د. محمد عبدالله القواسمة - حين يُبهرنا الكلام...

في كثير من الأحيان يُبهرنا الكلام، ويوجهنا إلى معان ارتسمت في مخيلتنا وعقولنا دون أن يحملها في طياته. يبهرنا بقوة صياغته، وحسن إيقاعه، وجمال ألفاظه، وغرابة صوره. إنه كلام جيد السبك متهافت المعنى. قد يكون هذا الكلام من الشعر أو من النثر. ربما يكون بيتًا أو أبياتًا في قصيدة، أو تعبيرًا في عمل إبداعي لشاعر مشهور، أو قولًا لمفكر أو أديب معروف، أو حتى لإنسان عادي.

فهذا امرؤ القيس، أمير شعراء العصر الجاهلي يعجب كثيرون لقوله في وصف حصانه:

مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ

فنحن نعجب ونطرب، كما النقاد القدماء الذين شرحوا معلقة امرئ القيس لوصف جواده بأنه في الحرب قوي سريع، قادر على الكر والفر، والإقبال والإدبار. لكن العقل لا يقبل اجتماع الكر والفر في وقت واحد(معًا) كما أن تلك المرونة تتلاشى في الشطر الثاني، عندما يصور الشاعر حصانه في انطلاقه بحجر عظيم صلد، يدفعه السيل بقوة من مكان عال.

ثم هذه رابعة العدوية تتغنى بحبها الإلهي بقولها:

فليتــك تحـلو والحياة مريـرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبينـي وبين العالمين خـراب

وفي هذين البيتين، سواء أكانا لرابعة العدوية، أم لأبي فراس الحمداني، فكثير من الشيوخ والمتصوفة يخاطبون بها الذات الإلهية، وقد أقر ابن القيم الجوزية صحتها لو خوطب بها الله تعالى، وفهمها بأنها تقدم رضا الله على غيره.

لكننا نرى غير ذلك؛ فكيف يجتمع التمني بأن تكون العلاقة بين الشاعرة والذات الإلهية علاقة طيبة مع التمني بخراب العلاقة بينها وبين الناس؟! كيف تصلح علاقة الإنسان بالله مع خراب علاقته بالناس؟

ومن قصيدة محمود درويش يختار بعض الناس أن يقف عند قوله " نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا" دون الانتباه إلى المعنى، بأن الشاعر يحب الحياة إذا وجد السبيل إلى ذلك، ويتجاهل ما تقوله أبيات القصيدة الأخرى بأن الشاعر دائم الحب للحياة، بدلالة السعي لبقاء هذا الحب من خلال الفعل المقاوم. يظهر هذا بتوالي الصور في الأفعال: نسرق، نبني، نسيج، نفتح، يخرج.

نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ

وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ

إن ترداد البيت الأول يغوينا بصياغته، وجمال إيقاعه، وليس بمعناه الذي لا يصور سعي الإنسان الفلسطيني لبيان حبه للحياة من خلال المقاومة. بل يصور استكانته للواقع. لهذا يستحسن إهماله، أو عدم التركيز عليه في القصيدة.

ومن الأقوال، التي تتردد على ألسنة كثير من المثقفين قول أحد الروائيين على لسان إحدى شخصيات رواية له:" مصير الحكايات التي لا نكتبها أنها تصبح ملكا لأعدائنا". فهذا القول تغرينا صياغته وربطه بالعدو الإسرائيلي؛ فالقائل يحث على كتابة الحكايات لأنا إذا لم نكتبها تؤول إلى العدو، فحربنا معه، كما يرى حرب ذاكرة، وكل ما يريده العدو أن نغرق في النسيان الذي يدخلنا في موت سريري.

الحقيقة أن العدو لا يحتاج إلى حكاياتنا؛ فله حكاياته التي يكتبها ويتبناها ويصدقها العالم؛ لأنه يستند في كتابتها إلى القوة. ثم إن حربنا معه ليست حرب ذاكرة تقوم على الماضي فقط، بل حرب اللحظة، حرب الحاضر المستمر الذي لن ينسى؛ فالعدو أمامنا ومن حولنا، يقاتلنا في كل حين. كما أن النسيان مستحيل ليس على المستوى الواقع فحسب، بل على المستوى العلمي والوعي الجمعي أيضًا. والحكايات تبقى في القلوب، ويتناقلها الناس من جيل إلى جيل، أو تظهر في روايات المبدعين، ولن تكون يومًا ملكًا لآخرين غيرنا. لكن لعل من الواجب أن ننقيها من الحكايات والروايات التي تمتدح العدو.

هكذا رأينا وجود كثير من الكلام والأقوال التي تأسر الناس ببلاغتها وطريقة حبكها وبنائها، وبخاصة إذا كانت لمبدعين ومفكرين معروفين، ولكن، مع ذلك، يتبين ضعفها وتتهاوى معانيها وأفكارها إذا وضعت تحت نور العقل. وهذا يظهر الحاجة إلى النقد الموضوعي في الوسط الأدبي، ونشر الفكر النقدي بين الناس حتى لا تنتشر مثل تلك الأقوال، التي لا تساعد على بعث ذوق جمالي رفيع، يرتقي بالإحساس، ولا على خلق فكر عميق، يقدم الواقع على حقيقته، ويدفع إلى تغييره نحو الأفضل والأجمل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى