هذا عالم يبدو بالنسبة لنا مجهولا تماما رغم أنه الأقرب إلينا، خيال إنساني إسلامي بالغ الثراء، يستند في الكثير من جوانبه إلي تفاسير وتأويلات للنص الديني، يحكي عن الزمان الأول والآخر.
هذا النوع من الأساطير متشابك للغاية، بعضه منسوب إلي الرسول (صلي الله عليه وسلم) والآخر إلي السلف الصالح، وجاء بشكل أساسي ليحل محل أساطير الجاهلية المقدسة التي أصبحت »نسيا منسيا».
تشكلت تلك الأساطير بمساعدة الثقافة الدينية الإسلامية التي بدأت شفوية وقامت علي الرواية الفردية للنصوص المقدسة.
هنا مدخل إلي هذا العالم الواسع الرحب البكر رغم قدمه، والذي يكشف لنا عن جوانبه المختلفة د. جعفر ابن الحاج السُّلَمي، الأستاذ بجامعة عبد المالك السعدي في تطوان بالمغرب، وتصدر هذه الدراسة عن مكتبة الإسكندرية.
تشكل الأسطورة العربية من حيث هي جنس أدبي غني بالغ الغني، مخزنًا كبيرًا لأنواع أدبية كثيرة لا يُهتَم بها من حيث هي سرد أدبي، وخيال إنساني رمزي معبر ودال جدًّا في العالم العربي إلا قليلاً، لأجل ما تعرضت له طويلاً من إهمال وإخمال.إن هذه الأنواع المختلفة، كالأسطورة التكوينية، والأسطورة العجائبية الغرائبية، والأسطورة الكرامية، تشكل المظهر الأكثر بروزًا للأساطير العربية.بيد أن في السرد العربي أنواعًا أسطورية أخري لا تقل من حيث شرعيتها الأدبية عن هذه الأنواع التي ذكرنا، وسبق لنا أن تعرضنا لها بالدراسة في أبحاثنا وكتبنا. ومع هذا، فهي مهملة تمامًا من حيث دراسة أدبيتها، علي الرغم من إنسانيتها وكونيتها وخيالها المجنح، وإمتاعها اللذيذ أحيانًا، وإرعابها أحيانًا أخري.
ومن أبرز هذه الأنواع الأسطورية المهملة، الأساطير الأخروية، أي الأساطير التي تجعل مميزها الأساسي التنبؤ بما سوف يقع في »آخر الزمان»، أو في »الدار الآخرة»، بتعبير المسلمين، أو ما يسميه الغربيون بالإسكاطولوجية. إن مشكلة »الأساطير الأخروية» تكمن في كونها خطابات عاشت دائمًا بين فكي الرحي، فأضحت غير مقبولة تمامًا أو غير ذات مصداقية دينية كبيرة علي العموم عند علماء الدين المسلمين السنيين، وغير معترف لها بصفة الأدبية عند نقاد الأدب وأصحاب نظريته، بالنظر إلي التبعية العامة للسؤال الأدبي العربي في العصر الوسيط للسؤال الثقافي، وتبعية السؤال الثقافي للسؤال السياسي الديني، حتي صارت في واقع عالم الأدب والنقد نسيًا منسيًّا. إن هذا الإهمال غير المتعمد للأساطير الأخروية يجعل من واجب الباحث في الأساطير من حيث أدبيتها الاعتناء بإثبات أدبية الأساطير الأخروية، وأنها تستحق الدراسة من منظور نظرية الأدب علي الأعم، ونظرية السرد علي الأخص، وتجنيس الأساطير الأخروية ضمن جنس الأسطورة العربية، وإلحاقها بها باعتبارها فرعًا من أصل، ونوعًا من أنواع جنس أدبي معين وموصوف، حتي لا تبقي فرعًا منسيًّا مهملاً ومُزْوَرًّا عنه، والكشف عن مكونات هذا النوع الأسطوري وسماته وبلاغته وإشكالاته.
ولا ندعي في هذا المقام أننا سوف نفي في بحثنا هذا بكل ما نتطلع إليه بخصوص أدبية الأسطورة الأخروية، ونطرح نظرية نقدية منسجمة تمام الانسجام ومتكاملة. وإنما حسبنا أن نطرح إشكال إهمال الأسطورة الأخروية، وأن ننبه أولاً علي وجود هذا الضرب من الأساطير، وغناه وأدبيته، وموقف التراث السني منه، عسي أن يعمل الباحثون العرب وغيرهم علي تطوير نظرية أو نظريات نقدية تخص هذا النوع الأدبي. وسوف يعتمد بحثنا هذا علي مدونات الأحاديث الموضوعة في القرون الهجرية الأولي التي جمعها المحدِّثون السنيون، باعتبارها دواوين للأدب الأسطوري الأخروي العربي، وأولي هذه المدونات كتاب »الفتن» لنُعَيم بن حماد، (ت 229هـ/843م-844م) لغزارة مادته وأقدميتها، وإعلان المحدِّثين القدامي بأن أكثر ما يرويه »باطل»، متنكبين المدونات غير السنية، لأن لها مجالها الخاص الذي يستحق دراسات مفردة.
1. الأسطورة والأسطورة الأخروية: تحديد المفهوم
لا شك في أن مفهوم الأسطورة مفهوم لا يخلو من التباس، بالنظر إلي كون أكثر الباحثين في الأساطير يجعلون النموذج اليوناني للأساطير هو أنموذج الأسطورة، فيصعب عليهم تقبل خصوصية الأسطورة العربية، بل قد لا يخطر لهم علي بال وجود أنواع من الأساطير في التراث العربي غنية ودالة جدًّا، كالأساطير العجائبية والأساطير الكرامية.
إننا نقصد بالأساطير كل حكي أو سرد مقدس تضمن أحداثًا خارقة للعادة، جرت في الزمن الأول المقدس، (زمن البدايات الخرافي) بتعبير مرسيا إلياد، أو سوف تجري لا محالة في الزمن المقدس الأخير، قبيل قيام الساعة. إن هذا النوع من الأساطير هو ما يهمنا في هذا المقام. وهو غزير جدًّا في التراث العربي، في صورة »أحاديث» منسوبة إلي الرسول »صلي الله عليه وسلم»منبع القداسة، أو صحابته، أو حتي عموم الجيل المقدس، جيل »السلف الصالح».
لا نجد في التراث العربي مصطلحًا جامعًا لما نسميه نحن بـ»الأساطيرالأخروية». وإنما تُستَعمل فيه مفاهيم »الفتن» و»الملاحم» و»أشراط الساعة» وما إلي هذا. إن هذا النوع من الأساطير، يقابل من حيث المبدأ، ما يسميه الغربيون بالإسكاطولوجية.
يُعرِّف معجم لاروس الفرنسي »الإسكاطولوجية» بقوله:»مجموع المذاهب والاعتقادات المتعلقة بمصير الإنسان الأخير بعد موته (إسكاطولوجية فردية)، ومصير الكون بعد فنائه (إسكاطولوجية كونية)».
إن تركيبة هذا المصطلح مُكوَّنة من كلمتين يونانيتين، »إسكاطو»، وتعني الأخير، و»لوجي»، وتعني العلم، أو المعرفة. فهي إذن، من حيث اللغة اليونانية، معرفة الأخير، أو علم الأخرويات، إن شئنا. لكن الفهم البسيط اللغوي، وإن كان هامًّا، فهو لا يكفي لضبط مفهوم الإسكاطولوجية. يُعرِّف هذا المصطلح معجم مِدياديكو بقوله: »مجموع المذاهب والاعتقادات المتعلقة بنهايات الإنسان والكون الأخيرة».
وفي موسوعة ويكيبيديا، نجد تعريفًا أوسع من السابق، فهو: »الخطاب المتعلق بنهاية الزمان. وهو يرجع إلي علم اللاهوت والفلسفة في صلتهما بنهاية الزمان، وآخر حوادث العالم، ومصيرالجنس البشري الأخير. وتسمي عادةً بـ»نهاية الزمان». وفي أديان كثيرة، فإن »نهاية الزمان» هذه هي حادث مستقبلي مُتنبَّأ به في النصوص المقدسة أو الفلكلور. ومن منظور أوسع، فإن الإسكاطولوجية قد تحتضن مفاهيم متعلقة بها، مثل المسيح، والأزمان المسيحانية، والآخرة، والروح.
وهي في معجم مريم وبستير الإنجليزي:1. فرع من علم اللاهوت، متعلق بالحوادث الأخيرة في تاريخ العالم أو الإنسانية. 2. الاعتقاد المتعلق بالموت، وبنهاية العالم، والمصير الأخير للإنسانية. وفي معجم اللغة الإسبانية: »منظومة النظريات والاعتقادات والمذاهب المتعلقة بالحياة في الآخرة».
إن الأسطورة الأخروية في نظرنا، هي كل أسطورة تتنبأ بالمصير الحتمي المقدور للإنسان والكون، كله أو بعضه، في آخر الزمان، أو في الدار الآخرة. إن كتاب الفتن، لنُعَيم بن حماد، أنموذج بليغ جدًّا لدواوين الأساطير الأخروية العربية، وإن تضمن نصوصًا ليست أسطورية، حيث ضم بين دفتيه 2004 نصوص مروية مسندة بأسانيد ضعيفة جدًّا أو موضوعة، باصطلاح المحدِّثين. وأكثر هذه النصوص قصيرة النَّفَس إجمالاً، ذات الطابع الأسطوري، هي نصوص أسطورية أخروية، بالمعني الدقيق للكلمة، يدفعها المحدِّثون من علماء الدين، ولا يرونها نصوصًا دينية مقدسة، علي العموم، ويتحاشي دراستها نقاد الأدب كذلك، مخافة اختراق التحريمات الدينية. فكان ذلك سببًا كبيرًا في إهمال اكتشاف أدبيتها البارزة للعيان.
2. بداية الأسطورة الأخروية في التراث العربي
كان إعدام الإسلام للأساطير الجاهلية المقدسة حتي صار أكثرها نسيًا منسيًّا، مدعاةً لأن تظهر أساطير أخري حلت محلها، لأن طبيعة الأشياء أنها لا تقبل الفراغ. وبدلاً من أن تُصادِم الأسطورة الإسلامية، أي الناشئة في سياق الحضارة الإسلامية الناشئة، هذه الثقافة الدينية الإسلامية، عملت علي احتوائها، فتغلغلت فيها، بل عملت علي تمثيلها، وتقمص أشكالها ومضامينها، بالعمل علي تزويرها، أو »تزييفها» باصطلاح المحدِّثين، أي بإنشاء نصوص أسطورية تجعل من الأحاديث النبوية أنموذجها الأعلي، تحاكيها شكلاً ومضمونًا، ويساعدها في ذلك طبيعة الثقافة الدينية الإسلامية في بدئها، من حيث هي ثقافة شفوية قائمة علي الرواية الفردية للنصوص المقدسة، تتيح من حيث المبدأ مجالاً رحبًا للُّبس والوهم والافتعال، لولا العلماء الجهابذة الذين كانوا يتصدون في أحيان كثيرة لظاهرة تزييف النصوص الدينية.وقد قام بإبداع هذه الأساطير طائفتان من الناس:
1. طائفة مثقفة عالمة، كانت تشكل في زمنها جزءًا من النخبة الإسلامية، ولها موقف أيديولوجي رافض مطلقًا للثقافة الإسلامية، وما فيها من »سنة» و»حديث». لكنها لا تَقْدِر دائمًا علي التصريح برفض الثقافة الإسلامية، فتعمل علي الاستهزاء بها وتمييعها حتي يختلط الحابل فيها بالنابل، بتزييف النصوص المقدسة، أي بإنشاء أحاديث مشتبهة أشد الاشتباه بالأحاديث الأصلية. وهذه الفئة هي الفئة المعروفة بـ»الزنادقة».
2. وفئة أخري، هي فئة القُصَّاص، أو الوعاظ والمذَكِّرين. ولم يكن هؤلاء من ذوي الموقف الأيديولوجي المعادي. بل كانوا فئة عامية أو أقرب إلي العامية، ذات موقف موالٍ للثقافة الإسلامية، تعيش من السرد الأسطوري، وتعمل علي تزييف النصوص المقدسة، إما عن حسن نية، وإما طلبًا للمعاش من العامة. وقد بلغ أمر انحطاطها في طلب العيش بترويج السرد الأسطوري وغير الأسطوري لدي العامة، أن وصفها ابن الجوزي بـ »الشحاذين». يقول عنها: »الشحاذون: فمنهم قُصَّاص، ومنهم غير قُصَّاص. ومن هؤلاء من يضع، وأغلبهم يحفظ الموضوع»
ويعدد ابن قتيبة (ت 276هـ/ 889-890م) مفكر الانقلاب السني في القرن الثالث، والأقرب عهدًا إلي نُعَيم بن حماد (ت 229هـ/ 843-844م) صاحب أقدم مدونة متخصصة في الأساطير الأخروية، أو تكاد، وهو »كتاب الفتن»، أسباب وضع الحديث، ويحدد الجماعات المسئولة عن إنتاج وترويج هذه الظاهرة الدينية الأدبية، فيقول:
»منها الزنادقة واحتيالهم للإسلام، وتهجينه بَدسِّ الأحاديث الـمُستشنَعة والمستحيلة... منهم ابن أبي العوجاء الزنديق، وصالح بن عبد القدوس الدَّهرِيّ. والوجه الثاني: القُصَّاص علي قديم الأيام، فإنهم يُميلون وجوه العوامِّ إليهم، ويستَدِرّون ما عندهم بالمناكير والغريب، والأكاذيب من الأحاديث. ومن شأن العوامِّ القعود عند القاصِّ، ما كان حديثه عجيبًا، خارجًا عن فِطَرِ العقول، أو كان رقيقًا يُحزِنُ القلوب، ويستَغزِرُ العيون. فإذا ذَكَرَ الجنة، قال: فيها الحَوراءُ من مسك أو زعفران، وعجيزتها ميل في ميل... وكلما كان من هذا أكثر، كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع».
ومهما يكن من شأن الجماعة التي تصدت لإنشاء الأساطيرِ الأخروية، أساطيرِ الفتن والملاحم وأشراط الساعة، فإن تراثهما، هو ولا شك، تراث مشترك، لا سبيل في نظرنا إلي تمييز بعضه عن بعض، لأجل افتقارنا إلي المعلومات الضرورية الأساسية في هذا الشأن. والجامع بينهما، هو ولا شك، السمة المهيمنة في الأسطورة علي العموم، أي »الباطل وشبه الباطل»، الـمُخرَجان في صورة »الحق» الديني المقدس المحض، الذي يجعل »الواقف»، أو المتلقي السني العالِم، يدفع هذا التراث دفعًا شديدًا، ويعده من المنكر العقدي، أو »أحاديث منكرة»، ثم تزييف الأحاديث تزييفًا يراعي الأصل مراعاةً تزيد أو تنقص، وإن كانت لا تخفي عن »النقاد» من المحدِّثين من أهل السنة، قبل أن تخفي عن »النقاد» من أهل الأدب. يقول ابن قتيبة (ت 276هـ/889-890م):
»والقاصُّ يروي للعوام الأحاديث الـمُنكَرَة، ويذكر لهم ما لو شَمَّ ريح العلم ما ذكره، فخرج العوامُّ من عنده يتدارسون الباطل. فإذا أنكر عليهم عالم، قالوا: قد سمعنا هذا بـ »أخبَرَنا»، و»حدَّثَنا». فكم قد أفسد القُصَّاص من الخَلق بالأحاديث الموضوعة».
إن هذا »الباطل» العقدي، لا ينجح في تزييف النصوص الدينية الـمُتنبِّئة بالمستقبل، إلا إذا وَظَّف سمة أساسية، هي سمة »الإغراب» علي الواقف العامي، وهو بالضرورة غير مُستبِحر في علوم السنة، بما عنده من الخيال الواسع. فهم، حسب ابن الجوزي، (ت 597هـ/1200-1201م):
»قوم شقَّ عليهم الحفظ، فضربوا نَقْدَ الوقت. وربما رأوا أن المحفوظ معروف، فأتوا بما يُغرِب، مما يُحصِّل مقصودهم. وهؤلاء قسمان: أحدهما القُصَّاص. ومعظم البلاء منهم يجري، لأنهم يريدون أحاديث تُثقِّف وتُرقِّق، والصِّحاح يقل فيها هذا».
وهذا الخيال الواسع، يفارق الواقع وإمكانياته، ويفارق العقل وإمكانيات تصوره للمستقبل، فيصل إلي درجة »المحال» الشرعي والعقلي، الذي افتن فيه القُصَّاص افتنانًا، فَبَزّوا فيه »الزنادقة». يقول ابن الجوزي:
»وما أكثر ما يُعرَضُ عليَّ أحاديثُ في مجلس الوعظ، وقد ذكرها قُصَّاص الزمان، فأردُّها عليهم، وأُبيِّن أنها محال».
3. الموقف السُّني من مُدوَّنات الأساطير الأخروية الأولي: كتاب الفتن لنُعَيم بن حماد (ت 229هـ/ 843-844م) نموذجًا
لم يكن نُعَيم بن حماد معدودًا من »الزنادقة»علي الإطلاق، فلم يهاجمه مؤرخوه قط من هذا الباب، ولا كان من فئة »القُصَّاص» و»الشحاذين»، بتعبير ابن الجوزي. بل لم يخلُ أمره من توثيق له، يرفعه إلي درجة ثقات المحدِّثين، بالرغم من وَهاءِ رواياته. فقد روي حماد حديثًا في فتنة أهل الرأي، أقلق المحدِّثين، فطفِقوا يلتمسون له المخارج والمعاذير، دون أن يحيلوه علي فئة الضعفاء أو المتروكين، أو الزنادقة أو القُصَّاص، فيكونوا قد اتهموه في علمه أو دينه، أو أسقطوا مكانته:
»قال محمد بن علي بن حمزة: سألت يحيي بن مَعين عن هذا، فقال: ليس له أصل، ونُعَيم ثقة. قلت: كيف يُحدِّث ثقةٌ بباطل؟ قال: شُبِّهَ له».
لقد كان نُعَيم في أول أمره معتزليًّا، أي رجلاً عقلانيًّا خصيمًا مبدئيًّا لأهل السنة، كما عند الذهبي(ت 748هـ/1347-1348م) ثم انتقل إلي مذهب أهل السنة. ولا ندري هل كان ذلك في شبابه، أم في كهولته، ولا لماذا، ولا كيف انتقل. ويظهر أن هذا الانتقال من مذهب عقلاني إلي مذهب نقلاني، أثر عليه تأثيرًا كبيرًا، فجعله لا يتقن »صناعة الحديث»، فأثار علي نفسه عاصفة نقدية لكثرة ما كان عنده من الروايات الموضوعة »الـمُنكَرة». لقد نقل الذهبي أنه: »كان يُحدِّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يُتابَع عليها»،وأن ابن معين »سئل عنه، فقال: ليس في الحديث بشيء. ولكنه صاحب سنة».
ذلك أن تسنُّنَه بعد الاعتزال، في وقت كان فيه أهل السنة أحوج ما يكونون إلي من يعزز صفوفهم، ولو كان كَلاًّ عليهم، والحال أن المعتزلة قد بلغوا الغاية في الجبروت السياسي، حتي تسببوا في تعذيب علماء أهل السنة كابن حنبل (ت 241هـ/855-856م) وإعدامهم، والتضييق عليهم التضييق الشديد، كان أكبر شفيع له من تهمة »الزنديقية» أو »القاصِّيَّة»، بالرغم مما جمع كتابه في »الفتن» من »المناكير». وكان موته في السجن، في محنة أهل السنة الكبري، جُنَّةً له من كل تهمة لا تليق بمن عرَّض نفسه للاستشهاد من أجل مذهب أهل السنة. فكان هذا الاستشهاد السياسي المذهبي، مدعاةً للتغافل عن أمره. فهو عند ابن حجر (ت 852هـ/ 1484-1449م) ناقلاً من مصادره السنية:
»قال مسلمة بن قاسم: كان صدوقًا، وهو كثير الخطأ. وله أحاديث مُنكَرة في الملاحم انفرد بها».
وهو عند الذهبي: »نعيم من أكبر أوعية العلم، لكنه لا تركن النفس إلي رواياته».
يوازي هذا الموقف المجامل بعض المجاملة لنُعَيم، الـمُعَدِّلَ له، باصطلاح المحدِّثين، موقف متشدد في تجريحه، يتراوح بين اتهامه بكثرة الخطأ، فتكون رواياته في »الفتن» و»مجازفاته» من الخطأ الكثير، البريء غير الـمُتعمَّد، وبين اتهامه بالوضع الصريح للحديث، دون ان يمس هذا عقيدته السنية في شيء، أو يخدشها، أو ينال من مكانته بين أهل السنة، مرورًا بمواقف متوسطة فيه:
فمن المواقف الهادئة منه، ما ورد عند الذهبي، من أنه »قال أبو زرعة الدمشقي: يصل أحاديثَ يوقفها الناس»، و»قال ابن يونس: وروي مناكير عن الثقات». و»ذمه يحيي، وقال: يروي عن غير الثقات».
ومن المواقف المتوسطة، قول شمس الدين الذهبي فيه: »قلت: لا يجوز لأحد أن يحتج به. وقد صنف (كتاب الفتن)، فأتي فيه بعجائب ومناكير».
ومن المواقف المتشددة، ما ورد عند الذهبي، من أنه: »قال ابن حماد:... كان يضع الحديث في تقوية السنة».
إن التباس أمر نُعَيم، إذ كان من »أوعية العلم»، و»صاحب سنة»، داعيًا إلي نصرتها، متشددًا في ذلك، بل شهيدًا من شهدائها من جهة، وكان في الوقت عينه »يصل الأحاديث الموقوفة علي الصحابة»، و»يروي المناكير عن الثقات»، و»يروي عن غير الثقات»، جعل المحدِّثين يقفون منه بسبب رواياته موقفًا وسطًا، فهم يقبلون الرجل في ذاته، ولا يقبلون رواياته في »الفتن» وغيرها. وهذا ما عبَّر عنه بعض المحدِّثين بقوله: »سمعت أبا عروبة يقول: كان نُعَيم بن حماد مُظلِم الأمر».
لقد أُظلِم أمره إذن لأنه كان سنيًّا بذل نفسه لمذهب أهل السنة واسترخصها في نكبة أهل السنة الكبري في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وفي المقابل كان يتصرف تصرف »القُصَّاص» و»الزنادقة» بوضع الحديث، أو تصرف »الضعفاء» و»المتروكين»، بالرواية عن غير الثقات، أو رواية المناكير عن الثقات. إن هذا يجعلنا نتساءل عن هُوِيَّة المؤلف لكتاب »الفتن»:فهل وضعه نُعَيم جملةً وتفصيلاً بأحاديثه الأربعة بعد الألفين، وهو عدد هائل ضخم، ما بين قصير وطويل طولاً نسبيًّا، أم نقله جملةً وتفصيلاً عن الوضَّاعين من زنادقة وقُصَّاص، أم مزج بين الأمرين، ففيه ما هو من خياله، وفيه ما هو من خيال غيره، وفيه كذلك ما هو مقبول علي عِلاته أحيانًا عند المحدِّثين المعترف بهم؟ لعل هذا هو الراجح، وأن كتابه، كتاب »الفتن» هذا، هو أقرب إلي مدونة جماعية.
وعلي كل حال، فقد أعرض أهل السنة عن كتاب »الفتن» باعتباره كتابًا في السنن أو الأحاديث الموثوقة علي العموم، واطَّرحوه اطِّراحًا. قال الذهبي: »لا يجوز لأحد أن يحتج به. وقد صَنَّف كتاب الفتن، فأتي فيه بعجائب ومناكير».
بل تجاوز الأمر خصوص كتاب »الفتن» إلي عموم الجنس الأدبي الديني الروائي السردي الذي يمثله، أي جنس »الملاحم»، من باب تسمية الكل بالجزء، أو ما يلزم منه، وجنسين آخرين سرديين قريبين منه، يتضمنان هما أيضًا أساطير من أنواع أخري، أغلبها الأساطير التكوينية والعجائبية. فهذا ابن تيمية (ت 728هـ/1327م) يقول: »ومعلوم أن المنقول في التفسير، أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم. ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي. ويُروي: »ليس لها أصل»، أي إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل».
وقبله فسر الخطيب البغدادي (ت 463هـ/ 1070-1071م) قول الإمام أحمد، بقوله:»قول الـمَيموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير. قال الخطيب في (جامعه): وهذا محمول علي كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة، غير مُعتمَد عليها، لعدم عدالة ناقليها، وزيادات القُصَّاص فيها.فأما كتب الملاحم، فجميعها بهذه الصفة. وليس يصح في ذكر الملاحم الـمُرتقَبة، والفتن الـمُنتظَرة، غير أحاديث يسيرة».
فهل كان أحمد بن حنبل يقصد كتابًا في الفتن والملاحم غير كتاب نُعَيم بن حماد، والحال أنه أقدم ما دَوَّنه أهل السنة في هذا الجنس من الكتابة، بغثِّه وسمينه، والحال أيضًا أنه معاصره وقسيمه في محنته؟!
لقد سبق نُعَيم إلي الكتابة في موضوع الفتن والملاحم، ولا شك، قبل أن يُهرَع الإمام البخاري (256هـ/ 869-870م) ثم الإمام مسلم (261هـ/ 874-875م) إليالكتابة فيه، من باب تجريد الحديث الصحيح وإفراده بالتدوين، وفصل المعرفة الدينية المقدسة عن تراث القُصَّاص والزنادقة، ثم الضعفاء والمتروكين الذين عملوا علي تزييف النصوص الدينية المقدسة، وقبل أن تُدوَّن مقاييس توضيع الحديث، ولا سيما أحاديث الفتن والملاحم. وهذا ما سوف نرجع إليه.
4. أدبية الأساطير الأخروية، من منظور نظرية الأدب ونظرية السرد ليس عملنا هذا بالتأكيد أول نقد متني أو بنيوي تعرضت له الأساطير الأخروية. فقد انتبه القدماء إلي ضرورة تمييز الأحاديث الصحيحة عن الأحاديث الزائفة التي كثير منها أدب أسطوري، واستعملوا مفاهيم نقدية متنية يجدر بنا أن نستثمرها في تطوير نقد أسطوري عربي معاصر للأساطيرالأخروية. صحيح أن غاية المحدِّثين من نقدهم هذا كانت منبثقة من صميم الرؤية الدينية السنية، وهي رؤية أيديولوجية، ولكنهم بالتأكيد يقدمون لنا »مواد نقدية» تعيننا إذا وظفناها علي وصف الأساطير الأخروية وصفًا منبثقًا من نظرية الأدب، علي الأعم، ونظرية السرد علي الأخص.
أ. التزييف:
هذه الأساطير الأخروية تدخل في نطاق مفهوم »الزيوف»، أي الأحاديث الـُمفتعَلة افتعالاً، والتي أنشأها وضَّاعون معروفون أو مجهولون، وهو المفهوم الـمُخالِف لمفهوم »الأحاديث الصحيحة»، وما ينحاش إليها من أحاديث حسنة أو ضعيفة. وقد استعمل ابن الجوزي (ت 597هـ/ 1200-1201م) هذا الاصطلاح. يقول: »ولا يسع الناقدَ في دينه أن لا يُبيِّن الزيوف من غيرها». والناقد هنا هو المحدِّث عند ابن الجوزي.
إن تزييف الأحاديث الأخروية بنسبتها من حيث السند، إلي مصدر القداسة الثاني، أي النبوة المحمدية، أو »السلف الصالح»، أي الجيل المقدس من صحابة أو تابعين، وبالاجتهاد في إبداعها إبداعًا يحاكي النصوص المقدسة من حيث المتن، هو ما يجعلها تقوم بوظيفتها في تشكيل رؤية المسلم العامي للمستقبل، وتخصيب خياله، وتخويفه منه، بل إرعابه. وإذا كانت الأساطير مقدسة عند المؤمنين بها، فإن كونها »زيوفًا» يجعلها تفقد صفة القداسة، عند علماء الدين بالضرورة، وعند الباحثين في العلوم الإنسانية، فتصير »مردودة» بتعبير الفيروزآبادي،(ت 817هـ/ 1414-1415م) إذ يقول: »صارت مردودة لغش».
نضرب مثلاً لهذا بما جاء عند نُعَيم بن حماد قوله: »حدثنا عُبيد بن واقد القَيسي، عن محمد بن عيسي الهُذَلي، عن محمد بن الـمُنكَدِر، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله »صلي الله عليه وسلم»يقول: خلق الله تعالي ألف أمة، ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وأول شيء من هذه الأمم هلاكًا الجراد. فإذا هلكت، تتابع مثل النظام إذا قُطِع سلكه».
لقد اتخذ هذا النص كل مكونات وسمات النص الحديثي المقدس، فهو منسوب إلي النبي بسلسلة سند علي طريقة المحدِّثين، وفيه تنبؤ بالغيب والمستقبل، وما يكون في آخر الزمان، وفيه تنبؤ بحدث خارق أكبر، هو فناء العالم، وحدث خارق أصغر، هو فناء الجراد، هذه الحشرة المحقورة في شكلها. وكل هذا حتمي ومقدور، ولا مفر منه. وهذا الحدث الخارق الأصغر، أمارة علي بداية وقوع الحادث الخارق الأكبر، أي أمارات الساعة الكبري. إن التزييف هنا قد بلغ منتهاه، وجاز أن يشتبه الأمر علي المتلقي المسلم المؤمن السني العام، لولا تصريح المحدِّثين بكونه من »الزيوف»، أي نصًّا صيغ صياغة النصوص المقدسة الأصلية، وحاول أن يحاكيها في كل شيء.
ب.المـُحال:
يهيمن في هذه النصوص أو الأحاديث »الزيوف»، ما سماه ابن الجوزي بـ »المحال»، وجعله مقياسًا لفرزها عن الأحاديث الصحيحة. يقول: »إن الرسول »صلي الله عليه وسلم»قال: عليكم بسنتي. والمحال ليس من سنته».
وقد جاء في أقدم معجم عربي: »والمحال من الكلام: ما حُوِّل عن وجهه. وكلام مستحيل: محال».
إن المحال هو ما تضمن التناقضات من منظور عقلاني. إنه ما عبَّر عنه الكَفَوِي(ت 1094هـ/1683-1684م) بقوله: »ما اقتضي الفسادَ من كل وجه، كاجتماع الحركة والسكون في شيء واحد، في حالة واحدة...».
إن سمة المحال هذه، سمة مُهيمِنة في النص وهي تعادل سمة »الباطل» أو »شبه الباطل»، كما سماها ابن منظور، (ت 711هـ/ 1311-1312م) ودرسناها نحن. إن هذا »المحال»، هو ما يُعبَّر عنه أيضًا بالمجازفة. فحضور هذه »المجازفات» في النص الحديثي، مدعاة إلي اعتباره من الأحاديث »الزيوف»، بتعبير ابن الجوزي، وهو مجال عملنا، ومرآة الأساطير العربية الأخروية. فمقياس المجازفة عندابن القيم(ت 751هـ/ 1349م) مقياس مُعتمَد في التصحيح والتزييف. يقول: »هذه المجازفات، التي لا يقول بمثلها رسول الله »صلي الله عليه وسلم»».
إن أصل المجازفة هو »الحدس في البيع والشراء». أي عدم الضبط في الصفقة التجارية، وذلك بـ»بيع مجهول الكيل أو الوزن»، كما عند عبد الرحيم المناوي(ت 952هـ/ 1031-1032م).
إن عدم الضبط هذا هو »المجازفة، وهي الـمُساهَلة». إن المجازفة في هذه الحالة، تَساهُل كبير في الرواية، يدعو إلي الشك ثم الرد، مبني علي رواية »المحال»، أو ما لا يقبله العقل. ويكون ذلك»المحال»، أو المجازفة، إما داخل النص الأسطوري الواحد، أو بين نصين اثنين عند المقارنة.
إن هذا »المحال»، أي ما يحيله العقل ولا يقبله، أو »المجازفات»، يُعبَّر عنه كذلك بأنه الحديث الذي »يُكذِّبه النظر»، بتعبير ابن قتيبة، عند حديثه عن »قصة» عُوج بن عُناق، أو بتعبير علي القاري، الحديث الذي »تقوم الشواهد الصحيحة علي بطلانه: كحديث عُوج بن عُنُق الطويل، الذي قصد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء»، أي أسطورة عُوج بن عُناق، بتعبيرنا المعاصر. إن هذه الشواهد الصحيحة، أو النَّظَر، هي »شواهد» العقل القديم في مقاومة هيمنة الأسطورة، حتي وإن لم يفصل النقاد من المحدِّثين في كيفية »إبطال» العقل للأسطورة.
ت. التأريخ:
إن توظيف التأريخ، ليس سمة عامة في الأساطير الأخروية، بل هو قليل بعض الشيء. إن هذه السمة الموجودة في بعض الأحاديث، أمارة علي وضعها، ومدعاة إلي رفضها عند المحدِّثين جملةً وتفصيلاً. لقد سماها علي القاري بـ»أحاديث التواريخ الـمُستقبَلة»، وعنده أن »أحاديث هذا الباب، كلها كَذِب مفتري». فلنضرب المثل علي »أحاديث التواريخ الـمُستقبَلة»، بما في النص الآتي:
»حدثنا نُعَيم، قال: حدثنا رُشدين عن معاوية بن صالح، قال: حدثني بعض الـمَشيَخَة، أن رسول الله »صلي الله عليه وسلم»قال: إذا أتي علي أمتي خمس وعشرون ومائة سنة، كانت الملاحم، وكل ما يُذكر في آخر الزمان».
إن أساطير »التواريخ الـمُستقبَلة»، لا تتحدث في واقع أمرها أحيانًا عمَّا سوف يكون في آخر الزمان، بقدر ما تُؤرِّخ ما كان في بداية »آخر الزمان»، إذ إنها تتحدث في الواقع عن الماضي وما ظهر فيه من الفتن والملاحم، في صيغة تنبؤ بالمستقبل. وفي حالة هذا النص، تعكس هذه الأسطورة الأخروية المستقبلية، ولا شك، بداية انهيار دولة الأمويين.
وإذا لم تكن الأسطورة الأخروية، أو »الـمُستقبَلة» مُحدَّدة بالسَّنة واليوم، فإنها تُؤرِّخ نفسها علي وجه التقدير المضبوط، فنجد مثلاً: »حدثنا نُعَيم، قال: حدثنا رُشدين عن ابن لُهَيعة، عن قيس بن شُرَيح، عن حَنَش الصَّنعاني، عن ابن عباس قال: أجل أمة محمد »صلي الله عليه وسلم»ثلاثمائة سنة، كبني إسرائيل». وهو ما يعني بالتقدير فناء المسلمين أو هلاكهم علي رأس سنة ثلاثمائة هجرية، من مبعث النبي »صلي الله عليه وسلم»أو وفاته.
4. الفتنة: المفهوم المركزي في الأسطورة الأخروية
إن فكرة فساد الزمان، وهي فكرة مركزية في الثقافة الإسلامية، تقتضي أن أفضل الأزمان هو الزمن المقدس، زمن النبوة والسلف الصالح، وبعدها يَفسُد الزمان، ويصير زمنًا مدنَّسًا، بكثرة الفتن وما تَستَتبِع من الملاحم، إلي أن يأتي الأبطال الموعودون في أشراط الساعة الصغري، كالمهدي والسُّفياني، ثم تظهر علامات الساعة الكبري، أو »أشراطها» المذكورة في القرآن وغيره، كخروج الدابَّة ويأجوج ومأجوج، ثم تقوم الساعة. إن فساد الزمان، لا يكون إلا بكثرة الفتن. وهذا ما يفسر إفراد نُعَيم لكتاب خاص فيها. فالفتنة عند عبد الرؤوف المناوي (ت 952هـ/ 1031-1032م) »البلية. وهي معاملة تُظهِر الأمور الباطنة. ذكره الحَرالِّي. وقال الراغب: ما يتبين به حال الإنسان من خير أو شر».
إن كتاب »الفتن»، هو في واقع أمره، كتاب البلايا والمحن الـمُتوقَّع حدوثها في آخر الزمان، قبل أن تظهر أشراط الساعة الكبري، أي الأحداث العنيفة جدًّا والقاسية. يَتتبَّع الكَفَوِي في »الكُلِّيَّات»، مفهوم الفتنة، في مرجعيته القرآنية، فيجد له ستة عشر مفهومًا جزئيًّا. فيقول:
»الفتنة: ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر...والفتنة أيضًا: الشرك (حتي لا تكون فتنة)، والإضلال (ابتغاء الفتنة)، والقتل (أن يفتنكم الذين كفروا)، والصد (واحذرهم أن يفتنوك)، والضلالة (ومن يرد الله فتنته)، والقضاء (إن هي إلا فتنتك)، والإثم (ألا في الفتنة سقطوا)، والمرض (يفتنون في كل عام)، والعبرة (لا تجعلنا فتنةً)، والعفو (أن تصيبهم فتنة)، والاختبار (ولقد فتنا الذين من قبلهم)، والعذاب (جعل فتنة الناس كعذاب الله)، والإحراق (هم علي النار يفتنون)، والجنون (بأيكم المفتون). قيل في قوله تعالي (والفتنة أشد من القتل): إن المراد النفي عن البلد».
إن كثيرًا من هذه المفاهيم الجزئية وارد ورودًا لافتًا في أساطير كتاب »الفتن» الأخروية، ولا سيما الإضلال، والقتل، والقضاء، والإثم، والمرض، والعبرة، والاختبار، والعذاب، والإحراق، والجنون، والنفي. فالسُّفياني والدجال وغيرهما مثلاً يَفتِنون الناس بإضلال أتباعهم، ثم بقتل المؤمنين القتل الجماعي الشامل الذريع، وفتنتهم قضاء وقدر لا مناص منه، أَحَبَّ المؤمنون أم كرهوا، وما يرتكبون من القتل أو »الملاحم»، وغيرها من الفساد، هو إثم كبير في الأرض، وعبرة للمؤمنين، واختبار لهم ولصبرهم علي الابتلاء الإلهي بأشد ما يكون من العذاب في الدنيا، وهم أحياء، قبل أن يَرِدوا الآخرة بعد بعثهم، ولا سيما بقتلهم وإحراقهم، وأقل العذاب نفيهم أو نزوحهم من أراضيهم.
ويتضمن مفهوم الفتنة الـمُتداوَل مفهومًا أخص منه، لكنه يرجع إليه دائمًا. فكل ملحمة هي فتنة. لكن العكس غير صحيح، إذ ليست كل فتنة ملحمةً بالضرورة، فـ »الملحمة: الحرب ذات القتل»، و»الوقعة العظيمة في الفتنة»، و»القتال في الفتنة».
وقد يرد مفهوم الملحمة مرادفًا في الواقع لمفهوم »الفتنة» الأخروية، فنجد ابن حنبل يقول: »ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير». أو مساوقًا له عند الخطيب البغدادي، إذ يقول: »وليس يَصِحُّ في ذكر الملاحم الـمُرتقَبة، والفتن الـمُنتظَرة، غير أحاديث يسيرة».
وكثيرًا ما تُستعمَل في صيغة الجمع، فعند نُعَيم بن حماد: »بقيت من الملاحم واحدة»،و»مَعقِل المسلمين من الملاحم دمشق». ويُستعمَل أحيانًا مرادف لمصطلح الفتنة، وهو الهرج. أي »الفتنة والاختلاط... وفسره النبي » صلي الله عليه وسلم»في أشراط الساعة بالقتل».
وعند نُعَيم بن حماد، قد نجد - علي قلة - استعمال هذه الكلمة، ففيه: »ويل لهم من هرج عظيم الأجنحة». وقد يُدرَج مفهوم الفتنة، وما يتضمنه من ملاحم وهرج، ضمن مفهوم أوسع وأشمل، أي مفهوم أشراط الساعة. فعند نُعَيم بن حماد: »إذا رأيت العرب تهاونت بأمر قريش... فقد غشيتك أشراط الساعة».
5. من الأسطورة الأخروية إلي الأسطورة الجفرية والحِدثانيَّة: نهاية أم تطور؟
كان النشاط الهائل للمحدِّثين في تدوين الحديث، غثِّه وسمينه، في مدونات كثيرة، واعتناؤهم البالغ بتوثيقه وتمييز مراتبه من صحيح وحسن وضعيف وموضوع، مدعاةً لتوقف حركية الأساطير الأخروية، في الظاهر علي الأقل، ابتداءً من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، لأن منطق الأشياء يفترض أن الحديث النبوي قد جُمِع ووُثِّق، وكذلك »آثار السلف»، وأن لا سبيل إلي رواية »أحاديث فتنية» غير التي في أيدي المحدِّثين كأصحاب الكتب الستة والمتخصصين في »الموضوعات» كابن الجوزي، الذين استوعبوها تدوينًا في القرن الثالث وبعيده. وفضلاً عن هذا، فإن حركة »الزنادقة» كانت قد انقطعت في هذا القرن، بانتصار أهل السنة عليهم وعلي المعتزلة في هذا القرن نفسه، ولم يبقَ إلا القُصَّاص ونشاطهم.
بل لقد تعرضت كتب الفتن إلي نقد عنيف من النقلانيين أهل السنة أنفسهم. فهذا ابن دِحيَة السَّبتي(ت 633هـ/ 1235-1236م) ينتقد »كتاب الفتن» لأبي عمرو الداني، المقرئ الشهير (ت 444هـ/ 1052-1053م) فيقول: »كتاب »السنن الواردة بالفتن وغوائلها، والأزمنة وفسادها، والساعة وأشراطها»، وهو مجلد مَزَجَ فيه الصحيح بالسقيم، ولم يُفرِّق فيه بين نَسْرٍ وظَليم. وأتي بالموضوع، وأعرض عمَّا ثبت من الصحيح المسموع».
فكان هذا النقد النقلاني الشديد إيذانًا ببوار هذا الجنس السردي العربي القديم، الذي نشأ ابتداءً من نهاية القرن الأول، لما ضمَّنه المؤلف فيه، وهو أبو عمرو الداني، »من الملاحم، وما كان من الحوادث وسيكون، وجَمَعَ فيه التنافي والتناقض بين الضَّبِّ والنون، وأغرب فيما أغرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون. وفيه من الموضوعات، ما يُكذِّب آخرُها أولَها، ويتعذر علي الـمُتأوِّل لها تأويلُها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة من تكذيب الصادق المصدوق، محمد »صلي الله عليه وسلم»».
وقد انتقد سمة »الإغراب» و »التناقض» فيها، بانتقاده أسطورة الدابَّة ويأجوج ومأجوج، والتأريخ للفتن، و»التفاصيل الباطلة، والأحاديث الكاذبة في أشراط الساعة».
بيد أن بوار هذا الجنس الأسطوري في صورته الأولي، كان إيذانًا بظهوره من جديد وانبعاثه في جنس أسطوري آخر حل محله، هو جنس الأساطير الجفريةالحِدثانيَّة، وهو جنس سردي أسطوري كذلك، شبيه بجنس الأساطير الأخروية، ومتطور ومتفرع منه، قد سبق لنا أن درسناه في بحث سابق عنوانه: »الأدب الجفري الملحمي والفتني نوعًا أسطوريًّا: مدخل إلي مضمرات خطابه».
إن كتاب الجفر »كان أصله، أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت علي العموم، ولبعض الأشخاص منهم علي الخصوص...».
بيد أن الأسطورة الجفرية التي تطورت من أصلها الشيعي، صارت أسطورة سنية تتنبأ بالمستقبل في صور عديدة:
»وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم. ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه. وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو مُنجِّم أو وَلِيّ في مثل ذلك، من مَلَكٍ يرتقبونه، أو دولة يُحدِّثون أنفسهم بها، وما يَحُدث لهم من الحرب والملاحم، ومدة بقاء الدولة، وعدد الملوك فيها، والتعرض لأسمائهم، ويُسمَّي مثل ذلك الحِدْثان».
وانتقل مصدر الإلهام في الأسطورة الجفرية من »آل البيت» وما لهم من قداسة في نفوس المسلمين السنيين والشيعة علي السواء بالتدريج، إلي »الـمُنجِّمين» وما عندهم من العِلم المستقبلي. يقول ابن خلدون (ت 808هـ/1405م):
»وأما بعد صدر المِلَّة، وحين عَلَّق الناس علي العلوم والاصطلاحات، وتُرجِمت كتب الحكماء إلي اللسان العربي، فأكثر مُعتمَدهم في ذلك كلام الـمُنجِّمين في الـمُلْك والدول، وسائر الأمور العامة من القِرانات، وفي المواليد والمسائل، وسائر الأمور الخاصة من الطَّوالع لها».
وبهذا التطور في ظاهر الأسطورة الأخروية، خَلَفَتْ الأسطورة الجفريةالحِدثانيَّة الأسطورة الفتنية، لكن باطنها لم يتغير. فالأساطير لا تفني ولا تتلاشي، ولكنها تتطور.
الملحـق
نصوص فتـنية جفرية ملحمية
تنبيـــــه
هذه الملحقات، نصوص جفرية متناثرة، أو نصوص تتحدث عنه، وجدناها في المصادر، بعض منها أصلي، وبعض منها مُختصَر، وبعض منها مُتحوِّل إلي شعر، وبعض منها مُترجَم بترجمتنا من الإسبانية القديمة عن الأصل العربي الأندلسي، وراجعه زميلنا المختص بالدراسات الإسبانية الدكتور مصطفي عديلة. وقد أوردناها دون اعتبار ترتيب معين، تعميمًا للفائدة، لـمَّا كان هذا الأدب الجفري الملحمي مجهولاً ومهملاً تمامًا. فوجب التنبيه.
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو النظم العجيب، الذي نَظَمَه سيدي زيد الكَركالِي، غفر الله له، ونصه:
آه كم أنتظر الموعود به في الإخبارات التي وعد بها النبي الحق، وهو عند الله مكتوب. وهو الذي أُوحِي له به، لا بلسان الناس، وكُشِف له. ولن يَنقُص [هنا] حرف من قضاء ربنا الكريم، وسوف يقع كما يقول الله. عن أهل العهد التاسع أُحب أن أتكلم، الذي رغِب صاحب الشريعة »صلي الله عليه وسلم» مرات متعددة إلي الله في أن يرحمهم. فاستجاب الله دعاءه، وتحقق الدعاء.
أيها السادة. أحب أن أُفصِّل ما أخبر به النبي »صلي الله عليه وسلم»عن الجزيرة الـمُكتنَفة بالبحار، التي هي جزيرة الإسبانيين، التي ظهر حكمها فيما أخبر به، وبما أخبر به الأنبياء والأولياء، وهو مكتوب كتابة عجيبة في بشارة قديمة، حُفِظ فيها الدين، وفي كلام عليّ [كرم الله وجهه] الذي أخبر بما سيقع إلي الآن. وكلهم رَوَوه، وتبين لهم أنه هو ما أخبر به حُذيفة، وعنه تواتر.
وكذلك يُقرَأ برواية الصحابي، ودانيال [عليه السلام] لأن الذي قاله عليّ، لا شك فيه. فكل الناس يصدقونه، وعنه قُرِئت ملاحم عظيمة، وقعت كما قال.
وقد قال، وهو يذكر الغرب والأندلس، في بعض كشوفاته: إنه لا بد من أن يملكهما الكفار. وهذا مؤكد أنه وقع كما ذَكَر، وكل الناس رأوه: فمنهم أهل العقول الراجحة، ومنهم الذين عندهم النِّذارات بما سيقع. ففي عام 96، سوف يُفتحان من جديد بالكلية، وسوف تَعمُر كل مدنهما، ويقوم فيها أمير. وقبل أن يُشرَع في هذا، سوف يذهب كل أهل المدن لتعمير البوادي برأي العامة، وسوف يحرثون الأرض، وسوف يكون وقت ذلك عندما يظهر نَجم مُذَنَّب يُرهص بالخير والحرية. وسوف تهدأ الفتن، ويخرج أهل مكة، ويجيء عدوٌّ أشداءٌ أراضيَ الخراج، الذين هم في المشرق من ممالك اليمن، ويفتح أرض سَبتَة وقصر المجاز وطنجة، وأرض السودان، وبجيوش عظيمة من الترك، سوف يَهبِط إلي الغرب، ويغزو سكانه، وهم قوم ظُلاَّم وكفار، يعبدون آلهة كثيرة. وسوف ترجع كل المملكة إلي طاعة رسول الله »صلي الله عليه وسلم» ويُعظَّم الدين. وسوف تملك الأمة التي تعبد إلاهًا واحدًا جَبَلَ طارق، الذي منه كان أصلهم ودخولهم، وإليهم سوف يرجع.
وفي الدور العاشر، ستتحقق سعادتنا. وما سوف يكون فيها من مشقة، سيكون علي اليهود. وسوف يصيب العِرق اليهودي الملعون، والذين يعبدون الأصنام مصائب عظيمة. وسوف يظهر في الغرب آيات عظيمة، وفي أرض السِّند في المشرق، وفي أرض عَزازات. وبالنصر والمجد سوف يذهب الهرْج والمرْج.
من هنالك، من [أرض] تيمور، وهي بلاد في المشرق، ومن إقليم الشام، يجيء الفاتح إلي قلعة النساء، ويجيء معه قُوّاد كبار من البربر: الشريف، وحَيْدر، وزيد الأسود، ويحيي الفريد، وعبد السلام (أبو عبد السلام) الذي سوف يتراءي بين الناس جميعًا بذراعه العاري.
وسوف تكون عقوبة غَرناطة، قصة مدهشة، لأن ديارها سوف تبقي عند الفتن قاعًا صفصفًا، لأجل ما سوف يُعمَل فيها من الضرب بالحديد، والكذب والخداع، إلي أن يوشك أن يفني القوم من أهل البلد بأمر من الكفار. وعندما تستولي الخمر علي عقول الحكام، عندئذٍ يأمرون بتسوية القري بالأرض. وفي الأخير، سيجنح كل الناس إلي السِّلم. وفي عقود السِّلم هذه، سوف تضيع بلدات كبيرة وقلاع بالخيانة. وفي عام 92، و93، سوف تُري جماعات كبيرة علي قسمين.
وسوف تضيع مالَقَة تمامًا. ولن تكون هي وحدها الضائعة، بل كل المدن، لأن القيام لأجل الشهرة يُضيِّع الممالك. والذين لا يتصرفون في حذر، فسوف تلازمهم كل تعاسة وحسرة.
ففي هذه الجماعة المحاربة من الناس، سوف يُعدم الإيمان، ويكون الدين مخذولاً. فيصير العلماء هُزُءًا عند جميع الناس، وسوف يشتغل الولاة بإخراج الناس من قُراهم، وبتسوية الأمكنة بالأرض مع ضياع الجِبايات، دون أن يستطيعوا الهجوم علي إفريقيا، فيتركوها وراءهم.
وبعدئذٍ، سوف تقع للكَفَرة حرب، وفي مملكة غَرناطة، لن تبقي قرية. وعلي مدي عام، سيكثر الشِّقاق، ولن يُفلِت إلا عدد قليل من النَّصَب وانكسار القلب، وسوف يكون الـمَوَتان. فانتظروا مُلْكَ وانتصارَ الغرب، من أهل المغرب، لأن ما قاله النبي الحق»صلي الله عليه وسلم» فلا بد من أن يُري في الناس. [قال]: »سيهربون من البلدات. وعندما يضل الابن العاق، عندئذٍ تَحسُن الأسفار. وحينما يجيء أمر الله بالليل قبل النهار، سيستعد البحر، حتي تجري فيه السفن من غير بأس». وما أوحي الله به، لم يُخلَف ولن يُخلَف.
وسوف يفتح دينُ المسلمين أقاليمَ النصاري. وعندما يَملِك الأحدب، فسيكون الإسلام دائمًا في نقصان. وسوف يأتي السودان لفتح سَبتَة وأراضي مُرسِيَة، وسوف يبني اليهود قلعة الحمَام. وسوف يسير الترك بجيوشهم إلي رُومِيةَ، ولن يفلت من النصاري إلا من رجع منهم إلي دين النبي»صلي الله عليه وسلم». ويصير الباقون أساري وأمواتًا. وهذه الرَّجعَة لا بد من أن تكون في الغرب، وجنوبًا وفي بلاد السودان. وسيظهر هذا الأمر في كل الممالك، ومن بلاد التِّبر، سوف يخرج الغزاة للكفار.
ويذكر أكثر: »يا جبل طارق. إن دخولك وفتحك هما الافتتاح الحقيقي. فاعلموا من هذا أنه لن يبقي في سَبتَة وطنجة والقصور وفي كل أنحائهن غُصن. وسوف تُفتَح، وأن جزيرة إسبانية [الأندلس] ومالَقَة، سوف يعاد بناؤها في هذه الرَّجعَة، وسوف تكون سعيدةً بدين المسلمين، وأن في بِلِّش والـمُنَكَّب، سوف يُنكَّس استكبارهم بالكفر، وفي قُرطبة، تُنكَّس عيوبهم وخطاياهم، وأن المؤذِّنين سوف يُسكِتون ناقوسهم، ولا بد ولا بد. فيخرج الكفر من إشبيلية، وسوف يُرمَّم الخراب الذي لحق بها في وقت ضياعها بظهور المؤمنين.
وسوف تتحقق نبوءة النبي دانيال [عليه السلام]، الذي أخبر بأنه لا بد من انعتاقها، بعد خسارتها علي يد مَلِك طاغية. وقد رأينا خروجه. فادعوا الله أن يتحقق فيها ما هو مذكور. قال الله تعالي في كتابه الكريم: »أفلعلَّكم لم تروا النصاري يَغلِبون في أقصي الأرض. وبعد أن يَغلِبوا، سيُغلَبون هم علي قُربٍ في بضعة أيام فلله هذا الأمر. فَمِن قبلُ ومن بعدُ، كان المؤمنون فِراحًا بالنصر. فهو من يؤيد من يَخدِمه. ولن يُخلَف مِن وعد الله شيء!».
فأول العلامات، التي ستظهر في هذا الحِدْثان، يا سادة، ستكون علامةً كبيرةً جدًّا، وهو أن يظهر مُذَنَّب كبير جدًّا في وسط السماء، يضيء ضوءًا شديدًا. وبعده يَغلِب سلطان الترك مدينةبأهلها ومَلِكِها. وبعد هذا، وقريبًا منه، سيملك جزيرة رودَس الكبيرة. فإذ يملكها المسلمون علي التأبيد، سيكون للنصاري انتصارات أخري. وهو من العلامات الكبيرة التي ستكون في هذا الحِدْثان. وسوف تصل جيوشه وأهِلَّتُه إلي الأندلس، حتي إنهم سوف يقصدون القضاء علي سكانها. ومِن فَزَعٍ سوف يرجع كثيرون إلي دينه.
بيد أنه بعد هذا، سيقوم من بينهم وَلِيٌّ حقيقي، يدعوهم إلي أن يقوموا بدين الله. وفور إذا يأتي هِلال الترك علي النصاري، وعلي كل مدينة، وعلي كل مكان وكل قلعة. وسيكون قريبًا من هذا ثلاث ثورات:
فالأولي: ستكون نكسة وخسارة. والثانية: ستكون خداعًا وكَذِبًا، سيجعلهم علي حدِّ الموت. والثالثة: ستكون كرامة ونعمة، وبابًا ومدخلاً لفتح كل المدن والممالك. وسيكون هذا القَطْع الذي سيقوم به الترك للنصاري، كبيرًا جدًّا حتي إنهم سوف يَدخُلون ويَفتَحون كل ممالكهم ومدائنهم، من البحر إلي دَيلان، إلي بحر سَمَرقَند، ولن يبقي لهم ذكر، ولن يُسمَع إلا عويلهم. وهكذا ستضيع هذه الجزيرة بأهلها، وسينزل أمر فتحها عليهم، كما ينزل ويتدفق المطر من السحاب. وسيصير كل سيد عبدًا. أرانا الله، سبحانه، هذه الأدلة. إنه هو الـمُعطي العَلِيّ.
وأضاف المؤلف قائلاً في هذا: »حين يرعبك الوقت بالأعداء، ويجرح ضميرك، وبالشِّقاق بين أصحابك، ويحيط بك الخوف من كل جانب، فانتبه إلي صُنْع ربنا كيف يَحضُرُ بما ترغب فيه من حرية قريبة جدًّا، وتبدأ في الطلوع شُهُبُ ونجومُ السَّعد. وستأتيك رسائل الراحة والبشائر».
وريثما يكون ذلك، فلا تيأس، ففي باطن تدبير الله، وأشَدِّه خفاءً توجد عجائب وأسرار كبيرة. فإذا تقطع قلبك أثناء ذلك خوفًا، ولم تظهر لك علامات لما ترجوه، ولا سمعت أخبارًا عن الصاحب الذي تنتظره، فقل هكذا: »يا ربِّ. ارحمني برحمتك، وكن بي رءوفًا». ففي هذا سر عجيب، لأنه ما أكثر الشئون التي تضطرب لها القلوب، فيكون الأمر بعد ذلك فرحًا وراحة! فكثير من الأمور، بعد أن تَعظُم، تأتي من ورائها بالطُّمأنينة والراحة. وعندما يجيء ظلام الليل، تنكشف النجوم، وتظهر الشُّهب. ولأجل هذا، ليكن رجاؤكم في الله، واسعَوا إلي رحمته، وتلقَّوا في فرح ما كان قد قدَّره لكم بيده. وقولوا، وأنتم راضون بمشيئته: رضيت يا ربي، بما قد قدَّرتَه عليَّ. فأنت العليم يا ربي بأمر الغيب».
(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
يُروي في السِّيَر الفاضلة، أن رسول الله »صلي الله عليه وسلم» كان يومًا قاعدًا بعد صلاة الظهر، يحدِّث أصحابه. وإذذاك طلع ابن أبي طالب، وفاطمة الزهراء - رضي الله عنها -كذلك. ولما قعدا بحذائه، قالا له: يا رسول الله»صلي الله عليه وسلم» أخبرنا كيف تصير الدنيا لأهل بيتك، في آخر الزمان، وكيف تفني. فقال لهما:
تفني الدنيا في الوقت الذي يكون فيه أفسق الناس وشر الناس. وبسرعة ستكون ذرية أهل بيتي، في جزيرة في آخر تخوم المغرب، تُسمَّي جزيرة الأندلس. وسيكون آخر سكانها من أهل بيتي. وهم يَتامي بيتِ هذا الدين، وآخر ذريته. فالله يرحمهم في هذا الوقت.
ولما قال هذا، اغرورقت عيناه بالدموع، وقال: »هم الـمُضطَّهَدون، هم المكروبون. هم الـمُهلِكون أنفسهم، هم الـمُبتلَون، ممن قال الله فيهم: لا مكان يزول إلا بإذننا. فاقرأ إلي النهاية كل السُّنة المكتوبة في هذا، حيث يشير الله إلي هذا الذي ذكرت. وهذا سيكون لأجل النسيان الذي سوف يكون عند أهل الأندلس في شئون الدين، إذ يتَّبعون أهواءهم وشهواتهم، فيحبون الدنيا حبًّا جمًّا، ويتركون الصلوات، ويمنعون الزكاة ويجحدونها، ولا يلتفتون إلا إلي الفحشاء والفتن والقتل. فيكثر الكذب فيهم، ولا يُوقِّر الصغيرُ فيهم الكبيرَ، ولا يَرحَم الكبيرُ فيهم الصغيرَ، ويكثر فيهم الجَور والظلم والأيمان الباطلة، ويبيع ويشتري التجار بالربا والكذب والغش ما يبيعونه وما يشترونه. كل ذلك للطمع في تحصيل الدنيا، والطمع في نماء الأموال وادخارها، دون أن يبالوا كيف اكتسبوها، وما كسبوه هل اكتسبوه بوجه حق أو باطل.
ولما قال هذا، اغرورقت عيناه بالدموع ثانيةً وبكي، فبكينا جميعًا لبكائه. ثم قال: فحين تظهر في هذه الذرية هذه الخبائث، يسلط الله عليهم قومًا شرًّا منهم، فيذيقونهم أشد العذاب. فحينئذ يستغيثون أعدَلَهم فلا يغيثونهم. فيبعث الله عليهم مَن لا يرحم الصغير، ولا يُوقِّر الكبير، لأن كل واحد يؤاخذ بذنبه، ويشقي بعقوبته. فما رأينا قط الربا يبقي في قوم، والغش في البيع والشراء، والموازين والمكاييل، فَتَرَك الله، سبحانه، عقوبتهم، فيمنع أو يحبس الماء عن وجه الأرض. ولا بقيت الفحشاء ولا انتشرت، دون أن يُرسِل عليهم الفناء والـمَوَتان. ولا بقي أهل بيت يتعاملون بالربا في البيع والشراء، وبالأيمان الباطلة، والطمع والكبر، إلا عاقبهم الله بأنواع من الأمراض الشيطانية.
وما ظهر في قوم الـمَوَتان القبيح، ولا فشا فيهم القتل، إلا أذلهم الله، ومكَّن أعداءهم منهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا عاقبهم الله، فسلط الخراب عليهم. ولا ظهر في قوم قط قلة الصدق والرحمة، وقلة خشية الله، عند ارتكاب كل شر وخطيئة، إلا عاقبهم الله، فلم يَقَبل صلاتهم، ولم يستجب دعاءهم في محنهم وشدائدهم، لأنه عندما تظهر الخطيئة في الأرض، يسلط الرب، سبحانه، العقوبة التي يستحقونها من السماء. ولن يلعن الله أحدًا من أهل بيتي، حتي يري الرحمة ضائعة بينهم. ولن يعذب عبده في هذه الدنيا بالعذاب الأكبر، إلا بقسوة القلب. فهكذا، عندما يصير قلب الإنسان قاسيًا، يلعنه ربه، فلا يستجيب دعاءه ولا يرحمه. ولن يغضب الله أكثر من عباده، إلا عندما يقترب يوم الفصل. وهذا بتماديهم في الخطايا، وغفلتهم عن الخير، وعدم استقامتهم في طريق الحق.
وعندئذٍ بكي، وقال: فالله يرحمهم في هذه الجزيرة، عندما تظهر فيهم هذه الذنوب والخطايا، ويتركون العمل بالقرآن، والاستجابة لأوامره، لأن أكثرهم يومئذٍ سوف يطلبون الدنيا بالزهد والدين، وسوف يلبسون جلود النِّعاج الـمُتَّضِعَة، وتكون ألسنتهم أحلي من العسل والسكر. بيد أن قلوبهم ستكون قلوب الذئاب، وأعمالهم أعمال أرذال وسفلة. وعليهم سوف يصب الله عذابه، فلن يَقبل صلواتهم، لأنهم يؤثرون الجَور. ولن يَدخُل جماعةَ أهلِ بيتي المفسدون أبدًا. فمن ابتسم في وجه ظالم، أو وسَّع له في المجلس، أو أعانه أو أكرمه لأجل أن يرتكب الفساد، فقد هتك حجاب النجاة من حَلقِه. [كذا] وإذا طغي مَلِك في أرضه، ولم يحفظ العدل في رعيته، أظهر الله له في مُلْكِه نقصًا في الطعام والثمرات، وغيرها من الأموال كلها. فإذا حكم بالحق وبالعدل، ولم يكن في مُلْكِه قساوة ولا مظالم، بعث الله، سبحانه، بركته في مُلْكِه وقَومِه. وكان الزَّكاء في كل شيء.
وهكذا، فعندما يظهر في أهل هذه الجزيرة الجَور وخِذلان الحق والكفر، ويغلب الكبر والخيانة، فيُساء إلي اليتامي، ويجورون في المعاملة، فيخرجون عن سنن رحمة الله، ويطيعون الشيطان، ويتبعون الشهوات، فيشهدون بالكَذِب والباطل، ويُذلِّون أنفسهم للأغنياء، ويستكبرون علي المساكين بقسوة قلوبهم وكبرهم، ويكون قولهم حلوًا، وعملهم مرًّا، فعندئذٍ يصب الله عليهم عذابه.
وعندئذٍ بكي مرة أخري، وقال:
ورحمة ربي، وعظمة أسمائه، لولا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسوله، ومحبة الله لي، لصب عليهم عذابه صبًّا شديدًا. ثم بكي بكاءً شديدًا أكثر، وقال: »يا ربي ارحمهم». وكررها ثلاثًا. بل لأجل هذا، يسلط الله عليهم كذلك حكامًا قساةً وفجارًا كأشد ما يكون الفجور. فيأخذون أموالهم بغير حق، ويستعبدونهم، فيقتلونهم ويدخلونهم في دينهم، ويجعلونهم يعبدون معهم الصور والأصنام، ويجعلونهم يأكلون معهم الخِنزير.
فإذا استخدموهم في أشغالهم، عذبوهم عذابًا شديدًا فأخرجوا منهم الحليب الذي رضعوه من أطراف أظفار أصابعهم. ويبلغ بهم العَسْفُ الشديد في ذلك الزمان، حتي إن الرجل سوف يمر بقبر أخيه، أو صاحبه المدفون، فيقول: يا ليتني كنت معك! ويدوم عليهم ذلك، إلي أن ييأسوا من النجاة بدِين النجاة. فييأس أكثرهم، فيرتدون عن دين الحق.
وحينئذٍ بكي بكاءً أشد، وقال: فيرحمهم الله، سبحانه، ويُظهِر لهم وجهَ الرحمة، ويَنظر إليهم بعين الرأفة والرحمة والشفقة. وهذا سيكون حين يشتعل فيهم سُمُّ أعدائهم أكثر، حين يجيئون فيُحرِقون كثيرًا منهم بالنار الـمُلتهِبة، رجالاً ونساء، وأطفالاً أحداثًا، والشيوخ الكبار، وحين يخرجونهم وينفونهم من بلادهم. فعندئذٍ يَضِجُّ ملائكة السماء، فيمشون كلهم، وهم في حالة عظيمة، في رضوان الله، ويقولون له: يا ربنا. بعض من قومِ وَلِيِّك ورسولك محمد »صلي الله عليه وسلم»، يُكوَون في النار، وأنت الجبار المنتقم. وعندئذٍ يبعث الله من يغيثهم، ويخرجهم من هذا الشر والعذاب العظيم، ومن هذه العقوبة العظيمة.
وعندئذٍ بكي عليّ، فبكينا جميعًا معه. وقال له: متي يبعث الله هذه الإغاثة، ويصلح قلوبهم المغمومة؟ فأجابه هكذا:
يا عليّ، سيكون هذا في جزيرة الأندلس، متي دخل العامُ فيها يومَ السبت. وعلامة ذلك، أن يبعث الله سحابة من الطير، وفيها يظهر طائران مشهوران، أحدهما الملك جبريل، والآخر الملك ميكائيل. وسيكون هذا الأصل في ظهور طيور الأرض الأخري من البَبَّغاوات. فيشيرون إلي مجيء ملوك المشرق والمغرب لإغاثة جزيرة الأندلس هذه.
وعلامة ذلك أن يَهجُموا أولاً علي طلائع أهل الغرب. فإذا تكلمت هذه الطيور، أشارت أنه يكون في البلد الذي تتكلم فيه فتنة وقتال كبير في الغرب، ويعقبهما جميعًا رعب كبير وفتن. وستكون مناكر وفتن بين دين المسلمين وبين دين النصاري، ويرجع كل الناس إلي دين المسلمين. بيد أنه يكون ذلك بعد مشقة عظيمة.
وفي هذا العام، سيكون ضباب شديد، وماء قليل، وتحمل الأشجار ثمارًا كثيرة، وسيكون حصاد الحَبِّ في الجبال الباردة أوفر منه في السواحل، وتملأ النحلُ أجباحَها في هذا العام المبارك.
(3)
بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله وحده. لا إله إلا هو
هذا حكم مُستخرَج من كلام رسول الله »صلي الله عليه وسلم»يسمي »طوق الحمامة»، علي تشبيه تأليفه وحسنه بجمال ألوان طوق الحمامة. ونصه:
دعوا ذكر الهَزْل والثياب النفيسة والمفاخر، ولا تنسوا الموت فالحياة تنقضي.
وذنوبكم أعظم من الجبال، فأنيبوا إلي الله ولا تناموا، وإلا أصبحتم مدفونين في الشقاء.
ودعوا ذكر الجنان الفسيحة في المصانع الفخمة والنساء الـمُتَوَّجات والحالِيات.
واذكروا أهوال يوم الفصل، وغضب النار وحرائقها.عند تلك الساعة، سوف تسبق هذه العلامات:
خَسْف الأرض وزلزلتها، هول وفزع عظيمان، وعلامات أخري لا يجوز للآدميين كشفها. وأكثر من تكلم فيها حُذيفة. وما قال إنه سمعه منها من نبي الله الهادي »صلي الله عليه وسلم» يذكرها، هو أكثر من سبعين علامة. منها ثماني علامات هي الكبري، والأخريات التي تتلوها هي العلامات الصغري. وقد سأل عنها كثير من الصحابة المصطفي »صلي الله عليه وسلم» فعدَّ لهم بعض العلامات المذكورة. فذكر منها ظهور رسول الله [عيسي] ونزول أولها في جنة تِهامَة، بعد أن تطلع الشمس مَفلوقَة. فهذه علامات يوم الفصل التي يشير إليها القرآن ويتكلم عنها، والأخريات الشبيهات بها هي كثيرة. وهي اليوم مشهورة في هذه الدنيا، أوضح من الضوء الساطع.
وذكر المصطفي »صلي الله عليه وسلم»الذي كانت تُظلُّه الغمامة: »حين تَرَون النساء يسرن وراء الرجال يطلبنَهم دون حشمة أو حياء، مسعورات مثل البهائم الـمُغتَلِمَة، وحين يفشو الربا، والمال المكسوب بالشُّبهة بين الناس، ويتخذون الظلم والقتل دينًا، ويكثر عصيان الأبناء للآباء، وحين تري المؤمن الصالح منكسر النفس، والعلماء معذبين، حتي يجيئوا فيخدموا الأشرار، وحين تري كل زوايا بيتك معمورة بالحرام والشُّبهة، وحين يصير صهرك أقرب إليك نسبًا من أخيك الشقيق، وتهجر أخاك، وتطيع صديقك، وحين تري الأم العجوز تَتَّجِر ببناتها بين الرجال، ويعصي الابن والديه، ويطيع امرأته في كل شيء، وحين تري الزخرفة في المساجد، والنساء قد تعوَّدن علي العادات الفاسدة، والذنوب القبيحة، وحين تري أهل الدين يعيشون مُترَفين وفي قصور مُشَيَّدة، وتري المستكبرين المجرمين يَكثُرون، والصالحين يَقلِّون، والخائفين من الله مُفرَدين كاليتامي، والأشرار برءوس أعند وأصلب من الجبال الراسيات، وحين تري الأذناب تسبق الرءوس، والصديق الحميم ينكر صديقه، ولا يجرأ الرجل علي أن يثق بمن يجتمع به، وحين تري الكرام يفتقرون، والبخلاء يرتفعون، والأيدي الكريمة تُقبَض، ويكثر الـمُستَعطون، وحين تري الدين مهجورًا، وأتباعه من القلة كالشَّامات البيضاء في الشعر الأدكن، وذئاب الرجال، وقد ارتدوا بالأردِيَة، ومن كان ذئبًا أكل مع الذئاب، ومن لم يكن ذئبًا أكلته الذئاب، وحين تري الشِّقاق يكثر كثرة شديدة، والمطر يقل في الأرض، ففي هذا الوقت يكون الفناء.
وكلما كان رسول الله »صلي الله عليه وسلم» يذكرها، كانت عيناه تفيضان بالدموع ويقول: كيف يكون حال من يولد في هذا الوقت؟! وذكر كذلك علامات أخري: ظهور نيران تشتعل في رُومِيةَ، تَهُبُّ بين الناس بين الماء والأرض، ويكون دخان شديد يبلغ ارتفاعه أن يلفح وجوه الكفار ويكوي صدورهم.
وذكر هلاك أمم في الحجاز في المشرق، وأمم أخري أسفل الجزيرة، وظهور قنطرة قصر المجاز. وذكر علامات تتحقق بالقوة. وحين تؤخذ القسطنطينية عنوة من الروم، وحين ترون المسلمين قادرين أعظم القدرة علي الغلبة، يفتحون رُومِيَة، ويغلبون البرتغال، حينئذٍ يكثر عندهم الأموال من الأحجار الكريمة والسِّكَك، حتي يَقسِموها بشعار القاسم.
وحين تصير الدنيا إلي هذا الكمال، فهذا علامة علي أن النقص يأتي بعد كمالها، وتصير القلوب غير مطمئنة، فتُفلِت الدنيا من بين أيديهم. وقبل هذا، فاعلموا أن الله سيأمر بأن يخرج في الغرب طاغوت يُخضِعه، لا يكون في وجهه صفة إنسان، يسوم الناس سوء العذاب. فبين يديه يَهلَكون وتهلَك كل أموالهم معهم. وبعده يقوم مَلِك آخر جليل القدر، يُدعي يعقوب، تكثر محنه ومصائبه، فيموتون من الحاجة. فهذا الأمر سوف ترونه في الغرب، مع كَدَر وفتنة كبيرين. وسوف يصيب الناس نقص كبير.
وسوف تبقي الأندلس يتيمة بغير سلطان ولا من يُطاع فيها. وسوف تكون بعض الوقت في هذه الشدة سوداء حائرة ومظلمة، حتي يبلغ خبرها إلي رُومِيةَ. ومن هنالك يخرج مَلِك لا عيب فيه، مَلِك ابن مَلِك. يا سادة. يركب البحر في جيوش عظيمة، يقومون بدعوته إلي غَرناطة، الناصعة والسَّنِيَّة، حيث يقولون له: أنت مَلِكنا الجبار، وحاكمنا في كل حال. فيطْلُع بجيوشه وسراياه إلي قصور الحمراء. وهنالك يمكث بضعة أيام مستخفيًا. ومن هنالك يفتح قلاعًا كثيرة وكبيرة جدًّا، وأقاليم وأمصارًا تباعًا. وسوف تَرَون شدة وصولجان وتاج المسلمين. فيملكون دون ريب إشبيلية، ويستولون علي تسعين مدينة من الكفار، وبأيدي هذا الـمَلِك يُصلِحون كل مدن الغرب، فتكون مُغتبِطة به.
ففي الخَرجة الأولي، يأخذ مدينة أنتَقيرة، فيتسلق أسوارها، ويهدمها عنوة. ويدوم هذا الفتح سبعة أعوام. فتُحمَل الأموال من أرض الكفار. فتبارك الله ربنا، الذي يحكم هذا الحكم، فيذيق الكفار من مرارة هذه الكئوس. فعندما تحين ساعة هذا القيام، ويأتي أمر الله يوجه هذا السيد وجهته إلي شَقوبِيَّة. وفي شهر رمضان يدخلها علي كل حال. وهكذا سوف يوالي فتحه الذي سوف يكون متواصلاً، فيأخذ قلاع النصاري في حَذاقَة. وبعد هذا تقع خلافات بين الولاة وبين الـمَلِك. ويخرج ذو العَرف مَلِك النصاري، فيخرج علي كل الأمة فيكسِرهم، ويسوقهم إلي أن يجعلهم يمتنعون عليه في فاس.
وحين يجيئون للجواز من جبل طارق، يُعوِّقهم البحر، فتحاصرهم من كل جهة جيوش عظيمة من نصاري الـمَلِك ذي العَرف، فيهرُب أهل السَّعة فارِّين في السفن. والذين لا يستطيعون الجواز، يموت أكثرهم ذبحًا بالسكين، وآخرون غرقًا في البحر.
عندئذٍ يبعث الله مَلَكًا طويل القامة مستخفيًا، أعلي قامة من الجبال، يضرب بيده في البحر فيشقه، فيخرج منه قنطرة مذكورة في هذا التاريخ. فيهرُب ثلثا الأمة عائمين، ويبقي الثلث الثالث يُذبَحون ويَغرَقون بالماء، فيواصل النصاري فتحهم. وسرعان ما يدخلون فاس عنوة. فإذا دخلوا المدينة بحثوا عن مَلِكِها، فيجدونه مستخفيًا في الجامع [القرويين]، وفي يده سيف إدريس وقد صار مسلمًا. فإذا رأوه أسلم كل النصاري معه. ثم يصعد إلي البيت بمكة فيصلي فيه، إلي أن يري بئر زمزم وصفاء مائها.
ثم يولد المسيح الدجال العجوز الملعون ويخرج. ففي هذا الوقت يرسل الله قحطًا شديدًا يدوم سبع سنين. ففيها لن يظهر قمح ولا حَبٌّ ولا ماء، إن لم يكن هو ما يُظهِره هذا العجوز الملعون. فيزرع القمح في الظُّهر، ويحصده في العشية. ويغرس الأشجار والنباتات باليد اليمني، ويَجني الثمار باليسري. ويأمر الميت بأن يقوم فيقوم، فيدَّعي بأنه محيي الموتي، والرب الذي لا كُفُؤ له.
فمن اتبعه وأطاعه، فلن يُحصِّل أي خير، ويموت كافرًا ويُدفَن في النيران. فيمشي ويَتبَع الناس، فيُظهِر لهم أقواتًا كثيرة ومتنوعة وعيون الماء. وفي جبهته يكون مكتوبًا: طغي وفجر. وتكون صورة وجهه مُفزِعة، لأنه لن يكون له إلا عين واحدة، وفي رأسه خيط مليء بالطعام، مُدوَّر كاستدارة القمر. وستَرَون الناس وراءه في عدد كبير، فلا يسعهم مكان مع أولادهم وعائلاتهم. فيصعد علي دابته ذات الخِلقة الـمُفزِعة، ويمد الخطوة مثلما يُرسِل النظرة. وفي سبعة أيام، يدور العالم كله.
وسيكون عنده واديان مذكوران: واحد من ماء، والآخر من نار. فإذا شرب الذين يجيئون معه الماء، وجدوه حاميًا كالنار. فيجيء بكل عشائر اليهود، فينطفئ بها نور الصباح السَّنِي. عندئذٍ يبعث الله، سبحانه، عيسي المسيح ابن مريم [عليه السلام] فيخرجه إلي الـمُنازَلة في بلاد الحجاز. فإذا رآه، ذاب أمامه مثل جبان مخنث. فيقول الحجر والأمكنة: قد دخل عدو الله تحتنا. ويبقي المسيح الهادي.
فبفضله، سيمشي الذئب مع النعجة في محبة. وسيلعب الصبيان بالحيات والأفاعي السامة ولا تضرهم. فيأخذ (الناس) بشرع نبينا [عليه السلام] ويَحكُم بالعدل فيه. ويُقدِّم للخُطبة وللصلاة شريفًا من نسب محمد»صلي الله عليه وسلم» علي الدوام. وفي زمنه، يُسلِم لله كل ُّكافر.
فإذا علم هذا أهل الأرض، طلع المسيح إلي جبلِ طَهور، فيهدم سد يأجوج ومأجوج، وهم الأقزام الذين يَفوت عددهم رمال البحر، وأبدانهم ووجوههم وسماتهم مختلفة، فبعض أحجامهم كريشة الكتابة، وأخري أعلي من الجبال، وآخرون لهم آذان كبيرة جدًّا، فيجلسون عليها، وبقسم منها يُغطّون الأرض. وهذا سيبقي ثمانين سنة.
المصادر والمراجع
- ابن تيمية (تقي الدين) ، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني، ت 728هـ). مقدمة في أصول التفسير. تحقيق عدنان محمد زرزور. الكويت: دار القرآن الكريم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1972.
- ابن الجوزي (جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري، ت 597هـ). القُصَّاص والمَذِّكرين. تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول. بيروت: دار الكتب العلمية، 1986.
- ابن الجوزي (جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري، ت 597هـ). كتاب الموضوعات من الأحاديث المرفوعات. تحقيق نور الدين بن شكري بويا جيلار. الرياض: أضواء السلف، 1997.
- ابن الحاج السُّلَمِي، جعفر. الأسطورة المغربية: دراسة في المفهوم والجنس. الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية. تطوان: مطبعة الخليج العربي، 2003.
- ابن حجر العسقلاني (شهاب الدين، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر بن أحمد العسقلاني، ت 852هـ). تهذيب التهذيب. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1991.
- ابن عدي (أبو أحمد، عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك بن القطان الجرجاني، ت 365هـ). الكامل في ضعفاء الرجال. تحقيق وتعليق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، وعبد الفتاح أبو سنة. بيروت: دار الكتب العلمية، 1997.
- ابن قتيبة (أبو محمد، عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت 276هـ). تأويل مختلف الحديث. تحقيق محمد محيي الدين الأصفر. ط. 2. بيروت: المكتب الإسلامي، الدوحة: دار الإشراق، 1999.
- ابن منظور (جمال الدين، أبو الفضل، محمد بن مكرم بن علي بن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي، ت 711هـ). لسان العرب. بيروت: دار الفكر، د.ت.
- أبو البقاء (أبو البقاء، أيوب بن موسي الحسيني القريميالكفوي الحنفي، ت 1094هـ).الكُلِّيَّات:معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. تحقيق عدنان درويش، ومحمد المصري. بيروت: مؤسسة الرسالة، 2011.
- الجابري، محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل، ونكبة ابن رشد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008.
- الخليل بن أحمد(أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري الأزدي اليحمدي، ت 170هـ). كتاب العين: مرتبًا علي حروف المعجم. تحقيق عبد الحميد هنداوي. بيروت: دار الكتب العلمية، 2003.
- الروبي، ألفت كمال. الموقف من القَصِّ في تراثنا النقدي. [القاهرة]: مركز البحوث العربية، [1991].
- زين الدين الرازي (زين الدين، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي، ت 666هـ).مختار الصِّحاح. تحقيق يوسف الشيخ محمد. صيدا: المكتبة العصرية، 1995.
- شُكر، مُلحِم. الزندقة في دار الإسلام، في القرن الثاني للهجرة.بيروت: منشورات الجمل، 2016.
- شمس الدين الذهبي (شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن شهاب الدين أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، ت 748هـ). سير أعلام النبلاء. تحقيق شعيب الأرناؤوط، وآخرين. ط. 11. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1998.
- الفيروزآبادي (مجد الدين، أبو طاهر، محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي، ت 817هـ). القاموس المحيط.بيروت: دار الكتب العلمية، 1995.
- القرطبي (شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي القرطبي، ت 671هـ). التَّذكِرة في أحوال الموتي وأمور الآخرة. تحقيق فوّاز أحمد زمرلي. مج. 2. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997.
- مِشبال، محمد. بلاغة الخطاب الديني. معالم نقدية. الرباط: منشورات ضفاف، 2014.
- الملا علي القاري (نور الدين، أبو الحسن، علي بن سلطان محمد الملا الهروي القاري، ت 1014هـ). الأسرار المرفوعة، في الأخبار الموضوعة، المعروف بالموضوعات الكبري. تحقيق محمد بن لطفي الصباغ. بيروت: المكتب الإسلامي، 1986.
- المناوي(زيد الدين، محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي المناوي القاهري، ت 1031هـ). التوقيف علي مُهِمّات التعاريف. تحقيق محمد رضوان الداية. بيروت: دار الفكر المعاصر، دار الفكر، 2002.
- النَّجم، وديعة طه. القَصَص والقُصَّاص في الأدب الإسلامي.دراسات في التراث العربي. الكويت: وزارة الإعلام، 1972.
- نُعَيم بن حماد (أبو عبد الله، نُعَيم بن حماد بن معاوية بن الحارث بن همام بن سلمة بن مالك الخزاعي المروزي الفرضي الأعور، ت 228هـ). الفتن. تحقيق أبي عبد الله أيمن محمد محمد عرفة. القاهرة: المكتبة التوفيقية، [--19].
- Eliade, Mircea. Aspects du mythe. »ollection idées 32. Paris Gallimard, 1963.
د. جعفر ابن الحاج السلمي
* منقول لكل فائدة عن اخبارالادب
هذا النوع من الأساطير متشابك للغاية، بعضه منسوب إلي الرسول (صلي الله عليه وسلم) والآخر إلي السلف الصالح، وجاء بشكل أساسي ليحل محل أساطير الجاهلية المقدسة التي أصبحت »نسيا منسيا».
تشكلت تلك الأساطير بمساعدة الثقافة الدينية الإسلامية التي بدأت شفوية وقامت علي الرواية الفردية للنصوص المقدسة.
هنا مدخل إلي هذا العالم الواسع الرحب البكر رغم قدمه، والذي يكشف لنا عن جوانبه المختلفة د. جعفر ابن الحاج السُّلَمي، الأستاذ بجامعة عبد المالك السعدي في تطوان بالمغرب، وتصدر هذه الدراسة عن مكتبة الإسكندرية.
تشكل الأسطورة العربية من حيث هي جنس أدبي غني بالغ الغني، مخزنًا كبيرًا لأنواع أدبية كثيرة لا يُهتَم بها من حيث هي سرد أدبي، وخيال إنساني رمزي معبر ودال جدًّا في العالم العربي إلا قليلاً، لأجل ما تعرضت له طويلاً من إهمال وإخمال.إن هذه الأنواع المختلفة، كالأسطورة التكوينية، والأسطورة العجائبية الغرائبية، والأسطورة الكرامية، تشكل المظهر الأكثر بروزًا للأساطير العربية.بيد أن في السرد العربي أنواعًا أسطورية أخري لا تقل من حيث شرعيتها الأدبية عن هذه الأنواع التي ذكرنا، وسبق لنا أن تعرضنا لها بالدراسة في أبحاثنا وكتبنا. ومع هذا، فهي مهملة تمامًا من حيث دراسة أدبيتها، علي الرغم من إنسانيتها وكونيتها وخيالها المجنح، وإمتاعها اللذيذ أحيانًا، وإرعابها أحيانًا أخري.
ومن أبرز هذه الأنواع الأسطورية المهملة، الأساطير الأخروية، أي الأساطير التي تجعل مميزها الأساسي التنبؤ بما سوف يقع في »آخر الزمان»، أو في »الدار الآخرة»، بتعبير المسلمين، أو ما يسميه الغربيون بالإسكاطولوجية. إن مشكلة »الأساطير الأخروية» تكمن في كونها خطابات عاشت دائمًا بين فكي الرحي، فأضحت غير مقبولة تمامًا أو غير ذات مصداقية دينية كبيرة علي العموم عند علماء الدين المسلمين السنيين، وغير معترف لها بصفة الأدبية عند نقاد الأدب وأصحاب نظريته، بالنظر إلي التبعية العامة للسؤال الأدبي العربي في العصر الوسيط للسؤال الثقافي، وتبعية السؤال الثقافي للسؤال السياسي الديني، حتي صارت في واقع عالم الأدب والنقد نسيًا منسيًّا. إن هذا الإهمال غير المتعمد للأساطير الأخروية يجعل من واجب الباحث في الأساطير من حيث أدبيتها الاعتناء بإثبات أدبية الأساطير الأخروية، وأنها تستحق الدراسة من منظور نظرية الأدب علي الأعم، ونظرية السرد علي الأخص، وتجنيس الأساطير الأخروية ضمن جنس الأسطورة العربية، وإلحاقها بها باعتبارها فرعًا من أصل، ونوعًا من أنواع جنس أدبي معين وموصوف، حتي لا تبقي فرعًا منسيًّا مهملاً ومُزْوَرًّا عنه، والكشف عن مكونات هذا النوع الأسطوري وسماته وبلاغته وإشكالاته.
ولا ندعي في هذا المقام أننا سوف نفي في بحثنا هذا بكل ما نتطلع إليه بخصوص أدبية الأسطورة الأخروية، ونطرح نظرية نقدية منسجمة تمام الانسجام ومتكاملة. وإنما حسبنا أن نطرح إشكال إهمال الأسطورة الأخروية، وأن ننبه أولاً علي وجود هذا الضرب من الأساطير، وغناه وأدبيته، وموقف التراث السني منه، عسي أن يعمل الباحثون العرب وغيرهم علي تطوير نظرية أو نظريات نقدية تخص هذا النوع الأدبي. وسوف يعتمد بحثنا هذا علي مدونات الأحاديث الموضوعة في القرون الهجرية الأولي التي جمعها المحدِّثون السنيون، باعتبارها دواوين للأدب الأسطوري الأخروي العربي، وأولي هذه المدونات كتاب »الفتن» لنُعَيم بن حماد، (ت 229هـ/843م-844م) لغزارة مادته وأقدميتها، وإعلان المحدِّثين القدامي بأن أكثر ما يرويه »باطل»، متنكبين المدونات غير السنية، لأن لها مجالها الخاص الذي يستحق دراسات مفردة.
1. الأسطورة والأسطورة الأخروية: تحديد المفهوم
لا شك في أن مفهوم الأسطورة مفهوم لا يخلو من التباس، بالنظر إلي كون أكثر الباحثين في الأساطير يجعلون النموذج اليوناني للأساطير هو أنموذج الأسطورة، فيصعب عليهم تقبل خصوصية الأسطورة العربية، بل قد لا يخطر لهم علي بال وجود أنواع من الأساطير في التراث العربي غنية ودالة جدًّا، كالأساطير العجائبية والأساطير الكرامية.
إننا نقصد بالأساطير كل حكي أو سرد مقدس تضمن أحداثًا خارقة للعادة، جرت في الزمن الأول المقدس، (زمن البدايات الخرافي) بتعبير مرسيا إلياد، أو سوف تجري لا محالة في الزمن المقدس الأخير، قبيل قيام الساعة. إن هذا النوع من الأساطير هو ما يهمنا في هذا المقام. وهو غزير جدًّا في التراث العربي، في صورة »أحاديث» منسوبة إلي الرسول »صلي الله عليه وسلم»منبع القداسة، أو صحابته، أو حتي عموم الجيل المقدس، جيل »السلف الصالح».
لا نجد في التراث العربي مصطلحًا جامعًا لما نسميه نحن بـ»الأساطيرالأخروية». وإنما تُستَعمل فيه مفاهيم »الفتن» و»الملاحم» و»أشراط الساعة» وما إلي هذا. إن هذا النوع من الأساطير، يقابل من حيث المبدأ، ما يسميه الغربيون بالإسكاطولوجية.
يُعرِّف معجم لاروس الفرنسي »الإسكاطولوجية» بقوله:»مجموع المذاهب والاعتقادات المتعلقة بمصير الإنسان الأخير بعد موته (إسكاطولوجية فردية)، ومصير الكون بعد فنائه (إسكاطولوجية كونية)».
إن تركيبة هذا المصطلح مُكوَّنة من كلمتين يونانيتين، »إسكاطو»، وتعني الأخير، و»لوجي»، وتعني العلم، أو المعرفة. فهي إذن، من حيث اللغة اليونانية، معرفة الأخير، أو علم الأخرويات، إن شئنا. لكن الفهم البسيط اللغوي، وإن كان هامًّا، فهو لا يكفي لضبط مفهوم الإسكاطولوجية. يُعرِّف هذا المصطلح معجم مِدياديكو بقوله: »مجموع المذاهب والاعتقادات المتعلقة بنهايات الإنسان والكون الأخيرة».
وفي موسوعة ويكيبيديا، نجد تعريفًا أوسع من السابق، فهو: »الخطاب المتعلق بنهاية الزمان. وهو يرجع إلي علم اللاهوت والفلسفة في صلتهما بنهاية الزمان، وآخر حوادث العالم، ومصيرالجنس البشري الأخير. وتسمي عادةً بـ»نهاية الزمان». وفي أديان كثيرة، فإن »نهاية الزمان» هذه هي حادث مستقبلي مُتنبَّأ به في النصوص المقدسة أو الفلكلور. ومن منظور أوسع، فإن الإسكاطولوجية قد تحتضن مفاهيم متعلقة بها، مثل المسيح، والأزمان المسيحانية، والآخرة، والروح.
وهي في معجم مريم وبستير الإنجليزي:1. فرع من علم اللاهوت، متعلق بالحوادث الأخيرة في تاريخ العالم أو الإنسانية. 2. الاعتقاد المتعلق بالموت، وبنهاية العالم، والمصير الأخير للإنسانية. وفي معجم اللغة الإسبانية: »منظومة النظريات والاعتقادات والمذاهب المتعلقة بالحياة في الآخرة».
إن الأسطورة الأخروية في نظرنا، هي كل أسطورة تتنبأ بالمصير الحتمي المقدور للإنسان والكون، كله أو بعضه، في آخر الزمان، أو في الدار الآخرة. إن كتاب الفتن، لنُعَيم بن حماد، أنموذج بليغ جدًّا لدواوين الأساطير الأخروية العربية، وإن تضمن نصوصًا ليست أسطورية، حيث ضم بين دفتيه 2004 نصوص مروية مسندة بأسانيد ضعيفة جدًّا أو موضوعة، باصطلاح المحدِّثين. وأكثر هذه النصوص قصيرة النَّفَس إجمالاً، ذات الطابع الأسطوري، هي نصوص أسطورية أخروية، بالمعني الدقيق للكلمة، يدفعها المحدِّثون من علماء الدين، ولا يرونها نصوصًا دينية مقدسة، علي العموم، ويتحاشي دراستها نقاد الأدب كذلك، مخافة اختراق التحريمات الدينية. فكان ذلك سببًا كبيرًا في إهمال اكتشاف أدبيتها البارزة للعيان.
2. بداية الأسطورة الأخروية في التراث العربي
كان إعدام الإسلام للأساطير الجاهلية المقدسة حتي صار أكثرها نسيًا منسيًّا، مدعاةً لأن تظهر أساطير أخري حلت محلها، لأن طبيعة الأشياء أنها لا تقبل الفراغ. وبدلاً من أن تُصادِم الأسطورة الإسلامية، أي الناشئة في سياق الحضارة الإسلامية الناشئة، هذه الثقافة الدينية الإسلامية، عملت علي احتوائها، فتغلغلت فيها، بل عملت علي تمثيلها، وتقمص أشكالها ومضامينها، بالعمل علي تزويرها، أو »تزييفها» باصطلاح المحدِّثين، أي بإنشاء نصوص أسطورية تجعل من الأحاديث النبوية أنموذجها الأعلي، تحاكيها شكلاً ومضمونًا، ويساعدها في ذلك طبيعة الثقافة الدينية الإسلامية في بدئها، من حيث هي ثقافة شفوية قائمة علي الرواية الفردية للنصوص المقدسة، تتيح من حيث المبدأ مجالاً رحبًا للُّبس والوهم والافتعال، لولا العلماء الجهابذة الذين كانوا يتصدون في أحيان كثيرة لظاهرة تزييف النصوص الدينية.وقد قام بإبداع هذه الأساطير طائفتان من الناس:
1. طائفة مثقفة عالمة، كانت تشكل في زمنها جزءًا من النخبة الإسلامية، ولها موقف أيديولوجي رافض مطلقًا للثقافة الإسلامية، وما فيها من »سنة» و»حديث». لكنها لا تَقْدِر دائمًا علي التصريح برفض الثقافة الإسلامية، فتعمل علي الاستهزاء بها وتمييعها حتي يختلط الحابل فيها بالنابل، بتزييف النصوص المقدسة، أي بإنشاء أحاديث مشتبهة أشد الاشتباه بالأحاديث الأصلية. وهذه الفئة هي الفئة المعروفة بـ»الزنادقة».
2. وفئة أخري، هي فئة القُصَّاص، أو الوعاظ والمذَكِّرين. ولم يكن هؤلاء من ذوي الموقف الأيديولوجي المعادي. بل كانوا فئة عامية أو أقرب إلي العامية، ذات موقف موالٍ للثقافة الإسلامية، تعيش من السرد الأسطوري، وتعمل علي تزييف النصوص المقدسة، إما عن حسن نية، وإما طلبًا للمعاش من العامة. وقد بلغ أمر انحطاطها في طلب العيش بترويج السرد الأسطوري وغير الأسطوري لدي العامة، أن وصفها ابن الجوزي بـ »الشحاذين». يقول عنها: »الشحاذون: فمنهم قُصَّاص، ومنهم غير قُصَّاص. ومن هؤلاء من يضع، وأغلبهم يحفظ الموضوع»
ويعدد ابن قتيبة (ت 276هـ/ 889-890م) مفكر الانقلاب السني في القرن الثالث، والأقرب عهدًا إلي نُعَيم بن حماد (ت 229هـ/ 843-844م) صاحب أقدم مدونة متخصصة في الأساطير الأخروية، أو تكاد، وهو »كتاب الفتن»، أسباب وضع الحديث، ويحدد الجماعات المسئولة عن إنتاج وترويج هذه الظاهرة الدينية الأدبية، فيقول:
»منها الزنادقة واحتيالهم للإسلام، وتهجينه بَدسِّ الأحاديث الـمُستشنَعة والمستحيلة... منهم ابن أبي العوجاء الزنديق، وصالح بن عبد القدوس الدَّهرِيّ. والوجه الثاني: القُصَّاص علي قديم الأيام، فإنهم يُميلون وجوه العوامِّ إليهم، ويستَدِرّون ما عندهم بالمناكير والغريب، والأكاذيب من الأحاديث. ومن شأن العوامِّ القعود عند القاصِّ، ما كان حديثه عجيبًا، خارجًا عن فِطَرِ العقول، أو كان رقيقًا يُحزِنُ القلوب، ويستَغزِرُ العيون. فإذا ذَكَرَ الجنة، قال: فيها الحَوراءُ من مسك أو زعفران، وعجيزتها ميل في ميل... وكلما كان من هذا أكثر، كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع».
ومهما يكن من شأن الجماعة التي تصدت لإنشاء الأساطيرِ الأخروية، أساطيرِ الفتن والملاحم وأشراط الساعة، فإن تراثهما، هو ولا شك، تراث مشترك، لا سبيل في نظرنا إلي تمييز بعضه عن بعض، لأجل افتقارنا إلي المعلومات الضرورية الأساسية في هذا الشأن. والجامع بينهما، هو ولا شك، السمة المهيمنة في الأسطورة علي العموم، أي »الباطل وشبه الباطل»، الـمُخرَجان في صورة »الحق» الديني المقدس المحض، الذي يجعل »الواقف»، أو المتلقي السني العالِم، يدفع هذا التراث دفعًا شديدًا، ويعده من المنكر العقدي، أو »أحاديث منكرة»، ثم تزييف الأحاديث تزييفًا يراعي الأصل مراعاةً تزيد أو تنقص، وإن كانت لا تخفي عن »النقاد» من المحدِّثين من أهل السنة، قبل أن تخفي عن »النقاد» من أهل الأدب. يقول ابن قتيبة (ت 276هـ/889-890م):
»والقاصُّ يروي للعوام الأحاديث الـمُنكَرَة، ويذكر لهم ما لو شَمَّ ريح العلم ما ذكره، فخرج العوامُّ من عنده يتدارسون الباطل. فإذا أنكر عليهم عالم، قالوا: قد سمعنا هذا بـ »أخبَرَنا»، و»حدَّثَنا». فكم قد أفسد القُصَّاص من الخَلق بالأحاديث الموضوعة».
إن هذا »الباطل» العقدي، لا ينجح في تزييف النصوص الدينية الـمُتنبِّئة بالمستقبل، إلا إذا وَظَّف سمة أساسية، هي سمة »الإغراب» علي الواقف العامي، وهو بالضرورة غير مُستبِحر في علوم السنة، بما عنده من الخيال الواسع. فهم، حسب ابن الجوزي، (ت 597هـ/1200-1201م):
»قوم شقَّ عليهم الحفظ، فضربوا نَقْدَ الوقت. وربما رأوا أن المحفوظ معروف، فأتوا بما يُغرِب، مما يُحصِّل مقصودهم. وهؤلاء قسمان: أحدهما القُصَّاص. ومعظم البلاء منهم يجري، لأنهم يريدون أحاديث تُثقِّف وتُرقِّق، والصِّحاح يقل فيها هذا».
وهذا الخيال الواسع، يفارق الواقع وإمكانياته، ويفارق العقل وإمكانيات تصوره للمستقبل، فيصل إلي درجة »المحال» الشرعي والعقلي، الذي افتن فيه القُصَّاص افتنانًا، فَبَزّوا فيه »الزنادقة». يقول ابن الجوزي:
»وما أكثر ما يُعرَضُ عليَّ أحاديثُ في مجلس الوعظ، وقد ذكرها قُصَّاص الزمان، فأردُّها عليهم، وأُبيِّن أنها محال».
3. الموقف السُّني من مُدوَّنات الأساطير الأخروية الأولي: كتاب الفتن لنُعَيم بن حماد (ت 229هـ/ 843-844م) نموذجًا
لم يكن نُعَيم بن حماد معدودًا من »الزنادقة»علي الإطلاق، فلم يهاجمه مؤرخوه قط من هذا الباب، ولا كان من فئة »القُصَّاص» و»الشحاذين»، بتعبير ابن الجوزي. بل لم يخلُ أمره من توثيق له، يرفعه إلي درجة ثقات المحدِّثين، بالرغم من وَهاءِ رواياته. فقد روي حماد حديثًا في فتنة أهل الرأي، أقلق المحدِّثين، فطفِقوا يلتمسون له المخارج والمعاذير، دون أن يحيلوه علي فئة الضعفاء أو المتروكين، أو الزنادقة أو القُصَّاص، فيكونوا قد اتهموه في علمه أو دينه، أو أسقطوا مكانته:
»قال محمد بن علي بن حمزة: سألت يحيي بن مَعين عن هذا، فقال: ليس له أصل، ونُعَيم ثقة. قلت: كيف يُحدِّث ثقةٌ بباطل؟ قال: شُبِّهَ له».
لقد كان نُعَيم في أول أمره معتزليًّا، أي رجلاً عقلانيًّا خصيمًا مبدئيًّا لأهل السنة، كما عند الذهبي(ت 748هـ/1347-1348م) ثم انتقل إلي مذهب أهل السنة. ولا ندري هل كان ذلك في شبابه، أم في كهولته، ولا لماذا، ولا كيف انتقل. ويظهر أن هذا الانتقال من مذهب عقلاني إلي مذهب نقلاني، أثر عليه تأثيرًا كبيرًا، فجعله لا يتقن »صناعة الحديث»، فأثار علي نفسه عاصفة نقدية لكثرة ما كان عنده من الروايات الموضوعة »الـمُنكَرة». لقد نقل الذهبي أنه: »كان يُحدِّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يُتابَع عليها»،وأن ابن معين »سئل عنه، فقال: ليس في الحديث بشيء. ولكنه صاحب سنة».
ذلك أن تسنُّنَه بعد الاعتزال، في وقت كان فيه أهل السنة أحوج ما يكونون إلي من يعزز صفوفهم، ولو كان كَلاًّ عليهم، والحال أن المعتزلة قد بلغوا الغاية في الجبروت السياسي، حتي تسببوا في تعذيب علماء أهل السنة كابن حنبل (ت 241هـ/855-856م) وإعدامهم، والتضييق عليهم التضييق الشديد، كان أكبر شفيع له من تهمة »الزنديقية» أو »القاصِّيَّة»، بالرغم مما جمع كتابه في »الفتن» من »المناكير». وكان موته في السجن، في محنة أهل السنة الكبري، جُنَّةً له من كل تهمة لا تليق بمن عرَّض نفسه للاستشهاد من أجل مذهب أهل السنة. فكان هذا الاستشهاد السياسي المذهبي، مدعاةً للتغافل عن أمره. فهو عند ابن حجر (ت 852هـ/ 1484-1449م) ناقلاً من مصادره السنية:
»قال مسلمة بن قاسم: كان صدوقًا، وهو كثير الخطأ. وله أحاديث مُنكَرة في الملاحم انفرد بها».
وهو عند الذهبي: »نعيم من أكبر أوعية العلم، لكنه لا تركن النفس إلي رواياته».
يوازي هذا الموقف المجامل بعض المجاملة لنُعَيم، الـمُعَدِّلَ له، باصطلاح المحدِّثين، موقف متشدد في تجريحه، يتراوح بين اتهامه بكثرة الخطأ، فتكون رواياته في »الفتن» و»مجازفاته» من الخطأ الكثير، البريء غير الـمُتعمَّد، وبين اتهامه بالوضع الصريح للحديث، دون ان يمس هذا عقيدته السنية في شيء، أو يخدشها، أو ينال من مكانته بين أهل السنة، مرورًا بمواقف متوسطة فيه:
فمن المواقف الهادئة منه، ما ورد عند الذهبي، من أنه »قال أبو زرعة الدمشقي: يصل أحاديثَ يوقفها الناس»، و»قال ابن يونس: وروي مناكير عن الثقات». و»ذمه يحيي، وقال: يروي عن غير الثقات».
ومن المواقف المتوسطة، قول شمس الدين الذهبي فيه: »قلت: لا يجوز لأحد أن يحتج به. وقد صنف (كتاب الفتن)، فأتي فيه بعجائب ومناكير».
ومن المواقف المتشددة، ما ورد عند الذهبي، من أنه: »قال ابن حماد:... كان يضع الحديث في تقوية السنة».
إن التباس أمر نُعَيم، إذ كان من »أوعية العلم»، و»صاحب سنة»، داعيًا إلي نصرتها، متشددًا في ذلك، بل شهيدًا من شهدائها من جهة، وكان في الوقت عينه »يصل الأحاديث الموقوفة علي الصحابة»، و»يروي المناكير عن الثقات»، و»يروي عن غير الثقات»، جعل المحدِّثين يقفون منه بسبب رواياته موقفًا وسطًا، فهم يقبلون الرجل في ذاته، ولا يقبلون رواياته في »الفتن» وغيرها. وهذا ما عبَّر عنه بعض المحدِّثين بقوله: »سمعت أبا عروبة يقول: كان نُعَيم بن حماد مُظلِم الأمر».
لقد أُظلِم أمره إذن لأنه كان سنيًّا بذل نفسه لمذهب أهل السنة واسترخصها في نكبة أهل السنة الكبري في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وفي المقابل كان يتصرف تصرف »القُصَّاص» و»الزنادقة» بوضع الحديث، أو تصرف »الضعفاء» و»المتروكين»، بالرواية عن غير الثقات، أو رواية المناكير عن الثقات. إن هذا يجعلنا نتساءل عن هُوِيَّة المؤلف لكتاب »الفتن»:فهل وضعه نُعَيم جملةً وتفصيلاً بأحاديثه الأربعة بعد الألفين، وهو عدد هائل ضخم، ما بين قصير وطويل طولاً نسبيًّا، أم نقله جملةً وتفصيلاً عن الوضَّاعين من زنادقة وقُصَّاص، أم مزج بين الأمرين، ففيه ما هو من خياله، وفيه ما هو من خيال غيره، وفيه كذلك ما هو مقبول علي عِلاته أحيانًا عند المحدِّثين المعترف بهم؟ لعل هذا هو الراجح، وأن كتابه، كتاب »الفتن» هذا، هو أقرب إلي مدونة جماعية.
وعلي كل حال، فقد أعرض أهل السنة عن كتاب »الفتن» باعتباره كتابًا في السنن أو الأحاديث الموثوقة علي العموم، واطَّرحوه اطِّراحًا. قال الذهبي: »لا يجوز لأحد أن يحتج به. وقد صَنَّف كتاب الفتن، فأتي فيه بعجائب ومناكير».
بل تجاوز الأمر خصوص كتاب »الفتن» إلي عموم الجنس الأدبي الديني الروائي السردي الذي يمثله، أي جنس »الملاحم»، من باب تسمية الكل بالجزء، أو ما يلزم منه، وجنسين آخرين سرديين قريبين منه، يتضمنان هما أيضًا أساطير من أنواع أخري، أغلبها الأساطير التكوينية والعجائبية. فهذا ابن تيمية (ت 728هـ/1327م) يقول: »ومعلوم أن المنقول في التفسير، أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم. ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي. ويُروي: »ليس لها أصل»، أي إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل».
وقبله فسر الخطيب البغدادي (ت 463هـ/ 1070-1071م) قول الإمام أحمد، بقوله:»قول الـمَيموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير. قال الخطيب في (جامعه): وهذا محمول علي كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة، غير مُعتمَد عليها، لعدم عدالة ناقليها، وزيادات القُصَّاص فيها.فأما كتب الملاحم، فجميعها بهذه الصفة. وليس يصح في ذكر الملاحم الـمُرتقَبة، والفتن الـمُنتظَرة، غير أحاديث يسيرة».
فهل كان أحمد بن حنبل يقصد كتابًا في الفتن والملاحم غير كتاب نُعَيم بن حماد، والحال أنه أقدم ما دَوَّنه أهل السنة في هذا الجنس من الكتابة، بغثِّه وسمينه، والحال أيضًا أنه معاصره وقسيمه في محنته؟!
لقد سبق نُعَيم إلي الكتابة في موضوع الفتن والملاحم، ولا شك، قبل أن يُهرَع الإمام البخاري (256هـ/ 869-870م) ثم الإمام مسلم (261هـ/ 874-875م) إليالكتابة فيه، من باب تجريد الحديث الصحيح وإفراده بالتدوين، وفصل المعرفة الدينية المقدسة عن تراث القُصَّاص والزنادقة، ثم الضعفاء والمتروكين الذين عملوا علي تزييف النصوص الدينية المقدسة، وقبل أن تُدوَّن مقاييس توضيع الحديث، ولا سيما أحاديث الفتن والملاحم. وهذا ما سوف نرجع إليه.
4. أدبية الأساطير الأخروية، من منظور نظرية الأدب ونظرية السرد ليس عملنا هذا بالتأكيد أول نقد متني أو بنيوي تعرضت له الأساطير الأخروية. فقد انتبه القدماء إلي ضرورة تمييز الأحاديث الصحيحة عن الأحاديث الزائفة التي كثير منها أدب أسطوري، واستعملوا مفاهيم نقدية متنية يجدر بنا أن نستثمرها في تطوير نقد أسطوري عربي معاصر للأساطيرالأخروية. صحيح أن غاية المحدِّثين من نقدهم هذا كانت منبثقة من صميم الرؤية الدينية السنية، وهي رؤية أيديولوجية، ولكنهم بالتأكيد يقدمون لنا »مواد نقدية» تعيننا إذا وظفناها علي وصف الأساطير الأخروية وصفًا منبثقًا من نظرية الأدب، علي الأعم، ونظرية السرد علي الأخص.
أ. التزييف:
هذه الأساطير الأخروية تدخل في نطاق مفهوم »الزيوف»، أي الأحاديث الـُمفتعَلة افتعالاً، والتي أنشأها وضَّاعون معروفون أو مجهولون، وهو المفهوم الـمُخالِف لمفهوم »الأحاديث الصحيحة»، وما ينحاش إليها من أحاديث حسنة أو ضعيفة. وقد استعمل ابن الجوزي (ت 597هـ/ 1200-1201م) هذا الاصطلاح. يقول: »ولا يسع الناقدَ في دينه أن لا يُبيِّن الزيوف من غيرها». والناقد هنا هو المحدِّث عند ابن الجوزي.
إن تزييف الأحاديث الأخروية بنسبتها من حيث السند، إلي مصدر القداسة الثاني، أي النبوة المحمدية، أو »السلف الصالح»، أي الجيل المقدس من صحابة أو تابعين، وبالاجتهاد في إبداعها إبداعًا يحاكي النصوص المقدسة من حيث المتن، هو ما يجعلها تقوم بوظيفتها في تشكيل رؤية المسلم العامي للمستقبل، وتخصيب خياله، وتخويفه منه، بل إرعابه. وإذا كانت الأساطير مقدسة عند المؤمنين بها، فإن كونها »زيوفًا» يجعلها تفقد صفة القداسة، عند علماء الدين بالضرورة، وعند الباحثين في العلوم الإنسانية، فتصير »مردودة» بتعبير الفيروزآبادي،(ت 817هـ/ 1414-1415م) إذ يقول: »صارت مردودة لغش».
نضرب مثلاً لهذا بما جاء عند نُعَيم بن حماد قوله: »حدثنا عُبيد بن واقد القَيسي، عن محمد بن عيسي الهُذَلي، عن محمد بن الـمُنكَدِر، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله »صلي الله عليه وسلم»يقول: خلق الله تعالي ألف أمة، ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وأول شيء من هذه الأمم هلاكًا الجراد. فإذا هلكت، تتابع مثل النظام إذا قُطِع سلكه».
لقد اتخذ هذا النص كل مكونات وسمات النص الحديثي المقدس، فهو منسوب إلي النبي بسلسلة سند علي طريقة المحدِّثين، وفيه تنبؤ بالغيب والمستقبل، وما يكون في آخر الزمان، وفيه تنبؤ بحدث خارق أكبر، هو فناء العالم، وحدث خارق أصغر، هو فناء الجراد، هذه الحشرة المحقورة في شكلها. وكل هذا حتمي ومقدور، ولا مفر منه. وهذا الحدث الخارق الأصغر، أمارة علي بداية وقوع الحادث الخارق الأكبر، أي أمارات الساعة الكبري. إن التزييف هنا قد بلغ منتهاه، وجاز أن يشتبه الأمر علي المتلقي المسلم المؤمن السني العام، لولا تصريح المحدِّثين بكونه من »الزيوف»، أي نصًّا صيغ صياغة النصوص المقدسة الأصلية، وحاول أن يحاكيها في كل شيء.
ب.المـُحال:
يهيمن في هذه النصوص أو الأحاديث »الزيوف»، ما سماه ابن الجوزي بـ »المحال»، وجعله مقياسًا لفرزها عن الأحاديث الصحيحة. يقول: »إن الرسول »صلي الله عليه وسلم»قال: عليكم بسنتي. والمحال ليس من سنته».
وقد جاء في أقدم معجم عربي: »والمحال من الكلام: ما حُوِّل عن وجهه. وكلام مستحيل: محال».
إن المحال هو ما تضمن التناقضات من منظور عقلاني. إنه ما عبَّر عنه الكَفَوِي(ت 1094هـ/1683-1684م) بقوله: »ما اقتضي الفسادَ من كل وجه، كاجتماع الحركة والسكون في شيء واحد، في حالة واحدة...».
إن سمة المحال هذه، سمة مُهيمِنة في النص وهي تعادل سمة »الباطل» أو »شبه الباطل»، كما سماها ابن منظور، (ت 711هـ/ 1311-1312م) ودرسناها نحن. إن هذا »المحال»، هو ما يُعبَّر عنه أيضًا بالمجازفة. فحضور هذه »المجازفات» في النص الحديثي، مدعاة إلي اعتباره من الأحاديث »الزيوف»، بتعبير ابن الجوزي، وهو مجال عملنا، ومرآة الأساطير العربية الأخروية. فمقياس المجازفة عندابن القيم(ت 751هـ/ 1349م) مقياس مُعتمَد في التصحيح والتزييف. يقول: »هذه المجازفات، التي لا يقول بمثلها رسول الله »صلي الله عليه وسلم»».
إن أصل المجازفة هو »الحدس في البيع والشراء». أي عدم الضبط في الصفقة التجارية، وذلك بـ»بيع مجهول الكيل أو الوزن»، كما عند عبد الرحيم المناوي(ت 952هـ/ 1031-1032م).
إن عدم الضبط هذا هو »المجازفة، وهي الـمُساهَلة». إن المجازفة في هذه الحالة، تَساهُل كبير في الرواية، يدعو إلي الشك ثم الرد، مبني علي رواية »المحال»، أو ما لا يقبله العقل. ويكون ذلك»المحال»، أو المجازفة، إما داخل النص الأسطوري الواحد، أو بين نصين اثنين عند المقارنة.
إن هذا »المحال»، أي ما يحيله العقل ولا يقبله، أو »المجازفات»، يُعبَّر عنه كذلك بأنه الحديث الذي »يُكذِّبه النظر»، بتعبير ابن قتيبة، عند حديثه عن »قصة» عُوج بن عُناق، أو بتعبير علي القاري، الحديث الذي »تقوم الشواهد الصحيحة علي بطلانه: كحديث عُوج بن عُنُق الطويل، الذي قصد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء»، أي أسطورة عُوج بن عُناق، بتعبيرنا المعاصر. إن هذه الشواهد الصحيحة، أو النَّظَر، هي »شواهد» العقل القديم في مقاومة هيمنة الأسطورة، حتي وإن لم يفصل النقاد من المحدِّثين في كيفية »إبطال» العقل للأسطورة.
ت. التأريخ:
إن توظيف التأريخ، ليس سمة عامة في الأساطير الأخروية، بل هو قليل بعض الشيء. إن هذه السمة الموجودة في بعض الأحاديث، أمارة علي وضعها، ومدعاة إلي رفضها عند المحدِّثين جملةً وتفصيلاً. لقد سماها علي القاري بـ»أحاديث التواريخ الـمُستقبَلة»، وعنده أن »أحاديث هذا الباب، كلها كَذِب مفتري». فلنضرب المثل علي »أحاديث التواريخ الـمُستقبَلة»، بما في النص الآتي:
»حدثنا نُعَيم، قال: حدثنا رُشدين عن معاوية بن صالح، قال: حدثني بعض الـمَشيَخَة، أن رسول الله »صلي الله عليه وسلم»قال: إذا أتي علي أمتي خمس وعشرون ومائة سنة، كانت الملاحم، وكل ما يُذكر في آخر الزمان».
إن أساطير »التواريخ الـمُستقبَلة»، لا تتحدث في واقع أمرها أحيانًا عمَّا سوف يكون في آخر الزمان، بقدر ما تُؤرِّخ ما كان في بداية »آخر الزمان»، إذ إنها تتحدث في الواقع عن الماضي وما ظهر فيه من الفتن والملاحم، في صيغة تنبؤ بالمستقبل. وفي حالة هذا النص، تعكس هذه الأسطورة الأخروية المستقبلية، ولا شك، بداية انهيار دولة الأمويين.
وإذا لم تكن الأسطورة الأخروية، أو »الـمُستقبَلة» مُحدَّدة بالسَّنة واليوم، فإنها تُؤرِّخ نفسها علي وجه التقدير المضبوط، فنجد مثلاً: »حدثنا نُعَيم، قال: حدثنا رُشدين عن ابن لُهَيعة، عن قيس بن شُرَيح، عن حَنَش الصَّنعاني، عن ابن عباس قال: أجل أمة محمد »صلي الله عليه وسلم»ثلاثمائة سنة، كبني إسرائيل». وهو ما يعني بالتقدير فناء المسلمين أو هلاكهم علي رأس سنة ثلاثمائة هجرية، من مبعث النبي »صلي الله عليه وسلم»أو وفاته.
4. الفتنة: المفهوم المركزي في الأسطورة الأخروية
إن فكرة فساد الزمان، وهي فكرة مركزية في الثقافة الإسلامية، تقتضي أن أفضل الأزمان هو الزمن المقدس، زمن النبوة والسلف الصالح، وبعدها يَفسُد الزمان، ويصير زمنًا مدنَّسًا، بكثرة الفتن وما تَستَتبِع من الملاحم، إلي أن يأتي الأبطال الموعودون في أشراط الساعة الصغري، كالمهدي والسُّفياني، ثم تظهر علامات الساعة الكبري، أو »أشراطها» المذكورة في القرآن وغيره، كخروج الدابَّة ويأجوج ومأجوج، ثم تقوم الساعة. إن فساد الزمان، لا يكون إلا بكثرة الفتن. وهذا ما يفسر إفراد نُعَيم لكتاب خاص فيها. فالفتنة عند عبد الرؤوف المناوي (ت 952هـ/ 1031-1032م) »البلية. وهي معاملة تُظهِر الأمور الباطنة. ذكره الحَرالِّي. وقال الراغب: ما يتبين به حال الإنسان من خير أو شر».
إن كتاب »الفتن»، هو في واقع أمره، كتاب البلايا والمحن الـمُتوقَّع حدوثها في آخر الزمان، قبل أن تظهر أشراط الساعة الكبري، أي الأحداث العنيفة جدًّا والقاسية. يَتتبَّع الكَفَوِي في »الكُلِّيَّات»، مفهوم الفتنة، في مرجعيته القرآنية، فيجد له ستة عشر مفهومًا جزئيًّا. فيقول:
»الفتنة: ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر...والفتنة أيضًا: الشرك (حتي لا تكون فتنة)، والإضلال (ابتغاء الفتنة)، والقتل (أن يفتنكم الذين كفروا)، والصد (واحذرهم أن يفتنوك)، والضلالة (ومن يرد الله فتنته)، والقضاء (إن هي إلا فتنتك)، والإثم (ألا في الفتنة سقطوا)، والمرض (يفتنون في كل عام)، والعبرة (لا تجعلنا فتنةً)، والعفو (أن تصيبهم فتنة)، والاختبار (ولقد فتنا الذين من قبلهم)، والعذاب (جعل فتنة الناس كعذاب الله)، والإحراق (هم علي النار يفتنون)، والجنون (بأيكم المفتون). قيل في قوله تعالي (والفتنة أشد من القتل): إن المراد النفي عن البلد».
إن كثيرًا من هذه المفاهيم الجزئية وارد ورودًا لافتًا في أساطير كتاب »الفتن» الأخروية، ولا سيما الإضلال، والقتل، والقضاء، والإثم، والمرض، والعبرة، والاختبار، والعذاب، والإحراق، والجنون، والنفي. فالسُّفياني والدجال وغيرهما مثلاً يَفتِنون الناس بإضلال أتباعهم، ثم بقتل المؤمنين القتل الجماعي الشامل الذريع، وفتنتهم قضاء وقدر لا مناص منه، أَحَبَّ المؤمنون أم كرهوا، وما يرتكبون من القتل أو »الملاحم»، وغيرها من الفساد، هو إثم كبير في الأرض، وعبرة للمؤمنين، واختبار لهم ولصبرهم علي الابتلاء الإلهي بأشد ما يكون من العذاب في الدنيا، وهم أحياء، قبل أن يَرِدوا الآخرة بعد بعثهم، ولا سيما بقتلهم وإحراقهم، وأقل العذاب نفيهم أو نزوحهم من أراضيهم.
ويتضمن مفهوم الفتنة الـمُتداوَل مفهومًا أخص منه، لكنه يرجع إليه دائمًا. فكل ملحمة هي فتنة. لكن العكس غير صحيح، إذ ليست كل فتنة ملحمةً بالضرورة، فـ »الملحمة: الحرب ذات القتل»، و»الوقعة العظيمة في الفتنة»، و»القتال في الفتنة».
وقد يرد مفهوم الملحمة مرادفًا في الواقع لمفهوم »الفتنة» الأخروية، فنجد ابن حنبل يقول: »ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير». أو مساوقًا له عند الخطيب البغدادي، إذ يقول: »وليس يَصِحُّ في ذكر الملاحم الـمُرتقَبة، والفتن الـمُنتظَرة، غير أحاديث يسيرة».
وكثيرًا ما تُستعمَل في صيغة الجمع، فعند نُعَيم بن حماد: »بقيت من الملاحم واحدة»،و»مَعقِل المسلمين من الملاحم دمشق». ويُستعمَل أحيانًا مرادف لمصطلح الفتنة، وهو الهرج. أي »الفتنة والاختلاط... وفسره النبي » صلي الله عليه وسلم»في أشراط الساعة بالقتل».
وعند نُعَيم بن حماد، قد نجد - علي قلة - استعمال هذه الكلمة، ففيه: »ويل لهم من هرج عظيم الأجنحة». وقد يُدرَج مفهوم الفتنة، وما يتضمنه من ملاحم وهرج، ضمن مفهوم أوسع وأشمل، أي مفهوم أشراط الساعة. فعند نُعَيم بن حماد: »إذا رأيت العرب تهاونت بأمر قريش... فقد غشيتك أشراط الساعة».
5. من الأسطورة الأخروية إلي الأسطورة الجفرية والحِدثانيَّة: نهاية أم تطور؟
كان النشاط الهائل للمحدِّثين في تدوين الحديث، غثِّه وسمينه، في مدونات كثيرة، واعتناؤهم البالغ بتوثيقه وتمييز مراتبه من صحيح وحسن وضعيف وموضوع، مدعاةً لتوقف حركية الأساطير الأخروية، في الظاهر علي الأقل، ابتداءً من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، لأن منطق الأشياء يفترض أن الحديث النبوي قد جُمِع ووُثِّق، وكذلك »آثار السلف»، وأن لا سبيل إلي رواية »أحاديث فتنية» غير التي في أيدي المحدِّثين كأصحاب الكتب الستة والمتخصصين في »الموضوعات» كابن الجوزي، الذين استوعبوها تدوينًا في القرن الثالث وبعيده. وفضلاً عن هذا، فإن حركة »الزنادقة» كانت قد انقطعت في هذا القرن، بانتصار أهل السنة عليهم وعلي المعتزلة في هذا القرن نفسه، ولم يبقَ إلا القُصَّاص ونشاطهم.
بل لقد تعرضت كتب الفتن إلي نقد عنيف من النقلانيين أهل السنة أنفسهم. فهذا ابن دِحيَة السَّبتي(ت 633هـ/ 1235-1236م) ينتقد »كتاب الفتن» لأبي عمرو الداني، المقرئ الشهير (ت 444هـ/ 1052-1053م) فيقول: »كتاب »السنن الواردة بالفتن وغوائلها، والأزمنة وفسادها، والساعة وأشراطها»، وهو مجلد مَزَجَ فيه الصحيح بالسقيم، ولم يُفرِّق فيه بين نَسْرٍ وظَليم. وأتي بالموضوع، وأعرض عمَّا ثبت من الصحيح المسموع».
فكان هذا النقد النقلاني الشديد إيذانًا ببوار هذا الجنس السردي العربي القديم، الذي نشأ ابتداءً من نهاية القرن الأول، لما ضمَّنه المؤلف فيه، وهو أبو عمرو الداني، »من الملاحم، وما كان من الحوادث وسيكون، وجَمَعَ فيه التنافي والتناقض بين الضَّبِّ والنون، وأغرب فيما أغرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون. وفيه من الموضوعات، ما يُكذِّب آخرُها أولَها، ويتعذر علي الـمُتأوِّل لها تأويلُها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة من تكذيب الصادق المصدوق، محمد »صلي الله عليه وسلم»».
وقد انتقد سمة »الإغراب» و »التناقض» فيها، بانتقاده أسطورة الدابَّة ويأجوج ومأجوج، والتأريخ للفتن، و»التفاصيل الباطلة، والأحاديث الكاذبة في أشراط الساعة».
بيد أن بوار هذا الجنس الأسطوري في صورته الأولي، كان إيذانًا بظهوره من جديد وانبعاثه في جنس أسطوري آخر حل محله، هو جنس الأساطير الجفريةالحِدثانيَّة، وهو جنس سردي أسطوري كذلك، شبيه بجنس الأساطير الأخروية، ومتطور ومتفرع منه، قد سبق لنا أن درسناه في بحث سابق عنوانه: »الأدب الجفري الملحمي والفتني نوعًا أسطوريًّا: مدخل إلي مضمرات خطابه».
إن كتاب الجفر »كان أصله، أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت علي العموم، ولبعض الأشخاص منهم علي الخصوص...».
بيد أن الأسطورة الجفرية التي تطورت من أصلها الشيعي، صارت أسطورة سنية تتنبأ بالمستقبل في صور عديدة:
»وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم. ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه. وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو مُنجِّم أو وَلِيّ في مثل ذلك، من مَلَكٍ يرتقبونه، أو دولة يُحدِّثون أنفسهم بها، وما يَحُدث لهم من الحرب والملاحم، ومدة بقاء الدولة، وعدد الملوك فيها، والتعرض لأسمائهم، ويُسمَّي مثل ذلك الحِدْثان».
وانتقل مصدر الإلهام في الأسطورة الجفرية من »آل البيت» وما لهم من قداسة في نفوس المسلمين السنيين والشيعة علي السواء بالتدريج، إلي »الـمُنجِّمين» وما عندهم من العِلم المستقبلي. يقول ابن خلدون (ت 808هـ/1405م):
»وأما بعد صدر المِلَّة، وحين عَلَّق الناس علي العلوم والاصطلاحات، وتُرجِمت كتب الحكماء إلي اللسان العربي، فأكثر مُعتمَدهم في ذلك كلام الـمُنجِّمين في الـمُلْك والدول، وسائر الأمور العامة من القِرانات، وفي المواليد والمسائل، وسائر الأمور الخاصة من الطَّوالع لها».
وبهذا التطور في ظاهر الأسطورة الأخروية، خَلَفَتْ الأسطورة الجفريةالحِدثانيَّة الأسطورة الفتنية، لكن باطنها لم يتغير. فالأساطير لا تفني ولا تتلاشي، ولكنها تتطور.
الملحـق
نصوص فتـنية جفرية ملحمية
تنبيـــــه
هذه الملحقات، نصوص جفرية متناثرة، أو نصوص تتحدث عنه، وجدناها في المصادر، بعض منها أصلي، وبعض منها مُختصَر، وبعض منها مُتحوِّل إلي شعر، وبعض منها مُترجَم بترجمتنا من الإسبانية القديمة عن الأصل العربي الأندلسي، وراجعه زميلنا المختص بالدراسات الإسبانية الدكتور مصطفي عديلة. وقد أوردناها دون اعتبار ترتيب معين، تعميمًا للفائدة، لـمَّا كان هذا الأدب الجفري الملحمي مجهولاً ومهملاً تمامًا. فوجب التنبيه.
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو النظم العجيب، الذي نَظَمَه سيدي زيد الكَركالِي، غفر الله له، ونصه:
آه كم أنتظر الموعود به في الإخبارات التي وعد بها النبي الحق، وهو عند الله مكتوب. وهو الذي أُوحِي له به، لا بلسان الناس، وكُشِف له. ولن يَنقُص [هنا] حرف من قضاء ربنا الكريم، وسوف يقع كما يقول الله. عن أهل العهد التاسع أُحب أن أتكلم، الذي رغِب صاحب الشريعة »صلي الله عليه وسلم» مرات متعددة إلي الله في أن يرحمهم. فاستجاب الله دعاءه، وتحقق الدعاء.
أيها السادة. أحب أن أُفصِّل ما أخبر به النبي »صلي الله عليه وسلم»عن الجزيرة الـمُكتنَفة بالبحار، التي هي جزيرة الإسبانيين، التي ظهر حكمها فيما أخبر به، وبما أخبر به الأنبياء والأولياء، وهو مكتوب كتابة عجيبة في بشارة قديمة، حُفِظ فيها الدين، وفي كلام عليّ [كرم الله وجهه] الذي أخبر بما سيقع إلي الآن. وكلهم رَوَوه، وتبين لهم أنه هو ما أخبر به حُذيفة، وعنه تواتر.
وكذلك يُقرَأ برواية الصحابي، ودانيال [عليه السلام] لأن الذي قاله عليّ، لا شك فيه. فكل الناس يصدقونه، وعنه قُرِئت ملاحم عظيمة، وقعت كما قال.
وقد قال، وهو يذكر الغرب والأندلس، في بعض كشوفاته: إنه لا بد من أن يملكهما الكفار. وهذا مؤكد أنه وقع كما ذَكَر، وكل الناس رأوه: فمنهم أهل العقول الراجحة، ومنهم الذين عندهم النِّذارات بما سيقع. ففي عام 96، سوف يُفتحان من جديد بالكلية، وسوف تَعمُر كل مدنهما، ويقوم فيها أمير. وقبل أن يُشرَع في هذا، سوف يذهب كل أهل المدن لتعمير البوادي برأي العامة، وسوف يحرثون الأرض، وسوف يكون وقت ذلك عندما يظهر نَجم مُذَنَّب يُرهص بالخير والحرية. وسوف تهدأ الفتن، ويخرج أهل مكة، ويجيء عدوٌّ أشداءٌ أراضيَ الخراج، الذين هم في المشرق من ممالك اليمن، ويفتح أرض سَبتَة وقصر المجاز وطنجة، وأرض السودان، وبجيوش عظيمة من الترك، سوف يَهبِط إلي الغرب، ويغزو سكانه، وهم قوم ظُلاَّم وكفار، يعبدون آلهة كثيرة. وسوف ترجع كل المملكة إلي طاعة رسول الله »صلي الله عليه وسلم» ويُعظَّم الدين. وسوف تملك الأمة التي تعبد إلاهًا واحدًا جَبَلَ طارق، الذي منه كان أصلهم ودخولهم، وإليهم سوف يرجع.
وفي الدور العاشر، ستتحقق سعادتنا. وما سوف يكون فيها من مشقة، سيكون علي اليهود. وسوف يصيب العِرق اليهودي الملعون، والذين يعبدون الأصنام مصائب عظيمة. وسوف يظهر في الغرب آيات عظيمة، وفي أرض السِّند في المشرق، وفي أرض عَزازات. وبالنصر والمجد سوف يذهب الهرْج والمرْج.
من هنالك، من [أرض] تيمور، وهي بلاد في المشرق، ومن إقليم الشام، يجيء الفاتح إلي قلعة النساء، ويجيء معه قُوّاد كبار من البربر: الشريف، وحَيْدر، وزيد الأسود، ويحيي الفريد، وعبد السلام (أبو عبد السلام) الذي سوف يتراءي بين الناس جميعًا بذراعه العاري.
وسوف تكون عقوبة غَرناطة، قصة مدهشة، لأن ديارها سوف تبقي عند الفتن قاعًا صفصفًا، لأجل ما سوف يُعمَل فيها من الضرب بالحديد، والكذب والخداع، إلي أن يوشك أن يفني القوم من أهل البلد بأمر من الكفار. وعندما تستولي الخمر علي عقول الحكام، عندئذٍ يأمرون بتسوية القري بالأرض. وفي الأخير، سيجنح كل الناس إلي السِّلم. وفي عقود السِّلم هذه، سوف تضيع بلدات كبيرة وقلاع بالخيانة. وفي عام 92، و93، سوف تُري جماعات كبيرة علي قسمين.
وسوف تضيع مالَقَة تمامًا. ولن تكون هي وحدها الضائعة، بل كل المدن، لأن القيام لأجل الشهرة يُضيِّع الممالك. والذين لا يتصرفون في حذر، فسوف تلازمهم كل تعاسة وحسرة.
ففي هذه الجماعة المحاربة من الناس، سوف يُعدم الإيمان، ويكون الدين مخذولاً. فيصير العلماء هُزُءًا عند جميع الناس، وسوف يشتغل الولاة بإخراج الناس من قُراهم، وبتسوية الأمكنة بالأرض مع ضياع الجِبايات، دون أن يستطيعوا الهجوم علي إفريقيا، فيتركوها وراءهم.
وبعدئذٍ، سوف تقع للكَفَرة حرب، وفي مملكة غَرناطة، لن تبقي قرية. وعلي مدي عام، سيكثر الشِّقاق، ولن يُفلِت إلا عدد قليل من النَّصَب وانكسار القلب، وسوف يكون الـمَوَتان. فانتظروا مُلْكَ وانتصارَ الغرب، من أهل المغرب، لأن ما قاله النبي الحق»صلي الله عليه وسلم» فلا بد من أن يُري في الناس. [قال]: »سيهربون من البلدات. وعندما يضل الابن العاق، عندئذٍ تَحسُن الأسفار. وحينما يجيء أمر الله بالليل قبل النهار، سيستعد البحر، حتي تجري فيه السفن من غير بأس». وما أوحي الله به، لم يُخلَف ولن يُخلَف.
وسوف يفتح دينُ المسلمين أقاليمَ النصاري. وعندما يَملِك الأحدب، فسيكون الإسلام دائمًا في نقصان. وسوف يأتي السودان لفتح سَبتَة وأراضي مُرسِيَة، وسوف يبني اليهود قلعة الحمَام. وسوف يسير الترك بجيوشهم إلي رُومِيةَ، ولن يفلت من النصاري إلا من رجع منهم إلي دين النبي»صلي الله عليه وسلم». ويصير الباقون أساري وأمواتًا. وهذه الرَّجعَة لا بد من أن تكون في الغرب، وجنوبًا وفي بلاد السودان. وسيظهر هذا الأمر في كل الممالك، ومن بلاد التِّبر، سوف يخرج الغزاة للكفار.
ويذكر أكثر: »يا جبل طارق. إن دخولك وفتحك هما الافتتاح الحقيقي. فاعلموا من هذا أنه لن يبقي في سَبتَة وطنجة والقصور وفي كل أنحائهن غُصن. وسوف تُفتَح، وأن جزيرة إسبانية [الأندلس] ومالَقَة، سوف يعاد بناؤها في هذه الرَّجعَة، وسوف تكون سعيدةً بدين المسلمين، وأن في بِلِّش والـمُنَكَّب، سوف يُنكَّس استكبارهم بالكفر، وفي قُرطبة، تُنكَّس عيوبهم وخطاياهم، وأن المؤذِّنين سوف يُسكِتون ناقوسهم، ولا بد ولا بد. فيخرج الكفر من إشبيلية، وسوف يُرمَّم الخراب الذي لحق بها في وقت ضياعها بظهور المؤمنين.
وسوف تتحقق نبوءة النبي دانيال [عليه السلام]، الذي أخبر بأنه لا بد من انعتاقها، بعد خسارتها علي يد مَلِك طاغية. وقد رأينا خروجه. فادعوا الله أن يتحقق فيها ما هو مذكور. قال الله تعالي في كتابه الكريم: »أفلعلَّكم لم تروا النصاري يَغلِبون في أقصي الأرض. وبعد أن يَغلِبوا، سيُغلَبون هم علي قُربٍ في بضعة أيام فلله هذا الأمر. فَمِن قبلُ ومن بعدُ، كان المؤمنون فِراحًا بالنصر. فهو من يؤيد من يَخدِمه. ولن يُخلَف مِن وعد الله شيء!».
فأول العلامات، التي ستظهر في هذا الحِدْثان، يا سادة، ستكون علامةً كبيرةً جدًّا، وهو أن يظهر مُذَنَّب كبير جدًّا في وسط السماء، يضيء ضوءًا شديدًا. وبعده يَغلِب سلطان الترك مدينةبأهلها ومَلِكِها. وبعد هذا، وقريبًا منه، سيملك جزيرة رودَس الكبيرة. فإذ يملكها المسلمون علي التأبيد، سيكون للنصاري انتصارات أخري. وهو من العلامات الكبيرة التي ستكون في هذا الحِدْثان. وسوف تصل جيوشه وأهِلَّتُه إلي الأندلس، حتي إنهم سوف يقصدون القضاء علي سكانها. ومِن فَزَعٍ سوف يرجع كثيرون إلي دينه.
بيد أنه بعد هذا، سيقوم من بينهم وَلِيٌّ حقيقي، يدعوهم إلي أن يقوموا بدين الله. وفور إذا يأتي هِلال الترك علي النصاري، وعلي كل مدينة، وعلي كل مكان وكل قلعة. وسيكون قريبًا من هذا ثلاث ثورات:
فالأولي: ستكون نكسة وخسارة. والثانية: ستكون خداعًا وكَذِبًا، سيجعلهم علي حدِّ الموت. والثالثة: ستكون كرامة ونعمة، وبابًا ومدخلاً لفتح كل المدن والممالك. وسيكون هذا القَطْع الذي سيقوم به الترك للنصاري، كبيرًا جدًّا حتي إنهم سوف يَدخُلون ويَفتَحون كل ممالكهم ومدائنهم، من البحر إلي دَيلان، إلي بحر سَمَرقَند، ولن يبقي لهم ذكر، ولن يُسمَع إلا عويلهم. وهكذا ستضيع هذه الجزيرة بأهلها، وسينزل أمر فتحها عليهم، كما ينزل ويتدفق المطر من السحاب. وسيصير كل سيد عبدًا. أرانا الله، سبحانه، هذه الأدلة. إنه هو الـمُعطي العَلِيّ.
وأضاف المؤلف قائلاً في هذا: »حين يرعبك الوقت بالأعداء، ويجرح ضميرك، وبالشِّقاق بين أصحابك، ويحيط بك الخوف من كل جانب، فانتبه إلي صُنْع ربنا كيف يَحضُرُ بما ترغب فيه من حرية قريبة جدًّا، وتبدأ في الطلوع شُهُبُ ونجومُ السَّعد. وستأتيك رسائل الراحة والبشائر».
وريثما يكون ذلك، فلا تيأس، ففي باطن تدبير الله، وأشَدِّه خفاءً توجد عجائب وأسرار كبيرة. فإذا تقطع قلبك أثناء ذلك خوفًا، ولم تظهر لك علامات لما ترجوه، ولا سمعت أخبارًا عن الصاحب الذي تنتظره، فقل هكذا: »يا ربِّ. ارحمني برحمتك، وكن بي رءوفًا». ففي هذا سر عجيب، لأنه ما أكثر الشئون التي تضطرب لها القلوب، فيكون الأمر بعد ذلك فرحًا وراحة! فكثير من الأمور، بعد أن تَعظُم، تأتي من ورائها بالطُّمأنينة والراحة. وعندما يجيء ظلام الليل، تنكشف النجوم، وتظهر الشُّهب. ولأجل هذا، ليكن رجاؤكم في الله، واسعَوا إلي رحمته، وتلقَّوا في فرح ما كان قد قدَّره لكم بيده. وقولوا، وأنتم راضون بمشيئته: رضيت يا ربي، بما قد قدَّرتَه عليَّ. فأنت العليم يا ربي بأمر الغيب».
(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
يُروي في السِّيَر الفاضلة، أن رسول الله »صلي الله عليه وسلم» كان يومًا قاعدًا بعد صلاة الظهر، يحدِّث أصحابه. وإذذاك طلع ابن أبي طالب، وفاطمة الزهراء - رضي الله عنها -كذلك. ولما قعدا بحذائه، قالا له: يا رسول الله»صلي الله عليه وسلم» أخبرنا كيف تصير الدنيا لأهل بيتك، في آخر الزمان، وكيف تفني. فقال لهما:
تفني الدنيا في الوقت الذي يكون فيه أفسق الناس وشر الناس. وبسرعة ستكون ذرية أهل بيتي، في جزيرة في آخر تخوم المغرب، تُسمَّي جزيرة الأندلس. وسيكون آخر سكانها من أهل بيتي. وهم يَتامي بيتِ هذا الدين، وآخر ذريته. فالله يرحمهم في هذا الوقت.
ولما قال هذا، اغرورقت عيناه بالدموع، وقال: »هم الـمُضطَّهَدون، هم المكروبون. هم الـمُهلِكون أنفسهم، هم الـمُبتلَون، ممن قال الله فيهم: لا مكان يزول إلا بإذننا. فاقرأ إلي النهاية كل السُّنة المكتوبة في هذا، حيث يشير الله إلي هذا الذي ذكرت. وهذا سيكون لأجل النسيان الذي سوف يكون عند أهل الأندلس في شئون الدين، إذ يتَّبعون أهواءهم وشهواتهم، فيحبون الدنيا حبًّا جمًّا، ويتركون الصلوات، ويمنعون الزكاة ويجحدونها، ولا يلتفتون إلا إلي الفحشاء والفتن والقتل. فيكثر الكذب فيهم، ولا يُوقِّر الصغيرُ فيهم الكبيرَ، ولا يَرحَم الكبيرُ فيهم الصغيرَ، ويكثر فيهم الجَور والظلم والأيمان الباطلة، ويبيع ويشتري التجار بالربا والكذب والغش ما يبيعونه وما يشترونه. كل ذلك للطمع في تحصيل الدنيا، والطمع في نماء الأموال وادخارها، دون أن يبالوا كيف اكتسبوها، وما كسبوه هل اكتسبوه بوجه حق أو باطل.
ولما قال هذا، اغرورقت عيناه بالدموع ثانيةً وبكي، فبكينا جميعًا لبكائه. ثم قال: فحين تظهر في هذه الذرية هذه الخبائث، يسلط الله عليهم قومًا شرًّا منهم، فيذيقونهم أشد العذاب. فحينئذ يستغيثون أعدَلَهم فلا يغيثونهم. فيبعث الله عليهم مَن لا يرحم الصغير، ولا يُوقِّر الكبير، لأن كل واحد يؤاخذ بذنبه، ويشقي بعقوبته. فما رأينا قط الربا يبقي في قوم، والغش في البيع والشراء، والموازين والمكاييل، فَتَرَك الله، سبحانه، عقوبتهم، فيمنع أو يحبس الماء عن وجه الأرض. ولا بقيت الفحشاء ولا انتشرت، دون أن يُرسِل عليهم الفناء والـمَوَتان. ولا بقي أهل بيت يتعاملون بالربا في البيع والشراء، وبالأيمان الباطلة، والطمع والكبر، إلا عاقبهم الله بأنواع من الأمراض الشيطانية.
وما ظهر في قوم الـمَوَتان القبيح، ولا فشا فيهم القتل، إلا أذلهم الله، ومكَّن أعداءهم منهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا عاقبهم الله، فسلط الخراب عليهم. ولا ظهر في قوم قط قلة الصدق والرحمة، وقلة خشية الله، عند ارتكاب كل شر وخطيئة، إلا عاقبهم الله، فلم يَقَبل صلاتهم، ولم يستجب دعاءهم في محنهم وشدائدهم، لأنه عندما تظهر الخطيئة في الأرض، يسلط الرب، سبحانه، العقوبة التي يستحقونها من السماء. ولن يلعن الله أحدًا من أهل بيتي، حتي يري الرحمة ضائعة بينهم. ولن يعذب عبده في هذه الدنيا بالعذاب الأكبر، إلا بقسوة القلب. فهكذا، عندما يصير قلب الإنسان قاسيًا، يلعنه ربه، فلا يستجيب دعاءه ولا يرحمه. ولن يغضب الله أكثر من عباده، إلا عندما يقترب يوم الفصل. وهذا بتماديهم في الخطايا، وغفلتهم عن الخير، وعدم استقامتهم في طريق الحق.
وعندئذٍ بكي، وقال: فالله يرحمهم في هذه الجزيرة، عندما تظهر فيهم هذه الذنوب والخطايا، ويتركون العمل بالقرآن، والاستجابة لأوامره، لأن أكثرهم يومئذٍ سوف يطلبون الدنيا بالزهد والدين، وسوف يلبسون جلود النِّعاج الـمُتَّضِعَة، وتكون ألسنتهم أحلي من العسل والسكر. بيد أن قلوبهم ستكون قلوب الذئاب، وأعمالهم أعمال أرذال وسفلة. وعليهم سوف يصب الله عذابه، فلن يَقبل صلواتهم، لأنهم يؤثرون الجَور. ولن يَدخُل جماعةَ أهلِ بيتي المفسدون أبدًا. فمن ابتسم في وجه ظالم، أو وسَّع له في المجلس، أو أعانه أو أكرمه لأجل أن يرتكب الفساد، فقد هتك حجاب النجاة من حَلقِه. [كذا] وإذا طغي مَلِك في أرضه، ولم يحفظ العدل في رعيته، أظهر الله له في مُلْكِه نقصًا في الطعام والثمرات، وغيرها من الأموال كلها. فإذا حكم بالحق وبالعدل، ولم يكن في مُلْكِه قساوة ولا مظالم، بعث الله، سبحانه، بركته في مُلْكِه وقَومِه. وكان الزَّكاء في كل شيء.
وهكذا، فعندما يظهر في أهل هذه الجزيرة الجَور وخِذلان الحق والكفر، ويغلب الكبر والخيانة، فيُساء إلي اليتامي، ويجورون في المعاملة، فيخرجون عن سنن رحمة الله، ويطيعون الشيطان، ويتبعون الشهوات، فيشهدون بالكَذِب والباطل، ويُذلِّون أنفسهم للأغنياء، ويستكبرون علي المساكين بقسوة قلوبهم وكبرهم، ويكون قولهم حلوًا، وعملهم مرًّا، فعندئذٍ يصب الله عليهم عذابه.
وعندئذٍ بكي مرة أخري، وقال:
ورحمة ربي، وعظمة أسمائه، لولا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسوله، ومحبة الله لي، لصب عليهم عذابه صبًّا شديدًا. ثم بكي بكاءً شديدًا أكثر، وقال: »يا ربي ارحمهم». وكررها ثلاثًا. بل لأجل هذا، يسلط الله عليهم كذلك حكامًا قساةً وفجارًا كأشد ما يكون الفجور. فيأخذون أموالهم بغير حق، ويستعبدونهم، فيقتلونهم ويدخلونهم في دينهم، ويجعلونهم يعبدون معهم الصور والأصنام، ويجعلونهم يأكلون معهم الخِنزير.
فإذا استخدموهم في أشغالهم، عذبوهم عذابًا شديدًا فأخرجوا منهم الحليب الذي رضعوه من أطراف أظفار أصابعهم. ويبلغ بهم العَسْفُ الشديد في ذلك الزمان، حتي إن الرجل سوف يمر بقبر أخيه، أو صاحبه المدفون، فيقول: يا ليتني كنت معك! ويدوم عليهم ذلك، إلي أن ييأسوا من النجاة بدِين النجاة. فييأس أكثرهم، فيرتدون عن دين الحق.
وحينئذٍ بكي بكاءً أشد، وقال: فيرحمهم الله، سبحانه، ويُظهِر لهم وجهَ الرحمة، ويَنظر إليهم بعين الرأفة والرحمة والشفقة. وهذا سيكون حين يشتعل فيهم سُمُّ أعدائهم أكثر، حين يجيئون فيُحرِقون كثيرًا منهم بالنار الـمُلتهِبة، رجالاً ونساء، وأطفالاً أحداثًا، والشيوخ الكبار، وحين يخرجونهم وينفونهم من بلادهم. فعندئذٍ يَضِجُّ ملائكة السماء، فيمشون كلهم، وهم في حالة عظيمة، في رضوان الله، ويقولون له: يا ربنا. بعض من قومِ وَلِيِّك ورسولك محمد »صلي الله عليه وسلم»، يُكوَون في النار، وأنت الجبار المنتقم. وعندئذٍ يبعث الله من يغيثهم، ويخرجهم من هذا الشر والعذاب العظيم، ومن هذه العقوبة العظيمة.
وعندئذٍ بكي عليّ، فبكينا جميعًا معه. وقال له: متي يبعث الله هذه الإغاثة، ويصلح قلوبهم المغمومة؟ فأجابه هكذا:
يا عليّ، سيكون هذا في جزيرة الأندلس، متي دخل العامُ فيها يومَ السبت. وعلامة ذلك، أن يبعث الله سحابة من الطير، وفيها يظهر طائران مشهوران، أحدهما الملك جبريل، والآخر الملك ميكائيل. وسيكون هذا الأصل في ظهور طيور الأرض الأخري من البَبَّغاوات. فيشيرون إلي مجيء ملوك المشرق والمغرب لإغاثة جزيرة الأندلس هذه.
وعلامة ذلك أن يَهجُموا أولاً علي طلائع أهل الغرب. فإذا تكلمت هذه الطيور، أشارت أنه يكون في البلد الذي تتكلم فيه فتنة وقتال كبير في الغرب، ويعقبهما جميعًا رعب كبير وفتن. وستكون مناكر وفتن بين دين المسلمين وبين دين النصاري، ويرجع كل الناس إلي دين المسلمين. بيد أنه يكون ذلك بعد مشقة عظيمة.
وفي هذا العام، سيكون ضباب شديد، وماء قليل، وتحمل الأشجار ثمارًا كثيرة، وسيكون حصاد الحَبِّ في الجبال الباردة أوفر منه في السواحل، وتملأ النحلُ أجباحَها في هذا العام المبارك.
(3)
بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله وحده. لا إله إلا هو
هذا حكم مُستخرَج من كلام رسول الله »صلي الله عليه وسلم»يسمي »طوق الحمامة»، علي تشبيه تأليفه وحسنه بجمال ألوان طوق الحمامة. ونصه:
دعوا ذكر الهَزْل والثياب النفيسة والمفاخر، ولا تنسوا الموت فالحياة تنقضي.
وذنوبكم أعظم من الجبال، فأنيبوا إلي الله ولا تناموا، وإلا أصبحتم مدفونين في الشقاء.
ودعوا ذكر الجنان الفسيحة في المصانع الفخمة والنساء الـمُتَوَّجات والحالِيات.
واذكروا أهوال يوم الفصل، وغضب النار وحرائقها.عند تلك الساعة، سوف تسبق هذه العلامات:
خَسْف الأرض وزلزلتها، هول وفزع عظيمان، وعلامات أخري لا يجوز للآدميين كشفها. وأكثر من تكلم فيها حُذيفة. وما قال إنه سمعه منها من نبي الله الهادي »صلي الله عليه وسلم» يذكرها، هو أكثر من سبعين علامة. منها ثماني علامات هي الكبري، والأخريات التي تتلوها هي العلامات الصغري. وقد سأل عنها كثير من الصحابة المصطفي »صلي الله عليه وسلم» فعدَّ لهم بعض العلامات المذكورة. فذكر منها ظهور رسول الله [عيسي] ونزول أولها في جنة تِهامَة، بعد أن تطلع الشمس مَفلوقَة. فهذه علامات يوم الفصل التي يشير إليها القرآن ويتكلم عنها، والأخريات الشبيهات بها هي كثيرة. وهي اليوم مشهورة في هذه الدنيا، أوضح من الضوء الساطع.
وذكر المصطفي »صلي الله عليه وسلم»الذي كانت تُظلُّه الغمامة: »حين تَرَون النساء يسرن وراء الرجال يطلبنَهم دون حشمة أو حياء، مسعورات مثل البهائم الـمُغتَلِمَة، وحين يفشو الربا، والمال المكسوب بالشُّبهة بين الناس، ويتخذون الظلم والقتل دينًا، ويكثر عصيان الأبناء للآباء، وحين تري المؤمن الصالح منكسر النفس، والعلماء معذبين، حتي يجيئوا فيخدموا الأشرار، وحين تري كل زوايا بيتك معمورة بالحرام والشُّبهة، وحين يصير صهرك أقرب إليك نسبًا من أخيك الشقيق، وتهجر أخاك، وتطيع صديقك، وحين تري الأم العجوز تَتَّجِر ببناتها بين الرجال، ويعصي الابن والديه، ويطيع امرأته في كل شيء، وحين تري الزخرفة في المساجد، والنساء قد تعوَّدن علي العادات الفاسدة، والذنوب القبيحة، وحين تري أهل الدين يعيشون مُترَفين وفي قصور مُشَيَّدة، وتري المستكبرين المجرمين يَكثُرون، والصالحين يَقلِّون، والخائفين من الله مُفرَدين كاليتامي، والأشرار برءوس أعند وأصلب من الجبال الراسيات، وحين تري الأذناب تسبق الرءوس، والصديق الحميم ينكر صديقه، ولا يجرأ الرجل علي أن يثق بمن يجتمع به، وحين تري الكرام يفتقرون، والبخلاء يرتفعون، والأيدي الكريمة تُقبَض، ويكثر الـمُستَعطون، وحين تري الدين مهجورًا، وأتباعه من القلة كالشَّامات البيضاء في الشعر الأدكن، وذئاب الرجال، وقد ارتدوا بالأردِيَة، ومن كان ذئبًا أكل مع الذئاب، ومن لم يكن ذئبًا أكلته الذئاب، وحين تري الشِّقاق يكثر كثرة شديدة، والمطر يقل في الأرض، ففي هذا الوقت يكون الفناء.
وكلما كان رسول الله »صلي الله عليه وسلم» يذكرها، كانت عيناه تفيضان بالدموع ويقول: كيف يكون حال من يولد في هذا الوقت؟! وذكر كذلك علامات أخري: ظهور نيران تشتعل في رُومِيةَ، تَهُبُّ بين الناس بين الماء والأرض، ويكون دخان شديد يبلغ ارتفاعه أن يلفح وجوه الكفار ويكوي صدورهم.
وذكر هلاك أمم في الحجاز في المشرق، وأمم أخري أسفل الجزيرة، وظهور قنطرة قصر المجاز. وذكر علامات تتحقق بالقوة. وحين تؤخذ القسطنطينية عنوة من الروم، وحين ترون المسلمين قادرين أعظم القدرة علي الغلبة، يفتحون رُومِيَة، ويغلبون البرتغال، حينئذٍ يكثر عندهم الأموال من الأحجار الكريمة والسِّكَك، حتي يَقسِموها بشعار القاسم.
وحين تصير الدنيا إلي هذا الكمال، فهذا علامة علي أن النقص يأتي بعد كمالها، وتصير القلوب غير مطمئنة، فتُفلِت الدنيا من بين أيديهم. وقبل هذا، فاعلموا أن الله سيأمر بأن يخرج في الغرب طاغوت يُخضِعه، لا يكون في وجهه صفة إنسان، يسوم الناس سوء العذاب. فبين يديه يَهلَكون وتهلَك كل أموالهم معهم. وبعده يقوم مَلِك آخر جليل القدر، يُدعي يعقوب، تكثر محنه ومصائبه، فيموتون من الحاجة. فهذا الأمر سوف ترونه في الغرب، مع كَدَر وفتنة كبيرين. وسوف يصيب الناس نقص كبير.
وسوف تبقي الأندلس يتيمة بغير سلطان ولا من يُطاع فيها. وسوف تكون بعض الوقت في هذه الشدة سوداء حائرة ومظلمة، حتي يبلغ خبرها إلي رُومِيةَ. ومن هنالك يخرج مَلِك لا عيب فيه، مَلِك ابن مَلِك. يا سادة. يركب البحر في جيوش عظيمة، يقومون بدعوته إلي غَرناطة، الناصعة والسَّنِيَّة، حيث يقولون له: أنت مَلِكنا الجبار، وحاكمنا في كل حال. فيطْلُع بجيوشه وسراياه إلي قصور الحمراء. وهنالك يمكث بضعة أيام مستخفيًا. ومن هنالك يفتح قلاعًا كثيرة وكبيرة جدًّا، وأقاليم وأمصارًا تباعًا. وسوف تَرَون شدة وصولجان وتاج المسلمين. فيملكون دون ريب إشبيلية، ويستولون علي تسعين مدينة من الكفار، وبأيدي هذا الـمَلِك يُصلِحون كل مدن الغرب، فتكون مُغتبِطة به.
ففي الخَرجة الأولي، يأخذ مدينة أنتَقيرة، فيتسلق أسوارها، ويهدمها عنوة. ويدوم هذا الفتح سبعة أعوام. فتُحمَل الأموال من أرض الكفار. فتبارك الله ربنا، الذي يحكم هذا الحكم، فيذيق الكفار من مرارة هذه الكئوس. فعندما تحين ساعة هذا القيام، ويأتي أمر الله يوجه هذا السيد وجهته إلي شَقوبِيَّة. وفي شهر رمضان يدخلها علي كل حال. وهكذا سوف يوالي فتحه الذي سوف يكون متواصلاً، فيأخذ قلاع النصاري في حَذاقَة. وبعد هذا تقع خلافات بين الولاة وبين الـمَلِك. ويخرج ذو العَرف مَلِك النصاري، فيخرج علي كل الأمة فيكسِرهم، ويسوقهم إلي أن يجعلهم يمتنعون عليه في فاس.
وحين يجيئون للجواز من جبل طارق، يُعوِّقهم البحر، فتحاصرهم من كل جهة جيوش عظيمة من نصاري الـمَلِك ذي العَرف، فيهرُب أهل السَّعة فارِّين في السفن. والذين لا يستطيعون الجواز، يموت أكثرهم ذبحًا بالسكين، وآخرون غرقًا في البحر.
عندئذٍ يبعث الله مَلَكًا طويل القامة مستخفيًا، أعلي قامة من الجبال، يضرب بيده في البحر فيشقه، فيخرج منه قنطرة مذكورة في هذا التاريخ. فيهرُب ثلثا الأمة عائمين، ويبقي الثلث الثالث يُذبَحون ويَغرَقون بالماء، فيواصل النصاري فتحهم. وسرعان ما يدخلون فاس عنوة. فإذا دخلوا المدينة بحثوا عن مَلِكِها، فيجدونه مستخفيًا في الجامع [القرويين]، وفي يده سيف إدريس وقد صار مسلمًا. فإذا رأوه أسلم كل النصاري معه. ثم يصعد إلي البيت بمكة فيصلي فيه، إلي أن يري بئر زمزم وصفاء مائها.
ثم يولد المسيح الدجال العجوز الملعون ويخرج. ففي هذا الوقت يرسل الله قحطًا شديدًا يدوم سبع سنين. ففيها لن يظهر قمح ولا حَبٌّ ولا ماء، إن لم يكن هو ما يُظهِره هذا العجوز الملعون. فيزرع القمح في الظُّهر، ويحصده في العشية. ويغرس الأشجار والنباتات باليد اليمني، ويَجني الثمار باليسري. ويأمر الميت بأن يقوم فيقوم، فيدَّعي بأنه محيي الموتي، والرب الذي لا كُفُؤ له.
فمن اتبعه وأطاعه، فلن يُحصِّل أي خير، ويموت كافرًا ويُدفَن في النيران. فيمشي ويَتبَع الناس، فيُظهِر لهم أقواتًا كثيرة ومتنوعة وعيون الماء. وفي جبهته يكون مكتوبًا: طغي وفجر. وتكون صورة وجهه مُفزِعة، لأنه لن يكون له إلا عين واحدة، وفي رأسه خيط مليء بالطعام، مُدوَّر كاستدارة القمر. وستَرَون الناس وراءه في عدد كبير، فلا يسعهم مكان مع أولادهم وعائلاتهم. فيصعد علي دابته ذات الخِلقة الـمُفزِعة، ويمد الخطوة مثلما يُرسِل النظرة. وفي سبعة أيام، يدور العالم كله.
وسيكون عنده واديان مذكوران: واحد من ماء، والآخر من نار. فإذا شرب الذين يجيئون معه الماء، وجدوه حاميًا كالنار. فيجيء بكل عشائر اليهود، فينطفئ بها نور الصباح السَّنِي. عندئذٍ يبعث الله، سبحانه، عيسي المسيح ابن مريم [عليه السلام] فيخرجه إلي الـمُنازَلة في بلاد الحجاز. فإذا رآه، ذاب أمامه مثل جبان مخنث. فيقول الحجر والأمكنة: قد دخل عدو الله تحتنا. ويبقي المسيح الهادي.
فبفضله، سيمشي الذئب مع النعجة في محبة. وسيلعب الصبيان بالحيات والأفاعي السامة ولا تضرهم. فيأخذ (الناس) بشرع نبينا [عليه السلام] ويَحكُم بالعدل فيه. ويُقدِّم للخُطبة وللصلاة شريفًا من نسب محمد»صلي الله عليه وسلم» علي الدوام. وفي زمنه، يُسلِم لله كل ُّكافر.
فإذا علم هذا أهل الأرض، طلع المسيح إلي جبلِ طَهور، فيهدم سد يأجوج ومأجوج، وهم الأقزام الذين يَفوت عددهم رمال البحر، وأبدانهم ووجوههم وسماتهم مختلفة، فبعض أحجامهم كريشة الكتابة، وأخري أعلي من الجبال، وآخرون لهم آذان كبيرة جدًّا، فيجلسون عليها، وبقسم منها يُغطّون الأرض. وهذا سيبقي ثمانين سنة.
المصادر والمراجع
- ابن تيمية (تقي الدين) ، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني، ت 728هـ). مقدمة في أصول التفسير. تحقيق عدنان محمد زرزور. الكويت: دار القرآن الكريم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1972.
- ابن الجوزي (جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري، ت 597هـ). القُصَّاص والمَذِّكرين. تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول. بيروت: دار الكتب العلمية، 1986.
- ابن الجوزي (جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري، ت 597هـ). كتاب الموضوعات من الأحاديث المرفوعات. تحقيق نور الدين بن شكري بويا جيلار. الرياض: أضواء السلف، 1997.
- ابن الحاج السُّلَمِي، جعفر. الأسطورة المغربية: دراسة في المفهوم والجنس. الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية. تطوان: مطبعة الخليج العربي، 2003.
- ابن حجر العسقلاني (شهاب الدين، أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر بن أحمد العسقلاني، ت 852هـ). تهذيب التهذيب. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1991.
- ابن عدي (أبو أحمد، عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك بن القطان الجرجاني، ت 365هـ). الكامل في ضعفاء الرجال. تحقيق وتعليق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، وعبد الفتاح أبو سنة. بيروت: دار الكتب العلمية، 1997.
- ابن قتيبة (أبو محمد، عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت 276هـ). تأويل مختلف الحديث. تحقيق محمد محيي الدين الأصفر. ط. 2. بيروت: المكتب الإسلامي، الدوحة: دار الإشراق، 1999.
- ابن منظور (جمال الدين، أبو الفضل، محمد بن مكرم بن علي بن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي، ت 711هـ). لسان العرب. بيروت: دار الفكر، د.ت.
- أبو البقاء (أبو البقاء، أيوب بن موسي الحسيني القريميالكفوي الحنفي، ت 1094هـ).الكُلِّيَّات:معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. تحقيق عدنان درويش، ومحمد المصري. بيروت: مؤسسة الرسالة، 2011.
- الجابري، محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل، ونكبة ابن رشد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008.
- الخليل بن أحمد(أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري الأزدي اليحمدي، ت 170هـ). كتاب العين: مرتبًا علي حروف المعجم. تحقيق عبد الحميد هنداوي. بيروت: دار الكتب العلمية، 2003.
- الروبي، ألفت كمال. الموقف من القَصِّ في تراثنا النقدي. [القاهرة]: مركز البحوث العربية، [1991].
- زين الدين الرازي (زين الدين، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي، ت 666هـ).مختار الصِّحاح. تحقيق يوسف الشيخ محمد. صيدا: المكتبة العصرية، 1995.
- شُكر، مُلحِم. الزندقة في دار الإسلام، في القرن الثاني للهجرة.بيروت: منشورات الجمل، 2016.
- شمس الدين الذهبي (شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن شهاب الدين أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، ت 748هـ). سير أعلام النبلاء. تحقيق شعيب الأرناؤوط، وآخرين. ط. 11. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1998.
- الفيروزآبادي (مجد الدين، أبو طاهر، محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي، ت 817هـ). القاموس المحيط.بيروت: دار الكتب العلمية، 1995.
- القرطبي (شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي القرطبي، ت 671هـ). التَّذكِرة في أحوال الموتي وأمور الآخرة. تحقيق فوّاز أحمد زمرلي. مج. 2. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997.
- مِشبال، محمد. بلاغة الخطاب الديني. معالم نقدية. الرباط: منشورات ضفاف، 2014.
- الملا علي القاري (نور الدين، أبو الحسن، علي بن سلطان محمد الملا الهروي القاري، ت 1014هـ). الأسرار المرفوعة، في الأخبار الموضوعة، المعروف بالموضوعات الكبري. تحقيق محمد بن لطفي الصباغ. بيروت: المكتب الإسلامي، 1986.
- المناوي(زيد الدين، محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي المناوي القاهري، ت 1031هـ). التوقيف علي مُهِمّات التعاريف. تحقيق محمد رضوان الداية. بيروت: دار الفكر المعاصر، دار الفكر، 2002.
- النَّجم، وديعة طه. القَصَص والقُصَّاص في الأدب الإسلامي.دراسات في التراث العربي. الكويت: وزارة الإعلام، 1972.
- نُعَيم بن حماد (أبو عبد الله، نُعَيم بن حماد بن معاوية بن الحارث بن همام بن سلمة بن مالك الخزاعي المروزي الفرضي الأعور، ت 228هـ). الفتن. تحقيق أبي عبد الله أيمن محمد محمد عرفة. القاهرة: المكتبة التوفيقية، [--19].
- Eliade, Mircea. Aspects du mythe. »ollection idées 32. Paris Gallimard, 1963.
د. جعفر ابن الحاج السلمي
* منقول لكل فائدة عن اخبارالادب