من تعقيبات القراء الأدباء على مقالي في (ابن الرومي) كلمة كتبها الأديب (أبن درويش) في (الرسالة) يقول فيها موجها الخطاب إلى:
(نال مني الدهش لتعصبك لهذا الشاعر، ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ قد صاحب (ابن الرومي) أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته. لهذا كان طبيعياً أن يخلع عليه أستاذنا الجليل لقب (شاعر العالم) غير منازع، أن يقول أن شعره ليس فيه مغمز لغامز، وأن إحساسه مرهف غاية الإرهاف، وتصويره آية في الإبداع. فما رأي سيدي الأستاذ بيتين مشهورين
(لابن الرومي) قالهما في روض سقته السحب أو أرضعته فأنبت ألفي رضيع من بني النضر حيث قال:
سقته ثُدِيُّ السحب من مرضعاتها ... أفانين مما لم تقطره مرضع
كألفي رضيع من بني النضر ضُمنوا ... محاسن هذا الكون، والكون أجمع
فأي تصوير هذا يا أستاذي العزيز؟ وأي استيعاب فني فيه. . . ألخ)
والأسئلة فيما نرى ضربان: سؤال يوجهه صاحبه وقد أجتهد في أن يعرف غرض الكتاب فهما سائران في طريق واحد. وسؤال يوجهه صاحبه وكأنه أجتهد في نقيض ذلك، ونقيض ذلك هو ألا يعرف غرض الكتاب وأن يتخذ له وجهة غير وجهته وطريقاً غير طريقته، فما مفترقان لا يتقاربان.
واحسب أن الأديب الذي وجه إلى ذلك السؤال لم يجتهد في معرفة غرضي بمقدار اجتهاده في الحيدة عنه، فقوّلني ما لم أقل، واعترض بعد ذلك في غير موجب للاعتراض.
فأنا لم أقل أن ابن الرومي شاعر العالم منازعاً أو غير منازع، وإنما قلت أنه شاعر (له عالم)، وفسرت ذلك بأنه قد نظر على طريقته إلى العالم كله فجاءت له في شعره صورة فنية كاملة. وذكرت له نظراء في تصوير العالم على طرق مختلفات كالمتنبي الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة العملية، والمعري الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة الفكرية، وغيرهما بين شعراء الشرق والغرب كثيرون.
وقد ينفرد ابن الرومي بمزية لم يسبقه فيها سابق من الشعراء الأقدمين والمحدثين فلا يكون معنى ذلك أنه شاعر العالم غير منازع، لان المزية كما يعلم الأديب لا تقتضي الأفضلية، وربما عجز أناس أن يجاروه في مزيته ويسبقوه في مزية أخرى أو جملة مزايا لا تقل في شأنها عما تفرد به وتقدم فيه.
وإذا اعترض معترض على رجحان ابن الرومي في مزية التصوير الفني فسبيله إلى الاعتراض أن يذكر شاعراً آخر له حسنات في هذا الباب أفضل من حسنات ابن الرومي وأدل على الملكة الفنية، وليس سبيله أن يذكر الرديء أو المختلف عليه من كلام ابن الرومي المنسوب إليه.
كذلك لم أقل إن شعر ابن الرومي (ليس فيه مغمز لغامز) لأن العلو في الإجادة لن يمنع الإسفاف في الرداءة، وابن الرومي نفسه يعلم هذا ويعتذر لرديئه بأبياته المشهورة التي يقول فيها:
قولا لمن عاب شعر مادحه ... أما ترى كيف رُكّب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب اليا ... بس والشوك دونه الثمر
وكان أولى بان يهذب ما يخ ... لق رب الأرباب لا البشر
وهي الأبيات التي افتتحت بها كلامي عن صناعة ابن الرومي في الكتاب المطول الذي كتبته عنه، لعلمي انه يقول الرديء كما يقول الحسن، وأن المغمز في كلامه لمن شاء غير قليل.
وبعد فمن هو الشاعر الذي يقال فيه أنه شاعر العالم أو أنه الشاعر العالمي إذا كان الإتيان ببيتين من شعر الرديء - على تسليم رداءته - حائلاً بينه وبين التفرد بمزية عالمية؟
من هو الشاعر الذي لا يؤتى له ببيتين بل قصيدتين يمغمزهما الغامز متى شاء؟
فليست الطريقة التي آثرها الأديب (ابن درويش) بطريقة الاعتراض المأثورة فيما أرى، وإنما الطريقة السوية أن نستنفد المحاسن حتى لا نبقي فيها بقية، وأن نقرن بينها وبين محاسن من قبيلها تفوقها وتربى عليها. . . أما ذكر بيتين أو قصيدتين لشاعر من كبار الشعراء فلا يغير الحكم عليه بالغاً ما بلغ الرأي في استهجان البيتين أو القصيدتين.
على أنني لا أذكر أنني قرأت البيتين في ديوان ابن الرومي، ولا أراهما مما يعاب سواء نسبا إليه أو إلى غيره، ولا أعدهما من أبيات الوصف لأنهما أشبه بأبيات التخلص التي يأتي فيها الوصف عرضاً غير مقصود، وإنما عنيت أبيات الوصف فانتظرت (يذكرني من شاء بأبيات وصفه أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب)
ومع هذا اسأل الأديب: لماذا فهم أن إعجابي بابن الرومي راجع إلى أنني صاحبته أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته؟
إن ابن الرومي لم يكن له ديوان مطبوع يوم كانت دواوين المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس والشريف الرضي وغيرهم مطبوعة متداولة في أيدي القراء!
فإذا سعيت إلى قراءته مخطوطاً فإنما تكون المصاحبة الطويلة نتيجة الإعجاب وليست هي سبب الإعجاب
فلماذا يكون إعجابي به خطأ لا محالة فلا تفسير له إلا طول المصاحبة؟ ولماذا يكون رأي الأديب فيه هو الصواب لا محالة لأنه لم يطل مصاحبته، أو لأنه أطال مصاحبة الآخرين؟
وهل كان يجب أن أقول أن المتنبي أوصف من ابن الرومي لأكون قد صاحبت المتنبي كما ينبغي أن أصاحبه وأصاحب غيره؟
ولم يجوز التعصب على ابن الرومي بغير سند، ولا يجوز التعصب له بسند مفصل أو قابل للتفصيل؟
أن الرجل لكما قلت بين شعراء العالم أجمع، وأن الذي يمكن مزيته لمطالب بحسنات يثبتها لغيره تربى على الحسنات التي ثبتت له في دواوينه، فإن لم يستطع فما هو بغاض من قدره ولو جاء له بعشر قصائد رديئات، لا ببيتين أو عشرة أبيات.
وكتب إلينا الأديب (حسن محمد عبد الله شرارة) من نبت جبيل بلبنان يقول بعد مقدمة نشكره عليها: (. . . إلا ترون أن بين ابن الرومي وأبي نواس صلة من الصلات أو وجه شبه كبير أو قليل؟ فالدقة التي تتراءى في شعر ابن الرمي والشمول الذي يبين في معانيه يهينم على خمريات أبي نواس ويشيع فيها. وكذلك الناحية الوصفية والتصويرية التي امتاز بها ابن الرومي قد امتاز بها أبو نواس على ما بين النفسين من تقارب في هذا القلق والاضطراب والتعقيد. فخذوا أية خمرية من خمريات أبي نواس وغيرها أيضاً ترون ما أنا ذاهب إليه من هذه الدقة والسلاسة والعالمية والشمول ثم الإبداع الشعري العظيم. . .)
ورأيي أن أبا نواس وابن الرومي يتقابلان ولكنهما لا يتماثلان ولا يحسبان من (مدرسة) واحدة إذا قسمنا الشعراء إلى مدارس كما يقسمهم النقاد الغربيون.
فابن الرومي حس متوفز، وأبو نواس لذة حسية. ومن هنا يتلاقيان، ومن هنا كذلك يفترقان
فابن الرومي يطلب اللذة الحسية لأنه يطلب كل ما يشغل الحس؛ فهو وأبو نواس في هذا متلاقيان
ولكن أبا نواس لم يطلب الحس لغير اللذة، ولم يشغل حسه بغير المتعة، فهو وابن الرومي في هذا مفترقان بل جد مفترقين.
ماذا يبقى من أبي نواس بعد المتعة الحسية؟. . . لا شيء! وماذا يبقى بعد المتعة الحسية في ابن الرومي؟ يبقى الحس كله، ويبقى ابن الرومي كله، وتبقى لنا نفس إنسانية تعرف والآلام والمتع، وتعرف المحاسن ولو لم تستخرج منها اللذات الممتعات؟
فلولا اللذات لما بالى أبو نواس بأن يحس الحياة. ولكن ابن الرومي يحس الحياة ولو لم تكن فيها لذات، لأن الإحساس عنده هو الأصل الأصيل، وليس هو الواسطة التي تنتهي إلى غايات.
أين القرابة بين أبي نواس وبين القلوب الإنسانية في عالم الألم؟ أين الدنيا وراء مجلس الأنس والشراب؟ أين الشمس؟ أين السماء؟ أين الربيع في غير معارض المنادمة وما إليها؟
لكنك تلغي مجالس المنادمة كلها ويبقى ابن الرومي في دنياه غير منقوص الأداة
فهو معك حيث تكون النفس الآدمية، وليس أبو نواس معك في غير مكانه الذي يهواه
وإذا تقابلا في الحان يوماً فهي مقابلة طريق لا تطول، ثم يفترقان!
وعندي بعدما تقدم تعليق على كلمة عجيبة سيق إلى كتابتها الأستاذ توفيق الحكيم وهو في قبضة الأديب (الفلاح) الدكتور زكي مبارك. فقال كلاماً لا يحسن السكوت عليه: فماذا قال؟
قال ما معناه أنه (صعب عليه) لأنه لم يجد في شكري للدكتور طه حسين تلك الرقة التي كان ينتظرها.
وما هي تلك الرقة التي كان ينتظرها؟ لا ادري، ولا اعتقد أن الدكتور طه اهتم بان يدري، أو احتاج إلى رقة الأستاذ توفيق الحكيم التي أوشكت أن تُسيل عبراته؛ لمَ، والله لا ادري. . . وقد ادري ويدري القارئ معي بعد قليل!
فعندي قصة صغيرة اهديها إلى الأستاذ توفيق الحكيم لأنه رجل قصاص يجب أن يخاطب بأسلوبه
وهي قصة لا تتجاوز بضعة سطور، ولكنها تفيد
قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات؛ وقيل انه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام؛ وقيل أن الأستاذ توفيق الحكيم أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول إنه لا يريد مدحاً من أحد. وكان رقيقاً جداً فيما قال. . .!
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح
وقيل في قصة أخرى - لان القصة الأولى قد انتهت والحمد لله - أن الأستاذ توفيق الحكيم يسيل رقة حين ينكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأنه بما كتب عنه، لأنه أطنب في وصف أديبة وفي وصف أديب، فلم يرفع من شأنهما على ما يزعم، وهما في الحق أرفع شاناً عند أناس كثيرين من صاحبنا الحكيم!
وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخر تُمثَّل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات.
فما الرأي في تمثيلية تشتمل على فصول كهذه الفصول؟ أليس في التمثيل هوى لصاحبنا الحكيم؟
قد يدري القارئ الآن ما أدري وما يدريه الدكتور طه وما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين. فلا (يصعب عليهم) كما صعب على مولانا الحكيم!
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 461
بتاريخ: 04 - 05 - 1942
(نال مني الدهش لتعصبك لهذا الشاعر، ولعل هذا راجع إلى أن الأستاذ قد صاحب (ابن الرومي) أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته. لهذا كان طبيعياً أن يخلع عليه أستاذنا الجليل لقب (شاعر العالم) غير منازع، أن يقول أن شعره ليس فيه مغمز لغامز، وأن إحساسه مرهف غاية الإرهاف، وتصويره آية في الإبداع. فما رأي سيدي الأستاذ بيتين مشهورين
(لابن الرومي) قالهما في روض سقته السحب أو أرضعته فأنبت ألفي رضيع من بني النضر حيث قال:
سقته ثُدِيُّ السحب من مرضعاتها ... أفانين مما لم تقطره مرضع
كألفي رضيع من بني النضر ضُمنوا ... محاسن هذا الكون، والكون أجمع
فأي تصوير هذا يا أستاذي العزيز؟ وأي استيعاب فني فيه. . . ألخ)
والأسئلة فيما نرى ضربان: سؤال يوجهه صاحبه وقد أجتهد في أن يعرف غرض الكتاب فهما سائران في طريق واحد. وسؤال يوجهه صاحبه وكأنه أجتهد في نقيض ذلك، ونقيض ذلك هو ألا يعرف غرض الكتاب وأن يتخذ له وجهة غير وجهته وطريقاً غير طريقته، فما مفترقان لا يتقاربان.
واحسب أن الأديب الذي وجه إلى ذلك السؤال لم يجتهد في معرفة غرضي بمقدار اجتهاده في الحيدة عنه، فقوّلني ما لم أقل، واعترض بعد ذلك في غير موجب للاعتراض.
فأنا لم أقل أن ابن الرومي شاعر العالم منازعاً أو غير منازع، وإنما قلت أنه شاعر (له عالم)، وفسرت ذلك بأنه قد نظر على طريقته إلى العالم كله فجاءت له في شعره صورة فنية كاملة. وذكرت له نظراء في تصوير العالم على طرق مختلفات كالمتنبي الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة العملية، والمعري الذي نرى في شعره صورة للعالم من الوجهة الفكرية، وغيرهما بين شعراء الشرق والغرب كثيرون.
وقد ينفرد ابن الرومي بمزية لم يسبقه فيها سابق من الشعراء الأقدمين والمحدثين فلا يكون معنى ذلك أنه شاعر العالم غير منازع، لان المزية كما يعلم الأديب لا تقتضي الأفضلية، وربما عجز أناس أن يجاروه في مزيته ويسبقوه في مزية أخرى أو جملة مزايا لا تقل في شأنها عما تفرد به وتقدم فيه.
وإذا اعترض معترض على رجحان ابن الرومي في مزية التصوير الفني فسبيله إلى الاعتراض أن يذكر شاعراً آخر له حسنات في هذا الباب أفضل من حسنات ابن الرومي وأدل على الملكة الفنية، وليس سبيله أن يذكر الرديء أو المختلف عليه من كلام ابن الرومي المنسوب إليه.
كذلك لم أقل إن شعر ابن الرومي (ليس فيه مغمز لغامز) لأن العلو في الإجادة لن يمنع الإسفاف في الرداءة، وابن الرومي نفسه يعلم هذا ويعتذر لرديئه بأبياته المشهورة التي يقول فيها:
قولا لمن عاب شعر مادحه ... أما ترى كيف رُكّب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب اليا ... بس والشوك دونه الثمر
وكان أولى بان يهذب ما يخ ... لق رب الأرباب لا البشر
وهي الأبيات التي افتتحت بها كلامي عن صناعة ابن الرومي في الكتاب المطول الذي كتبته عنه، لعلمي انه يقول الرديء كما يقول الحسن، وأن المغمز في كلامه لمن شاء غير قليل.
