مقتطف د. محمد عبدالفتاح عمار - السفر الثانى من رواية اسفار الوطن والجراح ( سفر ارض المحن والصمود )

يقولون «قطار الحياة»، لكن الحقيقة التي أدركتها أن القطار نفسه حياة، أيًّا كان القطار سواء أكان قطار الدرجة الأولى الفاخرة أو قطار الفقراء قطار الدرجة الثالثة الذي هو في حقيقته قطار ما دون الدرجة العشرين​
القطار حياة كاملة بتفاصيلها الدقيقة وعناوينها العريضة، وتقاطعاتها الحادة، وتناقضاتها الغريبة، وتوافقها العجيب أحيانًا.. أحيانًا تعطي أكثر مما تأخذ إن أقبلت، فإن أدبرت أخذت أكثر مما أعطت، وربما لا تعطي وهناك بين بين، أحوالها غريبة وأحداثها عجيبة ترى الذليل يُعَز والعزيز يُذَل، وغني يفتقر وفقير يغتني.. يقولون «إن بقاء الحال من المحال».
كنت على وشك أن يفوتني القطار، ابني يجري مسرعًا بالسيارة في محاولة لإيصالي لألحق بالقطار.. على آخر لحظة لحقته وهو يتحرك ببطء يشرع ناصيته للرحيل، إنها رحلة أو ترحال من حال إلى حال.
قصدت هذه الزيارة.. لبَّيْت دعوة الشيخ فتحي قارئ القرآن الشهير.. ربما يتغير الحال، أنزع عني لباس الأرق، ثياب الغربة.. الخوف من مجهول.. الترقب لقادم.. النظر بحسرة لماضٍ جميل.. النظرة بأسى لحاضر مؤلم.. المستقبل في يد رب السماء.. لكنه صناعة البشر بمن كان صغيرًا منهم ومن كبر.. هوِّن يا لطيف.. سافر ففي الأسفار آلاف الفوائد.
الحياة كلها كراكيب، شد وجذب، الجميع في توتر، هموم تبدأ من الشخصي وتنتهي إلى العام، تبدأ من نقطة البداية تشعر أنك قادم إلى الدنيا خالي الوفاض من الهموم، تصغي لهموم الناس يتضاءل همك أو تتناساه للحظة لتشعر بسعادة واهمة واطمئنان كاذب، وراءك النكد يطاردك العناء، خلق الإنسان من كبد.. بين الخاص والعام ألف هم وهم مكللة بالغم.. مطرزة أحيانًا بالشقاء وأحيانًا يحدوها الأمل فترى الدنيا جميلة ضاحكة مستبشرة وهي في الأصل وجهها عبوس وحالها قمطرير.. فاصبر لحكم ربك ولا تبدِ أسى أو نفورًا.
كنت أشعر أنه يرقبني من بعيد، أحيانًا أحس أنه قريني الذي يقولون عنه، يعيش في عالم الأرواح أو ضميري المعذب لكني لم أرتكب إلا اللمم، كسائر البشر إلا الأنبياء والمرسلين، وأُتبعه باستغفار للغفور الرحيم، لم أرتكب أيّ خطيئة والحمد لله ربما زلة لسان، تأخير للصلاة، ربما نظرة لامرأة جميلة بعين رجل يمسك بأهداب الشعر.. عشق الجمال قدر مكتوب لا مفر منه.. ينظر إليّ بملامحه الباهتة ، يحدق فيّ من بعيد حتى في القطار؟ هل هو الخوف، هل هو الغربة، هل هو شعور بذنب لم أرتكبه أو أخشى أن أكون ارتكبته.. هل هو وهم، هل الموت الذي يطاردني لا أدري سنوات طويلة يمشي خلفي ألتفت لا أجد إلا خياله.. طيف منه.. لا أتبين ملامحه حتى حينما أحدق فيه بعدها تختفي الملامح من ذاكرتي تُمحى من مخيلتي تمامًا لكن يبقى السؤال ، من هو لا أدري.
أحيانًا أشعر أنه جِنّي يلبسني كما يقولون.. قرأ عليّ أكثر من شيخ وأكثر من صديق القرآن والتسابيح وأدعية فك السحر.. شربت ماءً بالقرآن الكريم وتبخرت ببخور قيل إنه يذهب الوهم والهم والنحس والضيق والقلق ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما زال موجودًا معي من حولي أنا لا أدرك متى ظهر لي تقريبًا منذ أصبحت بالغًا مسئولاً عن تصرفاتي عن أعمالي، ربما حينما سلكت سلك القضاء ربما يكون أحدًا لم أجتهد لينال حقه.. هل هو النفس اللوّامة هل هو الحياة تجمعت كل مكائدها، ضيقها، غضبها، سخطها عليّ.. أنا لا أستلذ بأيّ شيء إلا حينما أكون بقرب الله ربما قبلت دعوة الشيخ فتحي صديقي لذلك السبب.. يقسم لي أن «الترابي» له بركاته سوف يذهب كل هم يشغلني.. سوف ينتهي كل ضيق يكبس على نفسي، يضرب بأرجله رأسي لذا استسلمت وقلت لا بأس إنها رحلة وسنرى، لكني أشعر بارتياح على الأقل لأني سأسمع إنشادًا دينيًّا وقرآنًا كريمًا مجودًا وأنا عاشق للقرآن ولسماعه، أغلق لديّ كل حس بالموسيقى، هجرت الاستماع إلى الغناء.. مقامات الموسيقى في أداء القراء أبدع وأنصع وأقوى على جذب نفسي والإلقاء بي في دومة العشق الإلهي.. تفور المشاعر بكل أنواعها: حزن، فرح، أمل، يأس، رجاء.. لكني أطمئن.. {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
انطلق بنا القطار، كنت أركب الدرجة الأولى، بالطبع تختلف كثيرًا عن القطارات العادية التي يتكدس فيها البشر كعلب السردين والتونة المفتتة، ومن غرائب الأمور أن التونة المفتتة أرخص بكثير من التونة القطع، التونة المفتتة درجة ثانية، أما التونة القطع فهي دائمًا درجة أولى.. هل هي مصادفة من مصادفات الحياة؟
ربما.
آخر مرة ركبت قطار الدرجة الثانية الذي لا يختلف كثيرًا عن الدرجة الثالثة كانت منذ وقت قريب، يبدو أن الدرجة الثانية في عموم مصر اختفت من الوجود، إنها تكاد تنقرض ليس على مستوى القطارات ولكن على مستوى الحياة نفسها؛ لذلك أشعر دائمًا أن القطار أصدق تعبير عن الحياة.. الراكبون فيه هم نماذج حية لصنوف من البشر. كما توشك أن تختفي الطبقة المتوسطة ربما تختفي الدرجة الثانية يقول أهل العلم والأدب إذا تغيرت الأوضاع في القطار يصبح أصحاب الدرجة الثالثة في الدرجة الأولى والعكس ممكن.. أما الدرجة الثانية فهم هم لا يتغيرون ولا تتبدل أحوالهم إلا ما ندر.. لكن يجب إضافة ملحوظة أن الدرجة الثانية بدأت تتلاشى في الدرجة الثالثة أمّا القطار الفاخر فركاب الدرجة الثانية الفاخرة أيضًا يزحفون في اتجاه الدرجة الأولى ينطلقون لكسب المال المشروع وغير المشروع، أمّا من يتمسك بتقاليد الطبقة الوسطى فسوف ينزلق إلى الدرجة الثانية غير المكيفة ومنها إلى الدرجة الثالثة غير المأسوف عليها.. الأيام القادمة هي أيام اختفاء الدرجة الثانية لو استمر الحال على ما هو عليه.
خواطر لاحت في ذهني وأنا أقف على باب قطار الدرجة الثانية العادية أو ربما الثالثة، التي هي دون المائة، لم أعرف وخشيت من السؤال.. نظرة من حولي إلى البدلة التي أرتديها ورابطة العنق السمراء بخط أبيض رفيع كانت تنطق بعبارة واحدة «إيه جاب الشخص ده هنا؟.. ده شكله حكومة».
كنت مضطرًا لركوب قطار الدرجة الثانية لأمر ضروري على أن أذهب إلى دمنهور لحضور جنازة زوج شقيقة زميل لي، الفقيد من ضباط القوات المسلحة مات بعيدًا عن دفء زوجته وأحضان طفليه الصغيرين، مات في سيناء أرض الشهداء، مكتوب عليها أن ترتوي بدماء الشهداء منذ قديم الأزل، من الهكسوس القدامى، وحتى الهكسوس الجدد أدعياء الإسلام، مات بلا جريرة ولا طائل، حزنت عليه أجهزة الإعلام، برنامج المذيعة الشهيرة التي تحصل على أجر عن الحلقة يساوي مكافأة نهاية الخدمة والاستشهاد وفوقها مرتب سنة، بعد انتهاء الحلقة أكيد ستهنأ بشيشة بالتفاح في الكافيه الشهير في المهندسين.. هذا حقد ربما بين الحقد والنقد حرف واحد وألف ألف كلمة.. في هذا الزمن العدالة والبحث عنها يدخل تحت هذا الحرف، الأجر مقابل العمل يقع تحت هذا الحرف، قيمة العمل ورسالته أهم من عدد مشاهديه تحت هذا الحرف الفاصل بين كلمة نقد وحقد أيضًا توفير الدواء والعلاج واللحم، أيضًا يندرج تحت هذا الحرف الرحلة الطويلة نحو أرض العدالة الاجتماعية وشطآن الحرية بكل صنوفها والتعليم والصحة.. كل ما ستقوله إما أن يصنف على أنه نقد وإما على أنه حقد، المهم أين تقف أنت بحسب رؤيتك، كل طرف يرى بحسب حالته وتقريبًا لا يوجد درجة وسط، لا يوجد درجة ثانية، إما أن تكون تبع حرف الحاء أو تبع حرف النون.. ركام الكلام تزداد، أتربته، عفنه، لكنه يذهب أدراج الريح.. نون والقلم وما يسطرون ... فكر لتبصر ويبصرون .. لو داهنت كنت سعيدًا مع من يدهنون.
الشهيد، أمُّه كاد يكف بصرها أما زوجته التي كتب عليها الحرمان فقد لف قلبها وقفل بأقفال الوجع والآه المكتومة والصرخة العالية، وأولاده لا يدركون ما حولهم.. لن يعوضه معاش ستقف أمهم طويلاً أمام مكتب البريد في اليوم العاشر من كل شهر في طابور طويل يبدأ عقب صلاة الفجر ولا ينتهي بانتهاء مواعيد العمل الرسمية لتقبضه ولا مكافأة الاستشهاد ولا حتى إطلاق اسمه على مدرسة في قرية نائية لا تظهر بوضوح على خريطة جوجل، لن يعوضه شيء من ذلك ولو ذهب الأرض كله وأموالها، سيمضي الوقت سريعًا، حتى يدرك الصغار أن حلم العودة هو المستحيل بعينه، وبالتأكيد أيضًا لن تعوضهم عن غيابه الأبدي، ذهابه بلا عودة، تلك الكلمات الرقيقة الناعمة المطرزة ربما بدموع مصطنعة لتلتقطها كاميرات البرامج الفضائية ومواقع النشر الإلكتروني للسيد مدير الأمن والسيد المحافظ، سيتضاءل كل شيء حتى الوعود التي سيطلقها هؤلاء الأكابر عن رعاية أسرة الشهيد وتلبية حاجتهم.. ستتطاير الكلمات، ستتبخر كحبات الندى تختفي في لظى الشمس الحارقة.
الموت الكائن الوحيد الذي يولد كبيرًا ضخمًا وحشًا لا يُتصوَّر العيش معه ثم يتضاءل رُوَيْدًا رُوَيْدًا ويصبح كقط مألوف، إلى أن يتلاشى تمامًا، لن يختفي تمامًا من قلب أمّه وأبيه سيظل منه شيء ولو يسيرًا ينكد ما يحلو من الحياة ولو لحظة، ويفسد طعم نومة مريحة أو أكلة شهية تمنتها النفس حتى يختفوا هم من سطور الحياة، الأم والأب شيء مختلف عن سائر الدنيا.. شيئًا فشيئًا سيتوارى الحزن وتندثر معالمه، يتضاءل حيزه حتى يقتصر على قلب أمّه وأبيه، عيونهم أينما طالعتها حدثتك بغير كلم عن حزن نُحت في القلب كما ينحت الصخر لا تجليه الأيام ولا تمحوه الحوادث، أما زوجته فيقينًا سيظل هذا الحزن مهما تضاءل لن يظهر كثيرًا لكن للأسف لا يظهر لدى الأم المصرية والزوجة إلا مع لحظات الفرح كعادتنا، عند التحاق ابنها الرضيع بالحضانة ستبكي على فقد أبيه، سيستمر هذا المشهد الدرامي حتى تحمل أحفادها، سيهدأ روعها، ستقول له «كان نفسي أبوك يكون معنا»، للأسف سبق السيف العزل وقضى شيوخ الدين الجديد، الذي لا يُعرف له هُوية، الدين المخابراتي، بأن يموت هو وأمثاله نبتة خضراء في أرض المحن لتزين أرض سيناء القاحلة التي عجزت يد الدولة عن تعميرها حتى بعد السلام المزعوم، نعم أرض المحن منذ الوجود، محن من كل نوع من العدو ومن الصديق، من الابن الضال، ومن السادة ومن العبيد، كيف لك يا وطني الغالي أن تتحمل كل ذلك، لكنك أيضًا أرض الصمود، أيّ صمود، صمود بلا حدود، صنعه الأبناء، خطه التاريخ، مات شهيدًا وزملاؤه وربما غيرهم في الطريق من أجل طموح هؤلاء المدنسون المشوهون عقليًّا أصحاب اللحى الطويلة لوجوه جامدة ومشاعر ميتة وعقول واهمة إن ما يفعلونه للدين والحقيقة أنه لعَرَض الدنيا وشهوة السلطة بئس دينكم أيها الحمقى حاشا لله أن يكون هذا هو الدين.
لم أدرِ لمَ أحسست أن الذي قتل زوج شقيقة زميلي هو نفسه ذلك الرجل الذي حاولت أن أسلم عليه عقب أول صلاة لي في الزاوية التي يعتبرونها مسجدًا فاخرًا أسفل عمارتنا في الحي الراقي الذي أقطن فيه وكانت صلاة العصر، وكان السلام باليد مع كلمة «حرمًا» بعد كل صلاة قد جُبلنا عليها لدرجة أنني تصورت أنها سُنة من سنن الصلاة، فالكل يمارسها في مسجد قريتنا المسقوف بالخشب والمفروش بالحصير الذي كان كثيرًا ما يترك علامات في رجلي عند قراءة التشهد فيسخر مني أولاد القرية ومن أولاد عائلتي، يقولون «أنتم عيال طريين»، كان المسجد خشن الملمس، سقفه، أرضيته، دورات المياه، لكنه رقيق المشاعر تفيض فيه الرحمة، وتعشش فيه السكينة، إنه أكثر روحانية، إنه مسجد ذو روح أما المسجد الفاخر أسفل عمارتنا فمسجد بلا روح، الأول مسجد تشعر فيه بالوجود والكون وحبل غير مرئي يربطك بالمولى (سبحانه وتعالى)، وسُلّم لكي ترتقي به يجب أن تسند وتساند من حولك، أما هذا المسجد فإنه نعم فيه حبل يربطك بإمام المسجد يجذبك خلفه كالبهيمة يقتادها صاحبها كيفما يشاء للذبح، أيضًا هناك سلم لا تصعد فيه الروح وإنّما يصعد فيه الجسد، لا مع مَن حولك بل على جثث مَن حولك وأجسادهم، طالما أنهم ليسوا من جماعتك ولا من إخوانك، ولا من صفك، ربما أكون متطرفًا في قولي في مشاعري ولكن هذا التطرف نابع بلا شك من تلك الغلظة والوجوه النحاسية الصدئة التي ألتقيها كثيرًا في هذا المسجد ولها لحى طويلة كأنها نبت للشوك يدمي وجه كل من يطالعه.. فأشعر أني في أرض المحن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى