وشمال شرق القطاع،وبالتالي إفشال هذه الخطة،وإسقاطها سيمثل أكبر ضربة لطموح الجنرلات الذي ولد في لحظة من جنون الانتقام الذي جاء بعد السابع من اكتوبر،والذي لا زال يتردد بشكل هستيريّ في عقول اصحاب القرار في اسرائيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى