سفر: حيلة السلطان
قطار الدرجة الثانية العادية، بل في الحقيقة ممّا دون دونها حتى الدرجة العشرين إن وُجدت، كان ينطلق فيه الباعة الجائلون من كل لون وطائفة، كما أنّ القطار كان ممتلئًا عن آخره أكوامًا من اللحم ملتصقة، أكثر من ذلك كان هناك الراكبون في أعلى حيث أرفف الحقائب.. بعضهم مجند عائد من بعيد غير معلوم غالَب النومُ عينيه.. نشّالون ولصوص بالإكراه.. طالبات يستسلمن رغمًا عنهن للتحرش؛ فما باليد حيلة، وإلا سيكون هناك معارك ودماء.. نساء يحملن مشنّات الجُبن البلدي الفارغة وبقايا الفطير تفوح منها رائحة السمن البلدي المخلوط بالسمن النباتي، أقفاص الخضرة (الجرجير والبقدونس والشبت والفجل).. إنهم عائدون بعد أن أفرغوا الشحنة في الإسكندرية.. تسمع الدنيا كلها بوقائعها من كل نوع وترى الحياة في كل ألوانها تتحرك أمامك في مشهد سينمائي دون مخرج يرتب الأدوار وينظم العمل.
الصورة التي تبدو عشوائية تحكي بدقة عن تفاصيل عالم حقيقي وتعبر بإتقان لا يوصف عن فوضى وهمجية تشكلت عبر عقود من الزمان تؤمن باستحالة التخلص منها ولو في الأحلام.. قصص متحركة تنطق بالواقع أو ينطق بها الواقع، المهم أن وراء كل واحد حكاية وكل حكاية تصلح أن تكون رواية تضم عشرات الأشخاص ومئات التفاصيل جميعها يمكن أن يكون له عنوان اسمه «المعاناة».. الفقراء عنوان الحقيقة.. القطار به الحب، الكراهية، الحقد، اللصوص، المتدينون، هناك كل شيء عن «العالم اللي تحت»، لا يوجد عن العالم اللي فوق أيّ تفاصيل أو ملامح.. رحلة تمامًا كأنها رحلة الحياة.. البشر في القطار كأنهم في الأرض، في بيوتهم، ومَحالّ أعمالهم.. أحدهم يسب الدين، يلعن من يقف في طريقه: «وسَّع يا عم خلينا نشوف حالنا، حنلاقيها منكم ولا من الحكومة؟».. شعرت بالخوف والرهبة، ما لي أنا وهذا المجتمع، كنت أركب هذه القطارات وأنا طالب، كبرت وأصبحت أركب قطار الدرجة الأولى الفاخرة، ولكن من حين إلى آخر يبدو أن على الإنسان أن يرجع مرة أخرى إلى الدرجة الثانية -وربما الثالثة- ليتذكر حياته وأنه لم يبلغ بعد ما يصبو إليه أو أنه عُرضة لأن يرجع للخلف.
الحقيقة أنني كنت منسجمًا ولو قليلاً، فأنا أعتقد أنه لا شيء يَكمُل وأنه لا حلوَ يستمر ولا مُرَّ يبقى في الحلق.. كل شيء إلى تغير.. لماذا يطاردني هذا الإحساس، حتى وأنا في أسعد اللحظات أتذكّر ما ينكد عليّ حتى وأنا في قمة النشوة؟ شيء من بعيد يهتف في لحظة وتنطفئ هذه النشوة ويصبح كل شيء فراغًا ومكبلاً بالحزن مغلفًا بالأسى.. لم أتبيّن من أين جاء، وأرى ذات الوجه القبيح، كانت بداية عهدي به عند سن البلوغ والإدراك والإحساس بما حولي، لا أذكر تحديدًا لِمَ لا يكون قبسًا من الحياة المبهمة التي أحياها.. آمالي التي لم أحققها.. كان يطاردني في كل مكان، وأنا في البيت، في الشارع، في الدراسة، حتى حينما أتعرى في الحمّام.
حِرتُ وحار من يعرفني لكني أدرك بفطرتي أنه ليس جنًّا.. ربما يكون قريني يريد أن يتحاور معي، لكنه قرين سيئ، ربما الوجه الآخر لي، بقايا حقد في النفس يعلم الله أنني لا أُكنّه لأحد.. كل نفس بما كسبت رهينة.. هل هو من صخب المدينة، من وجع الحياة.. من أين جاء، وهل سيأتي اليوم الذي أستطيع فيه أن أتخلص منه؟
أكثر من ثلاثين عامًا وهو يصاحبني يتربص بي لا أستطيع أن أمسك به ولا هو يمسك بي، فقط يتتبعني كظلي وألتفت حولي فلا أجده.
حتى في القطار الفاخر تمامًا كقطار الدرجة الثالثة كان معي، يراقبني، يتابعني، يعيش ذات الحكايات ذات التفاصيل، وإن كانت قصص القطارات بنوعيها واقعية تختلف كثيرًا وكثيرًا عن قصص عم مبارك أبوحشيش.. قصص عم مبارك تسبح في بحر من خيال أو من وهم لكنها تؤكد لك قيمة أو فضيلة لم نكن ندركها بسهولة، كان يتولى إيضاحها لنا.. إنه كتالوج أو دليل لرواياته يعلق عليها في ختامها أو بين أحداثها، لم يكن أبطالها حقيقيين، كنا فقط نحتاج إلى أن تكون نهايتها أو العبرة منها تمشي على أرض الواقع، تعيش بيننا.
أمّا عمي مبارك نفسه فقد كان حكاية من حكايات الزمن الجميل، كان رجلاً شديد الطول وأحسب أنه عريض جدًّا، أسمر اللون، عيونه كالصقر، له لحية بيضاء خفيفة.. يجيد فتل الحبال ويصنع منها ترويسة للجاموسة والبقرة وفِرْقِلَّة لضرب البهائم من الخلف لتسرع في الكبّاس أو الساقية كما يطلق عليه غالبية أهل مصر عدا قريتنا، له مداس غريب (حذاء بلغة الأفندية)، وبلغة بتعبير بعض الفلاحين يكاد جلد المداس يكون مجمدًا كالصخر يُنبئ عن مشقة الرحلة، وخشونة الطريق الذي سلكه الرجل في حياته، مقاسه يتجاوز الستين لا يمكن أن تُخطئه إن رأيته خارج المسجد أو على باب دار من دور القرية؛ كعادتنا نخلع الأحذية حتى لا ندنس حصير البيوت.. قدمه كبيرة ويصعب أن يحتويها حذاء جاهز، وفي الشتاء يلف نفسه بشيء أقرب إلى البطانية ليس شالاً من صوف وإنّما يسمونه «حِرام» لم أرَ مثله أبدًا، رأيته يدس نفسه فيه، كان يصطاد الفئران من الحقول ويسلخها بعد ذبحها ويشويها على النار.. سمعت ذلك، لم أرَه بنفسي، يرى أنها أرانب برية، أكاد أتقيأ حين أسمع ذلك، اعتاد على ذلك في ليالي السهر أمام الساقية ينتظر الفئران وهي تخرج هربًا من الماء وهو يغزو شقوق الأرض البور، كان يحتفظ في تلك الليالي تحت فرشته بـ«فَرْد» يدوي الصُّنع كنت أهاب منظره، تفنن في صناعته حاول أن يمسك بيدي لأطلق منه عيار خرطوش ففررت ولم تتوقف ساقاي إلا على وسادتي وأنا في غاية الرعب، كنت طفلاً صغيرًا وأكيد أنه كان يداعبني لكني لم أتنبه لهذا في ذلك الحين.
كان بيقين واحد من أفراد أسرتنا ربطته بنا رابطة الإخلاص والوفاء أحيانًا ما تكون أقوى من رابطة الدم.. حين يسافر أبي لزيارة عمتي بالإسكندرية ينام في شكمة البيت، توارثنا هذه التسمية لبلكونة البيت دون أهل القرية، في عز البرد يرفض أن ينام في الصالة الواسعة رغم أن أمي من سن أولاده تقريبًا، حملها طفلة صغيرة وحضر زفاف والدتها، لا يغادر الشكمة إلا مع تباشير الصباح، اعتاد أن يعبر الترعة سباحة في شهر طوبة وفي عز الصقيع، لم يشغلني ذلك أكثر مما شغلتني السلّامية التي يضرب بها، ناي محلي الصنع، حينما يسقي الزرع ليلاً تسمعه من على بُعد نغمات حادة لكنها جاذبة تحكي حكايات لم نعرف تفاصيلها، بعضها يبشر بالفرح، بالبهجة ثم تنقلب إلى لغة البكاء والأنين لم يكن لديه نوتة موسيقية وإنّما فطرة سويّة تخرج من قلبه من مشاعره تتجه مباشرة نحو فمه فينفخ بها في السِّلّامية التي صنعها بنفسه.. قلدته كثيرًا، أحضرت البوص، أيّ الغاب، سخنت سيخًا من حديد وصنعت فتحات في البوص لكني لم أتقن صناعتها ولا العزف ولم تنجح التجربة بالقدر الذي أستطيع به أن أنافسه أو أستعيد ذاكرة النغم وتفاصيل الألحان، يكفيني شرف المحاولة.
أمّا أجمل ما فيه فكان حينما ينقطع النور، نلتف حول اللمبة الجاز ثم في وقت لاحق الكلوب ونترك المذاكرة ونتناسى عمل الواجبات المدرسية بحجة انقطاع الكهرباء ويشرع في حكي قصصه الغريبة ونحن نقتسم الفول السوداني أو اللب الأسمر أو لب البطيخ الذي أعدته أمي جمعته من عدة أكلات للبطيخ وسوّته بمهارتها الفائقة، طعمه أكثر من رائع اختفى من حياتي مثل أشياء كثيرة.. الآن أستطعم الذرة الصيني المحمص وأحيانًا يقولون إنه إسباني.. يحكي عم مبارك قصصه، رواياته، تاريخه المفعم بالأحداث، بعضها حدث بالفعل وبعضها من نسج الخيال.. حكى لي كيف اشترك مع جدي عبدالحميد (عم والدي) في ثورة 19، قال إنه احتفظ لنفسه بعمود تليفون خشبي بعد قطعهم أسلاك التليفونات وفك قضبان السكة الحديد المجاورة لقريتنا، خط المناشي، حتى لا يمر عساكر الإنجليز، احتفظ بالعمود الخشبي، قال عزمت أن أصنع منه قنطرة نمر عليها فوق الترعة الصغيرة ثم بعد حين جعله في سقف زريبة المواشي.. وحينما قال الإنجليز إن من سيجدون لديه أيًّا من مخلفات الثورة سيحاكم، حمل العمود الخشبي أمامه على حماره وسار بعيدًا وألقاه في الترعة الكبيرة التي تسكن على جانب منها قريتنا، أما بقية القصص التي كانت من الخيال فلم أدرِ من أين أتى بها، يرويها بأسلوب لم أرَ أروع منه، يقف عند بعض العبارات، ويتنهد عند البعض الآخر، يعلي نبرة صوته في أحيان ويخفضها في أحيان أخرى، يصمت هنيهة ويُكمل، سيناريو يفوق ما يكتبه كبار الأدباء، القصص تدور حكاياتها حول العدل والحرية والإخلاص وانتصار الخير على الشر، وانتصار المظلوم بعد معاناه ومكابدة؛ تأكدت منذ الطفولة، ولحكايات عمي مبارك، أن لكل ظالم نهاية، وأن الحق غالب على أمره، وأن الكرامة أهم من المال، والأمانة أكبر كنز يمكن أن يقتنيه الإنسان، والقناعة تجعل رأس الفقير برأس الأمير.
يسترسل في حكاياته حتى يعود النور فنهلل، وإن كنا نحزن لعودتنا إلى الكتاب ومفارقتنا لأقاصيص عمي مبارك حيث يصر ألّا يُكمل إلا في يوم آخر ينقطع فيه النور. يبدو أن وحي القصص لا يأتي إليه إلّا في شعائرية الظلام، الحقيقة إنني حتى الآن كثيرًا ما أسعد إذا انطفأ النور، أحببت أن ينطفئ النور، أشعر بسعادة خفية كأنني استعدت شيئًا مفقودًا مني.. سكون أبحث عنه لا أجده في صخب الحياة.. رجعت إلى طفولتي أشعر بسكينة وراحة بينما أرى في الضوء صخبًا لا يقل عن زحام السيارات واصطدام البشر على محطات القطار أو مترو الأنفاق وتكدسهم كعلبة سردين نافقة في أوتوبيسات هيئة نقل الركاب، لم أنسَ حكاية الرجل الصالح الذي ترك ولده وخرج وكان معه كل ثروته ليتاجر فيها وكانت عبارة عن خاتم من الألماس عزم أن يبيعه، داهمه اللصوص، ألقى بالخاتم في البحر، قُتِل الرجل ولم يعد.. مرت السنون، افتقر ابنه، باعت زوجته البيت، أحب الولد ابنة الملك، عمل صيادًا فقيرًا، قالوا إن ابنة الملك مريضة بسبب سحر أعده عمها الذي يرغب في ميراث أبيها وتزويجها لابنه الفاشل، حار الأطباء في أمرها، اكتشف الملك أن ساحرًا شريرًا أعد لها عملاً وأن أخاه قتل الساحر حتى لا يفك السحر، أو يخبر الملك، وألقى بالساحر في البحر مع العمل الذي أعده.. عثروا على جثة الساحر ولم يعثروا على العمل.. الغريب أن الشاب اصطاد سمكة غريبة وعجيبة وحين ذهب لأمه لتشويها له ويأكلا منها وجد بها العمل، والأغرب أنه وجد بها خاتم والده، ذهب إلى الملك فرحًا، سعادة الملك لا توصف فزوّجه ابنته وقدم الشاب لها الخاتم والثروة الثمينة هدية للخطوبة ومهرًا للزواج بها.. «انتصر الخير على الشر»، يقولها عمي مبارك وهو يتنهد كأنه أزاح الشر من الوجود بعد معاناة.
مات عمي مبارك عن عمر يناهز التسعين وكان يفخر بأنه يستطيع أن يوقع باسمه، أمّا أنا فندمت على أنني لم أسجل تاريخ عائلتي وقريتي على لسانه، كان شاهدًا على عصور كثيرة لا على عصر واحد، لا سيما أن والده (أبوحشيش) عاصر عبدالحميد بك الكبير عم جدي، وشاهد زيارة الخديو لقريتنا، وسافر مع عبدالحميد بك الكبير مرات ومرات للمحروسة وشاهدها بعينه بل كان معروفًا بشخصه ونوادره المضحكة للزعيم مصطفى كامل ومحمد فريد حتى قيل إنه اشترط على عبدالحميد بك الكبير أن يحجز له في فندق الكونتننتال غرفة مثله تمامًا وأن يحلق لدى الحلاق الخواجة الذي يحلق لعبدالحميد بك وإلا سيعايره ببخله أمام الزعيم مصطفى كامل، أحدث لعبدالحميد بك مواقف محرجة وأخرى طريفة.
أمّا أعظم قصص عمي مبارك فلم أفهم معناها إلا بعد قرابة العشرين عامًا، ولمّا أعرف أنها قصة كل العصور، قصة كل الأزمنة، قصة كل الأمكنة.. الآن أتمنى أن أصنع منها رواية، أسطورة خالدة، وإن كنت لا أدري إن كان يدرك معناها، أكيد توارثها عن أبيه أو عن عبدالحميد بك، المهم أنها وصلت إلينا منه، في ليلة اجتمعنا فيها حول الطبلية الخشبية التي كنا نلتف حولها بدلاً من المكتب في ليالي الشتاء وانقطاع النور فنتجمع أنا وإخوتي حولها للمذاكرة أو ليحكي حكاياته..
حكى أن ملكًا ظالمًا أراد أن يعلم ابنه كيف يحكم شعبه كيفما شاء وأن يفعل بهم ما يشاء بعد أن تولى الحكم، ففكر في حيلة.. نادى المنادى فى الشعب أن كل من يريد يحضر بَقَرَته إلى حظيرة القصر ليطعمها الملك ثلاثة أيام بأعشاب أحضرها خصيصًا حبًّا في شعبه، وأن لديه دواءً سحريًّا وطعامًا يجعلها تنمو ويزداد لبنها، فذهب الجميع ببقراتهم، وصدق البعض من الطيبين ، وصدق اخرون طمعا فى اعشاب وأدوية الملك ، وبقيت قلة محدودة جدا لشكها فى نوايا الملك، وبعد ثلاثة أيام نادى المنادي ليأخذ كل صاحب بقرة بقرته. وبالفعل حضر الجميع ومد كل منهم يده على بقرة صاحبه طالما وجدها أفضل من بقرته، وتشاحن الناس وتدَخَّل الحرس فاحتفظ كل منهم بالبقرة التي استولى عليها وإن لم تكن بقرته، كل ذلك والملك في الشرفة ووزيره وابنه والملكة يضحكون ولا يعرفون ما ينوي أن يفعله الملك، وبعد أن تدخل الحرس قال لهم الملك اذهبوا ولتعلموا أنني شريككم في هذا البقر فلا أحد يستطيع التصرف في بقرته أو في لبنها قبل الرجوع إليّ، ولم يستطِع أحد أن يعارضه، فلا أحد يمسك ببقرته، كما أنّ الملك أطعم البقر ولو طعامًا يسيرًا، ونظر إلى ابنه وقال له «الآن أستطيع أن أترك لك الحكم ولتفعل بهم ما تشاء مهما فعلت بهم لن يتكلم أحد بعد أن أخذ كل منهم بقرة صاحبه، بل وأصبحت شريكًا لهم.. اترك البقر، وكل من عارضك، اطلب نصيبك في بقرته واتهمه بسرقة بقرة غيره.. إذا أردت أن تحكم شعبًا فاجعله يسرق بعضه البعض»..
أمّا نصيحته لنا فكانت أبسط من القصة بكثير، قال «إن الطمع سكته الخسارة وإنه كان الأحسن لهم أن يحمدوا ربنا على ما هم فيه ولا يسمعوا كلام الملك»، لم يتطرق إلى أن الطمع والفساد والسرقة نهايتها الدكتاتورية، أكيد لم يكن عمى مبارك يعرف (الدكتاتورية) ولا بنت عمها اللدودة (الديمقراطية)..
توتة توتة.. خلصت الحدوتة.