وبعد فمن هو الشاعر الذي يقال فيه أنه شاعر العالم أو أنه الشاعر العالمي إذا كان الإتيان ببيتين من شعر الرديء - على تسليم رداءته - حائلاً بينه وبين التفرد بمزية عالمية؟
من هو الشاعر الذي لا يؤتى له ببيتين بل قصيدتين يمغمزهما الغامز متى شاء؟
فليست الطريقة التي آثرها الأديب (ابن درويش) بطريقة الاعتراض المأثورة فيما أرى، وإنما الطريقة السوية أن نستنفد المحاسن حتى لا نبقي فيها بقية، وأن نقرن بينها وبين محاسن من قبيلها تفوقها وتربى عليها. . . أما ذكر بيتين أو قصيدتين لشاعر من كبار الشعراء فلا يغير الحكم عليه بالغاً ما بلغ الرأي في استهجان البيتين أو القصيدتين.
على أنني لا أذكر أنني قرأت البيتين في ديوان ابن الرومي، ولا أراهما مما يعاب سواء نسبا إليه أو إلى غيره، ولا أعدهما من أبيات الوصف لأنهما أشبه بأبيات التخلص التي يأتي فيها الوصف عرضاً غير مقصود، وإنما عنيت أبيات الوصف فانتظرت (يذكرني من شاء بأبيات وصفه أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب)
ومع هذا اسأل الأديب: لماذا فهم أن إعجابي بابن الرومي راجع إلى أنني صاحبته أكثر مما كان ينبغي لمصاحبته؟
إن ابن الرومي لم يكن له ديوان مطبوع يوم كانت دواوين المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس والشريف الرضي وغيرهم مطبوعة متداولة في أيدي القراء!
فإذا سعيت إلى قراءته مخطوطاً فإنما تكون المصاحبة الطويلة نتيجة الإعجاب وليست هي سبب الإعجاب
فلماذا يكون إعجابي به خطأ لا محالة فلا تفسير له إلا طول المصاحبة؟ ولماذا يكون رأي الأديب فيه هو الصواب لا محالة لأنه لم يطل مصاحبته، أو لأنه أطال مصاحبة الآخرين؟
وهل كان يجب أن أقول أن المتنبي أوصف من ابن الرومي لأكون قد صاحبت المتنبي كما ينبغي أن أصاحبه وأصاحب غيره؟
ولم يجوز التعصب على ابن الرومي بغير سند، ولا يجوز التعصب له بسند مفصل أو قابل للتفصيل؟
أن الرجل لكما قلت بين شعراء العالم أجمع، وأن الذي يمكن مزيته لمطالب بحسنات يثبتها لغيره تربى على الحسنات التي ثبتت له في دواوينه، فإن لم يستطع فما هو بغاض من قدره ولو جاء له بعشر قصائد رديئات، لا ببيتين أو عشرة أبيات.
وكتب إلينا الأديب (حسن محمد عبد الله شرارة) من نبت جبيل بلبنان يقول بعد مقدمة نشكره عليها: (. . . إلا ترون أن بين ابن الرومي وأبي نواس صلة من الصلات أو وجه شبه كبير أو قليل؟ فالدقة التي تتراءى في شعر ابن الرمي والشمول الذي يبين في معانيه يهينم على خمريات أبي نواس ويشيع فيها. وكذلك الناحية الوصفية والتصويرية التي امتاز بها ابن الرومي قد امتاز بها أبو نواس على ما بين النفسين من تقارب في هذا القلق والاضطراب والتعقيد. فخذوا أية خمرية من خمريات أبي نواس وغيرها أيضاً ترون ما أنا ذاهب إليه من هذه الدقة والسلاسة والعالمية والشمول ثم الإبداع الشعري العظيم. . .)
ورأيي أن أبا نواس وابن الرومي يتقابلان ولكنهما لا يتماثلان ولا يحسبان من (مدرسة) واحدة إذا قسمنا الشعراء إلى مدارس كما يقسمهم النقاد الغربيون.
فابن الرومي حس متوفز، وأبو نواس لذة حسية. ومن هنا يتلاقيان، ومن هنا كذلك يفترقان
فابن الرومي يطلب اللذة الحسية لأنه يطلب كل ما يشغل الحس؛ فهو وأبو نواس في هذا متلاقيان
ولكن أبا نواس لم يطلب الحس لغير اللذة، ولم يشغل حسه بغير المتعة، فهو وابن الرومي في هذا مفترقان بل جد مفترقين.
ماذا يبقى من أبي نواس بعد المتعة الحسية؟. . . لا شيء! وماذا يبقى بعد المتعة الحسية في ابن الرومي؟ يبقى الحس كله، ويبقى ابن الرومي كله، وتبقى لنا نفس إنسانية تعرف والآلام والمتع، وتعرف المحاسن ولو لم تستخرج منها اللذات الممتعات؟
فلولا اللذات لما بالى أبو نواس بأن يحس الحياة. ولكن ابن الرومي يحس الحياة ولو لم تكن فيها لذات، لأن الإحساس عنده هو الأصل الأصيل، وليس هو الواسطة التي تنتهي إلى غايات.
أين القرابة بين أبي نواس وبين القلوب الإنسانية في عالم الألم؟ أين الدنيا وراء مجلس الأنس والشراب؟ أين الشمس؟ أين السماء؟ أين الربيع في غير معارض المنادمة وما إليها؟
لكنك تلغي مجالس المنادمة كلها ويبقى ابن الرومي في دنياه غير منقوص الأداة
فهو معك حيث تكون النفس الآدمية، وليس أبو نواس معك في غير مكانه الذي يهواه
وإذا تقابلا في الحان يوماً فهي مقابلة طريق لا تطول، ثم يفترقان!
وعندي بعدما تقدم تعليق على كلمة عجيبة سيق إلى كتابتها الأستاذ توفيق الحكيم وهو في قبضة الأديب (الفلاح) الدكتور زكي مبارك. فقال كلاماً لا يحسن السكوت عليه: فماذا قال؟
قال ما معناه أنه (صعب عليه) لأنه لم يجد في شكري للدكتور طه حسين تلك الرقة التي كان ينتظرها.
وما هي تلك الرقة التي كان ينتظرها؟ لا ادري، ولا اعتقد أن الدكتور طه اهتم بان يدري، أو احتاج إلى رقة الأستاذ توفيق الحكيم التي أوشكت أن تُسيل عبراته؛ لمَ، والله لا ادري. . . وقد ادري ويدري القارئ معي بعد قليل!
فعندي قصة صغيرة اهديها إلى الأستاذ توفيق الحكيم لأنه رجل قصاص يجب أن يخاطب بأسلوبه
وهي قصة لا تتجاوز بضعة سطور، ولكنها تفيد
قيل أن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات؛ وقيل انه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة مع رؤساء تلك الأيام؛ وقيل أن الأستاذ توفيق الحكيم أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول إنه لا يريد مدحاً من أحد. وكان رقيقاً جداً فيما قال. . .!
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح
وقيل في قصة أخرى - لان القصة الأولى قد انتهت والحمد لله - أن الأستاذ توفيق الحكيم يسيل رقة حين ينكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأنه بما كتب عنه، لأنه أطنب في وصف أديبة وفي وصف أديب، فلم يرفع من شأنهما على ما يزعم، وهما في الحق أرفع شاناً عند أناس كثيرين من صاحبنا الحكيم!
وأدرك شهرزاد الصباح أو المساء على قصة أخر تُمثَّل اليوم مع العقاد لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات.
فما الرأي في تمثيلية تشتمل على فصول كهذه الفصول؟ أليس في التمثيل هوى لصاحبنا الحكيم؟
قد يدري القارئ الآن ما أدري وما يدريه الدكتور طه وما يدريه العارفون وأوشك أن يدريه غير العارفين. فلا (يصعب عليهم) كما صعب على مولانا الحكيم!
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 461
بتاريخ: 04 - 05 - 1942