يعتبر مؤرخو الفلسفة القرن السادس قبل الميلاد بداية التفلسف الإنساني. والفلسفة إذا قيل في شأنها إنها محبة الحكمة، والتفلسف إذا عبر عنه بأنه البحث عن الحكمة، فمن غير شك أيضاً أن الفلسفة في أول عهدها مجموع المعارف التي حررها الإنسان أو استخلصها من المعارف السابقة على عهدها، وأن التفلسف في بداية عهده أيضاً نظر الإنسان في هذه المعارف السابقة لاختيار ما يصلح منها في رأيه للبقاء. فالفلسفة هي معارف مختارة، والتفلسف هو إعمال الروية في تصفيف المعارف التي كانت متداوله في الجماعة الإنسانية إلى حين التفلسف في القرن السادس قبل الميلاد.
والتفلسف إذا كان تصفية واختيار يفرض طبعاً وجود مجموعة من المعارف بعضها محلاً للتصفية والاختيار. وقبل عهد التفلسف كانت هناك معارف متداولة في الجماعة الإنسانية، ولكنها كانت كلها معارف إلهية، أي كانت منسوبة إلى الآلهة، وكانت طائفة بالذات هي طائفة رجال الدين أو من تسمى بالكهنة تقوم بشأنها وتتعهدها بالحفظ والتناقل والشرح. وما عدا هذه الطائفة من طوائف أخرى كانت تقف من هذه المعارف موقف القابل المطيع الذي لا يسمح له بمعارضة أي نوع منها ولو معارضة نفسية داخلية، فضلاً عن معارضتها بالتفنيد عن طريق الحجة أمام آخرين، فهذه المعارف لها قداستها من الجميع، وقداستها تمنع نقدها وتحتم قبولها.
والإنسانية في جماعات مختلفة وفي أجيال متعددة قبلت المعارف الدينية، وقبولها يتضمن تقديسها وعدم نقدها، وتقديسها وعدم نقدها ينسحب إلى تقديس من يقوم بأمرها وعدم معارضته. وما عرف للإنسان من عمل فيها كان عبارة عن شرحها شرحاً عقلياً يساعد على رواجها لدى أصحاب القلق النفسي من التابعين للدين. وبهذا كان عقل الإنسان في خدمة التعاليم الدينية ولتأييد قداستها وقداسة القائمين بأمرها. وقد نسترسل فندعى أو خدمة الإنسان لهذه التعاليم عن طريق عمله العقلي لم يكن لعهد وجودها ونشأتها فحسب، بل استمرت أيضاً في مراحل تطورها. والإنسان بعقله كما أيدها أيضاً وقد دخلتها صنعة الدين. وربما كان تعظيم طائفة الكهنة وتميزها عن بقية الطوائف في الأمم الشرقية القديمة من عمل الإنسان المؤيد أو من نتائج تأييده لتلك التعاليم عن طريق عمله العقلي، ولم يكن بوحي أصل من أصول أديان تلك الأمم.
وقبل التفلسف الإنساني أو قبل التفلسف الإغريقي في القرن السادس قبل الميلاد كانت تسيطر إذا على معارف الجماعة الإنسانية عدة مظاهر:
1 - كانت المعارف الدينية وحدها هي التي تقود الإنسان.
2 - وكانت طاعة الإنسان لهذه المعارف ناشئة عن تقديسه لها واعتقاده بعصمتها.
3 - وكان القائم بأمر هذه المعارف، سواء بتعليمها وتلقيها أو بشرحها وتحديد مدلولات عباراتها، طائفة معينة هي طائفة الكهنة.
4 - وعمل الإنسان العقلي كان مرتبطاً بأصول هذه التعاليم وفي خدمتها ولغاية تمكينها من النفوس الحائرة.
وإذا كان القائم بأمر التوجيه في الجماعة الإنسانية طائفة معينة، وإذا كانت في توجيهها تصدر عن إرادة الله ومن تعاليم وسيط في الكون وهو الرسول، وإذا كان غيرها من الطوائف في الجماعة عليه أن يخضع ويطيع فحسب، فليس هناك من ضمان في أن يبقى توجيه الطائفة المعينة في دائرة التعاليم الأولى للدين. وليس هناك من ضمان أيضاً في أن يكون شرحها لهذه التعاليم في حدود الغاية التي يبغيها صاحب الرسالة، بل يجوز أن تجعل هي من الدين سراً تختص بعلمه دون بقية التابعين وهو غير ما عرض على هؤلاء التابعين، ويجوز أن تشرح ما عرف لهؤلاء باسم الدين بما تراه هي لا بما يهدف إليه الدين نفسه. وإذا جعلت من الدين سراً خاصاً بها فليست هناك لأحد استطاعة في أن يراقبها فيه، وإذا فسرت ما عرفه الناس من تعاليم الدين بما تراه هي فإسناد التوجيه إليها خاصة وقيامها وحدها دون سواها بأمر هذه التعاليم يحميها من التجريح ومن رميها بأتباع الهوى والغرض في التفسير. ثم نسبتها إلى مقدس هو الدين يزيد في حميتها وفي إبعاد الأغراض الخاصة عنها.
وفي طبع الإنسان إذا شعر بالتمييز أن يطمع في أن تتسع دائرته حتى ليود أن يصبح طبيعة أخرى مغايرة لطبيعة الإنسان ولكنها أرقى منها. ورجال الدين أو طائفة الكهنة كانت متميزة لأنها اختصت بمعرفة الدين وشرحه والقيام عليه، وطمعت أيضاً في أن يزداد تميزها. وقد زاد حتى عدت في بعض العهود أبناء للآلهة أو من سلالتها كما اعتبرت بعض الطبقات الأخرى عبيداً لها.
وانقسمت الجماعة الإنسانية عندئذ إلى قسمين متقابلين: قسم شريف هو طائفة الكهنة، وقسم أخر خسيس هو العمال والأكرة.
وإذا الإنسان أو ادعى تميزه إلى حد أن يعتبر طبيعته مغايرة لطبيعة من دونه، في الوقت نفسه يتولى هو أمر هذا الذي دونه، فتوليه للأمر يصدر فيه عن الشعور بالمفارقة. والكهنة كذلك جعلوا تكاليفهم ورسومهم في العبادة مختلفة أيضاً.
وهكذا آل الدين الذي شأنه أن يسوى بين الناس في الطبيعة ويجعل تفاوتهم في بعدهم أو قربهم من مثله الأعلى، إلى أن يكون عاملاً في التفريق بين طبائعهم. وهكذا آل أمر رجال الدين إلى أن يكونوا طبقة متميزة، وآل توجيههم إلى أن يكون إملاءً للمحافظة على تميزهم أو للمحافظة على بقاء دولتهم. وبالتالي أصبح الدين صناعة محتكرة، وأصبحت المعرفة المسيطرة على الجماعة الإنسان إلى سعادته، بل لإسعاد طائفة معينة.
هذا المصير الذي صارت إليه المعرفة الدينية، وصار إليه رجال الدين فيما قبل القرن السادس قبل الميلاد، وصارت إليه الجماعة الإنسانية، حمل بعض الناس على أن يثور، وعلى أن يسلك طريق الفكر في ثورته للرد والإقناع. ولم تكن ثورته الفكرية حباً في معالجة الجدل، بل لوضع حد لامتهان الإنسان، ورد اعتبار الإنسان، وتخليص الإنسان من الإنسان، وإسعاد كل فرد من الإنسان لا طائفة معينة بالذات. وتوجه هذا البعض إلى تعاليم الكهنة لا ليقرها ويقبلها كما كان الشأن بالنسبة إليها بل لينقذها. ومعيار نقده ليس السماع والرواية، وليس الإذعان للعصمة والقداسة، بل عقله ومنطقه.
وأطلق على هذه الثورة الفكرية تفلسفاً. والنفر الذي رفع علم هذه الثورة كان من الإغريق. والشرق إذا كان فكر قبل هذا، وأنتج في محصول الفكر البشري، فقد كان على نحو ما بينا في دائرة الدين ولخدمة المعارف الدينية. والإصلاح التي قامت في الشرق لرفع مستوى الإنسان ورد اعتباره وإزالة الفوارق الطائفية كانت إصلاحات دينية كالزرادشتية والبوذية. فالأولى كانت تعديلا دينياً أو إصلاحاً دينياً للديانة الشعبية الآرية التي قامت على عبادة النار والطبيعة المحسوسة، والثانية كانت تعديلاً للبراهمية التي حولت الجماعة الهندية إلى طبقات متفاوته في الطبيعة.
وبنشأة التفلسف تكونت الفلسفة، وأصبح في الجماعة الإنسانية نوعان من المعرفة: المعرفة الدينية، والمعرفة الفلسفية أو الإنسانية. وإذا كانت الأولى يدعى فيها العصمة، فالثانية للإنسان أن يصوب أو يخطئ فيها. وإذا كانت مبادئ الأولى محدودة لأنها وقف على الوحي، فالثانية قابلة للزيادة والنماء لأنها في متناول كل الأجيال الإنسانية. وإذا كان رجال الدين هم المحافظون في كل أمة بحكم موقفهم من عدم التصرف في معارف الدين، فالفلاسفة هم رجال الثورة الفكرية وأصحاب التطور في توجيه الإنسان. وإذا كان رجال الدين يضعفون من قيمة الإنسان واعتباره، وقد يلغون أثره في الحياة، ويردون كل أثر فيها إلى الله، لتتضاعف بذلك عظمة الإله، فالفلاسفة يشيدون بالإنسان وينسبون إليه أثراً ويسندون إليه فعلاً في تغيير الحياة نفسها.
والفيلسوف وإن كان رجل ثورة على التعاليم الدينية، فثورته في الواقع على التعاليم التي كونها الإنسان باسم الدين، والتي ربما قلب بها أوضاع الدين وحرف بها هدفه. والفيلسوف وإن رمى بالإلحاد فرميه به عادة من رجال الدين، وليس بلازم أن يكون منكراً للدين وإن أنكر تعاليم رجاله. ولكنه مع عدم إنكاره الدين لا يبلغ مبلغ رجل الدين في إلغاء وجود الإنسان بغيه إظهار عظمة الله.
ولأن التفلسف في بدايته كان خروجاً على تعاليم رجال الدين وعلى المألوف من المعارف المسيطرة على الجماعة الإنسانية عد الفيلسوف مناوئاً لرجل الدين وعدت الفلسفة عدوة للدين. وبمقدار ما في القضية الأولى من صدق بمقدار ما في الثانية من مبالغة. إذ الأديان في طبيعتها تنظر إلى أفراد الإنسان نظرة مساواة وتهدف إلى إسعادهم جميعاً، وكذلك الشأن في الفلسفة، وفقط طريق أحدهما قد يختلف عن طريق الآخر.
وكما لم تستطع الفلسفة أن تلغى الأديان كذلك هذه لم تستطع إلغاء الفلسفة، بل الفلسفة إن لم تنته إلى ما ينتهي إليه الدين، تعترف بحيز له لا تستطيع السير فيه إذا اقتحمته، والدين في وضعه الأصلي إذا لم يشجع التفكير الإنساني في دائرة ما يرسمه له يدع له مجالاً خاصاً به، لا يبدى - إذا أبدى - رأياً في ناحية من نواحيه إلا عن طريق الإجمال.
وما بين الفلاسفة ورجال الدين، فلأجل توجيه الإنسان. فالفلاسفة يرون أن رجال الدين لما لتعاليم الدين الذي ينسبون إليه من قداسة، ولما لهم هم أنفسهم من طبيعة إنسانية تميل إلى الجاه والسلطان، قد يكون لهم خطر على الإنسان في قيادتهم له إن احتكروا الدين وجعلوا فهمه وفقاً عليهم وحدهم. فلكي لا يقع هذا الخطر يذكر الفلاسفة بتفلسفهم الإنسان بقيمته واعتبار وجوده، حتى لا يكون انجذابه إلى تعاليم رجل الدين عن غير روية واختيار. ورجال الدين لأنهم يرون في الفلاسفة منكرين لإفهامهم الدينية ومفرقين بين الدين وتعاليمهم، ومحرضين الإنسان على عدم الانقياد لهم في يسر وسهولة يقررون بعد الفلاسفة عن التوجيه الصحيح للإنسان ويصورونهم منحرفين عن الدين.
وإذا كانت الفلاسفة في بدايتها تكونت من المعارف الدينية، فالفلاسفة في العصور المختلفة إلى عصرنا نشئوا تنشئة دينية وكانوا من رجال الدين قبل أن يصيروا من رجال الفكر، وإن اختلفت بدايتهم عما صاروا إليه، فليس لأنهم أنكروا الدين، بل لأنهم خالفوا رجال الدين في تصويرهم للدين وعرضهم له.
وإذا كان تفلسف الإنسان في أول الأمر لرفع طغيان الإنسان باسم الدين، فلم تزل حرية التفكير التي هي أساس التفلسف وسيلة الإنسان السلمية لتكبح اعتداء الإنسان باسم أي شيء آخر.
محمد البهي
مجلة الرسالة - العدد 616
بتاريخ: 23 - 04 - 1945
والتفلسف إذا كان تصفية واختيار يفرض طبعاً وجود مجموعة من المعارف بعضها محلاً للتصفية والاختيار. وقبل عهد التفلسف كانت هناك معارف متداولة في الجماعة الإنسانية، ولكنها كانت كلها معارف إلهية، أي كانت منسوبة إلى الآلهة، وكانت طائفة بالذات هي طائفة رجال الدين أو من تسمى بالكهنة تقوم بشأنها وتتعهدها بالحفظ والتناقل والشرح. وما عدا هذه الطائفة من طوائف أخرى كانت تقف من هذه المعارف موقف القابل المطيع الذي لا يسمح له بمعارضة أي نوع منها ولو معارضة نفسية داخلية، فضلاً عن معارضتها بالتفنيد عن طريق الحجة أمام آخرين، فهذه المعارف لها قداستها من الجميع، وقداستها تمنع نقدها وتحتم قبولها.
والإنسانية في جماعات مختلفة وفي أجيال متعددة قبلت المعارف الدينية، وقبولها يتضمن تقديسها وعدم نقدها، وتقديسها وعدم نقدها ينسحب إلى تقديس من يقوم بأمرها وعدم معارضته. وما عرف للإنسان من عمل فيها كان عبارة عن شرحها شرحاً عقلياً يساعد على رواجها لدى أصحاب القلق النفسي من التابعين للدين. وبهذا كان عقل الإنسان في خدمة التعاليم الدينية ولتأييد قداستها وقداسة القائمين بأمرها. وقد نسترسل فندعى أو خدمة الإنسان لهذه التعاليم عن طريق عمله العقلي لم يكن لعهد وجودها ونشأتها فحسب، بل استمرت أيضاً في مراحل تطورها. والإنسان بعقله كما أيدها أيضاً وقد دخلتها صنعة الدين. وربما كان تعظيم طائفة الكهنة وتميزها عن بقية الطوائف في الأمم الشرقية القديمة من عمل الإنسان المؤيد أو من نتائج تأييده لتلك التعاليم عن طريق عمله العقلي، ولم يكن بوحي أصل من أصول أديان تلك الأمم.
وقبل التفلسف الإنساني أو قبل التفلسف الإغريقي في القرن السادس قبل الميلاد كانت تسيطر إذا على معارف الجماعة الإنسانية عدة مظاهر:
1 - كانت المعارف الدينية وحدها هي التي تقود الإنسان.
2 - وكانت طاعة الإنسان لهذه المعارف ناشئة عن تقديسه لها واعتقاده بعصمتها.
3 - وكان القائم بأمر هذه المعارف، سواء بتعليمها وتلقيها أو بشرحها وتحديد مدلولات عباراتها، طائفة معينة هي طائفة الكهنة.
4 - وعمل الإنسان العقلي كان مرتبطاً بأصول هذه التعاليم وفي خدمتها ولغاية تمكينها من النفوس الحائرة.
وإذا كان القائم بأمر التوجيه في الجماعة الإنسانية طائفة معينة، وإذا كانت في توجيهها تصدر عن إرادة الله ومن تعاليم وسيط في الكون وهو الرسول، وإذا كان غيرها من الطوائف في الجماعة عليه أن يخضع ويطيع فحسب، فليس هناك من ضمان في أن يبقى توجيه الطائفة المعينة في دائرة التعاليم الأولى للدين. وليس هناك من ضمان أيضاً في أن يكون شرحها لهذه التعاليم في حدود الغاية التي يبغيها صاحب الرسالة، بل يجوز أن تجعل هي من الدين سراً تختص بعلمه دون بقية التابعين وهو غير ما عرض على هؤلاء التابعين، ويجوز أن تشرح ما عرف لهؤلاء باسم الدين بما تراه هي لا بما يهدف إليه الدين نفسه. وإذا جعلت من الدين سراً خاصاً بها فليست هناك لأحد استطاعة في أن يراقبها فيه، وإذا فسرت ما عرفه الناس من تعاليم الدين بما تراه هي فإسناد التوجيه إليها خاصة وقيامها وحدها دون سواها بأمر هذه التعاليم يحميها من التجريح ومن رميها بأتباع الهوى والغرض في التفسير. ثم نسبتها إلى مقدس هو الدين يزيد في حميتها وفي إبعاد الأغراض الخاصة عنها.
وفي طبع الإنسان إذا شعر بالتمييز أن يطمع في أن تتسع دائرته حتى ليود أن يصبح طبيعة أخرى مغايرة لطبيعة الإنسان ولكنها أرقى منها. ورجال الدين أو طائفة الكهنة كانت متميزة لأنها اختصت بمعرفة الدين وشرحه والقيام عليه، وطمعت أيضاً في أن يزداد تميزها. وقد زاد حتى عدت في بعض العهود أبناء للآلهة أو من سلالتها كما اعتبرت بعض الطبقات الأخرى عبيداً لها.
وانقسمت الجماعة الإنسانية عندئذ إلى قسمين متقابلين: قسم شريف هو طائفة الكهنة، وقسم أخر خسيس هو العمال والأكرة.
وإذا الإنسان أو ادعى تميزه إلى حد أن يعتبر طبيعته مغايرة لطبيعة من دونه، في الوقت نفسه يتولى هو أمر هذا الذي دونه، فتوليه للأمر يصدر فيه عن الشعور بالمفارقة. والكهنة كذلك جعلوا تكاليفهم ورسومهم في العبادة مختلفة أيضاً.
وهكذا آل الدين الذي شأنه أن يسوى بين الناس في الطبيعة ويجعل تفاوتهم في بعدهم أو قربهم من مثله الأعلى، إلى أن يكون عاملاً في التفريق بين طبائعهم. وهكذا آل أمر رجال الدين إلى أن يكونوا طبقة متميزة، وآل توجيههم إلى أن يكون إملاءً للمحافظة على تميزهم أو للمحافظة على بقاء دولتهم. وبالتالي أصبح الدين صناعة محتكرة، وأصبحت المعرفة المسيطرة على الجماعة الإنسان إلى سعادته، بل لإسعاد طائفة معينة.
هذا المصير الذي صارت إليه المعرفة الدينية، وصار إليه رجال الدين فيما قبل القرن السادس قبل الميلاد، وصارت إليه الجماعة الإنسانية، حمل بعض الناس على أن يثور، وعلى أن يسلك طريق الفكر في ثورته للرد والإقناع. ولم تكن ثورته الفكرية حباً في معالجة الجدل، بل لوضع حد لامتهان الإنسان، ورد اعتبار الإنسان، وتخليص الإنسان من الإنسان، وإسعاد كل فرد من الإنسان لا طائفة معينة بالذات. وتوجه هذا البعض إلى تعاليم الكهنة لا ليقرها ويقبلها كما كان الشأن بالنسبة إليها بل لينقذها. ومعيار نقده ليس السماع والرواية، وليس الإذعان للعصمة والقداسة، بل عقله ومنطقه.
وأطلق على هذه الثورة الفكرية تفلسفاً. والنفر الذي رفع علم هذه الثورة كان من الإغريق. والشرق إذا كان فكر قبل هذا، وأنتج في محصول الفكر البشري، فقد كان على نحو ما بينا في دائرة الدين ولخدمة المعارف الدينية. والإصلاح التي قامت في الشرق لرفع مستوى الإنسان ورد اعتباره وإزالة الفوارق الطائفية كانت إصلاحات دينية كالزرادشتية والبوذية. فالأولى كانت تعديلا دينياً أو إصلاحاً دينياً للديانة الشعبية الآرية التي قامت على عبادة النار والطبيعة المحسوسة، والثانية كانت تعديلاً للبراهمية التي حولت الجماعة الهندية إلى طبقات متفاوته في الطبيعة.
وبنشأة التفلسف تكونت الفلسفة، وأصبح في الجماعة الإنسانية نوعان من المعرفة: المعرفة الدينية، والمعرفة الفلسفية أو الإنسانية. وإذا كانت الأولى يدعى فيها العصمة، فالثانية للإنسان أن يصوب أو يخطئ فيها. وإذا كانت مبادئ الأولى محدودة لأنها وقف على الوحي، فالثانية قابلة للزيادة والنماء لأنها في متناول كل الأجيال الإنسانية. وإذا كان رجال الدين هم المحافظون في كل أمة بحكم موقفهم من عدم التصرف في معارف الدين، فالفلاسفة هم رجال الثورة الفكرية وأصحاب التطور في توجيه الإنسان. وإذا كان رجال الدين يضعفون من قيمة الإنسان واعتباره، وقد يلغون أثره في الحياة، ويردون كل أثر فيها إلى الله، لتتضاعف بذلك عظمة الإله، فالفلاسفة يشيدون بالإنسان وينسبون إليه أثراً ويسندون إليه فعلاً في تغيير الحياة نفسها.
والفيلسوف وإن كان رجل ثورة على التعاليم الدينية، فثورته في الواقع على التعاليم التي كونها الإنسان باسم الدين، والتي ربما قلب بها أوضاع الدين وحرف بها هدفه. والفيلسوف وإن رمى بالإلحاد فرميه به عادة من رجال الدين، وليس بلازم أن يكون منكراً للدين وإن أنكر تعاليم رجاله. ولكنه مع عدم إنكاره الدين لا يبلغ مبلغ رجل الدين في إلغاء وجود الإنسان بغيه إظهار عظمة الله.
ولأن التفلسف في بدايته كان خروجاً على تعاليم رجال الدين وعلى المألوف من المعارف المسيطرة على الجماعة الإنسانية عد الفيلسوف مناوئاً لرجل الدين وعدت الفلسفة عدوة للدين. وبمقدار ما في القضية الأولى من صدق بمقدار ما في الثانية من مبالغة. إذ الأديان في طبيعتها تنظر إلى أفراد الإنسان نظرة مساواة وتهدف إلى إسعادهم جميعاً، وكذلك الشأن في الفلسفة، وفقط طريق أحدهما قد يختلف عن طريق الآخر.
وكما لم تستطع الفلسفة أن تلغى الأديان كذلك هذه لم تستطع إلغاء الفلسفة، بل الفلسفة إن لم تنته إلى ما ينتهي إليه الدين، تعترف بحيز له لا تستطيع السير فيه إذا اقتحمته، والدين في وضعه الأصلي إذا لم يشجع التفكير الإنساني في دائرة ما يرسمه له يدع له مجالاً خاصاً به، لا يبدى - إذا أبدى - رأياً في ناحية من نواحيه إلا عن طريق الإجمال.
وما بين الفلاسفة ورجال الدين، فلأجل توجيه الإنسان. فالفلاسفة يرون أن رجال الدين لما لتعاليم الدين الذي ينسبون إليه من قداسة، ولما لهم هم أنفسهم من طبيعة إنسانية تميل إلى الجاه والسلطان، قد يكون لهم خطر على الإنسان في قيادتهم له إن احتكروا الدين وجعلوا فهمه وفقاً عليهم وحدهم. فلكي لا يقع هذا الخطر يذكر الفلاسفة بتفلسفهم الإنسان بقيمته واعتبار وجوده، حتى لا يكون انجذابه إلى تعاليم رجل الدين عن غير روية واختيار. ورجال الدين لأنهم يرون في الفلاسفة منكرين لإفهامهم الدينية ومفرقين بين الدين وتعاليمهم، ومحرضين الإنسان على عدم الانقياد لهم في يسر وسهولة يقررون بعد الفلاسفة عن التوجيه الصحيح للإنسان ويصورونهم منحرفين عن الدين.
وإذا كانت الفلاسفة في بدايتها تكونت من المعارف الدينية، فالفلاسفة في العصور المختلفة إلى عصرنا نشئوا تنشئة دينية وكانوا من رجال الدين قبل أن يصيروا من رجال الفكر، وإن اختلفت بدايتهم عما صاروا إليه، فليس لأنهم أنكروا الدين، بل لأنهم خالفوا رجال الدين في تصويرهم للدين وعرضهم له.
وإذا كان تفلسف الإنسان في أول الأمر لرفع طغيان الإنسان باسم الدين، فلم تزل حرية التفكير التي هي أساس التفلسف وسيلة الإنسان السلمية لتكبح اعتداء الإنسان باسم أي شيء آخر.
محمد البهي
مجلة الرسالة - العدد 616
بتاريخ: 23 - 04 - 1945