*****
- هذه القصيدة تتأمل في فلسفة الشعر، متسائلة عن أصالة الكلمات والأوزان التي تُعبر عن جوهر الإنسان في ظل الظروف المتقلبة. يستعرض النص ثنائية الرغبة في التعبير الصادق وتحديات الكتابة في واقع قد فقد بريقه وقوافيه التقليدية. القصيدة تستند إلى فكرة الشعر الخارج عن إطار الوزن التقليدي والتفاعيل المعتادة، وتستنكر الحواجز التي تعترض الطريق نحو الأصالة والتعبير الحرّ.
في القسم الأول، نرى صورة العطش إلى الكلمات التي تعبر عن مشاعر خالصة، فيما يتماهى "ظل الجوهر" مع الأوزان الراقصة كاستعارة عن الشوق العميق للتعبير الحرّ. في هذه الصورة، القصيدة هي ماء، دماء، ورحلة نحو كنه المشاعر، حيث لم تعد التفاعيل التقليدية قادرة على احتواء جموح الروح.
في القسم الثاني، يُعمِّق الشاعر تأمله في رمزية "ظل الجوهر"، مقدّمًا صورة من الشوق والطموح والأمل المتجدد في الصباحات العابقة بنسمات الحرية، حيث القوافي هي ماء، دماء، وذهب خالص. يتساءل عن رحلة النساء الهاربات من بوحهن نحو عطر نديّ يختبئ في عيني الحبيب الخجول، في انعكاس لأحاسيس تتحدى قيود المجتمع وتحدّق في المدى الواسع للمجهول.
هذه التأملات تبرز التناقض بين الأحلام والواقع، بين الأصالة والقيود، وبين الشوق والواقع المتهدم.
القصيدة تُبرز توتراً وجودياً بين عمق المشاعر وحقيقة الأوزان والقوافي التقليدية، حيث يستعرض الشاعر رحلته في البحث عن لغة تتجاوز الحدود المألوفة للشعر، لتعبر عن إحساس حقيقي وجوهري يتعدى الموسيقى الخارجية إلى ما هو أعمق وأكثر أصالة. في هذا النص، يبدو أن الشاعر يعبر عن تجربة داخلية قد تكون شخصية وقد تمثل إحساسًا عامًا، تتقاطع فيه الرغبة في التحرر من قيود الأشكال الشعرية التقليدية مع الحنين إلى جوهر الشعر نفسه، كوسيلة للتعبير عن مشاعر مرهفة وجراح دفينة.
تبدأ القصيدة بسؤال جوهري عن ماهية الشعر وكيف يمكن أن يكون وسيلة تعبير حقيقية عن الروح. هنا، يتم تصوير "نهرنا الظّامي" كرمز لعطش الشاعر إلى كلمات صادقة تنبع من صميم دمه، فيما يبدو أن "ظلّك الجوهر" هو تلك الأبعاد العميقة المخفية خلف ظلال التقاليد والشكل. يستخدم الشاعر هنا استعارة "دبكة الأوزان" و"تصفيق القوافي" ليوحي بأن الشعر قد أصبح مجرد عرض شكلاني، خالٍ من الحياة، تقيده تفاعيل الخليل وبحوره المحددة التي لم تعد قادرة على إيصال الشاعر إلى "الدروب التي ضيعت عشاقها".
إن هذا الجزء يعبر عن التمرد، حيث يشبه الأوزان التقليدية بالسجون الفكرية التي تُقيد الشعراء وتجعلهم أسرى للشكل دون الجوهر. في عالم يتغير وتتغير معه القيم، يبدو أن الشاعر يرفض التقليد ويسعى لخلق شعر "لا بحر يوصلنا"، شعر لا يتقيد بالقواعد والنماذج القديمة.
هنا، يتجلى الشاعر في بحثه عن "الشوق الأخضر" و"الحلم الأكبر" الذي يستقر في أمسيات تعكس "كلّ قافيّة ماء" و"دماء"، وكأن الشعر الحقيقي هو الماء الذي يروي الأرض العطشى. يشير الشاعر إلى المرأة كرمز للإلهام والجمال، مستخدمًا استعارة "قوافل النساء" اللواتي يسعين للبوح، متحديات الحواجز الاجتماعية، ومجدات في البحث عن حرية التعبير الصادق.
يُستدعى في هذا المقطع مشهد مؤلم، حيث تُرسم صورة الماضي كأرض قديمة كانت تفيض بالسواق التي تجلب الحياة، لكنها اليوم تواجه جفافًا رمزيًا، دلالة على فناء الأحلام وتراجع الأمل. وبينما كانت البلاد تاريخيًا مكانًا يفيض بالعطاء، أصبح اليوم كأنه مسرح للخيبات، يلفه "نقيض النقيض"، حيث تسيطر الظروف التي تجعل الشعراء أسرى للمعاناة.
-2-
- يحمل النص في طياته تعبيرًا عن الفجوة بين الروح والواقع، وهو عنصر يتكرر في العديد من الفلسفات المعاصرة التي تعبر عن غربة الإنسان واغترابه في مجتمعه. فالقصيدة تتحدث عن "الدروب التي ضيعت عشاقها" في إشارة إلى أن العالم، كما يراه الشاعر، قد فقد مساره الأخلاقي والروحي، وباتت الأوزان والقوافي مجرد إيقاعات خاوية لا تصل إلى عمق النفس. يضفي هذا التشبيه بُعدًا نفسيًا، وكأن الشاعر ينظر إلى القوافي والأوزان كمجرد أقنعة زائفة تخفي الحقائق، ويبحث عن طريقة لإعادة التوازن بين الشكل والمضمون.
في النص، نجد مقارنة بين "الأمس" و"الصباح الجديد"، كأن الشاعر يقارن بين الزمن الماضي الحافل بالأمل والإبداع، والزمن الحالي الذي يغلب عليه الانكسار والفراغ. يبرز الشاعر مشهد الماضي المكتظ بالحياة في "سواق تفيض" و"تواقيع الماضي"، مقابل "الحضيض" و"نقيض النقيض" الذي يحاصر الحاضر، مما يخلق تباينًا مؤلمًا يعبر عن حالة الخيبة. وكأن الشاعر يسعى لبعث الروح في الماضي ليجد إلهامًا يرويه في هذا الواقع القاسي، لكنه يواجه جدارًا من خيبات الأمل التي تغرقه.
من خلال رفض الشاعر تفاعيل الخليل وأوزانها المحددة، يوظف النص أسلوبًا فلسفيًا في التعبير عن رفض الجمود والانغلاق. فالشاعر، بتجسيده لتجربة الخروج عن التقاليد، يميل إلى روح الإبداع والانفلات من القيود، مما يقارب فلسفات الحرية التي تعتمد على تفكيك النظام القديم وإعادة تشكيله بصورة تناسب الحاضر. يعبر الشاعر هنا عن شعوره بأن اللغة التقليدية تعجز عن التعبير عن حقيقته، وتتركه مكبلًا في نماذج لا تمثل جوهره.
في النهاية، يبدو أن النص يوحي برؤية فلسفية للشعر كوسيلة للخلاص الذاتي، حيث يتحول "ظل الجوهر" إلى وسيلة للتعبير عن حلم التحرر وبلوغ الحقيقة. إن الشاعر هنا يبدو كمن يحاول أن يُكمل رحلته بالبحث عن ذاته، ساعيًا إلى بلورة رؤيته للعالم ولبث جوهره فيه، وهو بذلك يتبنى فلسفة الشعر كأداة لفهم العالم وتجاوز الحواجز التي يفرضها المجتمع واللغة والواقع.
تتجلى في القصيدة روح تمرد فلسفي ونفسي ضد القيود التي تفرضها الأشكال التقليدية، والتي تترك الإنسان عاريًا أمام فجيعة الواقع، لا يجد سوى "ظل الجوهر" ليهتدي به نحو أفق أرحب. إن الشاعر في هذه الرحلة التأملية يحاول أن يُسائل مفاهيم الأصالة والحقيقة، ويدعونا إلى التفكير في قيمة الأدب والفن في تقديم ملامح الإنسان المعاصر.
3-
-تمثل القصيدة انعكاسًا لتجربة الشاعر، حيث يرغب في استعادة نبع الحياة الذي كان يجري في بلاده، ويرى أن العودة إلى تلك الحياة تتطلب تجاوز القيود اللغوية والأساليب الشعرية المعتادة. كما يستحضر الشاعر ترددات التأمل في قدرة الإنسان على التعبير عن جوهره، في وقت فقدت فيه اللغة نقاءها والأوزان قيمتها، فأصبحت مجرد أصوات خاوية تعجز عن لمس أعماق الروح.
يمثل "ظلّك الجوهر" المحور المركزي للقصيدة، حيث يتخذ معنىً مختلفًا في كل مقطع، لكنه دائمًا يعود ليكون رمزًا للأصالة الداخلية التي يسعى الشاعر إلى اكتشافها وتقديمها في شعره. في الوقت الذي يسود فيه الشك والتناقضات في حياة الشاعر، يبدو أن هذا "الظل" هو الأمل الذي يجسّد الأحلام والطموحات التي لا تزال حية في أعماق الذات، رافضةً التلاشي.
يميل الشاعر هنا إلى استخدام لغة رمزية عميقة تترك للقارئ مجالًا واسعًا للتفسير والتأمل. فهو يستبدل الموسيقى التقليدية لمقاطع "فاعلاتن" و"مستفعلن" بموسيقى داخلية تتماشى مع تناغم المشاعر وتوتراتها، مؤكدًا على أن الشعر الحقيقي هو الذي ينبع من القلب، ويتجاوز مجرد الإيقاع الخارجي ليصل إلى روح القارئ.
يبدو أن الشاعر في النهاية يعبر عن نداء داخلي للحرية، بحث عن مكان يمتد فيه الخيال بلا حدود، ويستعيد فيه الشعر جوهره بعيدًا عن القيود. إن الإشارة إلى "مشهد العمر المهيض" و"نقيض النقيض" تؤكد هذه الرؤية، حيث يصف الشاعر حالة مأسوية يواجهها الواقع الذي يجرد الإنسان من أحلامه، لكنه يؤمن بأن الشعر، رغم كل شيء، يبقى جوهرًا خالدًا يسعى إلى الانطلاق والتحرر.
تتركنا القصيدة مع إحساس بمدى حاجة الإنسان إلى العودة إلى جذور الأحاسيس الأصيلة، وحاجة الشاعر، كرسول للحب والمعرفة، إلى كسر قيود الواقع وابتكار لغة تعبر بصدق عن رؤاه وأحلامه.
هذا النص الشعري يمكن أن يُقرأ كرحلة تأملية فلسفية ونفسية تعبر عن محنة الشاعر في مواجهة المعاني والمشاعر التي تضيع بين الشكل والمضمون. يستحضر النص قضايا وجودية تتعلق بالبحث عن الأصالة والجوهر، ويضعنا أمام تساؤلات عميقة حول جدوى الأوزان والقوافي التقليدية التي تكبّل الشعر وتجعله متحجّرًا في أطر صارمة لا تتماشى مع نبض الحياة المتغير.
يطرح الشاعر في البداية سؤالًا مركزيًا: "بأيّ ميزان أعدّ القصيدة؟" – وكأنه يُسائل قيمة الشعر ومعاييره في ظل تقاليد صارمة تربط الشعر بجماله الشكلي لا بمحتواه. من هنا، يستدعي النص مفهوم الحرية الفلسفية، تلك التي تسعى إلى تجاوز الحدود المرسومة سلفًا نحو أفق أوسع، يتسع لمشاعر الشاعر وأفكاره دون تقيد بمقاييس تقليدية. إن الإشارة إلى "نهرنا الظّامي" تشكل تلميحًا فلسفيًا يعبر عن عطش الروح للمعنى، وكيف أن التفاعل مع الأوزان التقليدية يصبح مجرد حبر على ورق، بينما الجوهر الذي ينشده الشاعر يتجاوز الشكل إلى البحث عن دلالة أعمق.
يبرز في النص أيضًا بُعد نفسي وجودي، حيث يُصوَّر الشاعر كمن يلاحق "ظلّه الجوهر". إن هذا "الظل" يمثل انعكاسًا نفسيًا لروح الشاعر وأفكاره، وهنا يستحضر النص فلسفات وجودية تتناول البحث عن الذات، وكأن الشاعر يُعيد اكتشاف مكنوناته الداخلية، باحثًا عن "الشوق الأخضر" و"الحلم الأكبر". كل منهما يمثل تجسيدًا لرغبات دفينة وأحلام لم تتحقق، في حين تظل الروح قلقة ومشدودة بين عالم الواقع المثقل بالقيود وعالم الحلم المثالي الذي يسعى إليه.
*****
النص الشعري- للشاعر حسين عبروس
***
ظلّك الجوهر…
****
-1-
بأيّ ميزان أعدّ القصيدة؟
في نهرنا الظّامي
إلى حبر دمي
ودمي في رضك الحبلى
هنا سكّر
دبكة الأوزان
تصفيق القوافي
ظلّك الجوهر
لا تفاعيل”الخليل” هنا
لا بحر يوصلنا
إلى الدروب التي ضيعت
ْعشّاقها في جنوب القصيد البعيدْ
لا برّ يتّسع الآن
كي نكتب الشعر الذي قد ريدْ
رفع..فخفض..فانقلاب
مريب في الصباح الجديدْ
والناس عراة للفجيعة
يمشون مثلنا الى حتفهمْ
متربين بلا قافيهْ
وزحافات يجيئ بها الشاعر المنهمكْ
” لافاعلاتن..ولا مستفعلن”
لا صهيل يحتي بنداء الفوارس
في عمر القريض.
-2-
ظلّك الجوهر
شوقك الأخضر
حلمك الأكبر
في الأمسيات هنا مظهر
كلّ قافيّة ماء هنا ودماءْ
كلّ قافيّة تبر فمن أين
تأتي قوافل تلك النّساءْ؟
حين تهربن من بوحهن
إلى عطر نديّ
بلا خفرنحو زغردة مطفئة
في عينك الخجلى
على شرفات المساءْ
من أين يأتي
مشهد العمر المهيض؟
من أين تأتي المياه
إلى أرض كان أمسها
سواق تفيض؟
وتواريخ هذي البلاد
يطوي خطاها الحضيض
فيطوينا نقيض النّقيضْ.
محمد بسام العمري- منتدى كتاّب المنار الثقافية الدولية
- هذه القصيدة تتأمل في فلسفة الشعر، متسائلة عن أصالة الكلمات والأوزان التي تُعبر عن جوهر الإنسان في ظل الظروف المتقلبة. يستعرض النص ثنائية الرغبة في التعبير الصادق وتحديات الكتابة في واقع قد فقد بريقه وقوافيه التقليدية. القصيدة تستند إلى فكرة الشعر الخارج عن إطار الوزن التقليدي والتفاعيل المعتادة، وتستنكر الحواجز التي تعترض الطريق نحو الأصالة والتعبير الحرّ.
في القسم الأول، نرى صورة العطش إلى الكلمات التي تعبر عن مشاعر خالصة، فيما يتماهى "ظل الجوهر" مع الأوزان الراقصة كاستعارة عن الشوق العميق للتعبير الحرّ. في هذه الصورة، القصيدة هي ماء، دماء، ورحلة نحو كنه المشاعر، حيث لم تعد التفاعيل التقليدية قادرة على احتواء جموح الروح.
في القسم الثاني، يُعمِّق الشاعر تأمله في رمزية "ظل الجوهر"، مقدّمًا صورة من الشوق والطموح والأمل المتجدد في الصباحات العابقة بنسمات الحرية، حيث القوافي هي ماء، دماء، وذهب خالص. يتساءل عن رحلة النساء الهاربات من بوحهن نحو عطر نديّ يختبئ في عيني الحبيب الخجول، في انعكاس لأحاسيس تتحدى قيود المجتمع وتحدّق في المدى الواسع للمجهول.
هذه التأملات تبرز التناقض بين الأحلام والواقع، بين الأصالة والقيود، وبين الشوق والواقع المتهدم.
القصيدة تُبرز توتراً وجودياً بين عمق المشاعر وحقيقة الأوزان والقوافي التقليدية، حيث يستعرض الشاعر رحلته في البحث عن لغة تتجاوز الحدود المألوفة للشعر، لتعبر عن إحساس حقيقي وجوهري يتعدى الموسيقى الخارجية إلى ما هو أعمق وأكثر أصالة. في هذا النص، يبدو أن الشاعر يعبر عن تجربة داخلية قد تكون شخصية وقد تمثل إحساسًا عامًا، تتقاطع فيه الرغبة في التحرر من قيود الأشكال الشعرية التقليدية مع الحنين إلى جوهر الشعر نفسه، كوسيلة للتعبير عن مشاعر مرهفة وجراح دفينة.
تبدأ القصيدة بسؤال جوهري عن ماهية الشعر وكيف يمكن أن يكون وسيلة تعبير حقيقية عن الروح. هنا، يتم تصوير "نهرنا الظّامي" كرمز لعطش الشاعر إلى كلمات صادقة تنبع من صميم دمه، فيما يبدو أن "ظلّك الجوهر" هو تلك الأبعاد العميقة المخفية خلف ظلال التقاليد والشكل. يستخدم الشاعر هنا استعارة "دبكة الأوزان" و"تصفيق القوافي" ليوحي بأن الشعر قد أصبح مجرد عرض شكلاني، خالٍ من الحياة، تقيده تفاعيل الخليل وبحوره المحددة التي لم تعد قادرة على إيصال الشاعر إلى "الدروب التي ضيعت عشاقها".
إن هذا الجزء يعبر عن التمرد، حيث يشبه الأوزان التقليدية بالسجون الفكرية التي تُقيد الشعراء وتجعلهم أسرى للشكل دون الجوهر. في عالم يتغير وتتغير معه القيم، يبدو أن الشاعر يرفض التقليد ويسعى لخلق شعر "لا بحر يوصلنا"، شعر لا يتقيد بالقواعد والنماذج القديمة.
هنا، يتجلى الشاعر في بحثه عن "الشوق الأخضر" و"الحلم الأكبر" الذي يستقر في أمسيات تعكس "كلّ قافيّة ماء" و"دماء"، وكأن الشعر الحقيقي هو الماء الذي يروي الأرض العطشى. يشير الشاعر إلى المرأة كرمز للإلهام والجمال، مستخدمًا استعارة "قوافل النساء" اللواتي يسعين للبوح، متحديات الحواجز الاجتماعية، ومجدات في البحث عن حرية التعبير الصادق.
يُستدعى في هذا المقطع مشهد مؤلم، حيث تُرسم صورة الماضي كأرض قديمة كانت تفيض بالسواق التي تجلب الحياة، لكنها اليوم تواجه جفافًا رمزيًا، دلالة على فناء الأحلام وتراجع الأمل. وبينما كانت البلاد تاريخيًا مكانًا يفيض بالعطاء، أصبح اليوم كأنه مسرح للخيبات، يلفه "نقيض النقيض"، حيث تسيطر الظروف التي تجعل الشعراء أسرى للمعاناة.
-2-
- يحمل النص في طياته تعبيرًا عن الفجوة بين الروح والواقع، وهو عنصر يتكرر في العديد من الفلسفات المعاصرة التي تعبر عن غربة الإنسان واغترابه في مجتمعه. فالقصيدة تتحدث عن "الدروب التي ضيعت عشاقها" في إشارة إلى أن العالم، كما يراه الشاعر، قد فقد مساره الأخلاقي والروحي، وباتت الأوزان والقوافي مجرد إيقاعات خاوية لا تصل إلى عمق النفس. يضفي هذا التشبيه بُعدًا نفسيًا، وكأن الشاعر ينظر إلى القوافي والأوزان كمجرد أقنعة زائفة تخفي الحقائق، ويبحث عن طريقة لإعادة التوازن بين الشكل والمضمون.
في النص، نجد مقارنة بين "الأمس" و"الصباح الجديد"، كأن الشاعر يقارن بين الزمن الماضي الحافل بالأمل والإبداع، والزمن الحالي الذي يغلب عليه الانكسار والفراغ. يبرز الشاعر مشهد الماضي المكتظ بالحياة في "سواق تفيض" و"تواقيع الماضي"، مقابل "الحضيض" و"نقيض النقيض" الذي يحاصر الحاضر، مما يخلق تباينًا مؤلمًا يعبر عن حالة الخيبة. وكأن الشاعر يسعى لبعث الروح في الماضي ليجد إلهامًا يرويه في هذا الواقع القاسي، لكنه يواجه جدارًا من خيبات الأمل التي تغرقه.
من خلال رفض الشاعر تفاعيل الخليل وأوزانها المحددة، يوظف النص أسلوبًا فلسفيًا في التعبير عن رفض الجمود والانغلاق. فالشاعر، بتجسيده لتجربة الخروج عن التقاليد، يميل إلى روح الإبداع والانفلات من القيود، مما يقارب فلسفات الحرية التي تعتمد على تفكيك النظام القديم وإعادة تشكيله بصورة تناسب الحاضر. يعبر الشاعر هنا عن شعوره بأن اللغة التقليدية تعجز عن التعبير عن حقيقته، وتتركه مكبلًا في نماذج لا تمثل جوهره.
في النهاية، يبدو أن النص يوحي برؤية فلسفية للشعر كوسيلة للخلاص الذاتي، حيث يتحول "ظل الجوهر" إلى وسيلة للتعبير عن حلم التحرر وبلوغ الحقيقة. إن الشاعر هنا يبدو كمن يحاول أن يُكمل رحلته بالبحث عن ذاته، ساعيًا إلى بلورة رؤيته للعالم ولبث جوهره فيه، وهو بذلك يتبنى فلسفة الشعر كأداة لفهم العالم وتجاوز الحواجز التي يفرضها المجتمع واللغة والواقع.
تتجلى في القصيدة روح تمرد فلسفي ونفسي ضد القيود التي تفرضها الأشكال التقليدية، والتي تترك الإنسان عاريًا أمام فجيعة الواقع، لا يجد سوى "ظل الجوهر" ليهتدي به نحو أفق أرحب. إن الشاعر في هذه الرحلة التأملية يحاول أن يُسائل مفاهيم الأصالة والحقيقة، ويدعونا إلى التفكير في قيمة الأدب والفن في تقديم ملامح الإنسان المعاصر.
3-
-تمثل القصيدة انعكاسًا لتجربة الشاعر، حيث يرغب في استعادة نبع الحياة الذي كان يجري في بلاده، ويرى أن العودة إلى تلك الحياة تتطلب تجاوز القيود اللغوية والأساليب الشعرية المعتادة. كما يستحضر الشاعر ترددات التأمل في قدرة الإنسان على التعبير عن جوهره، في وقت فقدت فيه اللغة نقاءها والأوزان قيمتها، فأصبحت مجرد أصوات خاوية تعجز عن لمس أعماق الروح.
يمثل "ظلّك الجوهر" المحور المركزي للقصيدة، حيث يتخذ معنىً مختلفًا في كل مقطع، لكنه دائمًا يعود ليكون رمزًا للأصالة الداخلية التي يسعى الشاعر إلى اكتشافها وتقديمها في شعره. في الوقت الذي يسود فيه الشك والتناقضات في حياة الشاعر، يبدو أن هذا "الظل" هو الأمل الذي يجسّد الأحلام والطموحات التي لا تزال حية في أعماق الذات، رافضةً التلاشي.
يميل الشاعر هنا إلى استخدام لغة رمزية عميقة تترك للقارئ مجالًا واسعًا للتفسير والتأمل. فهو يستبدل الموسيقى التقليدية لمقاطع "فاعلاتن" و"مستفعلن" بموسيقى داخلية تتماشى مع تناغم المشاعر وتوتراتها، مؤكدًا على أن الشعر الحقيقي هو الذي ينبع من القلب، ويتجاوز مجرد الإيقاع الخارجي ليصل إلى روح القارئ.
يبدو أن الشاعر في النهاية يعبر عن نداء داخلي للحرية، بحث عن مكان يمتد فيه الخيال بلا حدود، ويستعيد فيه الشعر جوهره بعيدًا عن القيود. إن الإشارة إلى "مشهد العمر المهيض" و"نقيض النقيض" تؤكد هذه الرؤية، حيث يصف الشاعر حالة مأسوية يواجهها الواقع الذي يجرد الإنسان من أحلامه، لكنه يؤمن بأن الشعر، رغم كل شيء، يبقى جوهرًا خالدًا يسعى إلى الانطلاق والتحرر.
تتركنا القصيدة مع إحساس بمدى حاجة الإنسان إلى العودة إلى جذور الأحاسيس الأصيلة، وحاجة الشاعر، كرسول للحب والمعرفة، إلى كسر قيود الواقع وابتكار لغة تعبر بصدق عن رؤاه وأحلامه.
هذا النص الشعري يمكن أن يُقرأ كرحلة تأملية فلسفية ونفسية تعبر عن محنة الشاعر في مواجهة المعاني والمشاعر التي تضيع بين الشكل والمضمون. يستحضر النص قضايا وجودية تتعلق بالبحث عن الأصالة والجوهر، ويضعنا أمام تساؤلات عميقة حول جدوى الأوزان والقوافي التقليدية التي تكبّل الشعر وتجعله متحجّرًا في أطر صارمة لا تتماشى مع نبض الحياة المتغير.
يطرح الشاعر في البداية سؤالًا مركزيًا: "بأيّ ميزان أعدّ القصيدة؟" – وكأنه يُسائل قيمة الشعر ومعاييره في ظل تقاليد صارمة تربط الشعر بجماله الشكلي لا بمحتواه. من هنا، يستدعي النص مفهوم الحرية الفلسفية، تلك التي تسعى إلى تجاوز الحدود المرسومة سلفًا نحو أفق أوسع، يتسع لمشاعر الشاعر وأفكاره دون تقيد بمقاييس تقليدية. إن الإشارة إلى "نهرنا الظّامي" تشكل تلميحًا فلسفيًا يعبر عن عطش الروح للمعنى، وكيف أن التفاعل مع الأوزان التقليدية يصبح مجرد حبر على ورق، بينما الجوهر الذي ينشده الشاعر يتجاوز الشكل إلى البحث عن دلالة أعمق.
يبرز في النص أيضًا بُعد نفسي وجودي، حيث يُصوَّر الشاعر كمن يلاحق "ظلّه الجوهر". إن هذا "الظل" يمثل انعكاسًا نفسيًا لروح الشاعر وأفكاره، وهنا يستحضر النص فلسفات وجودية تتناول البحث عن الذات، وكأن الشاعر يُعيد اكتشاف مكنوناته الداخلية، باحثًا عن "الشوق الأخضر" و"الحلم الأكبر". كل منهما يمثل تجسيدًا لرغبات دفينة وأحلام لم تتحقق، في حين تظل الروح قلقة ومشدودة بين عالم الواقع المثقل بالقيود وعالم الحلم المثالي الذي يسعى إليه.
*****
النص الشعري- للشاعر حسين عبروس
***
ظلّك الجوهر…
****
-1-
بأيّ ميزان أعدّ القصيدة؟
في نهرنا الظّامي
إلى حبر دمي
ودمي في رضك الحبلى
هنا سكّر
دبكة الأوزان
تصفيق القوافي
ظلّك الجوهر
لا تفاعيل”الخليل” هنا
لا بحر يوصلنا
إلى الدروب التي ضيعت
ْعشّاقها في جنوب القصيد البعيدْ
لا برّ يتّسع الآن
كي نكتب الشعر الذي قد ريدْ
رفع..فخفض..فانقلاب
مريب في الصباح الجديدْ
والناس عراة للفجيعة
يمشون مثلنا الى حتفهمْ
متربين بلا قافيهْ
وزحافات يجيئ بها الشاعر المنهمكْ
” لافاعلاتن..ولا مستفعلن”
لا صهيل يحتي بنداء الفوارس
في عمر القريض.
-2-
ظلّك الجوهر
شوقك الأخضر
حلمك الأكبر
في الأمسيات هنا مظهر
كلّ قافيّة ماء هنا ودماءْ
كلّ قافيّة تبر فمن أين
تأتي قوافل تلك النّساءْ؟
حين تهربن من بوحهن
إلى عطر نديّ
بلا خفرنحو زغردة مطفئة
في عينك الخجلى
على شرفات المساءْ
من أين يأتي
مشهد العمر المهيض؟
من أين تأتي المياه
إلى أرض كان أمسها
سواق تفيض؟
وتواريخ هذي البلاد
يطوي خطاها الحضيض
فيطوينا نقيض النّقيضْ.
محمد بسام العمري- منتدى كتاّب المنار الثقافية الدولية