لأن محمد دكروب يستحق أكثر، ولأنه استثنائي في تاريخه وفي صداقته، فقد رغبنا استثناء، في أن نودعه بما ملكنا من حروف، فقضية فلسطين كانت دائماً ماثلة في وعيه وفي نضاله وفي نصوصه.
صاحب «جذور السنديانة الحمراء» كان، هو نفسه، سنديانة وعرية خضراء تظلَّلَ في أفيائها الوارفة كتّابٌ يافعون وكاتباتٌ جميلات وأدباء ومناضلون وصحافيون وفنانون وحتى سياسيون. وكان محمد دكروب دائماً مثل أوراق السنديان: ناعم الملمس وجارحا معاً، أو مثل زهر الرمان أي «الجلنار»: رقيق ومتوهج ومفعم بالجمال. هكذا طوى محمد دكروب أيامه كطفل ضاحك ومشاكس، خلافاً لأستاذه حسين مروة الذي ولد شيخاً واغتيل طفلاً. ولعل محمد دكروب، بحضوره الحاني، كان يخفي آلامه، وكأنه يقول: من صعوبة البكاء نضحك.
بدأ قومياً عربياً على غرار معظم أبناء جيله الذين تفتحت مداركهم السياسية على هزيمة فيصل الأول ملك سوريا، وعلى ايقاع الثورات الوطنية في سوريا وفلسطين. لكن محمد دكروب لم يلبث أن تحول إلى الشيوعية، تماماً مثل رفيق دربه كريم مروة الذي بدأ حياته قومياً عربياً، ثم بتأثير من حسين مروة نزيل الحوزات العلمية في العراق، أصبح شيوعياً. وفي تلك الفترة، وبالتحديد في سنة 1948، تطوع محمد دكروب مع نفر من رفاقه في جيش الانقاذ، لكنه لم يتمكن من المشاركة مباشرة في المعارك الناشبة يومئذ في فلسطين، فقد صح منه العزم لكن الدهر أبى.
******
في المدرسة الجعفرية في صور التي أمضى فيها أربع سنوات دراسية فقط، اكتشف فن المسرح على يدي أستاذه الفنان محمد سلمان، وأدى دور الذئب في احدى المسرحيات. لكنه لم يصبح ذئباً على الطريقة المركنتلية اللبنانية، بل بقي طوال حياته وديعاً كحمل ووادعاً كحمائم الأنهار. وحتى حين عاندته أقداره وعمل فوّالاً مع والده، ثم بائع ترمس وعامل بناء وسقاء، ثم سمكرياً في دكان شقيقه، لم يسخط على هذه الدنيا، بل أقبل عليها بشغف المستهام، فكان يلحم أباريق التنك ويكتب قصصه على قرقعة ألواح الزينكو وإصلاح بوابير الكاز وصُنع «النواصات» التنكية التي طالما أضاءت عتمة الليالي في قرى الجنوب اللبناني.
هزئ بالدراسة والمدرسة عندما عاكسته رياح التعلم، وبرهن ان في الامكان، أحياناً، ان يتفوق الإنسان الفرد على المدرسة ونظامها. وكان محمد دكروب مثالاً مضيئاً للإرادة حين تُناطح القدر على غرار أبطال الأساطير الاغريقية. وخلافاً لنهايات هذه الأساطير التي يُهزم الفرد فيها أمام الأقدار، فإن محمد دكروب هزم بإرادته أقداره المعاكسة، وحوّل مجلات «الهلال» و«الرسالة» و«الكاتب المصري» إلى مدرسة كان فيها التلميذ المنفرد والمتفرد، واختار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وشبلي الشميل وغيرهم ليكونوا أساتذته. وعلى عمارة أفكار طه حسين ومجلة «الكاتب المصري» شاد محمد دكروب ثقافته ومعارفه وذائقته الأدبية، وراح يكتب قصصاً عن البحارة والعمال والعتالين كما عرفهم في مدينة صور، ويرسل نصوصه إلى جريدة «الحياة» التي كانت تنشر بعضها في باب «رسائل القراء»، وهو باب وَلَجَهُ جميع الكُتّاب الكبار في العالم، وكان المعبر الماراثوني الإجباري لمعظم مبدعي العالم العربي. كما نشر في مجلة «الألواح» التي أصدرها صدر الدين شرف الدين، وهو شخصية اضطرابية مأساوية غريبة كان أصدر في العراق قبل ذلك مجلة «الساعة» التي استقبلت بواكير حسين مروة.
******
في أحد الأيام وقف شخص عند باب الدكان في صور قائلاً: أنا حسين مروة، وقد حدثني عنك كثيراً كريم مروة، ووصف لي سيرتك أيها البروليتاري المكافح. وهكذا عُقدت صلة لم تنفك إلا بالموت بين حسين مروة ومحمد دكروب. وفي ما بعد، أي في سنة 1951، تدبر له عملاً لدى محل لبيع الورق بالقرب من سينما كريستال في قلب بيروت العتيقة التي اندثرت. وكانت هذه السينما شهدت أول احتفال عمالي لحزب الشعب اللبناني في سنة 1925. وعلى الفور ترك محمد دكروب صور وانتقل إلى العاصمة. وهناك تعرف إلى محمد عيتاني الذي قاده إلى ألبير أديب ومجلة «الأديب» التي بدأت تنشر له نصوصاً ومقالات معمقة. وفي سنة 1952 طلب إليه حسين مروة أن يتولى تحرير مجلة «الثقافة الوطنية» حتى قبل ان ينتظم رسمياً في صفوف الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني. وكم كانت غصته حارقة حين أوقف خالد بكداش هذه المجلة في سنة 1959 وهي في ذروة ازدهارها وانتشارها. وبعد إقفال «الثقافة الوطنية» عكف على الكتابة في مجلة «الأخبار» الأسبوعية وفي جريدة «النداء» اليومية. وفي سنة 1965 استدعاه انطون ثابت وطلب إليه العمل في مجلة «الطريق» لتحويلها من مجلة سياسية إلى مجلة ثقافية. وصارت «الطريق» بيته وعنوانه واستمر فيها حتى سنة 1993 حين أصبح رئيساً لتحريرها، وأمضى في هذا الموقع عشر سنوات متواصلة. وفي «الطريق» عايش انطون ثابت وحسين مروة ومهدي عامل ومحمد عيتاني. وأقام علاقات وثقى باليساريين العرب أمثال محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ويوسف ادريس.
******
بدأ محمد دكروب الكتابة كقاص. وأراد أن يصبح روائياً، لكنه انعطف إلى الثقافة والفكر. ومع ذلك كتب «جذور السنديانة الحمراء» كرواية لا ككتاب في التاريخ. ولعل هذا الأمر هو سر شيوع هذا الكتاب وانتشاره. لم يكن محمد دكروب مؤرخاً، لكنه كتب تاريخاً لحزبه بلغة أديب، وتمكن من جمع وثائق هذه الرواية في غضون ثلاثة أشهر بمساعدة ارتين مادايان ويوسف إبراهيم يزبك وخليل الدبس، ثم صاغها في ثلاثة أشهر أيضاً، وأمسى هذا الكتاب أشهر ما كتب.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تناثر الشيوعيون أيدي سبأ، وتراجع كثيرون إلى خط الدفاع الثاني، أي إلى الليبرالية التي زحلقت بعضهم إلى الخندق الأميركي، إلا محمد دكروب الذي ظل شيوعياً ولو على طريقته. وقد كافح بعناد كي يعيد إصدار «الطريق» التي أرادها في يقظتها الأخيرة نقطة محورية لإعادة تجميع اليساريين واجتذابهم إلى نطاقها.
عاش محمد دكروب ضاحكاً، ورحل فقيراً متبسماً كشيوعي من طراز القرن التاسع عشر؛ مفعم بالمجد والأمل والإرادة. مات محمد دكروب في الرابع والعشرين من تشرين الثاني 2013، في الذكرى التاسعة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي السوري (واللبناني)، كأن لموته حكمة خفية أو سراً يومض ولا يبوح. والحكمة تقول إن الأحزاب كالأفراد تشيخ، أما بعض الأفراد مثل محمد دكروب فعاشوا من غير أن يشيخوا.

صاحب «جذور السنديانة الحمراء» كان، هو نفسه، سنديانة وعرية خضراء تظلَّلَ في أفيائها الوارفة كتّابٌ يافعون وكاتباتٌ جميلات وأدباء ومناضلون وصحافيون وفنانون وحتى سياسيون. وكان محمد دكروب دائماً مثل أوراق السنديان: ناعم الملمس وجارحا معاً، أو مثل زهر الرمان أي «الجلنار»: رقيق ومتوهج ومفعم بالجمال. هكذا طوى محمد دكروب أيامه كطفل ضاحك ومشاكس، خلافاً لأستاذه حسين مروة الذي ولد شيخاً واغتيل طفلاً. ولعل محمد دكروب، بحضوره الحاني، كان يخفي آلامه، وكأنه يقول: من صعوبة البكاء نضحك.
بدأ قومياً عربياً على غرار معظم أبناء جيله الذين تفتحت مداركهم السياسية على هزيمة فيصل الأول ملك سوريا، وعلى ايقاع الثورات الوطنية في سوريا وفلسطين. لكن محمد دكروب لم يلبث أن تحول إلى الشيوعية، تماماً مثل رفيق دربه كريم مروة الذي بدأ حياته قومياً عربياً، ثم بتأثير من حسين مروة نزيل الحوزات العلمية في العراق، أصبح شيوعياً. وفي تلك الفترة، وبالتحديد في سنة 1948، تطوع محمد دكروب مع نفر من رفاقه في جيش الانقاذ، لكنه لم يتمكن من المشاركة مباشرة في المعارك الناشبة يومئذ في فلسطين، فقد صح منه العزم لكن الدهر أبى.
******
في المدرسة الجعفرية في صور التي أمضى فيها أربع سنوات دراسية فقط، اكتشف فن المسرح على يدي أستاذه الفنان محمد سلمان، وأدى دور الذئب في احدى المسرحيات. لكنه لم يصبح ذئباً على الطريقة المركنتلية اللبنانية، بل بقي طوال حياته وديعاً كحمل ووادعاً كحمائم الأنهار. وحتى حين عاندته أقداره وعمل فوّالاً مع والده، ثم بائع ترمس وعامل بناء وسقاء، ثم سمكرياً في دكان شقيقه، لم يسخط على هذه الدنيا، بل أقبل عليها بشغف المستهام، فكان يلحم أباريق التنك ويكتب قصصه على قرقعة ألواح الزينكو وإصلاح بوابير الكاز وصُنع «النواصات» التنكية التي طالما أضاءت عتمة الليالي في قرى الجنوب اللبناني.
هزئ بالدراسة والمدرسة عندما عاكسته رياح التعلم، وبرهن ان في الامكان، أحياناً، ان يتفوق الإنسان الفرد على المدرسة ونظامها. وكان محمد دكروب مثالاً مضيئاً للإرادة حين تُناطح القدر على غرار أبطال الأساطير الاغريقية. وخلافاً لنهايات هذه الأساطير التي يُهزم الفرد فيها أمام الأقدار، فإن محمد دكروب هزم بإرادته أقداره المعاكسة، وحوّل مجلات «الهلال» و«الرسالة» و«الكاتب المصري» إلى مدرسة كان فيها التلميذ المنفرد والمتفرد، واختار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وشبلي الشميل وغيرهم ليكونوا أساتذته. وعلى عمارة أفكار طه حسين ومجلة «الكاتب المصري» شاد محمد دكروب ثقافته ومعارفه وذائقته الأدبية، وراح يكتب قصصاً عن البحارة والعمال والعتالين كما عرفهم في مدينة صور، ويرسل نصوصه إلى جريدة «الحياة» التي كانت تنشر بعضها في باب «رسائل القراء»، وهو باب وَلَجَهُ جميع الكُتّاب الكبار في العالم، وكان المعبر الماراثوني الإجباري لمعظم مبدعي العالم العربي. كما نشر في مجلة «الألواح» التي أصدرها صدر الدين شرف الدين، وهو شخصية اضطرابية مأساوية غريبة كان أصدر في العراق قبل ذلك مجلة «الساعة» التي استقبلت بواكير حسين مروة.
******
في أحد الأيام وقف شخص عند باب الدكان في صور قائلاً: أنا حسين مروة، وقد حدثني عنك كثيراً كريم مروة، ووصف لي سيرتك أيها البروليتاري المكافح. وهكذا عُقدت صلة لم تنفك إلا بالموت بين حسين مروة ومحمد دكروب. وفي ما بعد، أي في سنة 1951، تدبر له عملاً لدى محل لبيع الورق بالقرب من سينما كريستال في قلب بيروت العتيقة التي اندثرت. وكانت هذه السينما شهدت أول احتفال عمالي لحزب الشعب اللبناني في سنة 1925. وعلى الفور ترك محمد دكروب صور وانتقل إلى العاصمة. وهناك تعرف إلى محمد عيتاني الذي قاده إلى ألبير أديب ومجلة «الأديب» التي بدأت تنشر له نصوصاً ومقالات معمقة. وفي سنة 1952 طلب إليه حسين مروة أن يتولى تحرير مجلة «الثقافة الوطنية» حتى قبل ان ينتظم رسمياً في صفوف الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني. وكم كانت غصته حارقة حين أوقف خالد بكداش هذه المجلة في سنة 1959 وهي في ذروة ازدهارها وانتشارها. وبعد إقفال «الثقافة الوطنية» عكف على الكتابة في مجلة «الأخبار» الأسبوعية وفي جريدة «النداء» اليومية. وفي سنة 1965 استدعاه انطون ثابت وطلب إليه العمل في مجلة «الطريق» لتحويلها من مجلة سياسية إلى مجلة ثقافية. وصارت «الطريق» بيته وعنوانه واستمر فيها حتى سنة 1993 حين أصبح رئيساً لتحريرها، وأمضى في هذا الموقع عشر سنوات متواصلة. وفي «الطريق» عايش انطون ثابت وحسين مروة ومهدي عامل ومحمد عيتاني. وأقام علاقات وثقى باليساريين العرب أمثال محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ويوسف ادريس.
******
بدأ محمد دكروب الكتابة كقاص. وأراد أن يصبح روائياً، لكنه انعطف إلى الثقافة والفكر. ومع ذلك كتب «جذور السنديانة الحمراء» كرواية لا ككتاب في التاريخ. ولعل هذا الأمر هو سر شيوع هذا الكتاب وانتشاره. لم يكن محمد دكروب مؤرخاً، لكنه كتب تاريخاً لحزبه بلغة أديب، وتمكن من جمع وثائق هذه الرواية في غضون ثلاثة أشهر بمساعدة ارتين مادايان ويوسف إبراهيم يزبك وخليل الدبس، ثم صاغها في ثلاثة أشهر أيضاً، وأمسى هذا الكتاب أشهر ما كتب.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تناثر الشيوعيون أيدي سبأ، وتراجع كثيرون إلى خط الدفاع الثاني، أي إلى الليبرالية التي زحلقت بعضهم إلى الخندق الأميركي، إلا محمد دكروب الذي ظل شيوعياً ولو على طريقته. وقد كافح بعناد كي يعيد إصدار «الطريق» التي أرادها في يقظتها الأخيرة نقطة محورية لإعادة تجميع اليساريين واجتذابهم إلى نطاقها.
عاش محمد دكروب ضاحكاً، ورحل فقيراً متبسماً كشيوعي من طراز القرن التاسع عشر؛ مفعم بالمجد والأمل والإرادة. مات محمد دكروب في الرابع والعشرين من تشرين الثاني 2013، في الذكرى التاسعة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي السوري (واللبناني)، كأن لموته حكمة خفية أو سراً يومض ولا يبوح. والحكمة تقول إن الأحزاب كالأفراد تشيخ، أما بعض الأفراد مثل محمد دكروب فعاشوا من غير أن يشيخوا.