د. أحمد الحطاب - الواقع لا يكذب

قد يبدو عنوانُ هذه المقالة غريبا شيئا ما. أبداً! ليس هناك غرابة. وليس هناك أدنى شكٍّ بأن الواقعَ la réalité لا يكذب la réalité ne ment pas. وسأُبيِّن ذلك في الفقرات الموالية. لماذا؟

لأن الواقعَ هو كل ما هو موجود في الوسط الذي يعيش فيه الناس، أي كل ما هو موجودٌ في حياتِهم، بمعناها الواسع، أي الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية… بل الواقع هو كل ما يدركه الدماغ، من خلال الحواسُ الخمسة، وخصوصا، البصرُ والسَّمعُ واللَّمس. إذن، الواقعُ هو كل ما نراه أو نسمعه أو نلمسه بأيدينا. الواقع مرتبطٌ بالحقيقة ويُعبِّر عنها (يقولها)، أو بعبارةٍ أخرى، يُبيِّن للناس الحقيقة. بل الواقع ينطق بكل ما هو ملموسٌ أو مُؤكَّدٌ فكرياً أو مادياً. الواقع يختلِف عن كل ما هو خيالي imaginaire أو افتراضي fictif.

غير أن ما لم يَتفكر فيه الناسُ مليّاً وبشيءٍ من الحِكمة والتَّمعُّن وبُعد النظر، هو أن الإنسانَ بواسطة عقله، يتجكَّم في الواقع، إذ باستطاعتِه، ودائما بواسطة عقله، أن يُدخلَ تغييرات على هذا الواقع. إذن، الواقع هو صورةٌ لإرادة الإنسان. إن أراده أن يكونَ "مُرّاً"، فله ذلك. وإن أراده أن يكونَ "سارّاً"، فله ذلك. وذلك بأمرٍ إلهي، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "ألَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" (لقمان، 20). ويقول، كذلك سبحانه وتعالى : "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (الذاريات، 49).

إذا تمعَّنا في الآية رقم 49 من سورة الذاريات، سنجد أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُخبرُنا أن الموجودات التي خلقها والتي تؤثِّثُ الواقع، أي الكون أو الدنيا، خلقها حسب أزواج مُتضادة أو مختلفة. بمعنى أنه، عزَّ وجلَّ، خلق الشيءَ وضدَّ هذا الشيء. والأمثلة، في هذا الصدد، كثيرة ومتنوِّعة. وعلى سبيل المثال، الله، سبحانه وتعالى، خلق الخيرَ وخلق ضدَّه الشر. وخلق العدلَ وضدَّه الظلم. وخلق العلمَ وضدَّه الجهل. وخلق المطر وضدَّه الجفاف. وخلق النورَ وضدَّه الظُّلمة. وخلق المرضَ وضدَّه الصِّحة. وخلق الفوضى وضدَّها الاستقرار. وخلق الحياة وضدَّها الموت. وخلق الجنة وضدَّها جهنم. وخلق الكذبَ وضدَّه الصدق. وخلق الباطلَ وضدَّه الحق. وخلق الفسادَ وضدَّه الصلاح… والائحة طويلة.

أما إذا تمعَّمنا في الآيتين معا، الآية رقم 20 من سورة لقمان والآية رقم 49 من سورة الذاريات، فسنجد أن الواقعَ فيه ما هو خيرٌ وفيه ما هو شرٌّ. لكن الواقعَ، كما سبق الذكر، يخضع لإرادة الإنسان la volonté humaine. ولهذا قلتُ إعلاه، الواقع صورة لإرادة الإنسان. فهذا الأخير هو الذي يختار الوقع الذي يُناسب أفكارَه ونمط عيشه. إذن، الواقع لا يكذب ما دام صورةً لإرادة الإنسان.

المهمُّ هو أن الدنيا التي يعيش فيها الإنسانُ مشكَّلةٌ من الشيءِ وضدِّه، أي من الصالحِ والطالح. والشيء وضدُّه يمكن أن يكونَا ماديين، أي ملموسين، أي يُدرِك وجودَهما الدماغُ، عن طريق الحواس، كالشيءِ السائلِ وضدِّه الشيء الصَّلب أو الشيء المُتحرِّك وضدَّه الشيء الجامد… كما يمكن ان يكونَ الشيءُ وضدُّه معنويين، أي يُدرَكان، فقط، على المستوى الفكري. وكلُّ ما يُدرَك على المستوى الفكري، هو، في الحقيقة، غير ملموس ماديا، لكنه ملموسُ فكريا على شكل مفاهيم ك"الحق والباطل" و"الكُفر والإيمان" و"الصبر والتَّسرُّع" والحب والكُره"...

ومن هنا، تتَّضِح أهمِّية العقل الذي هو، في الحقيقة ، نعمةٌ من نِعَم الله، سبحانه وتعالى، التي أنعم بها الله، عزَّ وجلَّ، على بني آدم. وهذه النِّعمة ليست صدفةً من الصُّدف. بل لهذه النِّعمة غايةٌ نبيلةٌ، أي أنها إرادةٌ إلهيةٌ une volonté divine تمكَّن ذوي العقول النيِّرة والمستنيرة من التَّمييز المُتبصِّر بين أزواج couples الواقع المُتضادة، ثم اختيار ما يُناسِبُهم، هل الطريق المؤدِّي إلى الخير أو الطريق المُؤدِّي إلى الشر. وكل إنسانٍ يتحمَّل مسئوليةَ اختياره. وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، حين وهب العقلَ لبني آدمَ، وهبَه لهم ليكونوا أحراراً في اختياراتهم الدنيوية. والله، سبحانه وتعالى، لا يمكن، على الإطلاق، أن يتناقضَ مع نفسه. ولهذا، قال، عزَّ وجلَّ : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، 256).

وما دام الواقع، المحيط بالإنسان، مُشكَّلاً من أزواج متضادة، خلقها العليُّ القدير، وما دامَ العقل البشري الذي هو نِعمةٌ من نِعَم الله، سبحانه وتعالى، قادراً على التمييز بين الشيء وضدِّه، فالواقع لا يكذب. لماذا؟

لأنه، حتى إذا تمكَّن بنو آدمَ من التأثير على الواقع، أي استطاعوا، بواسطة تطوُّر عقولهم، أن يُغيِّروه حسب ما وصلوا إليه من تقدُّم علمي وتكنولوجي، فلن يُغيِّروا إلا الازواجَ التي خلقها اللهُ، سبحانه وتعالى. فإذا كان التَّغيير فيه نفعٌ، فالناسُ سينتفعون من هذا التغيير. وإذا كان التَّغييرُ فيه مضرَّة، فالناسُ هم مَن سيتحمّل عواقب هذا التغيير، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم، 30).

ولهذا، فحينما غيَّرَ الإنسانُ، عن قصد أو عن غير قصد، الفطرةَ لظروف الحياة la naturalité des conditions de vie، بمعناها الواسع، فهو الذي يتحمَّل مسئوليةَ تغييره. وإذا غيَّرَ الإنسان فطرةَ ظروف الحياة عن قصد، فهذا تجاوزٌ للفطرة التي فطر عليها الكون. وإذا غيَّرَ الإنسانُ فطرة ظروف الحياة عن غير قصد، فهذا معناه أنه لا يعرف الواقع حقَّ المعرفة.

ولعل أكبرَ تغيير أدخَلَه الإنسانُ على ظروف الحياة الفطرية، هو ذلك الذي تسبَّبَ في "الاحتباس الحراري" effet de serre، والذي تسبَّبَ، بدوره، في تغيير المناخ le changement climatique، الذي هو أكبر كارثةٍ عرفتها البشرية، منذ ظهورها على وجه الأرض. بل إنها أسوأَ كارثةٌ تسبَّبَ فيها ما أنتجه العقل البشري من علم وتكنولوجيات تخضع للأهواء وليس للعقول النَّيِّرة والمستنيرة، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى، 11).

في هذه الآية، "فَاطِرُ" تعني خلقها أول مرة في ظروفٍ معيَّنة. فهي ظروفٌ طبيعية، إن تغيَّرت، تغيَّرت الحياةُ بمعناها الواسع. وإذا تمعَّنا في هذه الآية، وفي نفس الوقت، في الآية رقم 30 من سورة الروم، المُشار إليها أعلاه، وبالضبط، في الجزء الموالي، أي "...لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ…". في هذا الجزء من الآية، "لَا تَبْدِيلَ" تعني ليس هناك تغييرُ للفطرة التي خلق عليها الكون. و"لِخَلْقِ اللَّهِ" تعني كلَّ ما خلقَه اللهُ، سبحانه وتعالى، في الكون. والعقل السليم، النَّيِّر والمستنير، يقول : "قبل أن نغيِّر شيئاً من الأشياء، وجب علينا معرفتُه معرفةً دقيقيةً.

فهل يعرف الإنسانُ السماوات والأرض (الكون)، كما يعرفهما خالِقُهما. لا أبدا! والدليل على ذلك، قوله، سبحانه وتعالى : "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء، 85). وقوله، عزَّ وجلَّ : "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ…وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" (البقرة، 255).

فإذا قلتُ "الواقع لا يكذب"، ولا يمكن أن يكذبَ، لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، بإرادتِه، وضعه تحت تصرُّف الإنسان العاقل، المتبصِّر، أي من ذوي أولي الألباب. ولهذا، قلتُ أعلاه "الواقع صورةٌ لإرادة الإنسان". إذن، "الواقع لا يكذب"، ولا يمكن أن يكذبَ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى