تنفتح رواية "تجربة العزلة" للروائي التونسي عامر بشة على صوت السارد وهو يخبرنا عن خوفه من الموت قائلا: يخالجني خوف من الموت، وهو خوف مرده إلى تجربة أليمة عاشها في فترة مراهقته، أي لحظة تفتحه على الحياة، وتتمثل في وفاة صديقه جراء نوبة قلبية هو الرياضي الذي يخلو سجله الصحي من أي مرض. ليأتي الفصل الثاني بالصوت نفسه عن حبه للحياة ورغبته في التغلب على الموت من خلال الكتابة والرسم، رغم أنها أفعال خلبية خادعة. وإذا كان الحديث في مطلع الرواية عن الموت، فإن ما يثير الانتباه هو أن معظم فصول العمل جاءت قصيرة وكأنها تعبر عن ذلك الصراع الأزلي بين الرغبة في الحياة وبين قهر الموت لتلك الإرادة، إنها جدلية ترسمها الكتابة عبر اللونين الأساسيين، الأبيض والأسود، فالأسود هو لون الكتابة؛ أي لون الصوت الراغب في الحياة، فيما جاء البياض معبرا عن الموت، فالكفن أبيض، وهو المحيط بالكتابة من كل جانب يهددها بالزوال. ذلك الصراع الذي يمتد على مدى فصول الرواية مؤكدا على قوة الموت اللا راد لإرادتها، لكن، وسط هذا البياض يأتي السواد معبرا عن تلك الإرادة التي تشكل بذرة حياة تقاوم البياض وترسم صرخة الإنسان الساعي إلى إثبات وجوده في هذه الحياة؛ صرخة تخبرنا بأن رحلتنا ينبغي ألا تكون عابرة بل ذات فائدة. فالإنسان العابر لا أثر له بينما الإنسان الفاعل هو الذي يترك أثرا إيجابيا يفيد به الناس؛ وكذلك الشأن بالنسبة للسارد الذي تميز في لونين إبداعيين، هما الرسم والكتابة. ويذكرنا فعل مواجهة الموت بقصة جلجامش في بحثه عن عشبة الخلود. ليس هذا فقط، بل نجد قصته وانكيدو معبرة عن صفاء الصداقة وصدقها كما هو حال صداقة عماد وباسم الذي تخطفه الموت كما تخطف إنكيدو.
على مستوى التجنيس، نجد المبدع قد وضع كلمة "رواية" على صفحة الغلاف الأمامي كنوع من التعاقد بينه وبين القارئ؛ تعاقد يخبره فيه ومن خلاله إلى أن العمل ينبغي أن يتعامل معه بناء على خصائص هذا الجنس، وبشكل مضمر، ينبغي ألا يتم الخروج عن دائرة الكتابة التخييلية التي تعتمد عليها الرواية، لكنه احتراز لا ينفي أن العمل ذا ملامح سير ذاتية لجملة اعتبارات. صحيح أن الشروط التي وضعها لوجون في أول عمل له، لا توجد في رواية "تجربة العزلة"، فعامر بشة ليس هو السارد ولا الشخصية المحورية، كما أنه لم يضع تجنيسا يوحي بذلك، بيد أن قراءة متمعنة تسمح بالعثور على ملامح السيرة، منها اعتماد سارد بضمير المتكلم المفرد غالبا، ويتخذ نفسه محور الكلام بل إنه محور كل العناصر المشكلة للخطاب الروائي، فضلا عن أن الجامع بين عماد والمبدع هو الاسم وإن بشكل غير تام، فالمبدع يحمل اسم عامر، والشخصية المحورية تحمل اسم عماد، فهل من علاقة؟ يبدو الاسمان بعيدين عن بعضهما، لكن محاولة التركيز ستقودنا إلى التشابه من حيث عدد الحروف، فهما رباعيان، ثم إن ثلاثة حروف توجد في كليهما، وبالتالي فإن الجناس الصرفي غير التام لا يمنع من القول إن عماد هو بشكل من الأشكال، هو عامر؛ ما يقوي هذا الطرح هو تشاركهما في الهواية نفسها، فهما معا فنانان تشكيليان، ويعشقان الكتابة ولهما أثر بارز في هذا المجال. ويمكن توصيف العمل، بناء على تلك المؤشرات، بالتخييل الذاتي؛ فهذا التوصيف يجمع بين بعدي الرواية والسيرة دون تغليب طرف على الآخر. فالرواية تخييل، والسيرة حديث عن الذات، والجمع بينهما يقوي الجانب التخييلي ويضمر السيري ولا يلغيه.
عملت الرواية على اعتماد ساردين، هما معا وجهان لعملة واحدة، وما كان الغرض من ذلك إلا بغاية تلطيف أجواء الرواية وتخفيفها من دسم السيرة الذاتية، فتناوب الساردين بتوظيف ضمير المتكلم مرات، وضمير المخاطب قليلا، لا يقوي فرضية تعدد السراد، بل هو تنويع على النوتة نفسها؛ نعم، يفيدان تنوع زوايا النظر دون تنويع الناظر لأنه هو نفسه: عماد، ينظر إلى نفسه من الداخل ومن الخارج، يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم ويراها من الخارج بضمير المخاطب، ولعلها تؤكد تلك الإشارة الواردة في المتن والتي تقول على لسان الصديق الجديد: أتدري، يا عماد.. ؟ماذا أقول لك؟ كأني تأكدت أن في شخصيتك.. روحا إبداعية.. ص 68 وجاء ذلك بعد أن رآه كأنه يكلم نفسه أثناء حواره معه.
حفلت الرواية بمجموعة من الموضوعات الاجتماعية بخاصة من مثل الصداقة الصادقة التي تجمع بين الأفراد، وعلاقة الحب والمودة بين الأزواج، ومظاهر التضامن والوفاء؛ ولعل أهم تيمة تناولتها الرواية من أعلى الرأس إلى أخمص حرف هي تيمة "العزلة" والرغبة في تجربتها واكتشاف ما تحبل به من أبعاد، وما تمتلكه من خصوبة كفيلة بجعله يحقق من ورائها فوائد إبداعية جمة.
تيمة العزلة:
يعيش عماد ، في رفاهة نسبية من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية ، وفي توازن نفسي ، رغم الصدمات التي تعرض لها تباعا.. والمتمثلة في موت صديقه باسم في مرحلة الطفولة بنوبة قلبية. ثم في موت والديه بحادث سير. انتقل بعد وداعهما إلى بيت صديق لوالده بطلب ملح من هذا في الصديق. وهنا وجد الترحيب والحفاوة والاعتناء إلى أن أكمل دراسته وتخرج ليعمل لدى صديق صاحب الدار حيث ترقى إلى أن صار مديرا.
ثم لاحقا ، في موت زوجته ، وهو في مرحلة الكهولة من عمره. وقد كانت هذه الزوجة واسمها إنصاف ، صديقته في طور طفولته ، وحبيبته في شبابه. وبعد رحيلها الأبدي ألفى نفسه غير راض كل الرضا عن وضعه المستقر في دفء عائلي ، يوفره له أبناؤه في أسرهم بالتناوب فيم بينهم.. فأصبح يرغب في الانتقال إلى وضع مغاير ، من سماته ميله السابق في طفولته إلى الوحدة. هذه الوحدة التي كانت تدخله إلى عالم مفعم بالتخيل ، والتصور ، واسترجاع الذكريات. وقد تحول ميله إلى الوحدة ، إلى رغبة في العزلة ، تمكنه من الحياة في حرية كاملة ، سعى سنين طويلة الى تحقيقها ، ليمارس فيها هويات جميلة ، لم يكن قادرا على ممارستها في زمن العمل ، وفي زمن الاعتناء بشؤون الأسرة وتربية الأطفال.
وعندما اقترب من الوصول إلى غايته ، وهو في سن التقاعد ، انتابه شيء من التردد في التحول إليها وهي العيش في عزلة ، وقد هيأ لها جميع الأسباب ، من ضمنها شراء منزل في منطقة جميلة تتسم بالهدوء ، قريبة من الغابة ، ومن البحر. إلى أن طرأ وضع صحي عالمي بظهور فيروس قاتل قد يفتك بالبشرية ، فتطلب تجنب الإصابة به إلى العيش في عزلة. حينها زال تردده ، وأذعن لرغبته السابقة ، متوجسا من البقاء وحيدا في البداية.. ثم سرعان ما يستأنس بتجربتة في العزلة. لقد كان الوباء فرصته الذهبية التي مكنته من تحقيق تلك الرغبة التي ظلت ثاوية في أعماقه وتتحين فرصة الإعلان عن نفسها، وجاء المرض ليخرجها من القوة إلى الفعل بالرغم من أنها عزلة فرضت فرضا على سكان الأرض وكانت وبالا على الناس قاطبة، إلا أنها كانت بالنسبة للشخصية المحورية ذات منفعة.
تعتبر رواية 'تجربة العزلة' رحلة داخلية عميقة لشخصية عماد، الذي يسعى للهروب من صخب الحياة إلى عالم من الصمت والانعزالية. يُظهر بشة كيف أن العزلة ليست مجرد حالة مادية، بل هي حالة نفسية عميقة تتجذر في تجارب الفقد والصدمة التي مر بها عماد. فمواجهة الموت المتكررة، سواء في وفاة صديقه أو والديه أو زوجته، دفعه إلى البحث عن ملاذ آمن في العزلة. هذه العزلة ليست هروبًا سلبيًا، بل هي محاولة لإعادة بناء الذات وإيجاد معنى جديد للحياة. يستخدم بشة رموزًا قوية، مثل اللون الأبيض الذي يرمز إلى الموت والنقاء، واللون الأسود الذي يرمز إلى الحياة والإبداع، ليعكس هذا الصراع الداخلي.
على مستوى التجنيس، نجد المبدع قد وضع كلمة "رواية" على صفحة الغلاف الأمامي كنوع من التعاقد بينه وبين القارئ؛ تعاقد يخبره فيه ومن خلاله إلى أن العمل ينبغي أن يتعامل معه بناء على خصائص هذا الجنس، وبشكل مضمر، ينبغي ألا يتم الخروج عن دائرة الكتابة التخييلية التي تعتمد عليها الرواية، لكنه احتراز لا ينفي أن العمل ذا ملامح سير ذاتية لجملة اعتبارات. صحيح أن الشروط التي وضعها لوجون في أول عمل له، لا توجد في رواية "تجربة العزلة"، فعامر بشة ليس هو السارد ولا الشخصية المحورية، كما أنه لم يضع تجنيسا يوحي بذلك، بيد أن قراءة متمعنة تسمح بالعثور على ملامح السيرة، منها اعتماد سارد بضمير المتكلم المفرد غالبا، ويتخذ نفسه محور الكلام بل إنه محور كل العناصر المشكلة للخطاب الروائي، فضلا عن أن الجامع بين عماد والمبدع هو الاسم وإن بشكل غير تام، فالمبدع يحمل اسم عامر، والشخصية المحورية تحمل اسم عماد، فهل من علاقة؟ يبدو الاسمان بعيدين عن بعضهما، لكن محاولة التركيز ستقودنا إلى التشابه من حيث عدد الحروف، فهما رباعيان، ثم إن ثلاثة حروف توجد في كليهما، وبالتالي فإن الجناس الصرفي غير التام لا يمنع من القول إن عماد هو بشكل من الأشكال، هو عامر؛ ما يقوي هذا الطرح هو تشاركهما في الهواية نفسها، فهما معا فنانان تشكيليان، ويعشقان الكتابة ولهما أثر بارز في هذا المجال. ويمكن توصيف العمل، بناء على تلك المؤشرات، بالتخييل الذاتي؛ فهذا التوصيف يجمع بين بعدي الرواية والسيرة دون تغليب طرف على الآخر. فالرواية تخييل، والسيرة حديث عن الذات، والجمع بينهما يقوي الجانب التخييلي ويضمر السيري ولا يلغيه.
عملت الرواية على اعتماد ساردين، هما معا وجهان لعملة واحدة، وما كان الغرض من ذلك إلا بغاية تلطيف أجواء الرواية وتخفيفها من دسم السيرة الذاتية، فتناوب الساردين بتوظيف ضمير المتكلم مرات، وضمير المخاطب قليلا، لا يقوي فرضية تعدد السراد، بل هو تنويع على النوتة نفسها؛ نعم، يفيدان تنوع زوايا النظر دون تنويع الناظر لأنه هو نفسه: عماد، ينظر إلى نفسه من الداخل ومن الخارج، يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم ويراها من الخارج بضمير المخاطب، ولعلها تؤكد تلك الإشارة الواردة في المتن والتي تقول على لسان الصديق الجديد: أتدري، يا عماد.. ؟ماذا أقول لك؟ كأني تأكدت أن في شخصيتك.. روحا إبداعية.. ص 68 وجاء ذلك بعد أن رآه كأنه يكلم نفسه أثناء حواره معه.
