العلامة الدكتور السيد الجميلي - نفحات إيمانية... القدس في التاريخ القديم والحديث (۲)

(۲)

ذكرنا في مقالنا السابق أهمية القدس الشريف وتعلق الناس كافة بها، فهي محط الأنظار، وقبلة لأرواح المؤمنين بعد بيت الله الحرام الذي بمكة المكرمة ففيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة وهما من الآثار الإسلامية المنفوحة بعبق الايمان والتقوى.
كذا تحتوي على كثير من المقدسات المسيحية واليهودية وهي من هذه المثابة لها قداستها وحرمتها وقدرها عند كل مسلم ونصراني ويهودي.
يذكر لنا التاريخ أن أول من قطنوا القدس وسيطروا عليها، هم البوسيون من الكنعانيين الذين ينحدرون من الساميين نسبة إلى «سام بن نوح عليه السلام» وقد كان مستقر أولئك الساميين جزيرة العرب، ثم ضاقوا بحياة البادية فاجتووها وسئموا المقام بها، فهجروها، وتحولوا عنها، ثم أشخصوا إلى مدينة القدس، ولذلك أسموها : «بيوس».
كان لابد أن تقع الواقعة المحتومة التي لا محيص عنها ولا مفر منها بين العبرانيين اليهود، وبين البيوسيين الكلدانيين، وأسفرت المواجهة عن انتصار اليهود العبرانيين على سيدنا داود عليه السلام، وكان ذلك سنة ألف قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
كان سليمان خليفة أبيه داود عليهما السلام وهما ممن أوتي الملك والنبوة معاً وثالثهما في هذه المزية والخاصية بين أنبياء الله جميعاً يوسف بن يعقوب عليه السلام.
حكم سليمان المدينة الفاضلة «القدس» وأدار شؤونها ادارة حكيمة قادرة فاعلة، وقد كان سليمان مثلما كان أبوه داود نبيين من أنبياء بني إسرائيل.
وفي عصرهما تم تغيير اسم المدينة إلى أورشليم ثم عمد سليمان بعد ذلك إلى إقامة المعبد والمسم بـ هيكل سليمان بموجب منصوص التوراة.
لكن اليهود لم يراعوا لهذا الهيكل قداسة ولا حرمة فاختلطت ترانيم الكهنة وتراتيلهم بأصوات الباعة الجائلين وأصوات الحيوانات المختلفة من ثناء الشياه، ورغاء البعير وصهيل الخيول، ونهيق الحمير، ونعيق البوم والغربان فإن أحدا إزاء هذا الإمتهان وعدم الإعتبار - لا يمكن أن يعتقد أو يظن أن المكان بقداسته وما إنطوى عليه من روحانية خالصة عومل بما يليق بهذه القداسة.
ثم كان ما كان بعد ذلك من إنقسامها «أي الدولة الإسرائيلية» على ما ذكرنا سلفاً، ثم عومل اليهود بجرائرهم وجرائمهم معاملة وحشية صارمة من بختنصر الذي قتل منهم من قتل، وأُعمل السيف في رقابهم، ثم ساق الباقين منهم أسرى إلى بابل.
ثم ألقت السيادة الرومانية سلطانها وسطوتها وسيطرتها على المدينة المقدسة على مدار سبعمائة سنة، إعتباراً من سنة ثلاث وستين قبل الميلاد وحتى سنة سبع وثلاثين وستمائة للميلاد حيث سقطت السيادة الرومانية وسحقتها قوة المسلمين الذين دخلوا المدينة.
يرى المؤرخون أن المسيحيين قد عانوا من طغيان الرومان واليهود أشد صنوف المعاناة، وأقسى ألوان القهر والإضطهاد، فإن المسيح عيسى بن مريم قد ذاق من شرار هؤلاء القوم كل قهر وإضطهاد، وقد طعنوا العذراء البتول الطاهرة «مريم ابنة عمران» التي أحصنت فرجها، وكانت سيدة نساء العالمين في عصرها.
وقد هموا بقتل المسيح، لولا أن رفعه الله إليه ونجاه من كيدهم ومكرهم.
وكم اشتعلت المواجهات الطاحنة بين اليهود وبين الرومان لكن أراد الله تعالى أن ينتقم من الظالم على يد الأظلم إن ربك لبالمرصاد .
دخل نور الإسلام المدينة المقدسة، فتبلجت أرجاؤها وتهللت أقطارها ونواحيها، إذ دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس، وكتب العهدة العمرية وهذا نصها :
«هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل «إيلياء» من الأمان .. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها، انه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود» أ. هـ.
هذا النص الصريح الواضح يستفاد منه شدة خوف وهلع النصارى من اليهود، إذ طلبوا من عمر ألا يدخل أحد من اليهود المدينة فزعاً منهم، وفرقاً من بطشهم ونكاياتهم.
وقد أجيبوا لمطلوبهم من عمر رضي الله عنه إذ إنهم لما طلبوا منه أن يثبت هذا المطلب في عهده إليهم أثبته .. إن إثبات عمر هذا في عهده إنما يدل على يقين عمر بأن النصارى على حق في تخوفهم من اليهود وليسوا مفتعلين أشياء أو دعاوى على غير الحقيقة.
ظل الحكم الإسلامي لمدينة القدس زهاء ألف عام أو يزيد، إعتباراً من سنة ست أو سبع وثلاثين وسبعمائة وحتى سنة سبع عشرة وتسعمائة وألف للميلاد وهو تاريخ سقوطها في يد الإستعمار البريطاني سنة ۱۹۱۷م، كأحد أحداث الحرب العالمية الأولى المشؤومة.
إلى أن حدث وعد بلفور المشؤوم الكريه، ثم تداعت الأحداث سريعاً حتى سقطت القدس في يد اليهود في أعقاب نكسة ونكبة سنة سبع وستين وتسعمائة وألف وها هي الآن ترزح تحت نير الإحتلال الإسرائيلي فنسأل الله أن يطهر مدينتنا المقدسة، وان يصونها ويحفظها من كل سوء، ولا حول ولا قوة الا بالله.

* من كتاب "الطريق إلى القدس" تأليف سماحة العالم الموسوعى الجليل الدكتور السيد الجميلي رحمه الله تعالى رحمة واسعة
🤲


اللهم تقبل من أبى صلاته، وصيامه لك، وسائر طاعاته، وصالح أعماله، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام، واجعله من الفائزين، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك محمد ﷺ .. يا رب العالمين
🤲

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى