الآية رقم 29 من سورة الحِجر

الآية كاملة هي كالتالي : "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر، 29). نفس الآية وردَت، كذلك، في سورة ص برقم 72. فعل "سَوَّيْتُهُ" فعل ماضي، فاعِلُه هو الله، سبحانه وتعالى، ومصدره هو "التَّسوية". أما فعل "وَنَفَخْتُ"، ففاعِلُه هو، كذلك، الله، عزَّ وجلَّ، ومصدره هو "النفخ". أما "فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" تعني أن الملائكة هم مَن سجد لآدم. وهذا يعني أنه، سبحانه وتعالى، فضَّل آدمَ على الملائكة.

بعد تحليل هذه الآية الكريمة، يتَّضح أن ما يمكن استنتاجُه، حسب تقديري، أمورٌ ثلاثةٌ هي :

1.التَّسوية
2.النَّفخ
3.التَّفضيل

أولا، أبدأ بتوضيح مفهوم "التَّسوية". التَّسوية proportionnalité هي مصدر فعل "سَوَّى". فحبنما نقول : "فلانٌ سَوَّى الشيءَ"، فالمقصود هو تقويم هذا الشيء وتعديلُه ليكونَ سوِيّاً، أي لا اعوٍجاجَ ولا عيبَ فيه، أو بعبارة أخرى، ليكون متناسب الأجزاء proportionné.

والدليل على أن التسويةَ هي تناسب مختلف أجزاء جسم الإنسان، من حيث حجم وطول هذه الأجزاء، أننا حينما تكون، مثلاً، قامة الإنسان مُبالَغاً فيها من حيث الطول، أو حينما يكون رأسُ شخصٍ ما كبيرَ الحجم…، فإننا نُصابُ بالدهشة والاستغراب. لماذا؟

لأننا نعتبر طولَ القامة المُبالغ فيه أو زيادة حجم الرأس أشياء غير عادية. أو بعبارة أخرى، كل تشوُّهٍ يُصيب خِلقَةَ (مظهر، شكل، بِنية) أجزاءَ جسم الإنسان، يُعتبر خارجاً عن المألوف، عن ما هو طبيعي. وكل ما هو طبيعي لخصَه اللهُ، سبحانه وتعالى، في "التسوية".

فيما يخصُّ التَّسوية الإلهية، الملاحظ أن هذه التَّسوية، في مُعظمَ الآيات التي وَرَدَ فبها فعل "سَوَّى"، مقترنةٌ ب"الخَلْقِ" الذي هو مصدر فعل "خَلَقَ". والمقصود، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يخلق ويُسوِّي، أي يُحسِن صورةَ الشيء الذي خلقه أو يُتقن هذه الصورة. أو بعبارة أخرى، يُعطي للشيء الذي خلقَه الأبعادَ أو الأوصافَ التي تجعل منه، مخلوقا متناسب الأجزاء ومُتقَن الصورة une apparence parfaite. أو إن شئنا، ليكونَ ما خلقه الله، سبحانه وتعالى، تَامَّ الخِلقة، أو تامَّ البِنية أو الهيئة أو الشكل.

غير أن الخلقَ، حسب القرآن الكريم، مختلفٌ عن التَّسوية، علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يخلق الأشياءَ من عدمٍ أو انطلاقا من شيءٍ موجود. من عدمٍ، مصداقا لقولِه، عزَّ وجلَّ : "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (البقرة، 117). انطلاقا من شيءٍ موجود، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (السجدة، 7). في هذه الآية، فعل "أَحْسَنَ" يُشِير للتَّسوية، بينما "...وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ" تشير إلى الخلق انطلاقا من شيءٍ موجود.

لكن السؤال الذي يفرض نفسَه على القارئ المُتدبِّر لآيات القرآن الكريم، هو الآتي : "هل التَّسوية الواردة في بعض آيات القرآن الكريم، تَسويةٌ آنية immédiate أو تسويةٌ تتمُّ على امتداد الزمان؟"

فإن كانت التسوية آنيةً، فإنها تستجيب لقوله، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 117 من سورة البقرة، المُشار إليها أعلاه، علماً أنه، عزَّ وجلَّ، له القدرة على الخلق وعلى التَّسوية، في آنٍ واحد، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،" (المائدة، 120).

وإذا كانت التَّسوية تتمُّ على امتداد الزمان، فهذا يعني أن التَّغيِيرات التي تطرأ، بصفة عامة، على البنيات الباطنية للكائنات الحية أو على شكل هذه الكائنات الحية، وعلى شكل ومظهر البشر، بصفة خاصة، تتمُّ بالتَّدريج progressivement، أي أن هذه التغييرات قد تستغرق زمنا طويلاً لتظهرَ إلى حيز الوجود.

وهذا هو ما بيَّنه العلمُ الحديث، عبر مختلف نظريات التَّطوُّر les différentes théories de l'évolution. وهذا هو ما حصل وما بيَّنه العلم الحديث بالنسبة للبشر ثم لبني آدم الذي سمَّاه، سبحانه وتعالى، الإنسان عندما أصبح بنو آدم يعيشون في مجتمعات ويتصرفون فيها حسب ما تُمليه عليهم طبائعُهم التي تمَّ تنظيمُها بواسطة قوانين من صُنع الإنسان. وهنا، أُذكِّرُ بأني خصَّصتُ مقالةً توضِّح الفرقَ بين البشر وبني آدم والإنسان، نشرتُها على صفحتي بتاريخ 19 يوليوز 2024.

أما فيما يخُصُّ النفخَ، يقول سبحانه وتعالى: "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي"، أي جعل اللهُ، عزَّ وجلَّ، جزأً من روحه ينتقل منه إلى جسم الإنسان. لماذا أقول جزأً من روحه؟ لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول "من" روحي وليس روحه كلها. والله، جلَّت قدرتُه، ينفرد بكثير من الأسماء الحُسنى والأوصاف ويقول في الآية رقم 11 من سورة الشورى : "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ… لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".

لن أتجرَّأَ لأقول إني أعرف ماهيةََ الروح أو أني أملك تعريفاً مُقنِعا لها، والله، سبحانه وتعالى، يقول : "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء، 85)، أي أن ماهيةَ الروح تدخل في نطاق الغيبيات. بمعنى أن اللهَ، سبحانه وتعالى. هو وحده مَن يعرف ماهيتَها ويستأثر بهذه المعرفة. وحتى العلم الحديث، رغم ما بلغه من تطوُّرٍ وتقدُّمٍ، لم يستطِع أن يفكَّ لُغزَها. بل لم يستطع فكَّ لُغزِ "الحياة"، لا بيولوجياً ولا فيزيولوجيا ولا وِراثياً ولا كيميائياً ولا فيزيائياً ولا فلسفياً… وحينما قال، سبحانه وتعالى : "...وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" وربطنا هذا الجزءَ من الآية بالجزء الذي يقول فيه، عزَّ وجلَّ : "...قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي…"، لن يصلَ العِلمُ الحديثُ إلى فكِّ لُغزِ "الروح".

ما أستطيع قولَه، هو أن الروحَ لها علاقة بالعقل وأنها هي التي تزرع الحياةَ في جسم الإنسان وتجعل منه كائنا حيا عاقلا و واعياً بوجوده وبما يوجد حوله من مكوِّنات الوسط الذي يعيش فيه وما يجري من حوله من أحداث وظواهر.

ولهذا، مفهوم الروح كان ولا يزال موضوعَ تضارُباتٍ فكرية spéculations intellectuelles يتخلَّلُها الإبهامُ والغموضُ. بل يتخلَّلُها الخيالُ والخرافةُ والقيل والقال والمُزايدات الثقافية surenchères culturelles.

أما التفضيل، فهو مصدر فعل "فضَّلَ". وعندما نقول : "فلانٌ فضَّلَ الشيءَ"، فالمقصودُ هو أن الفلانَ ميَّز هذا الشيءَ عن الأشياء الأخرى، اعتماداً على معايير critères معيَّنة ينفرد بها الشيءُ المذكور.

إذن، بنو آدمَ خلقهم الله وسوَّاهم بإعطائهم أحسن صورة مظهراً وبنيةً، ونفخ فيهم جزأً من روحه لتدُبَّ فيهم الحياةُ وليكونوا واعين بوجودهم وبما يُحيط بهم من مكوِّنات. والتَّسوية والنفخ هما المعياران اللذان فضَّل بهما اللهُ، سبحانه وتعالى، بني آدم على غيرهم من الكائنات الحية الأخرى. بل فضَّلهم على الملائكة الذين جعل اللهُ، سبحانه وتعالى، الإيمانَ بهم ركناً من أركان هذا الإيمان، مصداقا لقولِه، عزَّ وجلَّ : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (النساء، 136).

والتفصيل واضحٌ وضوحَ الشمس، في الآية الموالية : "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة، 34). غير أن " فَسَجَدُوا"، إن كانت استجابةَ الملائكة لأمر الله، فإن هذه الاستجابة لا تعني بأن السجودَ الواردَ في هذه الآية سجودُ عبادة. بل سجود تفضيل وتكريم وتشريف واحترام واعتبار وتمجيد…

والتفضيل الذي أحاط به اللهُ، سبحانه وتعالى، آدمَ وذريتَه، هو، في الحقيقة، بدايةٌ لما أراده ويريده، عزَّ وجلَّ، من خيرٍ ورحمةٍ لعباده أجمعين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى