في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها الكاهن خضر بن إبراهيم بن خضر الحفتاوي (فنحاس بن أبراهام بن فنحاس الحبتئي، ١٩٢٣ - ١٩٩٢، كاهن في حولون بين السنتين ١٩٦٧-١٩٩٢ وقبل ذلك في نابلس ١٩٦٤-١٩٦٧، ذو علم بالتوراة والشريعة، نقل العديد من مؤلفات في الشريعة من العربية إلى العبرية، وهي محفوظة في المكتبة التي أورثها لأولاده الستّة) نُشرت هذه القصّة في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٣٠-١٢٣١، ١٥ شباط ٢٠١٧، ص. ٥٩-٦٢.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين المحرّريْن، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتسون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الحفاظ على الشرف الشخصي
أحكام الوراثة أشغلتني على الدوام، وكتبت عنها كثيرا. قسم من ذلك نُشر تِباعًا في دورية أ. ب. أخبار السامرة، وأسهبت هناك في كل ما يتعلّق بفروع مسارات الميراث، الذي يورثه الشخص خيارًا أو قسرًا للباقين بعده من أقرباء وغيرهم. الحالة في كلّ ما يخصّ بالإرث حسّاسة جدًّا. ينبغي إعمال النظر في كل لفظة وكلّ جملة في كتب التفسير، التي دوّنها حكماؤنا الأوائل بغية استصدار حُكم مناسب بشأن من هو المخوّل ومن هو غير المخوّل لنقل الإرث وكيفية تقسيمه بين الأقرباء، لا سيّما من الوارثين من يحصل على حصّته ومن يتنازل، ولا يحصل على شيء. في كلّ حالة خلاف، وما أكثرها يكون المخرَج هو التوجّه إلى الكاهن أو القاضي، للبتّ في القضية بين الخصوم.
قد شهِدنا مشاهد حزينة، وصلت أوجها من الانقسام والفُرقة بين الوارثين، لأنّهم لم يتوصّلوا إلى تسوية بخصوص الإرث وقدره. إنّ أفضل طريقة هي عدم إبقاء الأمور في حيّز الإشاعات وكتابة وصيّة واضحة وموقّعة بشكل قانوني من قِبل كاتب عدل، وليس من قبَل أقرباء وذوي صلة، لا سمح الله، عندها تسير الأمور كما يجب.
شخصيًّا، لم أُصادف مشاكلَ حول الإرث. كنت ابنَ سبعةَ عشرَ عامًا عندما توفي أبي، ولم يترك شيئًا لنا، أُمّي، أنا وشقيقاي الصغيران. عشنا في فقر مُدقع كلّنا كباقي أغلبية أبناء الطائفة السامرية في نابلس، في النصف الأوّل من القرن العشرين. أَحتاج لحاسبة صغيرة، لأحسُب عدد الأيّام التي فيها كنّا نخلُد للنوم ونحن جِياع، قبل وفاة والدنا وبعدها، ما كان لدينا ما نأكله. قضيت أيّام صِباي في عمل مضنٍ في مصنع للكبريت في مرج البهاء/ألون موري، وفي نسخ توراوات وصلوات بِعتها بسعر بَخْس لكهنة طلبوها منّي ليبيعوها بدورهم بربح غير ضئيل للسوّاح الذين كانوا يزورون نابلس. انقضى وقت طويل، إلى أن تمكنّتُ من جمع قرش فوق قرش لإقامة أسرة وإعالة أولادي الصغار. في كل تلك الأيّام، وبعون الله تبارك، لم أفقِد شيئًا من الشرف الشخصي الواجب على كلّ إنسان الذود عنه. زاولتُ كلّ عمل لئلا أحتاج حسنات الناس.
أمور اجتماعية مشتركة
سكنّا هناك في نابلس مع بني إسماعيل المسلمين. كنّا نحصُل على قوت يومنا معهم، ونتزاور في الأفراح والأتراح. اليوم، من الصعوبة بمكان، النطق بالقول الفصل بصدد مَن مِن سكّان نابلس المسلمة هو من أسرة منحدرة من قبائل رحّل، قدِمت من غرب المنطقة ومن هو من أصل يهودي أو سامري وتأسلم. هنالك عائلات معروفة كعائلة شخشير وأصلها يهودي، أو عائلة المسلماني وأصلها سامري، ولكن في جُلّ الحالات لا يُمكن للمرء أن يعرف يقينًا مَن مِن أهالي نابلس يجري في شرايينهم دم يهودي أو دم سامري، ولكن أقلّه من حيثُ العادات الاجتماعيةُ هنالك أوجُه شبَه كثيرة بيننا وبينهم.
تقسيم الميراث
هكذا، عرفت صديقًا من ضمن كثيرين من سكّان نابلس، فتح لي قلبه، وحكى لي كلَّ ما وقع في عائلته، له ولأشقائه. عند سماعي قصتَّه هززت رأسي متعجبًا، كيف تكون الإشاعات بعيدة لهذا الحدّ عن القصّة الحقيقية. ظننت في أعقاب تفكير ثانٍ، أن قصّة من هذا القبيل، لا يُمكن أن تحصل عندنا، نحن السامريون، أو لربّما حدث ذلك في الماضي البعيد، ولم يبق له أثر مكتوب. كلّ شيء يُمكن أن يحدث عندما نتناول موضوع الميراث، وهنا لا تبايُن بين أسرة مسلمة وأخرى يهودية أو سامرية أو مسيحية. المال لا رائحة له، لكنّه أحيانًا يسبّب نتْنًا مخيفًا لا يختفي أبدا.
لصديقي، ابن عائلة نابلسية معروفة ومحترمة، شقيقان، وهم سكنوا في منزل ضخم على السفح الغربي لجبل عيبال. عامَل الوالد أبناءه بحبّ جمّ وعلّمهم احترام الغريب والقريب، واكتسبت هذه العائلة الصغيرة سمعة طيبة جدا داخل الحمولة المرموقة. تمكّن الأب من جمع مال وافر من أشغاله في الزراعة والبستنة وتمتّعت كلّ العائلة بثمار ذلك. عند عودته من الحرب العالمية الأولى كان عنده القليل، إلا أنّه نما كثيرا بفضل موهبته في التجارة، وغدا ثروة كبيرة، قطعان ضأن كثيرة، أراضٍ وبيّارات. اهتمّ بتربية أبنائه وبمتطلباتهم، احترم زوجته الحبيبة، هكذا شهد صديقي، ابنه البكر. في يوم من الأيّّام شعر الأب العجوز بسوء شديد، لدرجة أنّه تمنّى الموت. استدعوا له خيرة الأطبّاء في نابلس ولكن بدون نتيجة. أحسّ أنّ أيّامه الأخيرة على الأرض، قد وصلت إلى تمامها، وبما تبقّى له من قوّة، جمع أفراد عائلته، زوجته الطيبة وأبناءه الأعزّاء جدًّا على قلبه الواهن ونطق بوصيّته بخصوص الميراث. رفض الأبناء سماع كلامه متمنّين له طول العمر، كما يفعل كلّ آدمي في مثل هذا الموقف، إلا أنّ الأب ردّ على غضبهم بتأنيب قائلا: هذه هي سُنّة الحياة وهذا مصير كل إنسان.
أوصى بإعطاء ابنه البكر معظم ممتلكاته، أي ما يعادل ضِعفي ما لشقيقيه الاثنين؛ والابن الأوسط نال البيت، أمّا الابن الأصغر فقد ورِث مبلغًا من المال يكفي لمعيشته. كما وصّى الأب بتلبية حاجيات والدتهم والحفاظ على احترامها بين الآخرين. بكى الأبناء بُكاء مرًّا عند سماع كلمات أبيهم المحتضر، ومنذ تلك اللحظة لم يغادروا سريره، وحاولوا رفع معنويّاته. لاحظ/اشتلق الأب العجوز بما تبقّى من معرفته الذابلة، أنّ الابن الأصغر، لا يعتني به بنفس القدر من الحبّ والمودّة الصادر من الزوجة وابنيه الكبيرين، وعزا ذلك إلى جيله الشبابي المتمرّد.
الابن القاتل
ها قد حدث شيءٌ أدهش الكثيرين، لا سيّما الأطبّاء المختصّين. ذات صباح نهض الأب الذابل من النوم، وهو يشعُر بقوىً جديدة تملأ جسمه، جرى الدم في شرايينه وأوردته بقوّة كاملة، وتورّد وجهه بصحّة جديدة. لقد شُفي تمامًا من مرضه، وأسهب في تسبيح خالق العالَم المميت والمحيي. والآن بعد استعادته لحواسّه المعافاة جدّا، شعر أن فرحة الابن الأصغر بالشِّفاء الرائع لا ترقى لفرحة الأم والشقيقين الأكبرين.
مرّت أيّام، أسابيع، شهور وسنوات. طال عمر الأب وكأنّ شبابَه قد تجدّد. الابن الأصغر لم يُخفِ استياءه وامتعاضه. كان يحرّض شقيقيه سرًّا ضدّ الأب العجوز الرافض للموت، حسب تعبيره. إنّنا سنهرَم قبل أن نتمتّع بثمار الميراث، قال لهما بغيظ. أنَّبه شقيقاه بصرامة على هذا الكلام، ولكن كلّما استمرّ شقيقهم الأصغر بتكرار ادعاءاته ضد الوالد الهرم، كلّما أخذت أقواله تتغلغل في قلبيهما. ذات يوم، تجاسر الابن الأصغر واقترح عليهما، أنّ الوقت قد حان لتبديل الواقع إن هم شاؤوا الحصول على الإرث الهائل؛ بدل الانتظار لعمل الخالق، هم بأنفسهم سيضعون حدّا لحياة والدهم. ارتجف الشقيقان عند سماعهما لهذا العرض وأُصيبا بقشعريرة. هم لم يعرفوا أنّ أباهمُ العجوز كان بالصدفة في الغرفة المجاورة، وسمع الابن الأصغر محذّرًا شقيقيه، بأنّه سيقوم بتنفيذ مؤامرته لوحده إن لم يشاركاه في ذلك.
في تلك الليلة حرَص الأب على النوم في حُجرة أخرى، وعلى سريره العادي نضّد وِساداتٍ ولُحُفًا ولفّها ببَطّانية سميكة، بشكل يجعل الداخل في الظلمة إلى الغرفة، يظنّ أنّ الأب نائم نومًا هنيئًا على سريره. وحقًّا في تلك الليلة، تسلّل الابن الأصغر إلى الغرفة من خارج البيت، وعبر النافذة اقترب من سرير الأب بضع خطوات وثقّب ما على السرير كما الغِربال. الأب العجوز شاهد من رُكن الغرفة ما قام به ابنه، الذي هرب من المكان، ظانًّا أنّّ مؤامرته قد تكلّلت بالنجاح.
تقدّم الأب على الفور إلى خِزانته، استلّ خنجر بندقيته؛ أسرع إلى سرير زوجته ووضع الخنجر على حلقها صائحًا: سأقتلك إنْ لم تقرّي بالحقيقة بأنّ الابن الأصغرَ ليس من صُلبي. تضرّعتِ المرأة إلا أن الأب زاد من ضغط الخنجر على حلقها، إلى أنِ اعترفت أنّه في تلك السنوات التي غاب فيها، في غضون الحرب الكونية الأولى، اشتدّت عليها غريزتها وفعلت فعلتها، وكان الابن الأصغر ثمرتها. طرد الأب زوجته وسلّم الابن الأصغر للشرطة. قبل أن يتوفّى الأب هرمًا جدّا، قضى الابن الأصغر في الحبس.
هذا هو حُكم الجشِعين، يهلكون في السجن أو بمرض عُضال، يُحاسبهم الله تبارك وتعالى على آثامهم وتنحدر أرواحهم إلى الحضيض، إلى جهنّم وبئس المصير.
بروف. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين المحرّريْن، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتسون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الحفاظ على الشرف الشخصي
أحكام الوراثة أشغلتني على الدوام، وكتبت عنها كثيرا. قسم من ذلك نُشر تِباعًا في دورية أ. ب. أخبار السامرة، وأسهبت هناك في كل ما يتعلّق بفروع مسارات الميراث، الذي يورثه الشخص خيارًا أو قسرًا للباقين بعده من أقرباء وغيرهم. الحالة في كلّ ما يخصّ بالإرث حسّاسة جدًّا. ينبغي إعمال النظر في كل لفظة وكلّ جملة في كتب التفسير، التي دوّنها حكماؤنا الأوائل بغية استصدار حُكم مناسب بشأن من هو المخوّل ومن هو غير المخوّل لنقل الإرث وكيفية تقسيمه بين الأقرباء، لا سيّما من الوارثين من يحصل على حصّته ومن يتنازل، ولا يحصل على شيء. في كلّ حالة خلاف، وما أكثرها يكون المخرَج هو التوجّه إلى الكاهن أو القاضي، للبتّ في القضية بين الخصوم.
قد شهِدنا مشاهد حزينة، وصلت أوجها من الانقسام والفُرقة بين الوارثين، لأنّهم لم يتوصّلوا إلى تسوية بخصوص الإرث وقدره. إنّ أفضل طريقة هي عدم إبقاء الأمور في حيّز الإشاعات وكتابة وصيّة واضحة وموقّعة بشكل قانوني من قِبل كاتب عدل، وليس من قبَل أقرباء وذوي صلة، لا سمح الله، عندها تسير الأمور كما يجب.
شخصيًّا، لم أُصادف مشاكلَ حول الإرث. كنت ابنَ سبعةَ عشرَ عامًا عندما توفي أبي، ولم يترك شيئًا لنا، أُمّي، أنا وشقيقاي الصغيران. عشنا في فقر مُدقع كلّنا كباقي أغلبية أبناء الطائفة السامرية في نابلس، في النصف الأوّل من القرن العشرين. أَحتاج لحاسبة صغيرة، لأحسُب عدد الأيّام التي فيها كنّا نخلُد للنوم ونحن جِياع، قبل وفاة والدنا وبعدها، ما كان لدينا ما نأكله. قضيت أيّام صِباي في عمل مضنٍ في مصنع للكبريت في مرج البهاء/ألون موري، وفي نسخ توراوات وصلوات بِعتها بسعر بَخْس لكهنة طلبوها منّي ليبيعوها بدورهم بربح غير ضئيل للسوّاح الذين كانوا يزورون نابلس. انقضى وقت طويل، إلى أن تمكنّتُ من جمع قرش فوق قرش لإقامة أسرة وإعالة أولادي الصغار. في كل تلك الأيّام، وبعون الله تبارك، لم أفقِد شيئًا من الشرف الشخصي الواجب على كلّ إنسان الذود عنه. زاولتُ كلّ عمل لئلا أحتاج حسنات الناس.
أمور اجتماعية مشتركة
سكنّا هناك في نابلس مع بني إسماعيل المسلمين. كنّا نحصُل على قوت يومنا معهم، ونتزاور في الأفراح والأتراح. اليوم، من الصعوبة بمكان، النطق بالقول الفصل بصدد مَن مِن سكّان نابلس المسلمة هو من أسرة منحدرة من قبائل رحّل، قدِمت من غرب المنطقة ومن هو من أصل يهودي أو سامري وتأسلم. هنالك عائلات معروفة كعائلة شخشير وأصلها يهودي، أو عائلة المسلماني وأصلها سامري، ولكن في جُلّ الحالات لا يُمكن للمرء أن يعرف يقينًا مَن مِن أهالي نابلس يجري في شرايينهم دم يهودي أو دم سامري، ولكن أقلّه من حيثُ العادات الاجتماعيةُ هنالك أوجُه شبَه كثيرة بيننا وبينهم.
تقسيم الميراث
هكذا، عرفت صديقًا من ضمن كثيرين من سكّان نابلس، فتح لي قلبه، وحكى لي كلَّ ما وقع في عائلته، له ولأشقائه. عند سماعي قصتَّه هززت رأسي متعجبًا، كيف تكون الإشاعات بعيدة لهذا الحدّ عن القصّة الحقيقية. ظننت في أعقاب تفكير ثانٍ، أن قصّة من هذا القبيل، لا يُمكن أن تحصل عندنا، نحن السامريون، أو لربّما حدث ذلك في الماضي البعيد، ولم يبق له أثر مكتوب. كلّ شيء يُمكن أن يحدث عندما نتناول موضوع الميراث، وهنا لا تبايُن بين أسرة مسلمة وأخرى يهودية أو سامرية أو مسيحية. المال لا رائحة له، لكنّه أحيانًا يسبّب نتْنًا مخيفًا لا يختفي أبدا.
لصديقي، ابن عائلة نابلسية معروفة ومحترمة، شقيقان، وهم سكنوا في منزل ضخم على السفح الغربي لجبل عيبال. عامَل الوالد أبناءه بحبّ جمّ وعلّمهم احترام الغريب والقريب، واكتسبت هذه العائلة الصغيرة سمعة طيبة جدا داخل الحمولة المرموقة. تمكّن الأب من جمع مال وافر من أشغاله في الزراعة والبستنة وتمتّعت كلّ العائلة بثمار ذلك. عند عودته من الحرب العالمية الأولى كان عنده القليل، إلا أنّه نما كثيرا بفضل موهبته في التجارة، وغدا ثروة كبيرة، قطعان ضأن كثيرة، أراضٍ وبيّارات. اهتمّ بتربية أبنائه وبمتطلباتهم، احترم زوجته الحبيبة، هكذا شهد صديقي، ابنه البكر. في يوم من الأيّّام شعر الأب العجوز بسوء شديد، لدرجة أنّه تمنّى الموت. استدعوا له خيرة الأطبّاء في نابلس ولكن بدون نتيجة. أحسّ أنّ أيّامه الأخيرة على الأرض، قد وصلت إلى تمامها، وبما تبقّى له من قوّة، جمع أفراد عائلته، زوجته الطيبة وأبناءه الأعزّاء جدًّا على قلبه الواهن ونطق بوصيّته بخصوص الميراث. رفض الأبناء سماع كلامه متمنّين له طول العمر، كما يفعل كلّ آدمي في مثل هذا الموقف، إلا أنّ الأب ردّ على غضبهم بتأنيب قائلا: هذه هي سُنّة الحياة وهذا مصير كل إنسان.
أوصى بإعطاء ابنه البكر معظم ممتلكاته، أي ما يعادل ضِعفي ما لشقيقيه الاثنين؛ والابن الأوسط نال البيت، أمّا الابن الأصغر فقد ورِث مبلغًا من المال يكفي لمعيشته. كما وصّى الأب بتلبية حاجيات والدتهم والحفاظ على احترامها بين الآخرين. بكى الأبناء بُكاء مرًّا عند سماع كلمات أبيهم المحتضر، ومنذ تلك اللحظة لم يغادروا سريره، وحاولوا رفع معنويّاته. لاحظ/اشتلق الأب العجوز بما تبقّى من معرفته الذابلة، أنّ الابن الأصغر، لا يعتني به بنفس القدر من الحبّ والمودّة الصادر من الزوجة وابنيه الكبيرين، وعزا ذلك إلى جيله الشبابي المتمرّد.
الابن القاتل
ها قد حدث شيءٌ أدهش الكثيرين، لا سيّما الأطبّاء المختصّين. ذات صباح نهض الأب الذابل من النوم، وهو يشعُر بقوىً جديدة تملأ جسمه، جرى الدم في شرايينه وأوردته بقوّة كاملة، وتورّد وجهه بصحّة جديدة. لقد شُفي تمامًا من مرضه، وأسهب في تسبيح خالق العالَم المميت والمحيي. والآن بعد استعادته لحواسّه المعافاة جدّا، شعر أن فرحة الابن الأصغر بالشِّفاء الرائع لا ترقى لفرحة الأم والشقيقين الأكبرين.
مرّت أيّام، أسابيع، شهور وسنوات. طال عمر الأب وكأنّ شبابَه قد تجدّد. الابن الأصغر لم يُخفِ استياءه وامتعاضه. كان يحرّض شقيقيه سرًّا ضدّ الأب العجوز الرافض للموت، حسب تعبيره. إنّنا سنهرَم قبل أن نتمتّع بثمار الميراث، قال لهما بغيظ. أنَّبه شقيقاه بصرامة على هذا الكلام، ولكن كلّما استمرّ شقيقهم الأصغر بتكرار ادعاءاته ضد الوالد الهرم، كلّما أخذت أقواله تتغلغل في قلبيهما. ذات يوم، تجاسر الابن الأصغر واقترح عليهما، أنّ الوقت قد حان لتبديل الواقع إن هم شاؤوا الحصول على الإرث الهائل؛ بدل الانتظار لعمل الخالق، هم بأنفسهم سيضعون حدّا لحياة والدهم. ارتجف الشقيقان عند سماعهما لهذا العرض وأُصيبا بقشعريرة. هم لم يعرفوا أنّ أباهمُ العجوز كان بالصدفة في الغرفة المجاورة، وسمع الابن الأصغر محذّرًا شقيقيه، بأنّه سيقوم بتنفيذ مؤامرته لوحده إن لم يشاركاه في ذلك.
في تلك الليلة حرَص الأب على النوم في حُجرة أخرى، وعلى سريره العادي نضّد وِساداتٍ ولُحُفًا ولفّها ببَطّانية سميكة، بشكل يجعل الداخل في الظلمة إلى الغرفة، يظنّ أنّ الأب نائم نومًا هنيئًا على سريره. وحقًّا في تلك الليلة، تسلّل الابن الأصغر إلى الغرفة من خارج البيت، وعبر النافذة اقترب من سرير الأب بضع خطوات وثقّب ما على السرير كما الغِربال. الأب العجوز شاهد من رُكن الغرفة ما قام به ابنه، الذي هرب من المكان، ظانًّا أنّّ مؤامرته قد تكلّلت بالنجاح.
تقدّم الأب على الفور إلى خِزانته، استلّ خنجر بندقيته؛ أسرع إلى سرير زوجته ووضع الخنجر على حلقها صائحًا: سأقتلك إنْ لم تقرّي بالحقيقة بأنّ الابن الأصغرَ ليس من صُلبي. تضرّعتِ المرأة إلا أن الأب زاد من ضغط الخنجر على حلقها، إلى أنِ اعترفت أنّه في تلك السنوات التي غاب فيها، في غضون الحرب الكونية الأولى، اشتدّت عليها غريزتها وفعلت فعلتها، وكان الابن الأصغر ثمرتها. طرد الأب زوجته وسلّم الابن الأصغر للشرطة. قبل أن يتوفّى الأب هرمًا جدّا، قضى الابن الأصغر في الحبس.
هذا هو حُكم الجشِعين، يهلكون في السجن أو بمرض عُضال، يُحاسبهم الله تبارك وتعالى على آثامهم وتنحدر أرواحهم إلى الحضيض، إلى جهنّم وبئس المصير.
بروف. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي