من اللافت أن الكاتب الأردني في وضع لا يحسد عليه بسبب هذا الوحش التكنولوجي، الذي وجه إليه ضربة قوية، فكان الكاتب حتى بداية هذا القرن في حال أحسن مما هو عليه الآن، إذ كانت له قيمته في المجتمع، والمجلات والصحف والدوائر الثقافية ترحب بمقالاته ومشاركاته، وتقدم له المكافآت المالية، التي، مع هُزالتها، كانت تشعره بقيمته وقيمة ما يكتب.
كان الكاتب، على سبيل المثال، ينتظر بفارغ صبر يوم الجمعة، حيث تُصدر الصحف اليومية ملاحق ثقافية، فيصحو مع الفجر من أجل أن يحصل على الصحف الثلاث، ويطير فرحًا إذا ما رأى مقالًا له على صفحات ملحق، ثم تدور الاتصالات بينه بين زملائه من ناحية، وبينه وبين القراء من ناحية أخرى لمناقشة ما كتب فيحس بالانتشاء؛ لأنه كوفئ ماديًا ومعنويًا على ما كتب، فيدفعه هذا إلى تجويد ما يكتب، والمواظبة على الكتابة.
وتكون فرحة الكاتب عظيمة، وسعادته كبيرة إذا نشر كتابًا على حسابه، أو بدعم من وزارة الثقافة، عندئذ يسرع النقاد إلى مناقشة الكتاب وتقويمه، وتهب المكتبات العامة والخاصة، وبخاصة المكتبات الجامعية إلى طلب نسخ منه. إن الكاتب لا يغدو ثريًا من بيع الكتاب، ولكنه لا يقع في ضائقة مالية بعد طباعته ونشره.
هكذا كانت حال الكاتب في ما مضى، أما الآن فتغيرت بمجيء التكنولوجيا الرقمية، وتقدم وسائل الاتصالات إلى حدود المأساة، فقد امتهن الكتابة غير أهلها، بعد أن فتحت أبواب النشر الإلكتروني لكثير من الكتبة و المتشاعرين، وحل الكتاب الإلكتروني محل الكتاب الورقي، وقل الإقبال على القراءة عامة.
وإذا ما رغب الكاتب أن ينشر كتابًا هذه الأيام فإنه يقع بين أيدي الناشرين، غير الحنونة طبعًا؛ فهم في الغالب يطالبونه بدفع تكاليف الطباعة، أو المشاركة في التكاليف مقابل عدد محدود من النسخ مع احتفاظهم بحقوق التأليف كافة، حتى إذا احتاج إلى نسخة من كتابه، بعد نفاد النسخ التي استلمها، فهو مدعو لدفع ثمنها.
وإذا ذهب كاتب إلى بيع نسخ مما تبقى من كتابه، بعد توزيع عدد منها إلى الأصدقاء والأقرباء فإنه لا يبيع إلا نسخًا قليلة للمؤسسات الثقافية والتعليمية، ويعاني في بيعها من الإجراءات المالية، حتى إنه أحيانًا لا يقدر على متابعتها فيتنازل عن ثمنها. ثم إن كثيرًا من المؤسسات لا تشتري من المؤلف غير نسخة أو نسختين من كتابه. وقد توقفت مؤسسات كثيرة عن الشراء من المؤلف.
إزاء هذا الواقع فإن الكاتب يتساءل عن مصير هذه النسخ التي تتجمع من كتبه، دون أن يستطيع بيعها. وقد بلغ الأمر عند أحد الكتاب بأن اتصل بالناشر يرجوه أن يأخذ النسخ، التي بقيت لديه دون مقابل؛ فقد ضاق بها المكان في بيته.
هكذا صار الكاتب الحقيقي يحس بلا جدوى من كتابته، ولا قيمة لها، إنما يدبج المقالات، ويصوغ القصائد تحت ضغط الأفكار على عقله، وغليان العواطف في قلبه. ويكتب لأنه جبل على الكتابة، كما جبلت الطيور على الغناء، والمياه على الخرير، والأشجار على الحفيف، والأنهار على الجريان.
لقد بات الفقر يهدد بعض الكتاب، وبخاصة أولئك الذين ليس لهم أعمال يعتاشون منها. فقد غدوا يكتبون بأجر قليل، وغالبًا دون أجر، وصاروا يخشون أن يصلوا إلى حالة بائسة كتلك التي وصل إليها أبو حيان التوحيدي عندما أدركته حرفة الأدب. ولعل الخوف من بلوغ هذه الحالة يفسر كثرة المتقدمين إلى الجوائز الأدبية؛ فمعظم المبدعين الذين يتقدمون لها إنما لقيمتها المالية بالدرجة الأولى، لا لقيمتها المعنوية.
لعل الشاعر المحامي أكرم الزعبي رئيس رابطة الكتاب الأردنيين السابق لم تغب عن ذهنه مأساة الكتّاب والمبدعين، وهو يعاين المشهد الثقافي في الأردن، في مقاله المعنون بـ" وزارة الثقافة الواقع والطموح" الذي نشر على موقع سرايا في 9/11/2024م, لقد رأى بأن الحال الثقافي سيؤول في المستقبل القريب إلى كارثة إذا استمر الحال على ما هو عليه. ولهذا طالب بزيادة ميزانية وزارة الثقافة، ودعا الوزارة إلى مراجعة برامجها، وابتكار برامج جديدة، وتحسين طرقها في التعامل مع الكُتّاب والمؤلفين؛ لتشعرهم بأنها "الحضن الذي يقدم لهم الدعم المادي والمعنوي".
وإذا كانت وزارة الثقافة هي المسؤولة عن إدارة الشأن الثقافي، فهذا لا يعفي المؤسسات الثقافية الأخرى في مقدمتها رابطة الكتاب الأردنيين من الاهتمام بالكتاب والمبدعين، وإنقاذهم من المعاناة والإهمال والتهميش. فمن غيرهم يستحقون الرعاية والاهتمام؟ إنهم حارسو هوية المجتمع، ومؤرخو ماضيه، وراسمو مستقبله؛ وهم موطن آماله وأحلامه.
كان الكاتب، على سبيل المثال، ينتظر بفارغ صبر يوم الجمعة، حيث تُصدر الصحف اليومية ملاحق ثقافية، فيصحو مع الفجر من أجل أن يحصل على الصحف الثلاث، ويطير فرحًا إذا ما رأى مقالًا له على صفحات ملحق، ثم تدور الاتصالات بينه بين زملائه من ناحية، وبينه وبين القراء من ناحية أخرى لمناقشة ما كتب فيحس بالانتشاء؛ لأنه كوفئ ماديًا ومعنويًا على ما كتب، فيدفعه هذا إلى تجويد ما يكتب، والمواظبة على الكتابة.
وتكون فرحة الكاتب عظيمة، وسعادته كبيرة إذا نشر كتابًا على حسابه، أو بدعم من وزارة الثقافة، عندئذ يسرع النقاد إلى مناقشة الكتاب وتقويمه، وتهب المكتبات العامة والخاصة، وبخاصة المكتبات الجامعية إلى طلب نسخ منه. إن الكاتب لا يغدو ثريًا من بيع الكتاب، ولكنه لا يقع في ضائقة مالية بعد طباعته ونشره.
هكذا كانت حال الكاتب في ما مضى، أما الآن فتغيرت بمجيء التكنولوجيا الرقمية، وتقدم وسائل الاتصالات إلى حدود المأساة، فقد امتهن الكتابة غير أهلها، بعد أن فتحت أبواب النشر الإلكتروني لكثير من الكتبة و المتشاعرين، وحل الكتاب الإلكتروني محل الكتاب الورقي، وقل الإقبال على القراءة عامة.
وإذا ما رغب الكاتب أن ينشر كتابًا هذه الأيام فإنه يقع بين أيدي الناشرين، غير الحنونة طبعًا؛ فهم في الغالب يطالبونه بدفع تكاليف الطباعة، أو المشاركة في التكاليف مقابل عدد محدود من النسخ مع احتفاظهم بحقوق التأليف كافة، حتى إذا احتاج إلى نسخة من كتابه، بعد نفاد النسخ التي استلمها، فهو مدعو لدفع ثمنها.
وإذا ذهب كاتب إلى بيع نسخ مما تبقى من كتابه، بعد توزيع عدد منها إلى الأصدقاء والأقرباء فإنه لا يبيع إلا نسخًا قليلة للمؤسسات الثقافية والتعليمية، ويعاني في بيعها من الإجراءات المالية، حتى إنه أحيانًا لا يقدر على متابعتها فيتنازل عن ثمنها. ثم إن كثيرًا من المؤسسات لا تشتري من المؤلف غير نسخة أو نسختين من كتابه. وقد توقفت مؤسسات كثيرة عن الشراء من المؤلف.
إزاء هذا الواقع فإن الكاتب يتساءل عن مصير هذه النسخ التي تتجمع من كتبه، دون أن يستطيع بيعها. وقد بلغ الأمر عند أحد الكتاب بأن اتصل بالناشر يرجوه أن يأخذ النسخ، التي بقيت لديه دون مقابل؛ فقد ضاق بها المكان في بيته.
هكذا صار الكاتب الحقيقي يحس بلا جدوى من كتابته، ولا قيمة لها، إنما يدبج المقالات، ويصوغ القصائد تحت ضغط الأفكار على عقله، وغليان العواطف في قلبه. ويكتب لأنه جبل على الكتابة، كما جبلت الطيور على الغناء، والمياه على الخرير، والأشجار على الحفيف، والأنهار على الجريان.
لقد بات الفقر يهدد بعض الكتاب، وبخاصة أولئك الذين ليس لهم أعمال يعتاشون منها. فقد غدوا يكتبون بأجر قليل، وغالبًا دون أجر، وصاروا يخشون أن يصلوا إلى حالة بائسة كتلك التي وصل إليها أبو حيان التوحيدي عندما أدركته حرفة الأدب. ولعل الخوف من بلوغ هذه الحالة يفسر كثرة المتقدمين إلى الجوائز الأدبية؛ فمعظم المبدعين الذين يتقدمون لها إنما لقيمتها المالية بالدرجة الأولى، لا لقيمتها المعنوية.
لعل الشاعر المحامي أكرم الزعبي رئيس رابطة الكتاب الأردنيين السابق لم تغب عن ذهنه مأساة الكتّاب والمبدعين، وهو يعاين المشهد الثقافي في الأردن، في مقاله المعنون بـ" وزارة الثقافة الواقع والطموح" الذي نشر على موقع سرايا في 9/11/2024م, لقد رأى بأن الحال الثقافي سيؤول في المستقبل القريب إلى كارثة إذا استمر الحال على ما هو عليه. ولهذا طالب بزيادة ميزانية وزارة الثقافة، ودعا الوزارة إلى مراجعة برامجها، وابتكار برامج جديدة، وتحسين طرقها في التعامل مع الكُتّاب والمؤلفين؛ لتشعرهم بأنها "الحضن الذي يقدم لهم الدعم المادي والمعنوي".
وإذا كانت وزارة الثقافة هي المسؤولة عن إدارة الشأن الثقافي، فهذا لا يعفي المؤسسات الثقافية الأخرى في مقدمتها رابطة الكتاب الأردنيين من الاهتمام بالكتاب والمبدعين، وإنقاذهم من المعاناة والإهمال والتهميش. فمن غيرهم يستحقون الرعاية والاهتمام؟ إنهم حارسو هوية المجتمع، ومؤرخو ماضيه، وراسمو مستقبله؛ وهم موطن آماله وأحلامه.