د. أحمد الحطاب - الببغائية في التراث الديني الإسلامي

الببغاء يقلِّد الأصوات، الصادرة عن كائنات حية أو جامدة لكنه لا يفهم ما تعنيه هذه الأصوات. وبعبارة أخرى، الببغاء يقلِّد ما يسمعه من أصواتٍ وكلامٍ دون أن يفهمَ ما يُردِّده. من هذا المنطلق، أتت مةُ ببغائية psittacisme أي ترديد الأصوات والكلام من غير إدراك معاني هذه الأصوات وهذا الكلام.

الببغائية تنطبق على الناس الذين يُردِّدون الكلام الذي يسمعونه من ناسٍ آخرين، لكن دون أن يُكلِّفوا أنفسَهم عناءَ فهمه. بل من الناس مَن يحفظون، عن ظهر قلبٍ، كثيرا من الكلام، لكنهم لا يفهمون ما يحفظون عن ظهر قلب. هؤلاء الناس يُشبَّهون بالببغاء، ويُقال عنهم أنهم ببغائيون psittacistes.

والببغائيون ينقسمون إلى فئتين : فئة أولى تردِّد ولا تفهم. وفي هذه الفئة، يدخل عامة الناس الذين يعتمدون، في تسييرِ حياتِهم اليومية، على القيل والقال les commérages أو على الأحكام المُسبقة les préjugés أو على ما يتناقله هؤلاء العامة من معلومات عشوائية arbitraires…

أما الفئة الثانية، فإنها تُردِّد ما تفهم، لكنها لا تُكلِّف نفسَها عناءَ تشغيل العقل لإدراك ما تردِّده. بل إنها لا تُكلِّف نفسَها عناءَ تشغيل العقل لتطوير وتحسين ما تُردِّده. أو بعبارةٍ أخري، لا تكلِّف نفسَها عناءَ إبداعِ أو ابتكار كلامٍ جديدٍ يُضاف إلى الكلام المردَّد، علما أن الرَّصيدَ المعرفي البشري يتطوَّر، بصفة عامة، بتشغيل العقل وليس بالاكتفاءِ بترديد ما قاله السَّلَفُ بدون فائدة. والمقصود بالسلف، هم جماعةُ المسلمين الأوائل الذين عايشوا الرسول (ص)، أي الصحابة والتَّابعون لهم وتابعي التَّالعين.

في هذه الفئة الثانية، يندرج علماء وفقهاء الدين الذين يُردِّدون ما فهموه مما قاله السَّلفُ، لكن دون تشغيل عقولهم. وتشغيل العقول سيُحتِّم عليهم إما رفض ما قاله السلف أو إعادة النظر فيه لسببٍ من الأسباب. فلماذا لا يريد علماء وفقهاء الدين تشغيلَ عقولهم؟ لا يريدون تشغيلَ عقولِهم لأنهم :

-يعتبرون السلفَ سلفًاً "صالحا"، أي سلفٌا صائبا في كل ما أنتجه من معارف دينية، وبعبارة أخرى، يعتبرون الصحابة والتابعين لهم وتابعي التابعين، قُدوةً، من واجب كل مسلمٍ أن يسيرَ على خُطاهم، أي أن يقتديَ بهم، كقُدوات صالحة.

-يثقون ثقةً عمياء فيما قاله السلف الصالحُ، أي في الصحابة والتابعين لهم وتابعي التَّابعين، علما أنهم كلُّهم، علماءَ كانوا أو فقهاءَ، بشرَ يُصيبون ويُخطئون.

-يحترمون السلف الصالح إلى درجة تَقديسه وتقديس ما أنتجه من معارف دينية، وبالتالي، لا يجرؤون على رفض ما قاله هذا السلف أو إعادة النظر فيه، علما أن كثيرا مما قاله الأولون يُسيء للرسول (ص) ولأزواجه وللدين الإسلامي، بل للبشرية جمعاء…

-قد تكون لهم مصالحٌ شخصية أو جماعية يعضُّون عليها بالنواجد ولا يريدون ضياعَها على الإطلاق. من بين هذه المصالح، السيطرة على عقول الناس، من خلال تقديم الدين لهم بطريقة تخويفية وترهيبية، ومن خلال تقديم أنفسهم كصِلة وصلٍ بين الله، سبحانه، وبين هؤلاء الناس، وبالتالي، هم مَن يمسِكون مفتاحَ الطريقَ إلى الجنة أو إلى النار.

-لا يريدون رفضَ أو إعادةَ النظر فيما قاله السلف الصالح أو تكييف الإنتاج المعرفي الديني مع روح العصر، مخافةَ أن تضيعَ منهم مكانتُهم داخل المجتمع، كمرجع ديني أو كماسكين لمفاتيح الجنة والنار. شأنهم شأنَ الرهبان الذين كانوا يبيعون للناس صكوكَ الغفران actes d'absolution.

من حق علماء وفقهاء الدين أن يدافعوا عن مكانتهم الاجتماعية وعن رصيدهم المعرفي، شأنهم شأنَ جميع فئات المجتمع المُثقَّفة. هذا شيءٌ لا جدالَ فيه ولا يعارضه أحدٌ. لكن شريطةَ أن يتركوا الببغائية جانبا ويُشمِّروا على سواعِدهم ويدخلوا بابَ الاجتهاد الفقهي من بابه الواسع ليكونَ لهم إنتاجٌ فكري ومعرفي يساير العصرَ الحاضرَ.

وفي هذا الصدد، أريد أن أثيرَ الانتباهَ أن الاجتهاد في جميع مجالات الفكر والمعرفة، وبصفة خاصة في المجال الديني، يتطلَّب الخروجَ عن المُعتاد sortir des sentiers battus، أي الخروج من التَّرديد الببغائي. كما يتطلَّب أن يكونَ للشخصُ المجتهِدِ اطِّلاعٌ على مجالات المعرفة الأخرى، وبالأخص، ما أنتجته بعض العلوم الإنسانية التي تهتم بدراسة قضايا المجتمعات، كعلم الاجتماع sociologie وعلم النفس الاجتماعي psychologie sociale وعلم الإناسة anthropologie والتاريخ histoire والعلوم الاقتصادية…

وهذا يعني أن علماءَ وفقهاءَ الدين، المُطالَبين بالاجتهاد، من الضروري، بل من الإجباري، أن يكونوا على علم مما يجري داخل المجتمع من أحداثٍ وما تُثار فيه من قضايا لها علاقة بأمور الناس الدنيوية. وهو الشيءُ الذي سيُساعد كل عالمٍ أو فقيهٍ يُريد أن يجتهدَ على التوفيق بين ما هو دنيوي وما هو ديني.

وكل عالمٍ أو فقيهٍ يريد أن يجتهدَ، سيطرح على نفسه عدةَ أسئلة، أذكرُ من بينها ما يلي :

1.لماذا لم يتجدَّد الفقه الإسلامي ليتلاءمَ مع ما يطرأ من تغييرات في المجتمع؟

2.ما هي أهمُّ عوائق هذا التجديد؟

3.كيف يمكن تجاوزُها بالاجتهاد؟

4. كيف يمكن التّخلُّصُ من كل ما يتنافى، في الفقه القديم، مع العقل والقرآن الكريم؟

5.كيف يمكن التَّخلُّصُ، في الفقه القديم، من كل ما يسيء للإسلام والرسول (ص) والمجتمعات الإسلامية؟

6.وبصفة عامة، كيف يمكن التَّوفيق بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية لصالح البلاد والعباد؟

7.وبصفة خاصة، كيف يمكن أن يُساهمَ الفقهُ في التنمية بجميع تجلِّياتِها، سواءً البشرية منها أو الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية؟

علما أن الدينَ، كما أراده اللهُ، سبحانه وتعالى، هو وسيلةٌ لإسعاد البشر في الدنيا قبل الآخرة. اقرأوا القرآنَ، من الدَّفة إلى الدًّفة، وستلاحظون أن اللهَ يريد الخيرَ للبلاد والعباد.

خارج الاستجابة لكل التساؤلات، المُشار إليها أعلاه، قد تبقى الببغائية هي السائدة، وستبقى دارُ لقمان على حالها، وستبقى العقولُ مهمَّشةً… وسيبقى الفقهُ عائقا من العوائق الفكرية المُناهضة للتَّنوير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى