حوار مع علي المرهج... الفلسفة والراهن - حاوره: صالح رحيم

أعرف الأستاذ الدكتور علي عبدالهادي المرهج، قبل سنوات طويلة، لكني تعرفت إليه أكثر في قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية، فقد كان واحداً من أساتذتي في المرحلة الأولى من الدراسات الأولية، وهذا تعريف بشيء من سيرته: فهو أستاذ الفلسفة والفكر العربي المعاصر في قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ الجامعة المستنصرية. حصل على الماجستير عام 1997 عن رسالته (الفلسفة البراجماتية عند تشارلسساندرس بيرس) و على شهادة الدكتوراه عام 2001 عن أطروحته (النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة)..
_______
ـ س: كتبتَ رسالة الماجستير حول البراغماتية، وفي الفلسفة المعاصرة تحديداً، لكنك في أطروحة الدكتوراه، آثرتَ التخصص في الفكر العربي المعاصر، فكتبت عن نص ابن رشد وحضوره في الفلسفة العربية المعاصرة. السؤال هنا يتألف من شقين، الأول منه ما الذي دعاك إلى هذا التحول في الاختصاص..
ج: حينما كنا شبابًا نعتقد أن من يعرف الثقافة الغربية فهو يعلو على غيره في المعرفة، لأنه اختصر طريق المعرفة الذي توجته هذه الحضارة، وكعادة أي شاب يروم الوصول سريعًا لمبتغاه انبنى عندنا هذا الرأي، ولكن بعد تدرجنا في المعرفة الفلسفية، عرفنا أن الفلسفة تاريخها، ولا يمكن فصل ماضي الفلسفة عن حاضرها لأنها سلسلة متصلة، لذلك آثرنا معرفة تراثنا العربي لا سيما الفلسفي ودوره في تنمية المعرفة العلمية وتطويرها في أوربا، وابن رشد كان الفيلسوف الأكثر تأثيرًا في الفكر الغربي اللاتيني وتأثر فلاسفة العصر الوسيط بفلسفته وتأويلها حتى صارت عندهم أكثر من مدرسة رشدية.
أمر آخر هو أن الكتابة في الفلسفة الغربية تحتاج إلى تمكن عال في اللغات الأجنبية، الأمر الذي يشكل عائقًا كبيرًا في الفهم في حال عدم اتقان أهمها لا سيما الإنكليزية والفرنسية. بينما الكتابة في التراث العربي تجعلك أكثر قدرة على فهمه وفهم تأويلاته في الفكر العربي الحديث والمعاصر، لذلك أثرنا الكتابة فيه في الدكتوراه.

س: أما السؤال الآخر فهو عن تحديدك لفلسفة عربية معاصرة، على خلاف من يذهب إلى التحديد بالفكر العربي المعاصر، ترى هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟ فيها أصالة وإبداع، ومذاهب وتيارات؟ أم أن لكم فهماً مغايراً للمسألة؟
ج: لم أحدد فلسفة عربية، ولم أذهب إلى القول بأن هناك فلسفة عربية معاصرة، بل ذهبت إلى القول بوجود قراءة فلسفية عربية معاصرة، والقصد هنا مختلف، فنحن نعني به أن هناك مجموعة مشتغلين في الفلسفة لديهم قراءاتهم الخاصة للتراث وللحداثة، وبالتالي لهم تأويلاتهم التي يتبنونها وفقًا لمبنيات أيديولوجية أو عقائدية وأحيانًا أخرى ابستمولوجية "معرفية".
أما القول بوجود فلسفة عربية معاصرة، فهذا أمر فيه نظر وتعدد قراءات كذلك، وهو أمر جدلي من الصعب حسمه، فإذا كان من يكتب في التاريخ مؤرخًا ومن يكتب قصائد يعد شاعرًا بمعزل عن قيمة ما يقدمه من إبداع، فيصح أن نقول عن المشتغلين في الفلسفة والمنهمين بها بأنهم فلاسفة، أما إذا ارتبط الأمر بالإبداع فهذا مُختَلَف عليه (بفتح اللام)، ويحتاج إلى مقالات، بل و كتبت فيه أبحاثٌ لمفكرين عرب وغير عرب.

ـ س: في سياق التحولات السياسية التي تجري في المنطقة، ما هو دور الفكر العربي؟
ج: للأسف دور الفكر العربي ضعيف ولا تأثير له إلا في عدد قليل من النخب الثقافية وبعض الشباب الذين يتطلعون للحرية وبناء حضور لهم مستقل عن هيمنة الفكر التراثي الذي يفرض هيمنة الخطاب الماضوي السلفي بوصفه مقياساً لصدق تبني فكر ورفض آخر. المشكل الأكثر خطورة ليس في غياب الفكر والمفكر، بل في غياب تأثير المثقف بصورة أعم، وهذا يعود لعدة أسباب أهمها سيادة النزعة الأبوية ونظام الوصاية وشيوع الخطاب الوعظي وخطاب التجهيل مقابل تهميش الخطاب الفلسفي والخطاب الثقافي.

ـ س: هناك من يرى في الخطاب الديني عائقاً أمام تحضر المجتمعات العربية، ترى المشكلة في الدين أم في الخطاب حول الدين؟ ثم ما إن يجرأ مفكرٌ على إثارة السؤال حتى يبرز خوفٌ يبالغ فيه أحياناً حول الهوية وضياعها، ما هو بتقديركم باعث هذا الخوف؟
وهل يمكن الحديث عن هوية عربية مستقرة في الوقت الراهن؟
ج: الدين له حضور ووجود في أغلب الحضارات والثقافات، لذلك فالمشكل ليس في الدين، بل في فهم هذا الدين، وبالتالي في الخطاب الديني الذي يفرض سطوته في الفكر العربي وكأنه الخطاب المساوي في قداسته للدين، الأمر الذي جعل "وعاظ السلاطين" يفرضون وصايتهم على المجتمع وكأنهم "حراس الحقيقة" و "ربابنة سفينة النجاة". المشكل بأن دعاة الخطاب الوعظي هم الأكثر سطوة في مجتمعاتنا، وهم يستمدون هذه السطوة من جهل المجتمع ومن علاقتهم بالسلطة، سلطة الكهانة أو سلطة الحاكم بأمر الله.
فيما يتعلق بالشق الثاني من سؤالك حول الهوية، ومن ثم الحديث عن هوية عربية، أقول: في ظل شيوع خطاب الإسلام السياسي والصراعات الدينية والمذهبية من الصعب الحديث عن هوية وطنية لا فقط عن هوية عربية، لأن مثل هكذا خطابات تُغيّب الحديث عن هوية لها حدود جغرافية أو ذات بعد عرقي، وأشكال أخرى من الهوية، في الخطاب الديني تحضر الهوية الدينية وفي الخطاب المذهبي تحضر الهوية الطائفية، وبالتالي يكون الحديث عن هويات فرعية تخترق الحدود الوطنية لتبحث عن موالاة الجماعة.
ـ س: يؤخذ على الاستشراق مآخذ كثيرة، منها قصوره المعرفي باشتغاله واستجابته لنزعة المركزية الأوروبية، وافتقاره إلى النقد والتحليل، فما هو موقفكم من الاستشراق؟.
ج: هناك وجهان للاستشراق هما: الاستشراق المعرفي الذي خدم الثقافة العربية والإسلامية على حد سواء، وهاك الاستشراق الأيديولوجي "الكولونيالي" المرتبط بالاستعمار وخدمته له في فهم طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية، والعمل على تقديم خدمة له للسيطرة على شعوبه والتحكم بهم واستغلال ثرواتهم. مع كل ذلك لا يمكن لنا إنكار دور الاستشراق في تحقيق أهم كتب التراث العربي والإسلامي، وتبقى المهمة الأخيرة منوطة بالكتاب والمفكرين العرب للإفادة مما قدمه المستشرقون ونقد ما ينبغي نقده موضوعيًا.
-س: أين تضع مشروع محمد أركون في سياق الفكر العربي والإسلامي، وهل ترى من الممكن أن يُحدث حركة أو تغييراً لو استأنف مشروعه مجموعة من الباحثين؟
ج: لا يمكن لأي باحث في الفكر العربي المعاصر أن ينكر أهمية ما قدمه مفكر مثل محمد أركون في نقد الاستشراق أولًا، وما قدمه في مشروعه "الإسلاميات التطبيقية" وحرصه على "نقد العقل الإسلامي" الذي خالف فيه محمد عابد الجابري في مشروعه "نقد العقل العربي" لأنه يعد الإسلام البنية الحضارية، لأنه يعد الإسلام هو الذي شكل العقل العربي ورسم ملامح حضارته، لذلك نجده أي أركون ينتقد بنية العقل الإسلامي الذي هيمنت عليه "النزعة الأرثوذوكسية" "الراديكالية" المتطرفة التي أقصت الخطاب الأنسني الإسلامي الذي تبلورت ملامحه مع التوحيدي و "ابن مسكويه".
-س: نحن نرى رجلَ دينٍ مثل كمال الحيدري، مهموماً بالراهن، لا نجانب الصواب، لو قلنا إنه يتبنى مقولات أغلب المفكرين العرب كالجابري ومحمد أركون تحديداً، ما قراءتكم لهذه الحركة على مستوى الخطاب الديني والشيعي على الخصوص؟
ج: أتفق معك إلى حد ما في تأكيدك أن السيد الحيدري تبنى بعض مقولات الجابري وأركون، وقد كتبت مقالًا عن تحولات السيد الحيدري الأخيرة.
يؤكد السيد كمال الحيدري أن فلاسفتنا كانوا قبل سبعة قرون مؤثرين في حضارة الغرب، ولم يكن للفقهاء تأثير يُذكر!.
شغلت مشكلة النهضة فكر السيد الحيدري بكل تحولاتها فيقول:"أن نرجع أمة كان لها السهم الأوفى في صناعة الحضارة.
يتساءل الحيدري بقوله ينبغي أن ننفتح على الآخر.
لقد خرج العرب والمسلمون من التاريخ بمجرد أن ماتت الفلسفة في تاريخهم".
الفلسفة تكمن في أمرين: أن تعيش تساؤلات عصرك، وأن تُثير مشكلات عصرك، وهذا ما ذهب إليه أركون والجابري وآخرون من مفكرينا العرب المعاصرين.


س: يرى البعض أن الوارد إلى الثقافة العربية، يأخذ طابعاً سجالياً، ولم يتعداه إلى مساحة التأثير أو التغيير، يرى، وأن البقاء على حافة هذا السجال هو الذي أدى إلى فشل مشروعِ النهضة العربية، هل تذهبون إلى القول بفشل مشروع النهضة، أم أن أملاً ما يزال يعتمل ويبعث على الاشتغال عليه والاستمرار فيه؟
ج: لا أظن أن مشروع النهضة العربية قد فشل رغم كل النقودات التي وجهت له، ومن مفكرين عرب معاصرين وفي مقدمتهم محمد عابد الجابري في كتابيه: "المشروع النهضوي العربي" و"الخطاب العربي المعاصر، والدليل على حضوره أن جل مفكريه مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي وقاسم آمين، ولهم امتداد في الفكر العربي المعاصر، بل شكل بعضهم مدارس لا زال لها مريدون في الفكر العربي المعاصر، بل أجرؤ على القول أن تأثيرهم في الخطاب العربي المعاصر أكثر من تأثير مفكرين عرب معاصرين في يومنا هذا، والسبب في رأيي أن معاناة المجتمع العربي من التخلف والتبعية لا زالت هي هي، وخطابهم يصل لأغلب فئات المجتمع وأقل نخبوية وتعقيدًا من الخطاب العربي المعاصر، لأنه خطاب فيه نزعة نقدية ولكنها لا تمس المحظور في الحياة المجتمعية العربية والإسلامية، لذلك أعتقد أن هناك أملًا في الاشتغال عليه وإعادة إنتاجه وفق التحديات المعاصرة التي تدهونا للنظر في كيفية تحقيق نهضتنا نحن اليوم.

-س: بحكم ما فصلتموه في كتابكم "الفلسفة والتجديد". ما الذي نحتاجه اليوم، التجديد أم التنوير، أم الإصلاح؟
ج: هذه المفاهيم مثل التجديد والتنوير والإصلاح، هي مفاهيم متداخلة ومن الصعب الفصل بينها، فقد يكون في التجديد تنويرًا وفي الإصلاح كذلك، وفي التنوير تجديدًا على وفق المنظور التأصيلي للتنوير في نشأته دينيًا، ولكنه قد ينفصل عنهما فلسفيًا..أما ما نحتاجه فهو النزعة النقدية التي توجد في هذه المفاهيم بوصفها نزعة تبعث على فحص السائد وعدم قبوله على أنه حق ما لم يتبين أنه كذلك على وفق مقولات العقل لا العاطفة والوجدان. كما يصح التجديد في الفكر الديني يصح التجديد في الفلسفة، ولذلك كتب جون دوي مثلًا "تجديد الفلسفة"، لأن الفلسفة كغيرها من الخطابات تحتاج إلى النقد لأنها من دونه ستتحول إلى خطاب سكوني محافظ، كذا الحال مع الخطاب الديني.
-س: هل يوجد لدينا فلاسفة عراقيون؟
ج: ذكرت مضمون الإجابة في سؤال سابق لك، وهي أن ربط مفهوم الفيلسوف بإبداع ما هو جديد قد لا يعطينا الحق بالقول بوجود فلاسفةعراقيين معاصرين، ولكن في حال فهم مفهوم الفيلسوف على أنه المشتغل بالفلسفة والشارح فقد يصح ما يصح عليها حينما أطلق المؤرخون على فلاسفة العصر الوسط مسلمين ومسيحيين بأنهم فلاسفة.
-س: في السنوات الأخيرة، حصل تناقص كبير في الإقبال على قسم الفلسفة في الجامعات العراقية، بحجة عدم امتلاكها حظوظاً في سوق العمل، وهذا لم يحدث مع الفلسفة وحدها، لكنها الأكثر تضرراً من بين أقسام العلوم الإنسانية، أين الخلل، وماذا يحدث لو قررت إحدى الحكومات القادمة إلغاء هذا القسم نهائياً بالحجة نفسها التي يتذرع بها الطلبة؟

ج: ليس في الجامعات العراقية فقط، هناك قبول متدن للطلبة في قسم الفلسفة، بل في أغلب الجامعات العربية، لأن الإقبال على الأقسام العلمية مرتبط بسوق العمل، ومن يدرس في قسم علمي ما ينتظر بعد التخرج أن يجد له فرصة عمل في القطاع الخاص أو في القطاع العام، ولعدم توفر فرص العمل لخريجي أقسام الفلسفة سيكون مصير هذه الأقسام مجهولًا إن لم تعمل الدولة ومؤسساتها على إيجاد فرص عمل لهم، وقد يلغى القبول في هذه الأقسام نتيجة وجود كليات أهلية كثيرة يعتقد الطلبة أن بإمكانهم الدراسة في أقسام قد توفر لهم فرصة عمل بعد التخرج منها، وقد يشمل هذا الحال باقي الأقسام العلمية في الكليات الإنسانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى