سفر: الفاسدين
في القطار الفاخر ورحلتى نحو القاهرة لاحضر مولد الترابى أشعر بأنفاسه معي وأنه ذاهب خلفي كعادته، يتتبعني، إلى أيّ مكان، لا أدري ماذا يريد مني، أنا لا أريد شيئًا من أحد، فقط أريد أن يتركني، الحقيقة أنني مللت، منذ شهور قررت أن أذهب إلى طبيب نفسي لكني خشيت من أدويتهم، خشيت أن يقول لي إنه وهم جنون أو حتى «فصام» في الشخصية.
أطرقت بنظري حولي، أجد همومًا كثيرة تجسدت في شخوص لكنها بالتأكيد تختلف كمًّا وكيفًا، شكلاً ومضمونًا، معنى ومحتوى، تختلف اختلافًا كليًّا عن تلك الهموم والأسى الذي يعشش في قطار الدرجة العادية الثانية والثالثة، إنها هموم المترفين، معاناة الأغنياء في استكمال متطلبات الحياة الفاخرة أو هموم الوظيفة القيادية ومشاكلها، لا هموم المتعبين في الأرض، المنسيين، المقصيين عن الأحلام الوردية، مشاكل الباعة الجائلين بالقطع تختلف عن مشاكل رجال الأعمال، ومشاكل السادة تختلف عن أشباه العبيد.. هل طينة البشر واحدة؟ تصميم الجسد واحد؟ العيون واحدة والأنف والأذن والعين؟، نعم بالتأكيد، أما القدر فمختلف.. القدر من صنع الله خُط بنيّات البشر، لكن الظلم من صنع الإنسان، لماذا يحاول البعض إقناع ركاب الدرجة الثالثة بأنهم قدر وأن ظلمَهم مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين لا مفر.. أم قطار الدرجة الفاخرة فالظلم فيه قابل للتفاوض، نسبي يمكن إزالته، يمكن المناقشة حوله ويمكن رفضه، لا يوجد ضحك أو ابتسامة، الوجوه عابسة مكفهرة في قطار الدرجة الثالثة، لكن من السهل أن ترى شيئًا من الابتسامة، المرح، بشاشة الوجه في قطار الدرجة الأولى، بالفعل رأيت في قطار الدرجة الفاخرة بعضًا من السكينة والطمأنينة، وإن خالطه شعور غريب بالقلق لكنه مجتمع ملون بألوان عدة وليس لونًا واحدًا، نساء أثداؤهن نصف عارية وأخريات يختفين وراء النقاب، وأخريات بين بين.. رجل يتكلم في المحمول، آخرون يلعنون غلاء الأسعار، يطلبون تأجيل دفع ثمن الصفقة بعد رمضان، كلمات تتطاير في الفضاء.. طالب، واضح من ثيابه الثراء، مهموم كذاهب إلى الامتحان.
هناك في آخر العربة رأيت وجهًا لا أعرفه لكني أحس أنني رأيته قبل ذلك، من العجب أن ترى شخصًا فتشعر ناحيته بمودة أو تشعر ناحيته بكراهية أو حتى بمجرد نفور، وفي الحالين لا تدرى للمشاعر سببًا، ولِمَ لُوّنت بلون الميل أو لون الإعراض أو النفور، وأحيانًا تصل إلى الكراهية ربما لأن الأرواح جنود مؤلفة ما تعارَف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف.
إنه نفس الرجل الذي كان يتردد عليّ محاولاً أن ينزع مني رأيًا قانونيًّا مخالفًا للقانون، رأيًا مُلفّقًا يضغط عليّ هو والمسئول الكبير عارف حبيب الذي كنت أعمل مستشارًا له، كان يريد شيئًا بسيطًا، أن يستولي على مائة فدان مملوكة للدولة، المسئول الكبير عرفت أنه كان يعمل مخلّصًا للجهاز السابق الذي ينتمي إليه فاستقطع من رجل الأعمال سامح الدرينى أربعين فدانًا لصالح جمعية العاملين بالجهاز وسُويت حيازتها دون سند من القانون دون أيضًا اعتراض من أحد، وقيل -والله أعلم- أن للمسئول الكبير ووزير الأمن الذي كان يرأس الجهاز قبل ذلك عمولة خاصة عن هذا الموضوع، وتبنى عارف حبيب إنهاء الموضوع الخاص برجل الأعمال بزعم وضع يده على الأرض منذ سنوات طويلة وأحقيته بأن يشترى المتر بستة وثلاثين جنيهًا، يزيد الثمن الحقيقي للمتر عن ألف جنيه، عاشت مصر حرة، الفارق يزيد على نصف مليار، لم ينجح أن يصل إلى ما يريد، أرسل رجل المال والأعمال سامح الدرينى لي زميلاً عارضًا عليّ من خلال التلميح لا التصريح أن أغُب من خزائن أمواله، تبسم صديقي قائلاً «ما تحبّكهاش، حياخدها بيك من غيرك»، كان ذلك قبل يوم 25 يناير بأيام معدودة كل شيء في الدنيا تبدل وتغير، قامت الدنيا ولم تقعد، حاول سامح الدرينى بعد الثورة معي حتى اختفى تمامًا، علمت أنه نزيل بسجن برج العرب، وحينما قعدت الدنيا واستقرت بعد الثورة بقرابة خمسة أعوام كنت أنا قد أنهيت عملي بإرادتي بعد ضغط من المسئول الجديد رضوان بك سرور الذي ينتمي لنفس الجهاز وتحججت بتفرغي للأدب، للأولاد، للقرآن، للكتابة، لأعاود أن أمسك قلمي المكسور.. أمّا سامح الدرينى فكان قد خرج من السجن بعد أن نصب على أمة لا الله الا الله، ولم أكن أدرك أنه سلك الطريق نفسه إلى جيب المسئول الجديد.
قبل السجن، وبعد الثورة المباركة التي وقعت في يناير 2011، حاول معي رغبًا عرض عليّ شاليهًا في قريته الجديدة، كالعادة في مثل هذه الأمور قال «نحن أصدقاء»، قالها لي في حضور شخصية مسئولة صديقة من بقايا عهد ما قبل الثورة ــــ مدير مكتب عارف حبيب ـــــ والذي تربطني به أيضًا مودة واحترام، قال «لك بسعر التكلفة هذا ليس حراما»، كانت أمنية قديمة للحظة قليلة سرحت ولِمَ لا، وكان ذلك المجهول الذي لا أعرف كنهه ينظر لي، لماذا أدركت أنه يدفعني لقبول العرض؟ شعرت لأول مرة أنه شيطاني، إنه قريني السيئ، لماذا يدفعني ربما لأن أنكسر أمامه ليتسيدني، ليخيفني أكثر مما يخيفني، ولكني تذكرت المقابل، ملك الموت يقف على رأسي، وقبري المظلم بما اكتسبت من مال حرام، لمحت حفيدي في ثياب مهلهلة، يتسول من الناس، مد يده يطلب حسنة، ما من سارق إلا وافتقر أهله.. أفعال الجدود يرثها الأحفاد.. كان أبوهما صالحًا.. عاد لي صوابي، هربت منه بلطف دون عنف، قلت «الموضوع أصبحت العيون عليه ويمكن تحله من خلال المحكمة»، كنت متأكدًا أنه سعى إلى المحكمة ولم يستطِع أن يخترقها لا هو ولا محاميه المستشار الجليل حامد أبوخضرة الذي استقال على الملأ ناشرًا استقالته في جريدة يومية شهيرة ــــ المواطن اليوم ـــــ ومن خلال برنامج توك شو في دكان شهير من دكاكين الفضاء، يسمى قناة الحقيقة ، قبل أن تصل الاستقالة إلى يد مجلس القضاء زاعمًا أن القضاء فاسد، كانت استقالته الرائعة قبل انتهاء خدمته بعدة شهور وبعد أن تجاوز التاسعة والستين، أوشك على بلوغ السبعين وكان بالتأكيد قد سوّى مستحقاته كاملة عن السنوات التي قضاها في القضاء الفاسد عند سن الرابعة والستين، وكان جالسًا في انتظاره خارج الاستوديو ليقود به رحلة العودة إلى منزله ابنه الذي عُيِّن في النيابة العامة بتقدير مقبول، ولكن الفقراء الذين استعملوا جدول الضرب واستخدموا الجمع والطرح والقسمة ليعلم كل منهم حصته من أموالهم التي سرقها مبارك وما سيحصل عليه عند استردادها خلال أيام، أولئك الذين يجلسون أمام ذلك الصندوق الذي يملأه الكذب ويمده كابل هوائي معلق على أسطح المنازل بقنوات فضائية مسروقة وبعضها مسروق ما فيه وبعضها يبث الكذب وبعضها يبث الدجل باسم الدين، اعتبروا سيادته بطل الثورة ومشرّع العدل والمساواة في البرلمان القادم عن قريب، سيكون محاميًا عن الغلابة مناصرًا للضعفاء، حتى إن أحدهم أقسم يمين الطلاق بالثلاثة من زوجته أنه لا يوجد شرفاء في القضاء إلا أنا باعتباري جاره وابن بلده وفي خدمته وهذا الرجل الثائر الحق، والحقيقة أن جاري العزيز في القرية كان حاملاً للإعدادية، لكنه يتحدث في السياسة والقضاء والقانون والطب والهندسة بفضل ثقافته التليفزيونية كحامل للدكتوراه في كل التخصصات، والحقيقة ايضا أن أهم ما كان يحمله صاحب القَسَم كارنيه أخيه التوأم المزور باسمه ليركب المواصلات مجانًا على أنه عريف متطوع في خدمة البحرية المصرية.
حاول سامح الدرينى والمستشار الجليل أبوخضرة مرارًا وتكرارًا، لاسيما أن سيادته الذي شرع في سرقة الأرض في عهد مبارك بمساعدة بعض العاملين في جهاز حماية أملاك الدولة وهيئة المساحة دخل في شراكة مع القيادي الإخواني الذي تولى الوزارة لإنشاء منتجع فخيم أربع نجوم تحُفّه في مداخله صالة للأفراح وفندق خمس نجوم به قاعتان للاجتماعات وأكد؛ لوطنيته، أنه على استعداد للسماح للمؤتمرات الحكومية أن تعقد فيه بنصف القيمة بل مجانًا تمامًا حبًّا للوطن وإخلاصًا للثورة، كما أنّه تعطف وخصص مكانًا لسيارة إسعاف وإطفاء تبرع بهما على الطريق الذي يربض عليه المنتجع المزمع إقامته.
أمّا سيادة المستشار الذي انتقل إلى العدالة الواقفة وسلك طريق المحاماة والسياسة لتصب في خدمة مكتبه الجديد وأصبح المستشار القانوني لرجل المال والأعمال مستندًا إلى قوة وضخامة ذلك الحزب الذي أصبح عضوًا فيه وسُمّي باسم «الحرية والعدالة» وساندت سيادته الجماعة التي تدين لها البلاد غربا وشرقًا وشمالا وجنوبا عرضا وطولا ، شرح لي محاضرة في وطنية رجل الأعمال وما سيقدمه للدولة من خدمات في مشروعه وأنه سيكون نقلة نوعية ستنقل السياحة من شرم الشيخ إلى جنوب الإسكندرية، وانتهت بأني متعسف أكثر من اللازم وأني أعوّق الاستثمار وأجفف أنهار الخير القادمة من فيضان الثورة، ولمح إلى أن أمثالي ربما لا يكون لهم دور في القادم، لكني ناورت بلطف ومهارة حتى أدرَك جنابه أنه لا وسيلة لاختراقي، فأرسل رجل المال والأعمال لي رسالة على المحمول ينبهني بأن عليّ أن أتقي الله وأخشى على أولادي عند نزولهم للشارع، وأدركت المعنى والمغزى. وحقيقي تسرب الخوف لنفسي بعض الشيء خاصة أنني أعرف أنه لن يسكت، لكني أرسلت مع من أبلغه بأن مؤخرته حمراء، وإن خامرني شيء من الخوف من وقت إلى آخر.
وحينما قامت ثورة يونيو وجدت لافتات سامح الدرينى تعلن المبايعة للجيش وتفويض الرئيس وتهانيه تملأ طريق الكورنيش وميدان سيدي جابر، وأقام سرادقًا كبيرًا ووضع به أكثر من عشرين سماعة يذيع فيه الأغاني الوطنية ولافتة كبيرة جدًّا جدًّا فوق السرادق مكتوب عليها (تحيا مصر) فعاودنى شيئا من الخوف والرهبة. إلى أن أكرمني الله ذات يوم ووجدت خبرًا في إحدى الصحف عن سجنه بتهمة النصب وهي ذات الصحيفة التي نشر فيها قصيدة شعر يتغنى فيها بثورة 25 يناير المباركة وحبه لمصر التي اكتسب جنسيتها إلى جانب جنسيته الفلسطينية.
كنت أتعجب من إلتقاء المصالح عارف حبيب الذي وصل الى موقعه بسبب حربه وعدائه لهذه الجماعة وأحد أعمدة نظام مبارك قبل الثورة، حاول إنهاء الموضوع بكل الوسائل وبعد الثورة فعل الشيء نفسه القيادي البارز في الجماعة وحزبها، كان ممن يسمون «الخلايا النائمة» التي يبدو أنها كانت تعمل بيقظة شديدة في دولة نائمة، الاثنان يحاولان إنهاء موضوع الرجل بشتى الطرق، الفارق أن عارف حبيب كان يمارس ذلك قبل ثورة يناير أما مسئول الجماعة فكان يمارس ذلك بعد ثورة يناير
ويلا العجب وغرائب القدر وتصاريف البشر فرغم أن عارف حبيب من رجال مبارك قمت ذات يوم فوجدته عاد لمنصبه السياسى الأول وللمكان نفسه ولكن في ظل الإخوان ثم أصبح وزيرًا تدين له البلاد وولاة الأقاليم بعد ثورة 30 يونيو.
عارف حبيب رجل كل العصور لا يموت الا بموت جسده ربما يخلد حتى بعد فناء الجسد أمثاله ليسوا كثير لكنهم حقيقة اقرب للخيال ، مكتوبون على كل العصور موجودون فى أحداث الدهور ربما منذ الفراعنة وحتى اللحظة الراهنة ، لا يزال يرتع فى نعيم ولم يقترب منه احد لم لا وقد نثر رجاله نساء وذكورا فى انحاء البلاد يدينون له بالفضل وتنحنى رؤوسهم اجلالا عند ذكره ويقصون امجاده فى خدمة أم الدنيا وكلها نضال مثل نضاله مع سامح الدرينى ، ويغفلون عن الحديث عن مزارعه التى لا تدرك حدودها العيون وقد أتى بها عن علم سطرة فى كتاب المفسدين ، كما انهم يغمضون عيونهم عن جيوبه التى امتلأت ذهبا بمعاونتهم ، لكن الحق انه أخلص لمبادئ الثورتين مكن المرأة من ان تصبح من الولاة أصحاب الأمر والنهى ، فقط مخالفة غير مؤثرة على أهداف الثورة ربما عن غير قصد من جنابه فالمرأة الوالية تجاوزت سن الستين عفو أغفلت ان اذكر ان عارف بك تجاوز السبعين بعد ثورتين خضبت رايتهما بدماء الشباب
لكنه بعد أن خرج سامح الدرينى من السجن عام 2016 وجد طريقه إلى الأرض التي يزعم أنها له ووجد من يكتب لصالحه ومن يوقع ومن يؤشر على الموضوع بعد إقصائي، ومن يساند من الدولة المركزية بالقاهرة، بينما كنت أنا أشاهد برنامج الحادية عشرة إلا ربعًا مساءً حينما حضر شاب من تلامذتي مؤمنا بثورة 30 يونيو وسلمني المذكرة التي كتبت لصالحه ومهرها السيد / رضوان سرور الذى جلس فى ذات كرسى عارف حبيب بتأشيرة نارية بقلمه الاحمر تحت عبارة (أوافق وعاجل وهام وأفاد)، قَلبت ذهني وما مصير الدعوى التي أقامها، بحثت عنها في الدهاليز أنا وصديقى الشريف رجل القانون سيد الباشا الذى أعتز به والذي لم يتخلّ لحظة عن تأييده لثورة يونيو ولم يشك ولم أشك معه في مصداقية الرئيس، بحثنا، نقبنا، حيث تبين لنا أنه صدر حكم برفض طلباته، وأن الملف اختفى، دفع صاحبي من جانبه مبلغًا لا بأس به من أجل إظهار الملف وكانت المفاجأة، رُفضت طلباته، نطقها الحكم بوضوح، ورغم ذلك كانت سيارة سامح الدرينى تتجه بقوة ناحية الأرض التي يحلم بها وأدركت أن رجل المال والأعمال استبدل الشريك وعاد إلى أحضان أصدقائه القدامى وشارك جمعية العاملين في الجهاز ووعدهم بأن يبني لهم فللاً على مساحة الأربعين فدانًا التي سبق أن اقتطعوها منه عنوة قبل الثورة في غضون عام 2008، وتظاهر يومها بسعادته البالغة وهو يرى إجراءات تقنين حيازتهم وهو يجلس في مكتب عارف حبيب على أمل أن تُسوّى حيازته.. لقد عاد من جديد ولنفس الصفقة ولكن زاد عليها بناء الفلل الفاخرة بأقل من سعر التكلفة وبما يتناسب مع دخولهم البسيطة لكونهم أولى بالرعاية ولحاجتهم الضرورية لمثل هذه الفلل وحمامات السباحة، لأنهم مكدودون من مشقة العيش.. آه من تزييف الحقيقة، آه من دهان الأسود بالأبيض، آه من ارتداء الذئاب لثوب الحمل الوديع، ياللعجب، كل ذلك في مقابل أن يسهلوا له تسَلُّم الأرض ويصبح منتجعًا واحدًا جميلاً تتغنى بسحره إعلانات التليفزيون كقطعة من جنة الآخرة نزلت على ساحل بحيرة كنج مريوط وتصدُق عليه مقولة المستشار أبوخضرة الذي شرف ورفاقه سجن برج العرب بعد أن أُخرجت له من الأدراج وقائع قديمة إبان ثورة يناير وهو يمارس التعذيب أثناء القبض على بعض المتلصصين على الميدان والمنتهكين لطهارته وحرمته من وجهة نظر الثوار.. وكأن التعذيب حلال لسيادته حرام على أجهزة الدولة.
أمّا أنا فلهول ما تداعى في ذاكرتي فكان قلمي ينكسر شيئًا فشيئًا ويتوارى خجلاً من شعوره بالهزيمة في معركة حسمت قبل بدايتها، كان الرجل الواقف في القطار شبيهه، هو أكيد من هذه الطائفة التي استحلّت دم الشعب وأمواله وتاجرت فيه بما نزل عليها من السماء من أموال البنوك، لم أكن أعرف أن للبنوك مطرًا أسخى من غيث الشتاء رغم أن رعد البرق وبرودته جعلاني أتوارى تحت اللحاف وكان غيري يبحث عن غطاء لا يجده وتغوص رجلاه في الوحل والطين، ملايين يحتضنون العدم ويعيشون في الفراغ وقلة تستمتع بمطر البنوك وتتغطى بالبنكنوت.
شعرت لحظتها أنني لست أسير الزمان والمكان فقط بل أسير العام والخاص، أسير هموم العامة وجراح الوطن، الجراح التي لم يخرج لها طبيب جَرّاح ماهر ينكأ الجرح، ويزيل التالف، ويفتح بؤر الصديد، ويطهر الملوث ولو بالكي بالنار، يبدو أن الدواء بعيد المنال، لم يقتصر الأمر على تلك الجراح التي عاصرتها والأوبئة التي انتشرت في زمني، بل جراح لم أعشها وأوبئة كوباء الكوليرا كنست ما في طريقها حتى وصلت إلينا، فساد نبتت شجرته قبل أن أولد ، لكن أُطعمنا رغمًا عنا ثماره فتقيأت بطوننا وتلوثت حياتنا على نحو ألفنا معه التلوث، وعايشنا الفساد.. آه وألف آه.. بثور تطفح على وجه الوطن المشرق.. آلام من أعماقه.. أوجاع تعوقه عن الحركة، عن التقدم نحو الهدف.. أشعر أنني أنا الوطن والوطن أنا.. أيّ منا ذاب في الآخر لم أدري.. ربما هي حسرة على آمال لا تتحقق وحرية وعدالة لا تجيء.. الخاص يضغط عليّ.. أوجاع المرض والقلق ونزق الأديب وأحزان الشاعر في الحقيقة تبدو خاصة في تفاصيلها كأنها منمنمة منمقة من عهد المماليك بل من قبل ذلك بكثير لكن الحقيقة أنه بشيء من التأمل بقليل من التفحص هي أشجان عامة لا يهم.. العام والخاص ألقياني في هوة الغربة وفضاء أشبه بالعدم.. تتوه قدمي لكني أتشبث بالقرآن بصوت الشيخ محمد عبدالعزيز حصّان الذي لا أستطيع أن أعيش من دونه.. اسمه أستاذ الوقف والابتداء.. حبة من حبات اللؤلؤ التي يتزين بها صدر مصر الوطن.. آه هو الآخر لم ينَل حظه من الشهرة لكن الخاصة من سمّيعة القرآن يعرفونه، يشيرون إليه على أنه ظاهرة لن تتكرر.. ثم بقية القراء، ابتهالات النقشبندي ومحمد عمران المنشدين الفقراء في ليالي الصفاء والنقاء الروحي.. حركت رأسي لأتأكد أنني موجود، نعم أنا هنا في قطار الدرجة الفاخرة، أفقت من ذكرياتي وأدركت أن الفساد من طباع العباد، الطمع في بقرة عمي مبارك بطلة حكايته الشهيرة لم يُقْضَ عليه في أيّ عصر، مستمر في كل العصور..
سحنة رجل المال والأعمال سامح الدرينى شريك كل أصحاب السلطة والنفوذ لم تختلف كثيرًا عن ذلك الشخص الذي لم أحظَ بشرف لقائه ولم أحرص عليه رغم حرصه ودأبه على ذلك، رأيته في اللافتات الورقية المعلقة على الحوائط في قريتنا عند زياراتي في آخر الأسبوع، أو لحضور واجبات العزاء، كانت في حقيقتها صورًا من قسيمة زواج السلطة بالمال. أصحاب المال لا بد لهم من سلطة.. موضة برلمان عام 2000، وما بعدها، مكتوب فيها (انتخبوا ابن البلد)، الذي جاء إلى قريتنا، يقولون إنه ابن عزيزة النتافة التي كانت تنزع الشعر من أجساد الفتيات والصبايا لتهيئهن لفراش السعادة ليلة زفافهن، ماتت عزيزة وقيل إنه كان لها ابن من زوجها الذي هجرها وولدته بعد أقل من سبعة شهور من زواجها ولم يعرف أحد أين ذهب مع والده، ماتت وظلت دارها الصغيرة المبنية بالطين على ما هي عليه حتى فوجئ أهل القرية بمحمود البناء يقوم بهدمها وشراء الدار التي خلفها وشرع في بنائها لصالح جمعية كفالة اليتيم، عاد هذا الولد بأموال لا يعرف أحد من أين أتى بها، اشترى دارًا ودارًا ودارًا، توسع حتى بنى فيلا تطل على ترعة القرية وبها حديقة غناء تأكدت أنه لا يرغب أن يعيش في دار أمه، يريد محوها من ذاكرة القرية لذا تبرع بالدار واستحدث له فيلا تليق بواقعه الجديد أغدق على المسئولين بالمركز ومجلس المدينة وأولهم رجال الشرطة، فالشرطة دائمًا في خدمة الشعب لاسيما إذا كان هذا الشعب يملك المال أو النفوذ أو قريبًا من أصحاب السلطة والقرار، لِمَ لا فقد احترم المأمور بشدة الأصلم وهو رجل اشتهر بهذا الاسم ولم يُعرف السبب رغم ان الجميع يعرف سبب شهرته كديوث ، وبالغ سيادة المأمور في تقديره لعلمه أن ابنته خادمة لدى ابنة رئيس الوزراء، وكان ذلك كفيلاً بأن شرف سيادة المأمور ومعه رئيس المدينة بنفسه على هدم زريبة المواشي التي أقامها أخوه على الأرض المملوكة لهم على الشيوع مع حجز أخيه ليلة في مركز الشرطة وتهديده بتلفيق قضية سلاح رغم أن الرجل يرتعد لو رأى مسدسًا ويضع أصابعه في أذنه حين يطلق أحد عيارًا ناريًّا من فرد خرطوش محلي الصنع في فرح في القرية وينكفئ في اتجاه الأرض خشية أن تصيب طلقة رأسه، انجعص الأصلم ووضع ساقًا على ساق قبل أن يقبل شفاعة الجيران وشيخ المسجد للعفو عن أخيه الوحيد، والتي استمرت من بعد العشاء حتى قرابة صلاة الفجر.
أقام ابن النتافة عشرات المسابقات التي انتهت بحج وعمرة للفائزين والحافظين لكتاب الله، أعلن عزمه الدخول في الانتخابات، التف حوله شباب القرية، عارضه في البداية كبار القرية وعقلاؤها ثم خارت قواهم تحت شعار «ولِمَ لا.. ابن البلد أولى من الغريب.. مالنا ومال فلوسه، من الآثار أو المخدرات أو تجارة العملة والسلاح المهم إنه بيعمل لله وبيعطف على الغلابة وبيتبرع بمصاريف المدارس لأولاد البلد»، من هنا انحنت له الجمعية الشرعية برجالها.. إنها طريقه لدخول بيوت الفقراء، يسبل مسئولها الأول عينيه ويمسح لحيته وينظر للسماء وتكاد ترتعد فرائصه وهو يتحدث عن صلاح الرجل وتقواه وإحساسه بالغلابة والفقراء ويهمس بصوت خاشع متبتل (ربنا يبارك فيه ويزيده)، بينما عمي حجازي الذي كف عن الاتجار في الخردة المسروقة ولم يكُف لسانه عن سَبّ الناس ولو بذكر حقيقتهم كان يقول -كما يروون لي- «ابن الزانية النتافة ركب البلد بفلوسه الحرام». قيل إن مرشح القرية للانتخابات النيابية أحضر قناة تليفزيونية نصف مشهورة وأعد حلقة عن مشاكل البلد واستضافت أعيانها وكبراءها واشرأبت وجوه الجميع في انتظار الحلقة على القناة الفضائية.
ووزع كروت شحن وموبايلات وتأهب لنزول الانتخابات ثم تبين أن مَن حوله نصفهم ليس له بطاقة انتخابية ولا يملكون التأثير على زوجاتهم والآخرون يعملون لخدمة المرشح المنافس تحت شعار معروف في قاموس الانتخابات المصرية: «لا بأس من أن نأكل من خيره وننتخب غيره».
وجاء على هامش هذه الأحداث حكاية لم تتأكد تفاصيلها من أن ابن النتافة علم بنية نصر ابن عمي محمود السمكري دخول الانتخابات ففاوضه وقيل إنه اشترى تنازله بمائة ألف جنيه، وخمسين أخرى ليقف بجواره هو ورجاله والعاملون معه في هابي كارفور وأسرهم، وانتهى الأمر صلحًا في بيت أحد كبراء البلدة بعد صلاة العشاء واكتملت السهرة في عشاء في الإسكندرية وكان في أحد مطاعم السمك على شرف أهل القرية وتأكدت الصفقة بعد تبادلهم السجائر المحشوة بالحشيش وإكمال السهرة في كباريه (مزازيك) الشهير بكورنيش الإسكندرية ثم المبيت قبل عودتهم معًا إلى القرية بفندق فلسطين الذي يطل على البحر من جهة وحدائق وقصر المنتزه من جهة أخرى. وقد قال أحمد أفندي، ناظر المدرسة الابتدائية الذي كف بصره لمرضه بمرض السكر ولم يسعفه طبيب التأمين الصحي ولا الدواء الشهري منتهي الصلاحية معدوم الفاعلية: «أولاد الحرامية أبوهم مكانش يحلم يشتغل بالفأس في جناين المنتزه ولا حتى جمع الزبالة منه، زمن الندولة والأرض المجهولة».