الوحيد الذي كنت أشعر أنه ينتمي لمسجد القرية عمي محمود رغم أن له لحية لكنها لا تخيفني بل أرى منها نورًا تمامًا كالذي يشع من عينيه وحديثه المملوء برفق وحنان يكفي لتطييب خواطر الدنيا كلها، عمي محمود محطة من محطات الصمود، عمي محمود بائع الفول الذي استوطن أمام شركة الغاز بجوار المسجد يحضر صلاة الفجر ثم يجهز سيارة الفول ليلحق بها الطلاب و العاملون الغادون إلى عملهم، ترك محطة مصر حينما شعر بخجل مكتوم في عيون ولديه الطبيبين اللذين رباهما من ثمرة عربة الفول، كفاهما مشقة الكلام، لا يقدر أن يهجر عربته، أن يتمرد عليها ، قبل أن يطلبا منه هجرِها، توديعها بطريقة لطيفة، ليستريح، يدرك أن راحته في الوقوف خلفها، لا يعلمون أن روحه تسكن فيها، وأن حياته استقرت خلفها، وأنه لن يتركها إلا لقبر يلقى فيه ما قدمت يداه، قرر أن يبعد ربما ينسى الناس أن عربة الفول هي التي ربّت هؤلاء الأطباء ولا يعيّرهما أحد أو لا يرفض أحد تزويجهما بناته، لم يحزن عمي محمود شعر أنه ربما يكون لديهم حق، الزمن أقوى منهم، خفف عنه الأسى ما شعر به من فخر في عين ابنته التي عُيّنت معيدة في كلية التربية ربما لأن زميلها الذي أحبته وعُيّن أيضًا معيدًا بالقسم ذاته يقطن والده حي مينا البصل ويخرج أجيرًا للعمل على مراكب الصيد.. الحال من بعضه والاثنان آمنا بأن الغد أفضل من اليوم (بكرة أحسن من النهارده، كما تشدو الفنانة شادية).
عم محمود حريص على أن يصلي الظهر معنا بعد إنهاء مهمته وتشطيب عربته.. كانت لحيته البيضاء تجذب الأنظار إليها وإلى عينيه ووجهه الأبيض الذي ينطق بأن قلبه أبيض من هذا الوجه وأنه من أصل طيب وتشعر أن لحيته البيضاء رقيقة كأنها ريش نعام.. بالمناسبة حي كرموز موطن سكن عمي محمود يقولون إنه مرتع للجريمة والمخدرات، لا أظن ذلك صحيحًا بالمرة لأن عمي محمود هو الوحيد الذي يصافحني بعد الصلاة.
مسجد قريتي تغير أيضًا أكثر من تغير حوائطه وزخارفه نعم أعيد بناؤه لكن لم تعد فيه ذات الروح التي كانت فيه، هل للمساجد أرواح؟
نعم، بل لكل مكان روحه التي لا تنبض فيه بقدر ما تنبض في روّاد المكان، هناك كنت تشعر بالحياة صيفًا وشتاءً تشعر أكثر بقدرة الخالق حيث خشونة الحصير أو لهيب الشمس الذي لا ترده نوافذ زجاجية أو شيش فاخر بماكينة إلكترونية في الصيف القائظ، وبرودة الجو القارسة في الشتاء التي تدخل للمصلية المفتوحة الملحقة بصحن المسجد، كانت روح الدين والدنيا في مسجد قريتنا أكثر من هذا المسجد الذي يكسو السجاد أرضيته وتفوح منه رائحة الطيب والعود ،ودورات المياه نظيفة من أحدث الماركات العالمية، كأنها مرآة نقية من شدة نظافتها أجمل ما فيها أن بها «سخن وبارد»، أبهاء رائعة تكتمل بقرآن مرتل أحيانًا لشيخ يتباكى يستعذب صوته رواد المسجد، رغم أن صوته مشحون برائحة وصلد صحراء شبه الجزيرة العربية، كنت أود أن يكون صوته مصريًّا خالصًا يقولون أنزل القرآن بمكة وكتب في إسطنبول وقرئ في مصر، لم أتمنّ أن يكون صوته في خشوع المنشاوي أو جدية وانضباط الحصري، على الأقل مثل صوت عمي محمد فرحات ذلك الرجل المهيب الذي يرتدي طاقية بيضاء من قماش ناعم وليست منسوجة من خيط، لم أعد أرى منها الآن مطلقًا، كان طويلاً وكان يصعد درجات المئذنة ويؤذن وأحيانًا كان يؤمّنا في الصلاة وأحيانًا أيضًا كان يخطب الجمعة، ما زلت أحفظ بعضًا من هذه الخطب وكلماتها تدوي في أعماقي، تحولت إلى عمل وسلوك رغم أنه لم يكن يزعق كبوم الخرائب ولا يخوف بالعذاب بل كان يبشر بالثواب ويعظ بالحسنى وإن جادل جادل بالتي هي أحسن، المدهش أنه كان يقرأ من كتاب قديم للخطب الموضوعة ولكنها كانت تخترق القلب وتنفذ إلى صميم الفؤاد أمّا الغريب فإنه كان يمسك سيفًا خشبيًّا أو من معدن الحديد في يده يقولون إنه رمز للجهاد، الجهاد طوال عمره فرض كفاية تحول في زمن التجارة و الجهاد من أجل البزنس وتجارة السلاح وتجارة البشر والجلوس على كراسي السلطة الناعمة إلى فرض عين، رأيت في التلفاز فيلمًا وثائقيًّا، الرئيس عبدالناصر يذهب إلى الأزهر يعلن الجهاد من هناك ضد العدوان الثلاثي أما الآن أرى بعيني وأسمع بأم أذني من يعلن الجهاد من المسجد ضد المسلمين، من عجائب هذا الزمان الجهاد باسم الدين على من يدينون بالدين ذاته بل على من يرتادون المسجد ذاته، لكنهم يختلفون في السلطة وعلى السلطة يرون أن السلطة يجب أن تكون في تلك المساجد أو زوايا الموت.. إنها ندبة في وجه الدين الحنيف.
الغريب أن عمي محمد فرحات لم يصب بهذا السيف أحدًا ولو في مشاعره ولم يحرض أحدًا على استخدامه، ما زالت حكاياته الجميلة ترن في أذني تتردد في أعماقي وكنت أتصور وأنا بصحبة أبي أنها حواديت من الخيال كيف لشخص أن يسأل عن شخص يهودي يغوط أمام منزله إذا غاب مرة ولم يضع غوطه أمام المنزل إنه رسول الله (صلى الله عيه وسلم)، لذلك كنا نسارع في التصالح أنا والأولاد الذين ألعب معهم.. أكثر من ذلك لم يكن أحد منهم يخاصم أحدًا إذا حضر مولد النبي أو شهر رمضان، وببساطة متناهية يقول كل منا للآخر «إنت عاوز ربنا يزعل منك وسيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) يخاصمك»، كل ذلك كان من أثر خطب الشيخ محمد فرحات أو ربما لحبنا للشيخ محمد واقتناعنا بما يقصه علينا ولمحبتنا لرسول الله ولم نهتم بذلك السيف الذي يمسكه في يده وهو يخطب فينا، أمّا الآن فقد سمعت من على منبر رسول الله من يحرم السلام أو الزواج ممن يخالفونهم في الصراع على عرش السلطان، لا زواج ولا تجارة إلا مع الأنصار الجدد دون باقي البشر ولو كانوا من المهاجرين، النبي آخَى بين المهاجرين والأنصار، وأنتم فرقتم بين الجار والجار، بل بين الأخ وأخيه والوالد وبنيه، فرقتم بينهم بحسب المكان الذي يقف فيه، قال الإمام بمسجد عمارتنا الفخيم بحدة: «أولاد الكلب اللي حينتخبوا أحمد شفيق».
الشيخ محمد الذي كنت أقول له «يا سيدنا»، كان سببًا في أول علقة ساخنة أكلتها في حياتي يوم أن تركت الكُتّاب وزوّغت لآكل توت أسمر، أمي ضربتني بعصى حطب على فخذَيّ اللذين كانا ظاهرين من الشورت القصير الذي تميز بلبسه أولاد عائلتي.. كان رحمة الله عليه يحضر للبيت كل يوم جمعة، العاشرة صباحًا، يجلس على كنبة وثيرة يقرأ ما تيسر له من آيات الله البيّنات، ورغم أنه كان مشدوهًا لمنظر المرآة الفاخرة التي تتوسط صالة المنزل، طولها أقصى من مترين وعرضها متر ونصف مزينة بإطار منمق وتاج عليه صورة أطفال يحملونه بأجنحة، والإطار والتاج مطلي بماء الذهب الفرنساوي اللامع والمرآة بيضاء ناصعة كقرص القمر ليلة أربعة عشر، مرآة تدل على بقايا عز زائل اختلط فيه المال بالثقافة، قال الشيخ محمد ذات مرة «بسم الله ما شاء الله.. المرآة دي تساوي كام دلوقت؟»، بينما جارنا الدكتور كامل البستاوي الذي عاد إلينا من الجامعة بملامح جديدة لدين الإسلام لا نعرفها ولم نسمع عنها أو نقرأ عنها من قبل قال لوالدتي وهي تعود أمه المريضة يجب إزالة هذه المرآة يا عمة لا تتركوا في بيتكم أصنامًا فيلعنكم الله ويحيق بكم غضبه ولا تدخله الملائكة.
ورغم وفاة الشيخ محمد فرحات ورحيله عن عالمنا وحزننا عليه لم ينقطع القرآن من البيت ولا من المسجد وتبدل اتجاهي إلى الكُتاب بدلاً من المسجد إلى منزل عمي أحمد الشيخ الذي حل محل الشيخ محمد فرحات بعد موته، كان صوته به بحة تميل إلى الخشونة الجاذبة وكان يؤمّنا في الصلاة أيضًا خاصة التراويح في شهر رمضان، ثم مات الشيخ أحمد وللأسف لم يكن يضربني كأولاد الكتاب وللأسف الشديد أيضًا كان ذلك سببًا أساسيًّا في عدم ختمي للقرآن، حفظت فقط قرابة عشرة أجزاء، وبعد وفاته أعقبته زوجته وكنا نسميها نفيسة الشيخة رغم أنها ليست من عائلة الشيخ ولكن نسبة للشيخ أحمد وكانوا يطلقون عليها نفيسة أم إسماعيل، وكنت في شدة الحيرة من هذه التسمية، ليس لها أولاد فمن هو إسماعيل، أجابتني أمي أن إسماعيل هو أخوها وكانوا يقولون لمن لم تنجب يا أم فلان وفلان هو أخوها ولم أكن أعرف أين هو إسماعيل، وعرفت أن إسماعيل شهد على أبيه ومشاركته في معركة تمت في سوق القرية وشهد أن أباه هو الذي قتل واحدًا من قتلى المعركة دخل والده السجن ومات هناك، أكل برد السجن صدره الذي فشا فيه السل، أما إسماعيل فترك البلد ولا يعرف أحد أين ذهب نتيجة لصحوة ضميره التي ألقت به إلى مجهول لم نتبين ملامحه.
وماتت نفيسة الشيخة وحزنت على موتها وزاد حزني لمّا كبرت وعرفت قيمة الكلمة، كانت رحمة الله عليها أحكم الناس على وجه البسيطة، تحفظ من الأمثلة الشعبية ما لو دوّنتُه لاحتجت عشرات المجلدات، تيقنت بعد ذلك أنها كانت تجيد ارتجال هذه الأمثلة تبعًا لمواقف الحياة أكثر ما أثر في نفسي أنها كانت تتكلم كثيرًا عن زمن الندولة والأرض المجهولة ولم أكن أعرف أنني سوف أحيا في زمن الندولة، قالت أمي مفسرة هذا المثل أنه زمن سوء الخلق وانعدام الضمير، هو بعينه الزمن الذي أعيش فيه الآن، أما الأرض المجهولة فقالت أمي هي أرض تسأل عنها أو عن صاحبها فتجده نكرة، إمعة، حثالة، لم يعرف له أصل ولا فضل ولا وزن ولا قيمة ولا يعرف من أين أتى ولا أتت فلوسه التي اشترى بها الأرض، الله عليكي يا حاجة نفيسة لا من أجل خلخالك النحاسي أو المعدن لا أعرف من أيّ مادة صُنع لكن أذكر حينما خلعتيه أمامي مرتين الأولى احضرتيه لأمي لتبيعيه لتشتري خروفًا لتذبحيه في مولد النبي وتوزعيه على الجيران حتى لا تقطعي عادتك في محبة رسول الله، ثم اشتريت اخر بعدها بقليل ، والثانية حينما أصيب والدي وأنا طفل صغير بمرض الشلل النصفي ، مرض مرضًا شديدًا أمي بكت يومها وبكيت دون أن أعرف السبب شكرتك أمي في هذه المرة ، يومها زدتِ على الخلخال قرطك الذهبي الذي يشبه خراطة الملوخية وينوء به كف اليد ، واضفت لهما حزمة من الفلوس الورقية ، أمي شكرتك بشدة واحتضنتك فقط طلبت منك أن تأخذي بالك منا بينما كانت تستعد لتركب السيارة المخصوص ليرحل ابى للعلاج في الإسكندرية.
الله عليكي يا عمة نفيسة هو بعينه الزمن الذي أعيش فيه بتفاصيله ومن الأمثلة التي وقرت في ذهني فكان مثل يقول «يا ما عمايم على بهايم»، صحيح إن أم إسماعيل كانت تقوله كلما مر عليها ناظر المدرسة فقد كان يريد إخراجهم من الأرض التي استأجروها منه بسبب مد عقد الإيجار عنوة بقوانين السيد الرئيس جمال عبدالناصر ومدت معه جسور الكراهية والحقد وقد تطوعت أمي كعادتها لشرح ذلك المثل الذي حرت فيه قالت إن المقصود هو رجال يرتدون عمائم وملابس الشيوخ وأفعالهم لا صلة لها بالشيوخ ولا العلم وكأنهم دواب يلبسون العمامة أو حمار يحمل أسفارًا، لم أكن أعرف أن تلك الأمثلة هي ديوان الحياة وأنها الشعر الحقيقي ربما ليس لها مكانة الشعر لأنها صادقة وأحلى الشعر أكذبه، ومِنْ ثَمَّ فهي أحيانًا ما تكون ثقيلة صادمة لكنها بالتأكيد تعبر عن الحقيقة بعمق وتأتي بها من أحشاء الواقع دون تزويق أو زخرفة.. هذا المثل بالذات تأكدت من صدقه، وأنه أسمى من كل المأثورات التي تعلمتها لأنه ربما كان يشفي غيظي وعجزي عن إيجاد وصف لذلك الرجل الذي كان يصلي إمامًا بنا وكنت أراه كثيرًا ما يخطب في المسجد الكائن أسفل العمارة التي أقطن فيها ويهيئون له الكاميرا لتسجيل خطبته ورفعها إلى الشبكة العنكبوتية أو على المواقع الدينية أو برنامجه الأسبوعي في قناة اليقين، وبرنامجه الاشهر "باسم الدين "، احتكرت يا سيدي اليقين وباسم الدين، لم تترك مجالاً لأن يستخلص أحد غيرك اليقين ولو من المسلمين، محنة جديدة على أرض الصمود، فتنة أشد من فتنة علي ومعاوية تنهش في أحشاء الوطن، والتليفزيون دكان من دكاكين التطرف تذكرت هذا المثل حينما صلى بجانبي أول صلاة لي بالمسجد كما قلت ولم أكن أدرك أن السلام على جاري عقب كل صلاة الذي مارسته منذ كنت صغيرًا عملاً من أعمال النار حسبما يرى جلالته وغالبية مريديه رواد هذا المسجد ، ذلك بعلمه المستخلص من كتب لا نعرف من أين أتت حتى هذه اللحظة التي نظر لي فيها شذرًا وترك فضيلته يدي معلقة في الفضاء ولم يمد يده، لم يسمح لي بأن أقول له «حرمًا» عبث بلحيته قال لي «يا أخي تلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار».
وبعد وفاة نفيسة أم إسماعيل لحقها ناظر مدرستنا المبجل الذي كنا نهابه ونجري إلى الشوارع الأخرى لنختبئ إذا مر بنا لم يهنأ كثيرًا بالستة قراريط التي استردها، والعجيب أن دار كل منهما الاثنين الذين تنازعا بشدة في عهد عبدالناصر والسادات اشتراهما في عهد مبارك نصر ابن عمي محمود السمكري بأمواله التي استقدمها من بلاد اليونان بعد هجرة غير شرعية لم تنجح في المرة الأولى إلى أن أصابت في المرة الثانية وحوّلهما إلى كافتيريا فاخرة أطلق عليها اسم «كافيه ابن البلد».
نصر ابن عمي محمود السمكري والسمكرى اسم شهرة يطلق على من يصلحون بابور الجاز بلغة اهلى قريتى اما نصر الذي سمّاه والده تيمنًا بحرب أكتوبر فلم تعجبه الحياة ولم يقتنع أنه يمكن أن يحقق نصرًا من أيّ نوع لو ظل في قريتنا.. هجر التعليم وهرب من المدارس، حلم والده أن يكون ابنه من الأفندية صار هباء، نصر كان يرى أن الحياة هي الفلوس فقط وبالفلوس تستطيع أن تخلق العالم الذي تعيش فيه وأنه لو قضى العمر في التعليم فإنه لن تكون له حياة ولن يكون له وجود، وحينما تسأله ازاي سيقول لك معك قرش تساوي قرش ممعكش لا تساوي شيء التعليم لا شيء والوظيفة لا شيء.. نصر يؤمن بأن كل مشاكل البلد والعالم تجمعت فيه لا أمل له، لا مفر من الهروب في اتجاه الشمال إما اليونان أو إيطاليا كان يقول إيطاليا أحسن لأن النسوان أجمل لكنه لم ينجح للفرار إلى إيطاليا التسعيرة كانت أعلى؛ سافر إلى اليونان استولى على تحويشة أبيه، أكل مال إخوته ترك لوالده رسالة تقول «والله ما تزعل مني كل إخوتي وأنت في عيني يا أبي العزيز». لم يملك والده إلا أن يدعو له والحقيقة أن نصر لم يتخلّ عن إخوته ولم يحنث بوعده.
لم يكتفِ نصر ابن عم محمود بهذه الكافتيريا التي ترك إدارتها لأخيه الصغير الحاصل على ليسانس آداب مع إيقاف التنفيذ حيث تخرج في الجامعة بدرجة عاطل، وجلس كمعظم شباب البلدة على كوبري الترعة التي أصبحت تقسم البلد نصفين بعدما كانت فيما سلف من الأيام هي الحد الشرقي للقرية عدا بيوت متناثرة أكثرها لعائلتي شبه الإقطاعية ربما إعلانًا لتملصها من القرية ورغبة في عدم الاندماج فيها، القرية كانت نصف قديم بدأ تاريخه من الطين والقش والبوص وحطب القطن وشيئًا فشيئًا تحول إلى كتل خرسانية وبيوت عالية وحواري ضيقة بعد أن تجرأ سكان القرية على اقتسام أجزاء من الشارع كل أمام منزله ولا وجود ليد الدولة لتمنعهم، أما النصف الآخر فقد كان أرضًا زراعية تزينها بيوت عائلتي القديمة بأبهاء وفخامة تآكلت يومًا بعد يوم حتى تلاشت شيئًا فشيئًا، ولم يعد إلا قلة من سكان القرية تروي نوادرها وتفاصيل دقيقة وأكاذيب ممتعة عن هذه البيوت التي كانت تشبه معابد الفراعنة.. تحولت الأرض إلى فلل وعمارات وكافيهات نبتت من أموال دول الخليج والهجرة إلى آبار النفط وبعضها ولد داخليًّا في ميلاد قيصري كانت ضحيته القيم وأخلاق القرية، بُنيت مع الانفتاح والتجارة في كل شيء والربا المستتر، تشتري السيارة نصف النقل الجنيه بجنيه، تشتري أدوات المنزل لابنتك الجنيه بجنيه، الجنيه الذي حل محل القرش هو لغة العصر والصباح والليل والنهار، شيئًا فشيئًا تداخل نصفا القرية ولم يعد هناك فارق حقيقي وبالتأكيد كان النصف الجديد صاحب الراية الخفاقة والانتصار المدوي على ما تبقى من تقاليد وحطام قيم بالية تمسك بأهدابها النصف القديم من القرية وتأكيدًا لوحدة القرية اختفى تقسيمها التقليدي، واعترافًا بالتحول سمعنا أن في خطة الحكومة ردم الترعة وتحويلها إلى مواسير واستغلالها بالتأجير لسكان القرية لإقامة أنشطة عليها إلا أن ثورة يناير المباركة كان من إنجازاتها إفلاس الدولة وأصبحت على الحديدة أكثر من ذلك شرعت الدولة في بيع الحديدة، ومِنْ ثَمَّ توقفت المشروعات التي سبقت الموافقة عليها قبل الخامس والعشرين من يناير.
واشترى نصر أيضًا خمسة أفدنة ليصبح وإخوته من ذوي الأملاك وترك رعايتها لأخيه الذي كان يعمل إلى عهد قريب في محجر للطوب يقوم بتحميل عربيات الطوب الأبيض التي تستخدم غالبًا في البناء المخالف.
لم يكتفِ نصر بكل ذلك بل كان له إنجازات أخرى أهمها أنه أدخل البيتزا إلى قريتنا وذلك ضمن المول الكبير الذي نجح في بنائه على الأرض الزراعية التي تقبع خلف الطريق المرصوف الذي يشق القرية من الناحية الغربية، بنى سورًا من الحجارة كما نصحه مدير الجمعية الزراعية حول ثلاثة أفدنة، اليوم الثاني جاء لودر الحكومة لهدمها وحررت الجمعية الزراعية محضرًا بالإزالة وفي المساء زار نصر أمين الشرطة الذي يسكن عزبة مجاورة لقريتنا ويملك سيارتين ميكروباص تعملان على خط الإسكندرية قيمتهما تزيد على ثمانمائة ألف جنيه ونصف عمارة بالمدينة بجوار مركز الشرطة جهز بها لابنه عيادة فاخرة ليبدأ عمله عقب إنهاء دراسته بكلية الطب في جامعة «6 أكتوبر» الخاصة ولم ينسَ أخته التي تدرس معه في ذات الجامعة ولكن في كلية الصيدلة جهز لها صيدلية فاخرة ولا حاجة للحكومة بعد ان اندثر دورها فى توظيف الشباب، ورافعًا عنها وعن الدولة مشقة توفير فرص عمل لأولاده، قبض أمين الشرطة مبلغًا قيل في إحدى الروايات إنه مائة ألف جنيه سبعون منها على الأقل ستذهب إلى مأمور المركز أما مدير الجمعية والمختص بالأملاك ومشرف الحوض فكان نصيب كل منهم بالتساوي ثلاثة آلاف جنيه، وقيل أيضًا إنه أعطى مدير الجمعية زجاجة برفان، أما مشرف الأملاك ومشرف الحوض فقد اختصهما بشريط من الفياجرا الأصلي أحضرها معه من بلاد اليونان، بعد أسبوع كانت الأرض قد تحولت إلى كتل خرسانية وبعد عدة شهور تحولت إلى عشرات المحلات يتوسطها نافورة من المياه النقية التي يُخشى نفادها بعد سد النهضة (سلام على ماء النيل)، تدخل العروس أو الأسرة هذا المكان فتخرج بكل ما تحتاجه من الإبرة حتى الصاروخ، يقول شباب القرية إن كارفور غزا قريتنا وأكد نصر ذلك حين سمّى مشروعه «هابي كارفور»، وشكره أهل القرية وأئمة المساجد لأنه أضاء الطريق إليه ومن حوله بأنوار جعلت قريتنا تنافس باريس عاصمة النور ولم يخشَ نصر من نار فاتورة الكهرباء فقد أقنع سعيد الكهربائي بتوصيل نصف الكهرباء على الخط العمومي بعد أن اشترى ذمة قارئ العدادات الذي يقطن قرية مجاورة والفاحص الذي يحضر من مقر الشركة بدمنهور من حين إلى آخر براتب شهري خمسمائة جنيه لكل منهما ومثلها لمخبر مباحث الكهرباء، أما عن المحضر فقيل إنه تاه في أدراج قسم الشرطة وقيل إنه فُقد لدى الخبير الذي انتدبته المحكمة لمعاينة المكان ولم يدون في سجلات الجمعية الزراعية أن جزءًا من أرض قريتنا بتر لإصابته بسرطان الانفتاح وغرغرينة الفساد.
عم محمود حريص على أن يصلي الظهر معنا بعد إنهاء مهمته وتشطيب عربته.. كانت لحيته البيضاء تجذب الأنظار إليها وإلى عينيه ووجهه الأبيض الذي ينطق بأن قلبه أبيض من هذا الوجه وأنه من أصل طيب وتشعر أن لحيته البيضاء رقيقة كأنها ريش نعام.. بالمناسبة حي كرموز موطن سكن عمي محمود يقولون إنه مرتع للجريمة والمخدرات، لا أظن ذلك صحيحًا بالمرة لأن عمي محمود هو الوحيد الذي يصافحني بعد الصلاة.
مسجد قريتي تغير أيضًا أكثر من تغير حوائطه وزخارفه نعم أعيد بناؤه لكن لم تعد فيه ذات الروح التي كانت فيه، هل للمساجد أرواح؟
نعم، بل لكل مكان روحه التي لا تنبض فيه بقدر ما تنبض في روّاد المكان، هناك كنت تشعر بالحياة صيفًا وشتاءً تشعر أكثر بقدرة الخالق حيث خشونة الحصير أو لهيب الشمس الذي لا ترده نوافذ زجاجية أو شيش فاخر بماكينة إلكترونية في الصيف القائظ، وبرودة الجو القارسة في الشتاء التي تدخل للمصلية المفتوحة الملحقة بصحن المسجد، كانت روح الدين والدنيا في مسجد قريتنا أكثر من هذا المسجد الذي يكسو السجاد أرضيته وتفوح منه رائحة الطيب والعود ،ودورات المياه نظيفة من أحدث الماركات العالمية، كأنها مرآة نقية من شدة نظافتها أجمل ما فيها أن بها «سخن وبارد»، أبهاء رائعة تكتمل بقرآن مرتل أحيانًا لشيخ يتباكى يستعذب صوته رواد المسجد، رغم أن صوته مشحون برائحة وصلد صحراء شبه الجزيرة العربية، كنت أود أن يكون صوته مصريًّا خالصًا يقولون أنزل القرآن بمكة وكتب في إسطنبول وقرئ في مصر، لم أتمنّ أن يكون صوته في خشوع المنشاوي أو جدية وانضباط الحصري، على الأقل مثل صوت عمي محمد فرحات ذلك الرجل المهيب الذي يرتدي طاقية بيضاء من قماش ناعم وليست منسوجة من خيط، لم أعد أرى منها الآن مطلقًا، كان طويلاً وكان يصعد درجات المئذنة ويؤذن وأحيانًا كان يؤمّنا في الصلاة وأحيانًا أيضًا كان يخطب الجمعة، ما زلت أحفظ بعضًا من هذه الخطب وكلماتها تدوي في أعماقي، تحولت إلى عمل وسلوك رغم أنه لم يكن يزعق كبوم الخرائب ولا يخوف بالعذاب بل كان يبشر بالثواب ويعظ بالحسنى وإن جادل جادل بالتي هي أحسن، المدهش أنه كان يقرأ من كتاب قديم للخطب الموضوعة ولكنها كانت تخترق القلب وتنفذ إلى صميم الفؤاد أمّا الغريب فإنه كان يمسك سيفًا خشبيًّا أو من معدن الحديد في يده يقولون إنه رمز للجهاد، الجهاد طوال عمره فرض كفاية تحول في زمن التجارة و الجهاد من أجل البزنس وتجارة السلاح وتجارة البشر والجلوس على كراسي السلطة الناعمة إلى فرض عين، رأيت في التلفاز فيلمًا وثائقيًّا، الرئيس عبدالناصر يذهب إلى الأزهر يعلن الجهاد من هناك ضد العدوان الثلاثي أما الآن أرى بعيني وأسمع بأم أذني من يعلن الجهاد من المسجد ضد المسلمين، من عجائب هذا الزمان الجهاد باسم الدين على من يدينون بالدين ذاته بل على من يرتادون المسجد ذاته، لكنهم يختلفون في السلطة وعلى السلطة يرون أن السلطة يجب أن تكون في تلك المساجد أو زوايا الموت.. إنها ندبة في وجه الدين الحنيف.
الغريب أن عمي محمد فرحات لم يصب بهذا السيف أحدًا ولو في مشاعره ولم يحرض أحدًا على استخدامه، ما زالت حكاياته الجميلة ترن في أذني تتردد في أعماقي وكنت أتصور وأنا بصحبة أبي أنها حواديت من الخيال كيف لشخص أن يسأل عن شخص يهودي يغوط أمام منزله إذا غاب مرة ولم يضع غوطه أمام المنزل إنه رسول الله (صلى الله عيه وسلم)، لذلك كنا نسارع في التصالح أنا والأولاد الذين ألعب معهم.. أكثر من ذلك لم يكن أحد منهم يخاصم أحدًا إذا حضر مولد النبي أو شهر رمضان، وببساطة متناهية يقول كل منا للآخر «إنت عاوز ربنا يزعل منك وسيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) يخاصمك»، كل ذلك كان من أثر خطب الشيخ محمد فرحات أو ربما لحبنا للشيخ محمد واقتناعنا بما يقصه علينا ولمحبتنا لرسول الله ولم نهتم بذلك السيف الذي يمسكه في يده وهو يخطب فينا، أمّا الآن فقد سمعت من على منبر رسول الله من يحرم السلام أو الزواج ممن يخالفونهم في الصراع على عرش السلطان، لا زواج ولا تجارة إلا مع الأنصار الجدد دون باقي البشر ولو كانوا من المهاجرين، النبي آخَى بين المهاجرين والأنصار، وأنتم فرقتم بين الجار والجار، بل بين الأخ وأخيه والوالد وبنيه، فرقتم بينهم بحسب المكان الذي يقف فيه، قال الإمام بمسجد عمارتنا الفخيم بحدة: «أولاد الكلب اللي حينتخبوا أحمد شفيق».
الشيخ محمد الذي كنت أقول له «يا سيدنا»، كان سببًا في أول علقة ساخنة أكلتها في حياتي يوم أن تركت الكُتّاب وزوّغت لآكل توت أسمر، أمي ضربتني بعصى حطب على فخذَيّ اللذين كانا ظاهرين من الشورت القصير الذي تميز بلبسه أولاد عائلتي.. كان رحمة الله عليه يحضر للبيت كل يوم جمعة، العاشرة صباحًا، يجلس على كنبة وثيرة يقرأ ما تيسر له من آيات الله البيّنات، ورغم أنه كان مشدوهًا لمنظر المرآة الفاخرة التي تتوسط صالة المنزل، طولها أقصى من مترين وعرضها متر ونصف مزينة بإطار منمق وتاج عليه صورة أطفال يحملونه بأجنحة، والإطار والتاج مطلي بماء الذهب الفرنساوي اللامع والمرآة بيضاء ناصعة كقرص القمر ليلة أربعة عشر، مرآة تدل على بقايا عز زائل اختلط فيه المال بالثقافة، قال الشيخ محمد ذات مرة «بسم الله ما شاء الله.. المرآة دي تساوي كام دلوقت؟»، بينما جارنا الدكتور كامل البستاوي الذي عاد إلينا من الجامعة بملامح جديدة لدين الإسلام لا نعرفها ولم نسمع عنها أو نقرأ عنها من قبل قال لوالدتي وهي تعود أمه المريضة يجب إزالة هذه المرآة يا عمة لا تتركوا في بيتكم أصنامًا فيلعنكم الله ويحيق بكم غضبه ولا تدخله الملائكة.
ورغم وفاة الشيخ محمد فرحات ورحيله عن عالمنا وحزننا عليه لم ينقطع القرآن من البيت ولا من المسجد وتبدل اتجاهي إلى الكُتاب بدلاً من المسجد إلى منزل عمي أحمد الشيخ الذي حل محل الشيخ محمد فرحات بعد موته، كان صوته به بحة تميل إلى الخشونة الجاذبة وكان يؤمّنا في الصلاة أيضًا خاصة التراويح في شهر رمضان، ثم مات الشيخ أحمد وللأسف لم يكن يضربني كأولاد الكتاب وللأسف الشديد أيضًا كان ذلك سببًا أساسيًّا في عدم ختمي للقرآن، حفظت فقط قرابة عشرة أجزاء، وبعد وفاته أعقبته زوجته وكنا نسميها نفيسة الشيخة رغم أنها ليست من عائلة الشيخ ولكن نسبة للشيخ أحمد وكانوا يطلقون عليها نفيسة أم إسماعيل، وكنت في شدة الحيرة من هذه التسمية، ليس لها أولاد فمن هو إسماعيل، أجابتني أمي أن إسماعيل هو أخوها وكانوا يقولون لمن لم تنجب يا أم فلان وفلان هو أخوها ولم أكن أعرف أين هو إسماعيل، وعرفت أن إسماعيل شهد على أبيه ومشاركته في معركة تمت في سوق القرية وشهد أن أباه هو الذي قتل واحدًا من قتلى المعركة دخل والده السجن ومات هناك، أكل برد السجن صدره الذي فشا فيه السل، أما إسماعيل فترك البلد ولا يعرف أحد أين ذهب نتيجة لصحوة ضميره التي ألقت به إلى مجهول لم نتبين ملامحه.
وماتت نفيسة الشيخة وحزنت على موتها وزاد حزني لمّا كبرت وعرفت قيمة الكلمة، كانت رحمة الله عليها أحكم الناس على وجه البسيطة، تحفظ من الأمثلة الشعبية ما لو دوّنتُه لاحتجت عشرات المجلدات، تيقنت بعد ذلك أنها كانت تجيد ارتجال هذه الأمثلة تبعًا لمواقف الحياة أكثر ما أثر في نفسي أنها كانت تتكلم كثيرًا عن زمن الندولة والأرض المجهولة ولم أكن أعرف أنني سوف أحيا في زمن الندولة، قالت أمي مفسرة هذا المثل أنه زمن سوء الخلق وانعدام الضمير، هو بعينه الزمن الذي أعيش فيه الآن، أما الأرض المجهولة فقالت أمي هي أرض تسأل عنها أو عن صاحبها فتجده نكرة، إمعة، حثالة، لم يعرف له أصل ولا فضل ولا وزن ولا قيمة ولا يعرف من أين أتى ولا أتت فلوسه التي اشترى بها الأرض، الله عليكي يا حاجة نفيسة لا من أجل خلخالك النحاسي أو المعدن لا أعرف من أيّ مادة صُنع لكن أذكر حينما خلعتيه أمامي مرتين الأولى احضرتيه لأمي لتبيعيه لتشتري خروفًا لتذبحيه في مولد النبي وتوزعيه على الجيران حتى لا تقطعي عادتك في محبة رسول الله، ثم اشتريت اخر بعدها بقليل ، والثانية حينما أصيب والدي وأنا طفل صغير بمرض الشلل النصفي ، مرض مرضًا شديدًا أمي بكت يومها وبكيت دون أن أعرف السبب شكرتك أمي في هذه المرة ، يومها زدتِ على الخلخال قرطك الذهبي الذي يشبه خراطة الملوخية وينوء به كف اليد ، واضفت لهما حزمة من الفلوس الورقية ، أمي شكرتك بشدة واحتضنتك فقط طلبت منك أن تأخذي بالك منا بينما كانت تستعد لتركب السيارة المخصوص ليرحل ابى للعلاج في الإسكندرية.
الله عليكي يا عمة نفيسة هو بعينه الزمن الذي أعيش فيه بتفاصيله ومن الأمثلة التي وقرت في ذهني فكان مثل يقول «يا ما عمايم على بهايم»، صحيح إن أم إسماعيل كانت تقوله كلما مر عليها ناظر المدرسة فقد كان يريد إخراجهم من الأرض التي استأجروها منه بسبب مد عقد الإيجار عنوة بقوانين السيد الرئيس جمال عبدالناصر ومدت معه جسور الكراهية والحقد وقد تطوعت أمي كعادتها لشرح ذلك المثل الذي حرت فيه قالت إن المقصود هو رجال يرتدون عمائم وملابس الشيوخ وأفعالهم لا صلة لها بالشيوخ ولا العلم وكأنهم دواب يلبسون العمامة أو حمار يحمل أسفارًا، لم أكن أعرف أن تلك الأمثلة هي ديوان الحياة وأنها الشعر الحقيقي ربما ليس لها مكانة الشعر لأنها صادقة وأحلى الشعر أكذبه، ومِنْ ثَمَّ فهي أحيانًا ما تكون ثقيلة صادمة لكنها بالتأكيد تعبر عن الحقيقة بعمق وتأتي بها من أحشاء الواقع دون تزويق أو زخرفة.. هذا المثل بالذات تأكدت من صدقه، وأنه أسمى من كل المأثورات التي تعلمتها لأنه ربما كان يشفي غيظي وعجزي عن إيجاد وصف لذلك الرجل الذي كان يصلي إمامًا بنا وكنت أراه كثيرًا ما يخطب في المسجد الكائن أسفل العمارة التي أقطن فيها ويهيئون له الكاميرا لتسجيل خطبته ورفعها إلى الشبكة العنكبوتية أو على المواقع الدينية أو برنامجه الأسبوعي في قناة اليقين، وبرنامجه الاشهر "باسم الدين "، احتكرت يا سيدي اليقين وباسم الدين، لم تترك مجالاً لأن يستخلص أحد غيرك اليقين ولو من المسلمين، محنة جديدة على أرض الصمود، فتنة أشد من فتنة علي ومعاوية تنهش في أحشاء الوطن، والتليفزيون دكان من دكاكين التطرف تذكرت هذا المثل حينما صلى بجانبي أول صلاة لي بالمسجد كما قلت ولم أكن أدرك أن السلام على جاري عقب كل صلاة الذي مارسته منذ كنت صغيرًا عملاً من أعمال النار حسبما يرى جلالته وغالبية مريديه رواد هذا المسجد ، ذلك بعلمه المستخلص من كتب لا نعرف من أين أتت حتى هذه اللحظة التي نظر لي فيها شذرًا وترك فضيلته يدي معلقة في الفضاء ولم يمد يده، لم يسمح لي بأن أقول له «حرمًا» عبث بلحيته قال لي «يا أخي تلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار».
وبعد وفاة نفيسة أم إسماعيل لحقها ناظر مدرستنا المبجل الذي كنا نهابه ونجري إلى الشوارع الأخرى لنختبئ إذا مر بنا لم يهنأ كثيرًا بالستة قراريط التي استردها، والعجيب أن دار كل منهما الاثنين الذين تنازعا بشدة في عهد عبدالناصر والسادات اشتراهما في عهد مبارك نصر ابن عمي محمود السمكري بأمواله التي استقدمها من بلاد اليونان بعد هجرة غير شرعية لم تنجح في المرة الأولى إلى أن أصابت في المرة الثانية وحوّلهما إلى كافتيريا فاخرة أطلق عليها اسم «كافيه ابن البلد».
نصر ابن عمي محمود السمكري والسمكرى اسم شهرة يطلق على من يصلحون بابور الجاز بلغة اهلى قريتى اما نصر الذي سمّاه والده تيمنًا بحرب أكتوبر فلم تعجبه الحياة ولم يقتنع أنه يمكن أن يحقق نصرًا من أيّ نوع لو ظل في قريتنا.. هجر التعليم وهرب من المدارس، حلم والده أن يكون ابنه من الأفندية صار هباء، نصر كان يرى أن الحياة هي الفلوس فقط وبالفلوس تستطيع أن تخلق العالم الذي تعيش فيه وأنه لو قضى العمر في التعليم فإنه لن تكون له حياة ولن يكون له وجود، وحينما تسأله ازاي سيقول لك معك قرش تساوي قرش ممعكش لا تساوي شيء التعليم لا شيء والوظيفة لا شيء.. نصر يؤمن بأن كل مشاكل البلد والعالم تجمعت فيه لا أمل له، لا مفر من الهروب في اتجاه الشمال إما اليونان أو إيطاليا كان يقول إيطاليا أحسن لأن النسوان أجمل لكنه لم ينجح للفرار إلى إيطاليا التسعيرة كانت أعلى؛ سافر إلى اليونان استولى على تحويشة أبيه، أكل مال إخوته ترك لوالده رسالة تقول «والله ما تزعل مني كل إخوتي وأنت في عيني يا أبي العزيز». لم يملك والده إلا أن يدعو له والحقيقة أن نصر لم يتخلّ عن إخوته ولم يحنث بوعده.
لم يكتفِ نصر ابن عم محمود بهذه الكافتيريا التي ترك إدارتها لأخيه الصغير الحاصل على ليسانس آداب مع إيقاف التنفيذ حيث تخرج في الجامعة بدرجة عاطل، وجلس كمعظم شباب البلدة على كوبري الترعة التي أصبحت تقسم البلد نصفين بعدما كانت فيما سلف من الأيام هي الحد الشرقي للقرية عدا بيوت متناثرة أكثرها لعائلتي شبه الإقطاعية ربما إعلانًا لتملصها من القرية ورغبة في عدم الاندماج فيها، القرية كانت نصف قديم بدأ تاريخه من الطين والقش والبوص وحطب القطن وشيئًا فشيئًا تحول إلى كتل خرسانية وبيوت عالية وحواري ضيقة بعد أن تجرأ سكان القرية على اقتسام أجزاء من الشارع كل أمام منزله ولا وجود ليد الدولة لتمنعهم، أما النصف الآخر فقد كان أرضًا زراعية تزينها بيوت عائلتي القديمة بأبهاء وفخامة تآكلت يومًا بعد يوم حتى تلاشت شيئًا فشيئًا، ولم يعد إلا قلة من سكان القرية تروي نوادرها وتفاصيل دقيقة وأكاذيب ممتعة عن هذه البيوت التي كانت تشبه معابد الفراعنة.. تحولت الأرض إلى فلل وعمارات وكافيهات نبتت من أموال دول الخليج والهجرة إلى آبار النفط وبعضها ولد داخليًّا في ميلاد قيصري كانت ضحيته القيم وأخلاق القرية، بُنيت مع الانفتاح والتجارة في كل شيء والربا المستتر، تشتري السيارة نصف النقل الجنيه بجنيه، تشتري أدوات المنزل لابنتك الجنيه بجنيه، الجنيه الذي حل محل القرش هو لغة العصر والصباح والليل والنهار، شيئًا فشيئًا تداخل نصفا القرية ولم يعد هناك فارق حقيقي وبالتأكيد كان النصف الجديد صاحب الراية الخفاقة والانتصار المدوي على ما تبقى من تقاليد وحطام قيم بالية تمسك بأهدابها النصف القديم من القرية وتأكيدًا لوحدة القرية اختفى تقسيمها التقليدي، واعترافًا بالتحول سمعنا أن في خطة الحكومة ردم الترعة وتحويلها إلى مواسير واستغلالها بالتأجير لسكان القرية لإقامة أنشطة عليها إلا أن ثورة يناير المباركة كان من إنجازاتها إفلاس الدولة وأصبحت على الحديدة أكثر من ذلك شرعت الدولة في بيع الحديدة، ومِنْ ثَمَّ توقفت المشروعات التي سبقت الموافقة عليها قبل الخامس والعشرين من يناير.
واشترى نصر أيضًا خمسة أفدنة ليصبح وإخوته من ذوي الأملاك وترك رعايتها لأخيه الذي كان يعمل إلى عهد قريب في محجر للطوب يقوم بتحميل عربيات الطوب الأبيض التي تستخدم غالبًا في البناء المخالف.
لم يكتفِ نصر بكل ذلك بل كان له إنجازات أخرى أهمها أنه أدخل البيتزا إلى قريتنا وذلك ضمن المول الكبير الذي نجح في بنائه على الأرض الزراعية التي تقبع خلف الطريق المرصوف الذي يشق القرية من الناحية الغربية، بنى سورًا من الحجارة كما نصحه مدير الجمعية الزراعية حول ثلاثة أفدنة، اليوم الثاني جاء لودر الحكومة لهدمها وحررت الجمعية الزراعية محضرًا بالإزالة وفي المساء زار نصر أمين الشرطة الذي يسكن عزبة مجاورة لقريتنا ويملك سيارتين ميكروباص تعملان على خط الإسكندرية قيمتهما تزيد على ثمانمائة ألف جنيه ونصف عمارة بالمدينة بجوار مركز الشرطة جهز بها لابنه عيادة فاخرة ليبدأ عمله عقب إنهاء دراسته بكلية الطب في جامعة «6 أكتوبر» الخاصة ولم ينسَ أخته التي تدرس معه في ذات الجامعة ولكن في كلية الصيدلة جهز لها صيدلية فاخرة ولا حاجة للحكومة بعد ان اندثر دورها فى توظيف الشباب، ورافعًا عنها وعن الدولة مشقة توفير فرص عمل لأولاده، قبض أمين الشرطة مبلغًا قيل في إحدى الروايات إنه مائة ألف جنيه سبعون منها على الأقل ستذهب إلى مأمور المركز أما مدير الجمعية والمختص بالأملاك ومشرف الحوض فكان نصيب كل منهم بالتساوي ثلاثة آلاف جنيه، وقيل أيضًا إنه أعطى مدير الجمعية زجاجة برفان، أما مشرف الأملاك ومشرف الحوض فقد اختصهما بشريط من الفياجرا الأصلي أحضرها معه من بلاد اليونان، بعد أسبوع كانت الأرض قد تحولت إلى كتل خرسانية وبعد عدة شهور تحولت إلى عشرات المحلات يتوسطها نافورة من المياه النقية التي يُخشى نفادها بعد سد النهضة (سلام على ماء النيل)، تدخل العروس أو الأسرة هذا المكان فتخرج بكل ما تحتاجه من الإبرة حتى الصاروخ، يقول شباب القرية إن كارفور غزا قريتنا وأكد نصر ذلك حين سمّى مشروعه «هابي كارفور»، وشكره أهل القرية وأئمة المساجد لأنه أضاء الطريق إليه ومن حوله بأنوار جعلت قريتنا تنافس باريس عاصمة النور ولم يخشَ نصر من نار فاتورة الكهرباء فقد أقنع سعيد الكهربائي بتوصيل نصف الكهرباء على الخط العمومي بعد أن اشترى ذمة قارئ العدادات الذي يقطن قرية مجاورة والفاحص الذي يحضر من مقر الشركة بدمنهور من حين إلى آخر براتب شهري خمسمائة جنيه لكل منهما ومثلها لمخبر مباحث الكهرباء، أما عن المحضر فقيل إنه تاه في أدراج قسم الشرطة وقيل إنه فُقد لدى الخبير الذي انتدبته المحكمة لمعاينة المكان ولم يدون في سجلات الجمعية الزراعية أن جزءًا من أرض قريتنا بتر لإصابته بسرطان الانفتاح وغرغرينة الفساد.