عنوان هذه المقالة، هو، في الحقيقة، الآية رقم 30 من سورة الفرقان. في هذه الآية، اشتكى الرسول (ص)، إلى الله، هجرانَ قومِه للقرآن الكريم. وقومُه هم قبيلة قريش. وقبيلة قريشُ، في زمن الرسول، كانت لها بُطونٌ (فروع) وأفخاذٌ كثيرةٌ. ولهذا، فاشتكاء الرسول (ص) إلى الله، هِجرانَ قومه للقرآن، يعني أن قومَه فيهم مَن آمنَ برسالتِه وفيهم مَن لم يؤمن بها. فهل اشتكى الرسولُ (ص) من قومِه الذين آمنوا برسالتِه أم من قومِه الذين لم يُؤمنوا برسالتِه؟ فالذين آمنوا برسالة محمد (ص) تركوا (هجروا) القرآنَ بعد إيمانهم، والذين لم يُؤمنوا برسالتِه، هم كذلك تركوا القرآنَ بعدم إيمانهم به وعدم اتِّعاظهم به. فماذا يقول العقلُ في هذا الشأن؟
العقل يقول أنه اشتكى من قومه الذين آمنوا برسالته، لكنهم هجروا القرآنَ. والعقل يقول، كذلك، بأن مَن آمن برسالة محمد (ص)، هم من قوم الرسول (ص)، سواءً آمنوا برسالتِه أثناءَ حياته أو بعد وفاته. في هذه الحالة، كل المسلمين، أينما ومتى وُجِدوا، هم من قوم الرسول (ص)٠
وهِجران القرآن هذا حدث في عهد الرسول (ص)، أي أثناءَ تبليغ رسالة الإسلام، أي في مدة وجيزة. فما بالُكم بعصرنا الحاضر الذي يفصل ما بينه وما بين وفاة الرسول (ص) ما يزيد عن 14 قرنا من الزمان. عصرٌ انشغل فيه الناسّ بحياتِهم المادية la vie matérielle ou matérialiste وأهملوا، إلى حدٍّ كبير، حياتَهم الروحية أو الروحانية la vie spirituelle ou spiritualiste. بمعنى أن الحياةَ المادية طغت وتطغى على الحياة الروحية أو الروحانية، إلى درجة أن كثيرا من القيم الإنسانية، التي هي مرتبطةٌ بالحياة الروحية، أصبحت في خبر كان.
وبدون أدنى شك، وهذا واضحٌ للعيان، أن البشريةَ، منذ وفاة الرسول (ص) إلى يومنا هذا، عرفت تطوُّرا هائلاً ومُذهلا لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ هذه البشرية. وتطوّر البشرية هذا ناتجٌ عن تطوّر الفكر. وتطوُّر الفكر هو الذي أدَّى إلى إنتاج علمي غزير. وكلما تقدَّم الإنتاج العلمي، كلما تطوَّرَ فكر الإنسان وكلما دخل عوالمَ جديدة من المعرفة. غبر أن التَّطوُّرَ العلمي عرف، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، إنتاجاً تكنولوجياً هائلاً جعل الناسَ يعطون أولويةً فائقة للحياة المادية ويُهمِلون، إلى حدٍّ كبيرٍ، الحياة الروحية. هذا إن لم يتم الفصلُ، بصفة نهائية، بين الحياة المادية والحياة الروحية. فما هي الحياة المادية وما هي الحياة الروحية؟
الحياة المادية la vie matérialiste مقترنةٌ، أساساً، بحبِّ امتلاك الأشياء، وعلى رأس هذه الأشياء، امتلاك الأموال والثروات possession d'argent et de richesses. والمُنشغلون بالحياة المادية لا تهمُّهم القيم الإنسانية، من قبيل حب الآخر والتضامن والتضحية والإيثار… ما يهمُّهم، بالدرجة الأولي، هو كيف سيحصلون على مزيد من الأموال والثروات. بل، بالنسبة لهذا النوع من البشر، النجاح في الحياة مقترن بالحصول على أكبر قدرٍ من الأشياء المادية، وباختصار، كل ما يجعل هذا النوعَ من البشر يعيشون في رفاهية luxe exagéré مبالغ فيها.
وما زاد ويزيد في الطين بلَّةً، هو أن هذا النوعَ من البشر يستعملون مواقع التَّواصل الاجتماعي للتًّباهي بما سمحت لهم أموالُهم بشرائه أو باقتنائه من الماديات. إلى درجة أنهم نسوا أو تناسوا كل القيم الإنسانية الأخرى، الروحية منها، الفكرية والثقافية…مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (الإسراء، 28).
أما الحياة الروحية، فهي، بالنسبة لِمَن هو مسلم، البحث عن الله وعن معنى الحياة، علما أن الحياة قد تفقد معناها في غياب كل ما هو روحي. والبحث، كذلك، عن إقامة علاقة شخصية مع الله، سبحانه وتعالى، بذكره وعبادته وفي الإنخراط فيما أراده من خيرٍ لعباده. وكل دين، سواءً كان سماوياً أو وضعياً، له روحانيَاتُه ses spiritualités، خاصة به، وله كذلك، طُرُقُه الخاصة لتطبيق هذه الروحانيات على أرض الواقع. والروحانيات تتجلى في كل ما هو مستقلٌّ عن المادة. وما هو مستقلٌّ عن المادة، هي النفسُ esprit ببُعدها اللامادي.
وما يُثيرُ الانتباهَ، هو أن الحياة المادية، في عصرنا الحاضر، لم تعُد مقتصرةً على الضروريات le strict nécessaire، أي على ما تتطلَّبه الحياة المادية العادية من أكل وشرب ولباس وسكنٍ وتداوي… بل كل الناس، بدون استثناء، أصبحوا يبحثون عن الكماليات، أي كل ما يُسعِدهم في حياتِهم المادية ويُدخِل عليها البهجةَ والسرور. غير أن الكماليات ليست ضرورية في حياة الناس. بمعنى أنه، من الممكن الاستغناء عنها دون أن يُؤثِّرَ هذا الاستغناءُ على الحياة المادية العادية.
استناداً إلى ما قلتُه أعلاه، أي أن المسلمين، أينما ومتى وُجِدوا، هم من قوم الرسول (ص)، فما أختم به هذه المقالة، هو أن الرسولَ (ص) عايش هجرانَ قومِه للقرآن الكريم. وما دام قومُه هم المسلمون، فكأن الرسولَ (ص) استشرف هِجرانَ القرآن من طرَف قومه مستقبلاً. وهذا هو ما نلاحظُه حاليا حيث الناسُ انشغلوا بحياتهم المادية وتركوا جانباً الحياةَ الروحيةَ التي يعدُّ القرآنُ الكريم أحداً من روافدها. ولا يخفى على أحدٍ أن القرآن، كحاملٍ لرسالة الإسلام، أهمله المسلمون أنفسُهم. وقراءة القرآن أو حِفظُه بدون تدبُّرٍ، هو كذلك إهمالٌ لهذا القرآن.
ولهذا، فهِجرانُ القرآن الذي تحدَّث عنه الرسول (ص) في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، أمرُ واقعٌ على امتداد الزمان والمكان. وما زاد ويزيد في الطين بلَّةً، هو أن بعض علماء وفقهاء الدين القدامى، الذين من المفروض، أن يحثوا الناسَ على التَّقرُّب من القرآن وتدبُّر آياته، فإنهم فسَّروا كثيراً من آياتِه حسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية، الزمانية والمكانية.
وما زاد ويزيد في بلَّة طينِ الطينِ، هو أن علماءَ وفقهاءَ الدين الحاليين، عوض أن يُحبِّبوا القرآن للناس، بتفسيره حسب ما تقتضيه ظروف العصر الراهن، فإنهم اكتفوا بتقليد علماء وفقهاء الدين القُدامى. فلا غرابةَ أن يستمرَّ هِجرانُ القرآن في عصرنا الحاضر كما كان في عهد الرسول (ص). غير أن أسبابَ هِجران القرآن، في عهد الرسول (ص) مختلفة عن هِجرانه في عصرنا الحاضر، لكن النتيجة واحدة.
العقل يقول أنه اشتكى من قومه الذين آمنوا برسالته، لكنهم هجروا القرآنَ. والعقل يقول، كذلك، بأن مَن آمن برسالة محمد (ص)، هم من قوم الرسول (ص)، سواءً آمنوا برسالتِه أثناءَ حياته أو بعد وفاته. في هذه الحالة، كل المسلمين، أينما ومتى وُجِدوا، هم من قوم الرسول (ص)٠
وهِجران القرآن هذا حدث في عهد الرسول (ص)، أي أثناءَ تبليغ رسالة الإسلام، أي في مدة وجيزة. فما بالُكم بعصرنا الحاضر الذي يفصل ما بينه وما بين وفاة الرسول (ص) ما يزيد عن 14 قرنا من الزمان. عصرٌ انشغل فيه الناسّ بحياتِهم المادية la vie matérielle ou matérialiste وأهملوا، إلى حدٍّ كبير، حياتَهم الروحية أو الروحانية la vie spirituelle ou spiritualiste. بمعنى أن الحياةَ المادية طغت وتطغى على الحياة الروحية أو الروحانية، إلى درجة أن كثيرا من القيم الإنسانية، التي هي مرتبطةٌ بالحياة الروحية، أصبحت في خبر كان.
وبدون أدنى شك، وهذا واضحٌ للعيان، أن البشريةَ، منذ وفاة الرسول (ص) إلى يومنا هذا، عرفت تطوُّرا هائلاً ومُذهلا لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ هذه البشرية. وتطوّر البشرية هذا ناتجٌ عن تطوّر الفكر. وتطوُّر الفكر هو الذي أدَّى إلى إنتاج علمي غزير. وكلما تقدَّم الإنتاج العلمي، كلما تطوَّرَ فكر الإنسان وكلما دخل عوالمَ جديدة من المعرفة. غبر أن التَّطوُّرَ العلمي عرف، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، إنتاجاً تكنولوجياً هائلاً جعل الناسَ يعطون أولويةً فائقة للحياة المادية ويُهمِلون، إلى حدٍّ كبيرٍ، الحياة الروحية. هذا إن لم يتم الفصلُ، بصفة نهائية، بين الحياة المادية والحياة الروحية. فما هي الحياة المادية وما هي الحياة الروحية؟
الحياة المادية la vie matérialiste مقترنةٌ، أساساً، بحبِّ امتلاك الأشياء، وعلى رأس هذه الأشياء، امتلاك الأموال والثروات possession d'argent et de richesses. والمُنشغلون بالحياة المادية لا تهمُّهم القيم الإنسانية، من قبيل حب الآخر والتضامن والتضحية والإيثار… ما يهمُّهم، بالدرجة الأولي، هو كيف سيحصلون على مزيد من الأموال والثروات. بل، بالنسبة لهذا النوع من البشر، النجاح في الحياة مقترن بالحصول على أكبر قدرٍ من الأشياء المادية، وباختصار، كل ما يجعل هذا النوعَ من البشر يعيشون في رفاهية luxe exagéré مبالغ فيها.
وما زاد ويزيد في الطين بلَّةً، هو أن هذا النوعَ من البشر يستعملون مواقع التَّواصل الاجتماعي للتًّباهي بما سمحت لهم أموالُهم بشرائه أو باقتنائه من الماديات. إلى درجة أنهم نسوا أو تناسوا كل القيم الإنسانية الأخرى، الروحية منها، الفكرية والثقافية…مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (الإسراء، 28).
أما الحياة الروحية، فهي، بالنسبة لِمَن هو مسلم، البحث عن الله وعن معنى الحياة، علما أن الحياة قد تفقد معناها في غياب كل ما هو روحي. والبحث، كذلك، عن إقامة علاقة شخصية مع الله، سبحانه وتعالى، بذكره وعبادته وفي الإنخراط فيما أراده من خيرٍ لعباده. وكل دين، سواءً كان سماوياً أو وضعياً، له روحانيَاتُه ses spiritualités، خاصة به، وله كذلك، طُرُقُه الخاصة لتطبيق هذه الروحانيات على أرض الواقع. والروحانيات تتجلى في كل ما هو مستقلٌّ عن المادة. وما هو مستقلٌّ عن المادة، هي النفسُ esprit ببُعدها اللامادي.
وما يُثيرُ الانتباهَ، هو أن الحياة المادية، في عصرنا الحاضر، لم تعُد مقتصرةً على الضروريات le strict nécessaire، أي على ما تتطلَّبه الحياة المادية العادية من أكل وشرب ولباس وسكنٍ وتداوي… بل كل الناس، بدون استثناء، أصبحوا يبحثون عن الكماليات، أي كل ما يُسعِدهم في حياتِهم المادية ويُدخِل عليها البهجةَ والسرور. غير أن الكماليات ليست ضرورية في حياة الناس. بمعنى أنه، من الممكن الاستغناء عنها دون أن يُؤثِّرَ هذا الاستغناءُ على الحياة المادية العادية.
استناداً إلى ما قلتُه أعلاه، أي أن المسلمين، أينما ومتى وُجِدوا، هم من قوم الرسول (ص)، فما أختم به هذه المقالة، هو أن الرسولَ (ص) عايش هجرانَ قومِه للقرآن الكريم. وما دام قومُه هم المسلمون، فكأن الرسولَ (ص) استشرف هِجرانَ القرآن من طرَف قومه مستقبلاً. وهذا هو ما نلاحظُه حاليا حيث الناسُ انشغلوا بحياتهم المادية وتركوا جانباً الحياةَ الروحيةَ التي يعدُّ القرآنُ الكريم أحداً من روافدها. ولا يخفى على أحدٍ أن القرآن، كحاملٍ لرسالة الإسلام، أهمله المسلمون أنفسُهم. وقراءة القرآن أو حِفظُه بدون تدبُّرٍ، هو كذلك إهمالٌ لهذا القرآن.
ولهذا، فهِجرانُ القرآن الذي تحدَّث عنه الرسول (ص) في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، أمرُ واقعٌ على امتداد الزمان والمكان. وما زاد ويزيد في الطين بلَّةً، هو أن بعض علماء وفقهاء الدين القدامى، الذين من المفروض، أن يحثوا الناسَ على التَّقرُّب من القرآن وتدبُّر آياته، فإنهم فسَّروا كثيراً من آياتِه حسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية، الزمانية والمكانية.
وما زاد ويزيد في بلَّة طينِ الطينِ، هو أن علماءَ وفقهاءَ الدين الحاليين، عوض أن يُحبِّبوا القرآن للناس، بتفسيره حسب ما تقتضيه ظروف العصر الراهن، فإنهم اكتفوا بتقليد علماء وفقهاء الدين القُدامى. فلا غرابةَ أن يستمرَّ هِجرانُ القرآن في عصرنا الحاضر كما كان في عهد الرسول (ص). غير أن أسبابَ هِجران القرآن، في عهد الرسول (ص) مختلفة عن هِجرانه في عصرنا الحاضر، لكن النتيجة واحدة.