مقتطف د. محمد عبدالفتاح عمار - الحلقة الرابعة "سفر الثورات" رواية اسفار الوطن والجراح

سفر: الثورات​

الأوضاع غير مستغربة.. كنت أشعر بالغربة تتعمق فيّ، وكنت أرى الشخص الذي يظهر لمخيلتي من حين لآخر يجمع كل هذه الوجوه القبيحة التي حولي وكنت أيضًا غير مدرك هل هو واقع أم وهم، جسد أم خيال، يظهر لي كضباب قاتم، وأنا أتبين ملامحه، أحاول أن أقبض عليه بيدي فلا أجد سوى سراب.. عاودتني فكرة الطبيب النفسي أكثر من مرة لكني كنت على ثقة غير عادية من أن زيارتي إلى سيدي على الترابي ستأتي بالعلاج الناجع، سوف يكف عن ملاحقتي، ربما أدفنه هناك، ربما يُحرَق لو كان من الجان والمَرَدَة.. أكيد إنه من عجينة السوء أيًّا كان فهو لا يظهر لي إلا حينما أفكر في هؤلاء اللصوص الخونة، الساسة والمسئولين الذين رأيت بعضًا منهم عن قرب يبيع لحم الوطن يلقي به للكلاب النهمة، رفضت أن أشاركهم وكثيرًا ما أعلنت رفضي، ربما لم يكن صوتي مسموعًا أو كان في حيز منخفض لم يجاوز حنجرتي، كل ما استطعت فعله أن أمسك قلمي عن المساهمة بمداد ملوث في جرائم ربما لن يكشف عنها القدر لكني أخاف الله، يتردد في أذني صوت سيدنا يوسف.. «معاذ الله»، أنا لست يوسف لكنهم أكيد أسوأ بكثير من امرأة العزيز، امرأة العزيز كادت تفرط في شرفها أما هم فيفرطون في شرف الوطن. خطوط ضيقة تكاد تتلامس فتشكل حبلاً للمشنقة، خطوط العام والخاص تلتف حول رقبتي وحينما أشعر بألم الاختناق.. اقتراب غصة الموت.. أرى هذا الملعون يضحك ولا أدري ما الذي يُضحكه وأنا على شفا الموت ألمًا.

يومًا بعد أيام عالم جديد يأكل عالمي الذي عشت فيه وأحبه، بيوت عائلتي بطرازها المعماري المتميز تختفي رُوَيْدًا رُوَيْدًا، لذا حين تمسكت بعمارة بيتي قال لي صديقي المهندس إنها بيوت تمثل امتدادًا للعمارة الفرعونية مخلوطة بالطراز الإسلامي.. فعلاً، من بعيد يبدو لك البيت كأنه معبد من معابد الفراعنة له أربعة أعمدة اثنان على شكل مستطيل تقل مساحته كلما صعدت إلى أعلى ثم هناك بجواره عمود آخر دائري يقل قطره كلما ارتفع، يبدو تمامًا كمعابد أبي سمبل ومعبد فيلة، ارتفاع البيت يصل إلى قرابة سبعة أمتار وشبابيك تصل إلى مترين ونصف المتر، والغرف أرضيتها من الخشب أما البهو الكبير فهو يشبه ساحة المعابد بالفعل فأرضيته من البلاط اللامع لمعة الرخام ومنقوش برسومات مميزة وفريدة يصعب أن تجد مثيلاً لها، أمّا أجمل ما هنالك فإن الشبابيك بها حديد صُنْع يدوي لا توجد به أيّ لحامات بل هو مجرد حديد مسبوك ومصنوع دون أن يكون ملحومًا بالنار، تحفة فنية يتعجب الحدادون من ذلك يقولون إنه مع الإمكانيات الحديثة يستغرق الشباك الواحد ليخرج بهذا المنظر أكثر من شهر ويتعجبون كيف استطاعت يد الصانع وحدها دون ماكينات اللحم وصهر الحديد الوصول إلى هذا المستوى.

أخبرتني أمي المولعة بالتاريخ وتحقيق أنساب العائلات، ولديها حوادث وحكايات لم يصل إليها قلم المؤرخين، أن المهندس الذي بنى هذه البيوت كان يرغب في تصميمها على النهج الإنجليزي كبيوت عائلات المركز في ذلك الوقت، أمّا عائلتي، لشدة انتمائها لمصر وللحركة الوطنية وثورة عرابي فقد طلبوا منه أن تكون البيوت على هذا النحو هي وسراي العائلة التي اقترنت شهرتها بزيارة الخديوي لقريتنا، ربما أتمسك بعمارته ردًّا على التحول الذي أشهده من حولي كنوع من الصمود في وجه التغيير للأسوأ، عناد مع زمن الندولة والأرض المجهولة، إبقاء لذكرى زمن ثورة 1919، تصمد في مواجهة الانفتاح، التسيب في كل شيء حمى الفساد، بئر العفن الذي طفح على الحياة.

أمّا أفخم البيوت على الإطلاق فى بيوت العائلة؛ فكان بيت علي بك الذي كان عضوًا بمجلس شورى القوانين أول مجلس نيابي في مصر، حيث إن سقفه وبعض حوائطه مزدانة برسومات طبيعية مر عليها أكثر من مائة سنة وما زالت بحالتها وبهائها وقيل إن الذي أعدها هو فنان إيطالي، وأغرب ما سمعت أنه كان يُحضر الزهور ويستخرج منها الألوان الطبيعية بعد عصرها أو دعكها ويُعد منها هذه اللوحات فائقة الجمال، كما ان به بئر للماء العزب ، لا يعرف احد عمقه كل ذلك أوشك على الاندثار، قمت بتصوير هذا البيت بالفيديو وبعض الصور بكاميرا الهاتف المحمول، يقولون إنه مربوط بالسراية بسرداب تحت الأرض يصل بينهما، حكايات سمعناها وآمنّا بها رغم أننا لم نرَ شيئًا ملموسًا يقطع بصحتها.

تمامًا كالحكايات التي رُويت عن السراي والعفاريت التي تسكنها، وأقسم إنني حتى هذه اللحظة ينتابني خوف شديد من أن أمر بجانبها وحدي في ليالي الصيف والنور يشق السماء من أعمدة الإضاءة فما بالك قبل أن يغزو النور قريتنا وظلمة الشتاء البهيم حيث القمر مكبل ومحبوس في سجن الغيوم.

يقولون إن أولاد عمومتي حضر لهم رجل ادعى أن له قدرة على استخراج الخبيئة والكنوز الفرعونية أخبرهم أن الجهة الشرقية بها كنز كبير، لم يشغلني ذلك فهو أمر وارد وحدث معي أيضًا إنّما شغلني أنه قال لهم إن هناك جثة مدفونة أمام السلم وبجوارها بندقية لم يحدد تاريخها وهل هي حديثة أم أثرية، طاف فكري مَن هو وفي أيّ ظروف قُتل ومن غدر به وهل هو نتاج ظلم عائلتي التي روج له البعض.. هل كان شابًّا طامحًا في الحياة.. هل كان حرًا قال كلمة لعائلة جائرة؟

لِمَ لا يكون من أفراد الأسرة نفسها، لاسيما أنني كلما أمسكت كتب عبدالرحمن الرافعي وجدت ذكرًا متناثرًا لبعض أفراد الأسرة يدل على الثقافة والدعوة للحرية والعدل ومناهضة الاستعمار، من الصعب أن تتصور أن أحدًا قُتل هنا، أو عُذِّب هنا لقول الحق أو الثورة على ظلم.

المجهول شيء صعب حينما تفكر فيه تحاول أن تستجلي معالمه تجري وراءه كأنك تجري وراء سراب، سمعنا أساطير كثيرة لكن لم ينقل إلينا أن أحدًا قُتل في السراي ودُفن فيها قديمًا.. أمّا عمَّن قُتلوا فيها وعلمنا بأخبارهم فقد كان ذلك في بداية الستينيّات، كانت رائحة العائلة الإقطاعية لا تزال تنتشر في الجو.. قيل إن لصين سرقا أحد أعيان القرية من عائلة أخرى وأرسل العمدة لهما حينما حضرا كانت ثورة يوليو قد أمدتهم بقوة كافية لسب العمدة والتطاول عليه، لم يصدق أن الرؤوس تساوت وأن أحدًا يمكن أن يشوح في وجهه أو يسبه، تطوع شيخ الخفر بتخفيف حدة الصدمة قيل إنه صفع أحدهما، فرد له الصفعة.. انطلقت أعيرة نارية.. مات الاثنان وهما يحاولان الفرار.. أُوقف العمدة ثلاثة شهور.. لم تكن ثورة يوليو في صفهما، فقط أعطتهما دفعة وهمية.. دفعتهما إلى التطاول على العمدة إلا أنها للأسف كانت قد توقفت على باب السراي، ردد بعض أهل القرية وعلى رأسهم الأستاذ قاسم العسيلي، وقد كانا من أقاربه لأمه، أن شقيق العمدة المستشار الجليل لم يكن بعيدًا عن الحدث وقُيّدت القضية دفاعًا شرعيًّا وشن الأستاذ قاسم حربًا لم تهدأ واستدعى نارها ضد عائلتي كلما دعته الحاجة إلى ذلك رغم إشادته بجدي وبعض بيوت العائلة فرادى.

لم يتغير المكان وإن مر الزمان لكن استعاد ذات تفاصيله الدقيقة، التاريخ يعيد نفسه والثورات أيضًا تعيد نفسها، وقيل أيضًا إنها تأكل نفسها.. هاجم الناس نقطة الشرطة القريبة منا من حيث المكان، البعيدة عنا من حيث المشاعر والأحاسيس، أثناء الثورة يوم 28 يناير المهاجمون بعضهم كان من طائفة المجرمين، بعضهم كان من الثوار حسب ما يصفون أنفسهم. الغريب أنني عاصرت الواقعة لكني لم أتمكن من أن أدرك حقائقها حتى هذه اللحظة، لم يكفِ ما تعلمته من القانون والتدقيق القضائي أن أكوّن رأيًا قاطعًا أو حكما نهائيًّا.. ربما لذلك أعتبر أن من أساسيات القضاء ألا يقضي القاضي بعلمه الشخصي.. رغم أني ابن الحدث عشت اللحظة وتواجدت في المكان كنت على مقربة منه ولكن اكتشفت أن الحقيقة لم تكن قريبة من عيني، لم يشفع لي وجودي في نفس الزمن وفي ذات المكان، صحيح إنه كان هناك حشد لا بأس به من شباب القرية الناقمين على الدولة والحزب الوطني، الحقيقة إنه كان في مقدمتهم بعض الإخوة من جماعة الإخوان، الإخوة كما ينادون على بعضهم.. ولأول مرة أشاهد عبود السلفي الذي لم نعرف أن له اهتمامًا سياسيًّا أو عداءً مع الدولة وأجهزتها، خاصة الشرطة، عبود يحمل دبلوم زراعة ويتصدى للخطبة بدلاً من الشيخ عبدالوهاب إمام المسجد وعلمت أن الشيخ عبدالوهاب ترك له الخطابة بعد أن أهداه عبود طاقم ملايات فاخرة وحلل ماركة بيركس كما قام بنقوطه ليلة الحنة بخمسمائة جنيه، وقيل في رواية أخرى طقم سرير وملابس داخلية حريمي شديدة السكسية.. عبود لا نعرف من أين أتته كل هذه الأموال ليشتري سيارة نصف نقل على الزيرو وكاش، والأغرب أنها امتلأت وامتلأ بيته ببضاعة لتجهيز العرائس يطوف بها القرى ويوزع بضاعته ويحصل على إيصالات الأمانة بعشرة أضعاف الثمن الحقيقي، إذا أبطأت أسرة في الدفع يتولى إقامة الجنحة المباشرة محاميه ومحامي زملائه من الإخوة السلفيين أصحاب الجلباب القصير واللحى التي تكاد تصل لصرة البطن، الأستاذ حمادة المحامي أمين لجنة الحزب الوطني في القرية، والأستاذ حمادة لا يتنازل عن الدعوى إلا بعد سداد الثمن والفوائد وأتعاب الأستاذ حمادة التي غالبًا ما تكون مبلغًا محترمًا أشد من الاحترام الذي يلقاه الأستاذ حمادة من أهل القرية وتكون أيضًا مُبالغًا فيها وضعف أتعابه الحقيقية بكثير.

يقولون إن كثيرين في القرى المجاورة سلكوا مسلك عبود، اللحية وحلق الشارب والجلباب الأبيض القصير والسواك على أن يظهر من الجيب الأمامي أعلى الصدر في الجلباب القصير.. شروط ضرورية ومهمة لأن تهبط عليك السيارة الزيرو محملة بالأدوات المنزلية وجهاز العرائس وأحيانًا الأجهزة الكهربائية ولا أحد يعلم من أين يفور هذا النبع الصافي الذي كنا جميعًا في حاجة لنغترف منه بدلاً من الاكتفاء بالتعجب أو السعي وراء جنيهات الميري التي بالكاد تكفي لحياة نصف كريمة.

الجميع شاركوا في أحداث الثورة حتى ابن أبوسيف الذي ضبطناه أكثر من مرة يسطو على البيوت يسرق أيّ شيء، ملابس قديمة، حلل ألمونيا، فلوس، دراجات.. أيّ شيء، المهم أن يخرج من البيت بغنيمة تكفي لشراء سيجارتين على الأقل من عند نوسة تاجرة المخدرات، كان كتفًا بكتف يشارك بجوار الشيخ عبود والإخوة، يشاركهم في النضال الثوري وكان يحمل السبرتو الذي يشرب منه، قيل إنه ضحى بشرب ليلتين من أجل إحراق نقطة الشرطة، وحضر أيضًا مجموعة لا بأس بها من شباب القرية من خريجي الجامعة الذين لا يجدون لهم عملاً وبعضهم حانق على الشرطة والحزب الوطني ولا يقبل أن يكون ميراثًا لجمال مبارك رغم ما قيل عن جمال مصر وروعة مستقبلها حينما تتحول إلى جمال لاند، وممن حضروا هذا اليوم التاريخي وسطروا بأيديهم حوادث جلل يقف التاريخ رغمًا عنه ليشملها بوصفه ورسمه إخوة المعلمة نوسة تاجرة المخدرات الشهيرة، بل إن نوسة نفسها تكفلت بإلقاء كرة من النار على سطح النقطة من منزلها المجاور ويحسب لها أنها كانت رغم كونها سيدة صاحبة المبادرة الأولى والتي انتهت بأن تحولت نقطة الشرطة الأثرية إلى كومة من تراب، المبنى الذي كان جزءًا من مدرسة قديمة افتتحها مصطفى كامل عام 1906 ثم تحولت ضمن إنجازات ثورة يوليو 52 إلى مقر للاتحاد الاشتراكي، ثم إثر قيام معركة شهيرة بين عائلة الدخيلة والهوارية على ست قراريط بيعت للغير كان يرغب شخص من الهوارية في شرائها باعتباره جارًا إلا أن جاد الدخيل باعها إلى آخر فوقعت المعركة بسبب الصراع على أرض لا يملكها أيّ من الأطراف فهي أرض الدولة، مات في المعركة ثلاثة وأصيبت امرأة من أهل القرية وأحرقت داران وحضر الأمن المركزي إلى القرية ثلاثة أسابيع وأثبتت التحقيقات أن الأرض ملك هيئة الأوقاف المصرية مثلها مثل خمسة فدادين مجاورة أُوقفت على مسجد القرية، أقيمت عليها منازل بعد أن اشتراها أهل القرية من المستأجرين، سلام على الدولة الغائبة في كل وقت وحين، والغريب أن جاد يسدد الإيجار عنها بانتظام والأغرب أن الشاري والراغب في شراء كانوا يعلمون أنها أرض الأوقاف أرض دولة وعليه قررت الحكومة تحويل مقر الاتحاد الاشتراكي بعد اختفائه من الوجود واندثاره ولم يتبق منه إلا مجرد أوراق وسجلات اشتراها عمي زكى هارون ليستخدمها في بيع الطعمية ولف السندوتشات لطلبة المدرسة الابتدائية ولمّا كان الحزب الوطني لم يظهر ليرث تركة الاتحاد الاشتراكي تحول المبنى إلى نقطة شرطة ثم تحولت إلى أطلال، كومة من تراب في ظل ثورة 25 يناير، وساعد في ذلك سقفها الخشبي، وحقيقي إن أحدًا لم يُهِن ضابط النقطة لقد كانت علاقته بأهل القرية طيبة وحينما عاتب البعض قالوا له الدولة شيء وسيادتك شيء تاني.. ويكاد يكون، على حسب ما علمت بعد ذلك، أنه من القلة التي لم تتناولها أو تطولها يد الإهانة والاعتداء على رجال الشرطة والبدلة الميري، فقد ألقى سلاحه من أول لحظة والحمد لله لم يسرق السلاح الذي في النقطة بينما احتفظ العمدة بالسلاح في بيته إكرامًا للضابط المحترم النقيب هيثم الذي اعتاد مشاركة أهل القرية أفراحهم وأتراحهم وحفاظًا على شخصه ووضعه الوظيفي، لا حبًّا في المال العام ولا احترامًا لسلاح دولة الظلم والفساد كما قال له أكبر رأس في الإخوة رجب أبودية، مأمور الضرائب، أصلك ابن أصول روح بيتكم يا هيثم بك مفيش دولة ولا حكومة وياريت تنسى شغل الكفار ده وتعالَ عندنا وظائف كثير، وأكد عليه بثقة غريبة -وكأنه يقرأ كتاب الغيب- خلال عامين حنحتاج للشرفاء اللي زي سيادتك. ورغم أن رجب أبودية لم يكن يؤمن بأحقية الدولة في تحصيل الضرائب والأولى أن تذهب إلى الفقراء وأن جمعها حرام فإنه ظل في عمله لإعفاء الإخوة وقيل إنه كان شديد التعسف ولا يفرط في حق الدولة مع من هم من غير جماعته خاصة الأعيان والتجار الذين يؤيدون مرشحي الحزب الوطني.