حفلت الرواية بمجموعة من الموضوعات الاجتماعية بخاصة من مثل الصداقة الصادقة التي تجمع بين الأفراد، وعلاقة الحب والمودة بين الأزواج، ومظاهر التضامن والوفاء؛ ولعل أهم تيمة تناولتها الرواية من أعلى الرأس إلى أخمص حرف هي تيمة "العزلة" والرغبة في تجربتها واكتشاف ما تحبل به من أبعاد، وما تمتلكه من خصوبة كفيلة بجعله يحقق من ورائها فوائد إبداعية جمة.
تيمة العزلة:
يعيش عماد ، في رفاهة نسبية من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية ، وفي توازن نفسي ، رغم الصدمات التي تعرض لها تباعا.. والمتمثلة في موت صديقه باسم في مرحلة الطفولة بنوبة قلبية. ثم في موت والديه بحادث سير. انتقل بعد وداعهما إلى بيت صديق لوالده بطلب ملح من هذا في الصديق. وهنا وجد الترحيب والحفاوة والاعتناء إلى أن أكمل دراسته وتخرج ليعمل لدى صديق صاحب الدار حيث ترقى إلى أن صار مديرا.
ثم لاحقا ، في موت زوجته ، وهو في مرحلة الكهولة من عمره. وقد كانت هذه الزوجة واسمها إنصاف ، صديقته في طور طفولته ، وحبيبته في شبابه. وبعد رحيلها الأبدي ألفى نفسه غير راض كل الرضا عن وضعه المستقر في دفء عائلي ، يوفره له أبناؤه في أسرهم بالتناوب فيم بينهم.. فأصبح يرغب في الانتقال إلى وضع مغاير ، من سماته ميله السابق في طفولته إلى الوحدة. هذه الوحدة التي كانت تدخله إلى عالم مفعم بالتخيل ، والتصور ، واسترجاع الذكريات. وقد تحول ميله إلى الوحدة ، إلى رغبة في العزلة ، تمكنه من الحياة في حرية كاملة ، سعى سنين طويلة الى تحقيقها ، ليمارس فيها هويات جميلة ، لم يكن قادرا على ممارستها في زمن العمل ، وفي زمن الاعتناء بشؤون الأسرة وتربية الأطفال.
وعندما اقترب من الوصول إلى غايته ، وهو في سن التقاعد ، انتابه شيء من التردد في التحول إليها وهي العيش في عزلة ، وقد هيأ لها جميع الأسباب ، من ضمنها شراء منزل في منطقة جميلة تتسم بالهدوء ، قريبة من الغابة ، ومن البحر. إلى أن طرأ وضع صحي عالمي بظهور فيروس قاتل قد يفتك بالبشرية ، فتطلب تجنب الإصابة به إلى العيش في عزلة. حينها زال تردده ، وأذعن لرغبته السابقة ، متوجسا من البقاء وحيدا في البداية.. ثم سرعان ما يستأنس بتجربتة في العزلة. لقد كان الوباء فرصته الذهبية التي مكنته من تحقيق تلك الرغبة التي ظلت ثاوية في أعماقه وتتحين فرصة الإعلان عن نفسها، وجاء المرض ليخرجها من القوة إلى الفعل بالرغم من أنها عزلة فرضت فرضا على سكان الأرض وكانت وبالا على الناس قاطبة، إلا أنها كانت بالنسبة للشخصية المحورية ذات منفعة.
تعتبر رواية 'تجربة العزلة' رحلة داخلية عميقة لشخصية عماد، الذي يسعى للهروب من صخب الحياة إلى عالم من الصمت والانعزالية. يُظهر بشة كيف أن العزلة ليست مجرد حالة مادية، بل هي حالة نفسية عميقة تتجذر في تجارب الفقد والصدمة التي مر بها عماد. فمواجهة الموت المتكررة، سواء في وفاة صديقه أو والديه أو زوجته، دفعه إلى البحث عن ملاذ آمن في العزلة. هذه العزلة ليست هروبًا سلبيًا، بل هي محاولة لإعادة بناء الذات وإيجاد معنى جديد للحياة. يستخدم بشة رموزًا قوية، مثل اللون الأبيض الذي يرمز إلى الموت والنقاء، واللون الأسود الذي يرمز إلى الحياة والإبداع، ليعكس هذا الصراع الداخلي.