لا أجمل من كتابة الشاعر لمذكّراته، خصوصاً طفولته الغائرة في القِدم، وهو ما أقبل عليه الشاعر السويدي توماس ترنسترومر (1931 - 2015) في كتابه النثري الوحيد له (ذكريات تراني) قصير الحجم كثيف العبارة كتبه في حياته المتأخرة عندما كان في الستين من عمره "إنني في الستين وأنا أكتب هذا الكلام" (ص 27) من دون أن يُكمل كل فصوله الثمانية التي كان يروم كتابتها لكنه تعرّض إلى جلطة دماغية حدّت من إكماله كتابتها فجاءت المذكّرات قليلة الصفحات بحيث لم تتجاوز أكثر من واحد خمسين صفحة من القطع المتوسّط في النشرة العربية التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
لهذا، سعى مُترجم هذه المذكّرات (طلال فيصل) إلى مدِّ صفحات الكتاب، فحاول إجراء حوار مع الشاعر نفسه لكنه وجده لا يستطيع الكلام فنابت زوجة الشاعر عن ذلك لكونها الأعرف بخلد الشاعر ووجدانه وروحه الشعري والوجودي. والأكثر من ذلك زاد المذّكرات بلغتها العربية ترجمة لتقديم كتبه (روبن فلتون) الذي اجتهد بتقديم ترنسترومر إلى القارئ باللغة الإنجليزية، وهو ما راق للشاعر نفسه حتى عدّه أفضل المترجمين لقصائده إلى الإنجليزية، وهي "المقدمة" التي كتبها فلتون في أثناء إعداده لنشر ترجمة الأعمال الكاملة في سنة 2004 عندما صدرت عن دار بلوداكس.
يذهب ترنسترومر إلى بدايات طفولة حياته وسنوات المراهقة التي عاشها، وربما كان يخطّط للكتاب لمذكّرات عن سنوات لاحقة عاشها، لكن المرض حال دون ذلك؛ فاليد مشلولة والأصابع لا قوام لها على الكتابة؛ فجاء الكتاب إلى تسعة فصول مصغّرة، وذلك يعد مهماً لقراء الشاعر.
رسّام صغير
ما يُلاحظ على كتابة ذكريات توماس عن طفولته الأولى أنها تذهب إلى التفاصيل؛ فهو يبدأ من عمر ثلاث سنوات كانهُ ترنسترومر حيث العيش مع والدته وجده لأمه "كنت قد بلغت الثالثة لتوي" (ص 28). فيتذكّر أنّ له دُمية منحها اسم "كارين سبينا" عندما كان يقيم في ستوكهولم، كانت والدته تعمل مُدرسة أطفال، ولهم خادمة اسمها "أنا ليزا" من الجنوب السويدي تعشق الرسم ليحب ترنسترومر هذا الفن: "كان جدي قد أحضر للبيت عدّة لفافات من الورق الأصفر الذي كان يُستخدم في محلات البقالة فيما قمتُ أنا بملء هذه الأوراق بالرسوم المصورة" (ص 32). وعندما صار في الخامسة من عمره لكنه ظلّ يرسم من دون احترافية، لكنه يعترف بأن "خياله كان بحاجة إلى وسائل تعبيرية أكثر سرعة" (ص 32)، ومن ثم يؤكّد بأنه "طوّر طريقة للرسم السريع المختزل بحركة منفعلة؛ مُنتجاً دراما فائقة دون تفاصيل ورسومات كارتون لا يتذوّقها سواي" (ص 32).
مبنى بابلي
تقوده ذكرياته الطفولية إلى عالم مختلف، ويعترف بأنه كان "مفتوناً بالمتاحف" (ص 35)، إذ كان مبنى المتحف في عاصمته يشدّه إلى دهشة عندما كان يقف أمامه حتى كان يتساءل: "أيّة بناية عملاقة بابلية ولا نهائية؟" 0ص 35).
لقد شدّه في مقتنيات هذا المبنى البابلي تأريخ المتحف الطبيعي حيث الهياكل العظمية الجافة ولقى أخرى برائحة كريهة، لكنه سرعات ما تحوّل اهتمامه بمتحف القطارات، وكان يتوجّه مع جدّه لمرتين في الأسبوع حتى صار في نفسه الطموح ليصبح "مهندس قطارات"، يقول ترنسترومر: "كنتُ أكثر اهتماماً بالآلات البخارية عن الآلات الكهربية، بعبارة أخرى كانت شخصيتي رومانسية أكثر منها عملية" (ص 36). وفي ظل تلك التجربة كان الاختلاف بين المتحف الطبيعي ومتحف القطارات ولّد عند ترنسترومر الرغبة بإنشاء مُتحفه الشخصي في بيته.
وفي تلك المغامرة الطفولية الاستكشافية، راح يميز "التداخل بين المُتحف المتخيل والمُتحف الحقيقي" (ص 37)، والمقصود بالمُتحف المتخيل الذي رسمه لنفسه في مخياله ليكون واقعاً يريد إنشاء أوصاله المتخيّلة طموحاً في بيته. وتلك من نتائج "مغامرته الاستكشافية في ذلك المبنى البابلي الضخم" (ص 37). لينتهي إلى عالم الحشرات، ويقبض على جزء من هذا العالم وتثبيته في صناديق منزلية كمُتحف صغير لا تزال كهولة ترنسترومر تحتفظ به.
إلى المدرسة والتعليم الابتدائي والشعور بالخوف من سلطة المعلمة التي ما كانت تصفعه لكون أمه معلمة، لكن الشعور بالحاجة إلى الأب البعيد عنه كان يضايقه، كما كانت أنظمة العقاب في المدرسة تخيفه، لا سيما الإصلاحية: "حين أخذوا ولداً من مدرستنا إلى الإصلاحية وعاد بعد عام من هناك كنتُ أراقبهُ كأني أراقب شخصاً بُعث من موته!" (ص 42).
في المدرسة، كان الصغير ترنسترومر يكنُّ ولعاً بالرسم، وكانت لوحات الحائط في مدرسته لافته لانتباهه؛ فكان "متيماً بلوحات الحائط" (ص 43). وكانت المعلمة تُِِكبر فيه حبّه للرسم، إذ أشارت المعلمة يوماً، وأمام التلاميذ، بأن رسومات ترنسترومر مميزة. ولذلك يقول إنه كان "غارقاً في اهتمامات لا تشغل بال الأولاد العاديين" (ص 44).
نازيّة وكتاب
إلى أربعينيّات القرن العشرين، يوم كانت الحروب تشتعل نيرانها في أوروبا، لم يفت ترنسترومر ما كان يجري ليعترف بأنه من "أعداء هتلر" (ص 47)، وكانت "غريزته السياسية موجّهة نحو الحرب والنازية"، وسط اعتقاده بأن "الشخص إما أن يكون نازياً أو ضد النازية" (ص 49)، هكذا يقول. وفي يوم من أيام الحرب سيلتقي ترنسترومر والده الغائب، سيكون برفقته في حفل عامر، لكنّه وجد نفسه بقرب مكتبة، فراحَ يقلّب الكتب على رفوفها، ليقف عند كتاب (استشهاد بولندا)، ليجلس على الأرض ويقرأه قائلاً في النهاية: "كان النازيون وحوشاً كما تصورت، لا، كانوا أسوأ!" (ص 50).
في مدينته تم بناء "بيت المواطنين"، وفيه مكتبة وحوض سباحة، وكان ذلك عالم ترنسترومر، وعبر تجربة سيأخذنا ترنسترومر إلى عالم الكتب والمكتبات، وهناك صار اهتمامه بالكتب غير الأدبية إلى جانب كتب التأريخ، فضلاً عن الجغرافيا، الأجمل أنه يعترف بأنه كان "مخلصاً تماماً لرف كتب إفريقيا" (ص 53). حتى إنه كان يحلم بجمع حشرات إفريقية، وكانت تلك التجربة دسمة في بناء ثقافة ترنسترومر العلمية.
اللغة وهوس الجنون
في (مدرسة النحو) بعد المدرسة الابتدائية، سيؤول مصير ترنسترومر إلى دراسة اللغة الألمانية، وصار يفصل بين عالم الدراسة وعالم البيت والسكن مع والدته، ليدخل مع معلمه "مال" في تعاند طفولي لكنه سيصبح أحد التلاميذ المتفوقين، ويتعرّف إلى أصدقاء آخرين في ظلّ حروب قائمة كان هتلر سيد الحديث عنها بين الناس.
تحت عنوان "تعويذة"، يتحدّث ترنسترومر عن بديات تعبه النفسي عندما كان في الخامسة عشرة من العمر، بدأت صروح القلق تهيمن عليه عندما يحل الظلام في كل مساء، فكان يُقاوم ذلك بالقراءة: "لم أكن أنام إلا قليلاً، أجلس في السرير وأمامي كتاب سميك، قرأت كتب عدة سميكة في تلك الفترة" (ص 67).
يتحدث عن مشاهدته لفيلم سينمائي، يعود إلى البيت ليعيش تفاصيله في ذهنه، ولكن بتشنج لافت حتى أثار قلق والدته: "كان العنصر الأكثر أهمية في وجودي هو المرض، كان العالم مجرّد مستشفى. كنتُ أبصر إزائي كائنات بشرية مشوّهة الجسد والروح. كان كل شيء يحدث في صمت". ويتساءل: "هل أنا مجنون؟" (ص 68). والانصراف إلى المرض النفسي والشعور بسؤال الجنون دفعه إلى القول: "كنتُ محاطاً بالأشباح. كنتُ أنا نفسي شبحاً يسير إلى المدرسة كل صباح ويظل جالسا طوال الحصص دون أن يكشف سره الغامض، كان كل شيء مضطرباً رأساً على عقب" (ص 69).
لم يكن ترنسترومر معنياً بالتدين، لا يصلي، بدلاً من ذلك، وجد في الموسيقى عزاؤه: "طرد الأرواح تلك الأرواح الشريرة باستخدام الموسيقى، كانت تلك الفترة هي التي بدأ فيها تعلّم الدق على البيانو في حماس" (ص 70). وكانت فترة الجحيم تلك من أهم ما مرّ به ترنسترومر في حياته يافعاً لكنه تجاوزها، كان يراها جحيماً لكنها بدت له تطهيراً للنفس.
واحة الشعر
تحت عنوان "لاتينية" سيذهب ترنسترومر إلى تجربته شاباً بدراسة اللغة اللاتينية مع معلمين جُدد، وكانت له مغامرات مع الطلاب، لكنه سينصرف بحديثه عن أستاذه "بوكن". في تلك الدروس يقول ترنسترومر إنه كان متوجّها إلى شعر الحداثة، لكنه كان منجذبا للشعر القديم، وأخذ عبر دروسه للغة اللاتينية ينتقل بين النصوص التاريخية إلى أشعار "كاتولوس" و"هوارس"، ليستحوذا على ذائقته، وكل ذلك بفضل معلمه "بوكن".
في تلك المرحلة، يدخل الشعر إلى مخيال ترنسترومر بعذوبة ليتعلّم قواعد الشعر في دروس اللاتينية، ويعترف بأنه كان ينشر قصائد له في "النشرة المدرسية"، كان ذلك في خريف 1948، ليصبح ترنسترومر أكثر اقتراباً من حياته الشعرية.
تتوقف المذكّرات عند هذه الأحداث، سيصاب ترنسترومر بجلطة دماغية وهو ابن الستين من عمره، ماذا لو تمت كتابة مذكراته للسنوات اللاحقة لتراه أكثر؟ سيرحل توماس ترنسترومر في سنة 2015 من دون بقية مذكرات كان يريدها أن تراه.
لهذا، سعى مُترجم هذه المذكّرات (طلال فيصل) إلى مدِّ صفحات الكتاب، فحاول إجراء حوار مع الشاعر نفسه لكنه وجده لا يستطيع الكلام فنابت زوجة الشاعر عن ذلك لكونها الأعرف بخلد الشاعر ووجدانه وروحه الشعري والوجودي. والأكثر من ذلك زاد المذّكرات بلغتها العربية ترجمة لتقديم كتبه (روبن فلتون) الذي اجتهد بتقديم ترنسترومر إلى القارئ باللغة الإنجليزية، وهو ما راق للشاعر نفسه حتى عدّه أفضل المترجمين لقصائده إلى الإنجليزية، وهي "المقدمة" التي كتبها فلتون في أثناء إعداده لنشر ترجمة الأعمال الكاملة في سنة 2004 عندما صدرت عن دار بلوداكس.
يذهب ترنسترومر إلى بدايات طفولة حياته وسنوات المراهقة التي عاشها، وربما كان يخطّط للكتاب لمذكّرات عن سنوات لاحقة عاشها، لكن المرض حال دون ذلك؛ فاليد مشلولة والأصابع لا قوام لها على الكتابة؛ فجاء الكتاب إلى تسعة فصول مصغّرة، وذلك يعد مهماً لقراء الشاعر.
رسّام صغير
ما يُلاحظ على كتابة ذكريات توماس عن طفولته الأولى أنها تذهب إلى التفاصيل؛ فهو يبدأ من عمر ثلاث سنوات كانهُ ترنسترومر حيث العيش مع والدته وجده لأمه "كنت قد بلغت الثالثة لتوي" (ص 28). فيتذكّر أنّ له دُمية منحها اسم "كارين سبينا" عندما كان يقيم في ستوكهولم، كانت والدته تعمل مُدرسة أطفال، ولهم خادمة اسمها "أنا ليزا" من الجنوب السويدي تعشق الرسم ليحب ترنسترومر هذا الفن: "كان جدي قد أحضر للبيت عدّة لفافات من الورق الأصفر الذي كان يُستخدم في محلات البقالة فيما قمتُ أنا بملء هذه الأوراق بالرسوم المصورة" (ص 32). وعندما صار في الخامسة من عمره لكنه ظلّ يرسم من دون احترافية، لكنه يعترف بأن "خياله كان بحاجة إلى وسائل تعبيرية أكثر سرعة" (ص 32)، ومن ثم يؤكّد بأنه "طوّر طريقة للرسم السريع المختزل بحركة منفعلة؛ مُنتجاً دراما فائقة دون تفاصيل ورسومات كارتون لا يتذوّقها سواي" (ص 32).
مبنى بابلي
تقوده ذكرياته الطفولية إلى عالم مختلف، ويعترف بأنه كان "مفتوناً بالمتاحف" (ص 35)، إذ كان مبنى المتحف في عاصمته يشدّه إلى دهشة عندما كان يقف أمامه حتى كان يتساءل: "أيّة بناية عملاقة بابلية ولا نهائية؟" 0ص 35).
لقد شدّه في مقتنيات هذا المبنى البابلي تأريخ المتحف الطبيعي حيث الهياكل العظمية الجافة ولقى أخرى برائحة كريهة، لكنه سرعات ما تحوّل اهتمامه بمتحف القطارات، وكان يتوجّه مع جدّه لمرتين في الأسبوع حتى صار في نفسه الطموح ليصبح "مهندس قطارات"، يقول ترنسترومر: "كنتُ أكثر اهتماماً بالآلات البخارية عن الآلات الكهربية، بعبارة أخرى كانت شخصيتي رومانسية أكثر منها عملية" (ص 36). وفي ظل تلك التجربة كان الاختلاف بين المتحف الطبيعي ومتحف القطارات ولّد عند ترنسترومر الرغبة بإنشاء مُتحفه الشخصي في بيته.
وفي تلك المغامرة الطفولية الاستكشافية، راح يميز "التداخل بين المُتحف المتخيل والمُتحف الحقيقي" (ص 37)، والمقصود بالمُتحف المتخيل الذي رسمه لنفسه في مخياله ليكون واقعاً يريد إنشاء أوصاله المتخيّلة طموحاً في بيته. وتلك من نتائج "مغامرته الاستكشافية في ذلك المبنى البابلي الضخم" (ص 37). لينتهي إلى عالم الحشرات، ويقبض على جزء من هذا العالم وتثبيته في صناديق منزلية كمُتحف صغير لا تزال كهولة ترنسترومر تحتفظ به.
إلى المدرسة والتعليم الابتدائي والشعور بالخوف من سلطة المعلمة التي ما كانت تصفعه لكون أمه معلمة، لكن الشعور بالحاجة إلى الأب البعيد عنه كان يضايقه، كما كانت أنظمة العقاب في المدرسة تخيفه، لا سيما الإصلاحية: "حين أخذوا ولداً من مدرستنا إلى الإصلاحية وعاد بعد عام من هناك كنتُ أراقبهُ كأني أراقب شخصاً بُعث من موته!" (ص 42).
في المدرسة، كان الصغير ترنسترومر يكنُّ ولعاً بالرسم، وكانت لوحات الحائط في مدرسته لافته لانتباهه؛ فكان "متيماً بلوحات الحائط" (ص 43). وكانت المعلمة تُِِكبر فيه حبّه للرسم، إذ أشارت المعلمة يوماً، وأمام التلاميذ، بأن رسومات ترنسترومر مميزة. ولذلك يقول إنه كان "غارقاً في اهتمامات لا تشغل بال الأولاد العاديين" (ص 44).
نازيّة وكتاب
إلى أربعينيّات القرن العشرين، يوم كانت الحروب تشتعل نيرانها في أوروبا، لم يفت ترنسترومر ما كان يجري ليعترف بأنه من "أعداء هتلر" (ص 47)، وكانت "غريزته السياسية موجّهة نحو الحرب والنازية"، وسط اعتقاده بأن "الشخص إما أن يكون نازياً أو ضد النازية" (ص 49)، هكذا يقول. وفي يوم من أيام الحرب سيلتقي ترنسترومر والده الغائب، سيكون برفقته في حفل عامر، لكنّه وجد نفسه بقرب مكتبة، فراحَ يقلّب الكتب على رفوفها، ليقف عند كتاب (استشهاد بولندا)، ليجلس على الأرض ويقرأه قائلاً في النهاية: "كان النازيون وحوشاً كما تصورت، لا، كانوا أسوأ!" (ص 50).
في مدينته تم بناء "بيت المواطنين"، وفيه مكتبة وحوض سباحة، وكان ذلك عالم ترنسترومر، وعبر تجربة سيأخذنا ترنسترومر إلى عالم الكتب والمكتبات، وهناك صار اهتمامه بالكتب غير الأدبية إلى جانب كتب التأريخ، فضلاً عن الجغرافيا، الأجمل أنه يعترف بأنه كان "مخلصاً تماماً لرف كتب إفريقيا" (ص 53). حتى إنه كان يحلم بجمع حشرات إفريقية، وكانت تلك التجربة دسمة في بناء ثقافة ترنسترومر العلمية.
اللغة وهوس الجنون
في (مدرسة النحو) بعد المدرسة الابتدائية، سيؤول مصير ترنسترومر إلى دراسة اللغة الألمانية، وصار يفصل بين عالم الدراسة وعالم البيت والسكن مع والدته، ليدخل مع معلمه "مال" في تعاند طفولي لكنه سيصبح أحد التلاميذ المتفوقين، ويتعرّف إلى أصدقاء آخرين في ظلّ حروب قائمة كان هتلر سيد الحديث عنها بين الناس.
تحت عنوان "تعويذة"، يتحدّث ترنسترومر عن بديات تعبه النفسي عندما كان في الخامسة عشرة من العمر، بدأت صروح القلق تهيمن عليه عندما يحل الظلام في كل مساء، فكان يُقاوم ذلك بالقراءة: "لم أكن أنام إلا قليلاً، أجلس في السرير وأمامي كتاب سميك، قرأت كتب عدة سميكة في تلك الفترة" (ص 67).
يتحدث عن مشاهدته لفيلم سينمائي، يعود إلى البيت ليعيش تفاصيله في ذهنه، ولكن بتشنج لافت حتى أثار قلق والدته: "كان العنصر الأكثر أهمية في وجودي هو المرض، كان العالم مجرّد مستشفى. كنتُ أبصر إزائي كائنات بشرية مشوّهة الجسد والروح. كان كل شيء يحدث في صمت". ويتساءل: "هل أنا مجنون؟" (ص 68). والانصراف إلى المرض النفسي والشعور بسؤال الجنون دفعه إلى القول: "كنتُ محاطاً بالأشباح. كنتُ أنا نفسي شبحاً يسير إلى المدرسة كل صباح ويظل جالسا طوال الحصص دون أن يكشف سره الغامض، كان كل شيء مضطرباً رأساً على عقب" (ص 69).
لم يكن ترنسترومر معنياً بالتدين، لا يصلي، بدلاً من ذلك، وجد في الموسيقى عزاؤه: "طرد الأرواح تلك الأرواح الشريرة باستخدام الموسيقى، كانت تلك الفترة هي التي بدأ فيها تعلّم الدق على البيانو في حماس" (ص 70). وكانت فترة الجحيم تلك من أهم ما مرّ به ترنسترومر في حياته يافعاً لكنه تجاوزها، كان يراها جحيماً لكنها بدت له تطهيراً للنفس.
واحة الشعر
تحت عنوان "لاتينية" سيذهب ترنسترومر إلى تجربته شاباً بدراسة اللغة اللاتينية مع معلمين جُدد، وكانت له مغامرات مع الطلاب، لكنه سينصرف بحديثه عن أستاذه "بوكن". في تلك الدروس يقول ترنسترومر إنه كان متوجّها إلى شعر الحداثة، لكنه كان منجذبا للشعر القديم، وأخذ عبر دروسه للغة اللاتينية ينتقل بين النصوص التاريخية إلى أشعار "كاتولوس" و"هوارس"، ليستحوذا على ذائقته، وكل ذلك بفضل معلمه "بوكن".
في تلك المرحلة، يدخل الشعر إلى مخيال ترنسترومر بعذوبة ليتعلّم قواعد الشعر في دروس اللاتينية، ويعترف بأنه كان ينشر قصائد له في "النشرة المدرسية"، كان ذلك في خريف 1948، ليصبح ترنسترومر أكثر اقتراباً من حياته الشعرية.
تتوقف المذكّرات عند هذه الأحداث، سيصاب ترنسترومر بجلطة دماغية وهو ابن الستين من عمره، ماذا لو تمت كتابة مذكراته للسنوات اللاحقة لتراه أكثر؟ سيرحل توماس ترنسترومر في سنة 2015 من دون بقية مذكرات كان يريدها أن تراه.