ولم يكذب حدس أبودية؛ فقد عاد الضابط إلى النقطة وعمل في خدمة الجماعة الموقرة وصاحَب رجال التيار السلفي تمامًا كما كان يفعل قبل الثورة مع رجال الحزب الوطني ويبالغ في احترامهم، بل كان يعاون رجب أبودية ممثل جماعة الإخوان الذي أشرف على تشكيل الوحدة الحزبية لحزب الحرية والعدالة واختار أعضاءها فردًا فردًا رغم ما قيل عن الانفصال العضوي والطلاق الفكري بين الحزب وجماعة الإخوان، كما ساند أيضًا هيثم بك الإخوة السلفيين بشدة في انتخابات المجلس النيابي وكذلك كل من ينتمي للتيار الإسلامي فقد كان شهر العسل قائمًا لم ينفض في الزيجة السياسية بين الإخوان والسلفيين بل بين كل أصحاب الميول الدينية ولم ينسَ له رجب أبودية أنه أمر بعض جنود النقطة بالإشراف على خفراء القرية والقرى المجاورة فى نطاق النقطة عند توزيع شنطة رمضان التي تفوقت كثيرًا حجمًا وتكلفة عن شنط الحزب الوطني التي كان يستولي على نصفها الأستاذ حمادة أمين الحزب لتذهب إلى أقاربه وجيرانه والعاملين بمكتبه والنصف الآخر لخفراء العمدة وبعض الأعيان الجدد بقريتنا، أما شنط ابن النتافة في عهد ما قبل الثورة فكانت تذهب إلى الفقراء لكن هناك نوعًا آخر من الشنط كان يذهب لبعض الكبراء والأعيان ممن يملكون تأثيرًا انتخابيًّا لكنها بالتأكيد كانت أفخم وأفخر وأثقل وزنًا وبيقين لم ينافس شنطة الإخوان بعد ذلك سوى الشنط التي وزعتها القوات المسلحة لأبناء الوطن وقد كان رجب صادق الوعد وفيًّا فهيثم بك نُقل إلى مباحث الكهرباء ليقبض فيها عشرة أمثال راتبه الأساسي ببركة أبودية قبل أن يعود نائبًا لمأمور المركز في غير أقدميته.

المهم أن احتراق نقطة الشرطة، الذي ربما كان بداية عهد جديد تسيد فيه رجال الدين في قريتنا ولم يكن من سلطة تجابه نوسة وإخوتها وابن أبوسيف وأصدقائه، بدا مبهمًا لي كواقعة السراي رغم أني عاصرت الاحتراق بينما وقعت حادثة السراي قبل أن أولد بأكثر من خمسة عشر عامًا.. يقولون لا تصدق ما تسمعه وصدق نصف ما تراه.. أعرف الفاعل وأعرف الضحية وأعرف شيئًا من الدوافع ولكني لا أدرك هل كان ذلك صوابًا أو خطأ.. هل الحرائق فصل في كتاب الثورة أيّ ثورة أم تفاصيل متناثرة للفوضى أم عليّ أن أنتظر لما يسفر عنه الغد القادم حتى أعرف.. ثم هل هو الغد القريب أم الغد البعيد..

كم من الزمن يفصلنا عن إدراك الحقيقة؟

سؤال لا أجد إجابة عنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى