للأحوال الاقتصادية في كل مجتمع شأن عظيم في توجيه حياة أفراده، وفي إقامة النظم الحكومية والآداب العرفية بين أهله
هذه حقيقة لا حاجة بها إلى كشف ولا إثبات، ولا حاجة بها إلى كاشفين ولا مثبتين، لأنها أقرب إلى البديهيات المقررة والأصول المسلمة، منها إلى (نظريات) الأدلة والبراهين.
هذه حقيقة لم يكشفها الاشتراكيون والشيوعيون، وإن غلا فيها دعاة الاشتراكية والشيوعية، فإن شاءوا من خصوم مذهبهم أن يثبتوها معهم أو يثبتوها قبلهم أو بعدهم فما من معارضة في إثباتها بين فريق من الناس حيث كان
ولهم أن نزيدهم خطوة أخرى في هذا الطريق فنقول: إن الأحوال الاقتصادية وراء كل حركة عظيمة من حركات التاريخ؛ فما سجل التاريخ قط من نهضة أو دعوة أو ثورة أو انقلاب إلا كان للأحوال الاقتصادية في كل أولئك أثر واضح وسهم كبير.
وإلى هنا نقف فلا نستطيع أن نتقدم خطوة؛ لأننا إذا تقدمنا خطوة أخرى وراء هذه الخطوة قلنا ما ليس في وسعنا أن نقوله وليس في وسع العقل أن يقبله ويسيغه: قلنا إن الأحوال الاقتصادية هي كل شيء وإنها هي المهم الذي لا مهم غيره، وإن العوامل الكونية لا تشتمل على شيء آخر غير المضاربات والأسواق وتداول الأسعار.
وهذا مسخ للحياة ومسخ للفكر ومسخ للعوامل الكونية
بل هذا مسخ للكون حتى ليصبح من بداية الخلق إلى نهايته (بورصة) مضاربات ومثابة سمسرة وشطارة واختلاس
وليس في وسعنا أن نقول ذلك، وإن قاله الاشتراكيون، وقاله الغلاة من الاشتراكيين وهم الشيوعيون الماركسيون
فالأحوال الاقتصادية شيء هام ولكنها ليست بكل شيء هام، والأحوال الاقتصادية لها سلطان على المجتمع ولكنها ليست بكل سلطان في المجتمع، وليس المجتمع مع ذلك بالقضاء الذي لا يرد له حكم في حياة الأفراد، فقد يكون للأفراد حكم نافذ في كل مجتمع نشأوا فيه.
والقول بهذا هو الحد الفاصل بيننا وبين دعاة الاشتراكية الذين يلغون سلطان الفرد ليثبتوا سلطان المجتمع، ثم يقيمون للمجتمع قانوناً لا فكاك منه ولا محيد عنه، وهو قانون الضرورة المادية أو الضرورة الاقتصادية أو ما يسمونه في الجملة بالتفسير المادي للتاريخ.
ليست الأحوال الاقتصادية بكل شيء
وليس المجتمع بكل شيء
وليس الفرد لغواً إلى جانب المجتمع أو الأحوال الاقتصادية. ولكنه شيء، والمجتمع شيء، والأحوال الاقتصادية شيء، وليس من الضروري اللازم لإدراك حقيقة من الحقائق الاجتماعية أو الفلسفية أن نلغي شيئاً من هذه الأشياء
احسبنا في عهدنا هذا أحوج ما كنا إلى توكيد هذه الحقيقة مرة بعد مرة، لأن توكيدها في الأذهان غير عاصم من ضلال الشعور - بل ضلال الوهم - الذي يتمثل لبعض الناس كأنه مذهب من مذاهب التفكير.
فتغليب الشئون الاقتصادية، أو تغليب الدوافع المادية على دوافع الحياة في الأفراد، هو في الواقع (قدرية) جديدة يلجأ إليها العاجزون في زماننا هرباً من التبعة، كما لجأ العاجزون فيما مضى إلى قدرية القرون الوسطى
كان العاجزون فيما مضى يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذا قدر مكتوب لا حيلة فيه!
فأصبح العاجزون في زماننا يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذه ضرورات الاقتصاد التي تسيطر على إرادة الأفراد، فلا لوم عليهم، ولا تقصير من قبلهم، وإنما اللوم لوم المجتمع والتقصير تقصير (الأحوال)
وما كتبنا قط مقالاً عن الفرد والمجتمع إلا أحسسنا بخطر هذه القدرية في أسئلة بعض السائلين، وتعقيب بعض المعقبين، فعلمنا أنه (مهرب) جديد من التبعات الفردية، يلوذ به من يحاول فيفشل فيعز عليه أن يلوم نفسه على فشله، فيذهب به ليلقيه على كاهل المجتمع أو الأحوال الاقتصادية أو التفسير المادي للتاريخ.
أحسسنا بخطر هذه القدرية مرة أخرى على أثر المقال الذي كتبناه عن أسس الإصلاح، والمقال الذي كتبناه عن فلسفة الترجمة، لأننا أثبتنا في كلا المقالين وجود الفرد إلى جانب وجود الدولة أو المجتمع، وخرجنا منهما بالرأي الذي خلاصته أن الفرد قد يكون قوة فاعلة كما يكون نتيجة منفعلة، وإن الإصلاح الذي يلغي حرية الفرد فساد شر من كل فساد.
كتبنا ذينك المقالين فلم يسترح إليهما أناس ممن استراحوا إلى القدرية الجديدة، لأن إعفاء النفس من اللوم راحة، وإلقاء التبعة كلها على المجتمع راحة، وفيما ذكرناه في المقالين ما يزعج المستنيم إلى تينك الراحتين.
يجب أن نقول إن المجتمع هو كل شيء، وإن الذنب كله هو ذنبه، ليستريح المؤمنون بالقدرية الجديدة
ولكننا لا نقول ذلك، وليس لنا أن نقوله. . . بل نحن نقول إن المجتمع شيء فقط وليس بكل شيء، وإن عليه ذنوباً وليست عليه جميع الذنوب، فالقدريون إذن غير مستريحين، و (الحوقلة) من نوع جديد هي كل ما يعبرون به عن هذا القلق المستحدث: قلق التفسير المادي للتاريخ!
ومهما يبلغ هؤلاء القدريون الجدد من الحوقلة فما هم بقادرين على إلغاء الفرد وإنكار قسطه من توجيه التاريخ، وبخاصة حين يكون من عظماء الأفراد
قالوا مثلاً ما طاب لهم أن يقولوا عن المظالم التي ضيقت على الناس منذ قرون فهجروا بلادهم إلى القارة الأمريكية، وقالوا ما طاب لهم أن يقولوا عن الأسباب الاقتصادية التي حفزت أناساً إلى البحث عن طريق جديد إلى الهند، فعثروا من طريق المصادفة على تلك القارة الأمريكية.
ولكن الذي قالوه كله لن يفسر لنا الفوارق بين الناس في التأثر بالمظالم أو بالعوامل الاقتصادية؟
فالمظالم قد نزلت بملايين من الناس، والعوامل الاقتصادية قد أحاطت بملايين من الناس، فلماذا وجد فيهم من ينفر من الظلم فيهجر بلاده ووجد فيهم من يستكين إلى الظلم فيقيم حيث أقام؟ ولماذا قنع أفراد بالشظف وطمح أناس إلى الوفر والثراء في قطر مجهول؟
أهي العوامل الاقتصادية التي فرقت بين فرد وفرد في حظوظ الحياة وملكات الشعور؟
وإذا كانت العوامل الاقتصادية لم تخلق هذا فمن أين لها أن تلغيه، وكيف يسعها أن تفسر التاريخ وهذه الفوارق الحيوية باقية عندها بغير تفسير.
كانت نظم الحكم في الدولة العثمانية واحدة، وكانت أسباب المعيشة بين رعاياها متماثلة أو متقاربة، ولكنها كانت تدين اليوم لسلطان قوي فإذا هي قوة مخيفة لمن حولها، ثم يخلفه على الأثر سلطان ضعيف فإذا هي مطمع لكل طامع فيها
فكيف ينكر المنكرون مع هذا أن اختلاف الأفراد لا يغير ولا يبدل في حوادث الأمم وحركات التاريخ؟
وسألنا سائل: ماذا يكون (صلاح الدين) لولا الحروب الصليبية؟ فسألناه: وماذا تكون الحروب الصليبية لولا صلاح الدين؟ بل لماذا تغيرت الوقائع كلما تغير القواد في تلك الحروب وفي جميع الحروب؟
والطريف في مناقشات هؤلاء القدريين أنهم يعقدون المقارنة بين الأبطال والحوادث ليرجحوا نصيب الحوادث على نصيب الأبطال، فيضعون صلاح الدين في كفة ويضعون الحوادث الصليبية في كفة أخرى، ويفعلون مثل ذلك في جميع الحوادث وجميع الأقدار، فإذا هم يبدعون للناس وزناً لا يستقيم في ميزان لأن المقارنة إنما تنعقد بين الأمثال والأشباه؛ فتنعقد المقارنة بين الحروب الصليبية وبين الغارات التترية، أو بين حروب الإسلام وحروب المسيحية، أو بين الثورة الفرنسية والثورة الروسية، ثم تنعقد المقارنة بين القواد هنا والقواد هناك، وبين العظماء في نهضة والعظماء في نهضة أخرى، ليتبين لنا ما استطاعه هؤلاء وما استطاعه هؤلاء، ويثبت لنا الميزان رجحان هذا أو رجحان ذاك.
أما من هو الأرجح: صلاح الدين أو الحوادث الصليبية؟ فهو ميزان لا يفيد ولا يدل على شيء، ولا يثوب إلى أصول
أو الوجه الصحيح في بيان فعل صلاح الدين وفضله أن تنعقد المقارنة بينه وبين فرد آخر ممن كانوا في عصره ولم يفعلوا مثل فعله ولم يؤثر لهم فضل كفضله. فيقال إنه فعل وأن غيره لم يفعل، وأن اختلاف الأفراد يؤدي إلى اختلاف الأفعال.
لكن الغرام الذي ملك على هؤلاء القدريين ألبابهم هو غرام البخس والانتقاص، وأقرب طريق إلى البخس والانتقاص أن يكون العظماء فضولاً وترفاً (مستغنى عنه). . . لأنهم أفراد وليسوا بمجتمع وافر التعداد!
نحن أبناء الشرق أحرى الناس أن نفلت من إرهاق هذه الآفة، لأننا قد فنينا في المجتمع آلافاً من السنين. فحق لنا أن نعطي الفرد أمداً من الحرية يرتع فيه جيلاً أو جيلين، ولو على سبيل التجربة إلى حين!
على أن الحقيقة البينة التي نؤمن بها أن المستقبل للفرد إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر نستقصيه، وأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الفرد في اضطلاعه بالحقوق والواجبات. فكلما أوغلنا في القدم رجعنا على التوالي إلى أزمنة تقل فيها حقوقه كلما تقل فيها واجباته، وكلما تقدمنا مع الزمن كانت آية التقدم أن الفرد يزداد في تبعاته أي يزداد في حقوقه وواجباته، ويعرف له شأناً في المجتمع مستقلاً به ما وسعه أن يستقل، أو هو على الجملة أوفر استقلالاً مما أتيح له في مجتمعات الزمن القديم.
ومقاييس التقدم كما قلنا في بعض كتبنا (كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال: فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياساً واحداً لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة. فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل.
(فاحتمال التبعات هو مناط التقدم المستطاع)
ومعنى ذلك أن التقدم هو الاعتراف بالفرد والاعتراف بشأنه في المجتمع، والخروج به من ربقة القدرية التي تفرض عليه سلطاناً يستغرقه ويطويه.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 509
بتاريخ: 05 - 04 - 1943
هذه حقيقة لا حاجة بها إلى كشف ولا إثبات، ولا حاجة بها إلى كاشفين ولا مثبتين، لأنها أقرب إلى البديهيات المقررة والأصول المسلمة، منها إلى (نظريات) الأدلة والبراهين.
هذه حقيقة لم يكشفها الاشتراكيون والشيوعيون، وإن غلا فيها دعاة الاشتراكية والشيوعية، فإن شاءوا من خصوم مذهبهم أن يثبتوها معهم أو يثبتوها قبلهم أو بعدهم فما من معارضة في إثباتها بين فريق من الناس حيث كان
ولهم أن نزيدهم خطوة أخرى في هذا الطريق فنقول: إن الأحوال الاقتصادية وراء كل حركة عظيمة من حركات التاريخ؛ فما سجل التاريخ قط من نهضة أو دعوة أو ثورة أو انقلاب إلا كان للأحوال الاقتصادية في كل أولئك أثر واضح وسهم كبير.
وإلى هنا نقف فلا نستطيع أن نتقدم خطوة؛ لأننا إذا تقدمنا خطوة أخرى وراء هذه الخطوة قلنا ما ليس في وسعنا أن نقوله وليس في وسع العقل أن يقبله ويسيغه: قلنا إن الأحوال الاقتصادية هي كل شيء وإنها هي المهم الذي لا مهم غيره، وإن العوامل الكونية لا تشتمل على شيء آخر غير المضاربات والأسواق وتداول الأسعار.
وهذا مسخ للحياة ومسخ للفكر ومسخ للعوامل الكونية
بل هذا مسخ للكون حتى ليصبح من بداية الخلق إلى نهايته (بورصة) مضاربات ومثابة سمسرة وشطارة واختلاس
وليس في وسعنا أن نقول ذلك، وإن قاله الاشتراكيون، وقاله الغلاة من الاشتراكيين وهم الشيوعيون الماركسيون
فالأحوال الاقتصادية شيء هام ولكنها ليست بكل شيء هام، والأحوال الاقتصادية لها سلطان على المجتمع ولكنها ليست بكل سلطان في المجتمع، وليس المجتمع مع ذلك بالقضاء الذي لا يرد له حكم في حياة الأفراد، فقد يكون للأفراد حكم نافذ في كل مجتمع نشأوا فيه.
والقول بهذا هو الحد الفاصل بيننا وبين دعاة الاشتراكية الذين يلغون سلطان الفرد ليثبتوا سلطان المجتمع، ثم يقيمون للمجتمع قانوناً لا فكاك منه ولا محيد عنه، وهو قانون الضرورة المادية أو الضرورة الاقتصادية أو ما يسمونه في الجملة بالتفسير المادي للتاريخ.
ليست الأحوال الاقتصادية بكل شيء
وليس المجتمع بكل شيء
وليس الفرد لغواً إلى جانب المجتمع أو الأحوال الاقتصادية. ولكنه شيء، والمجتمع شيء، والأحوال الاقتصادية شيء، وليس من الضروري اللازم لإدراك حقيقة من الحقائق الاجتماعية أو الفلسفية أن نلغي شيئاً من هذه الأشياء
احسبنا في عهدنا هذا أحوج ما كنا إلى توكيد هذه الحقيقة مرة بعد مرة، لأن توكيدها في الأذهان غير عاصم من ضلال الشعور - بل ضلال الوهم - الذي يتمثل لبعض الناس كأنه مذهب من مذاهب التفكير.
فتغليب الشئون الاقتصادية، أو تغليب الدوافع المادية على دوافع الحياة في الأفراد، هو في الواقع (قدرية) جديدة يلجأ إليها العاجزون في زماننا هرباً من التبعة، كما لجأ العاجزون فيما مضى إلى قدرية القرون الوسطى
كان العاجزون فيما مضى يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذا قدر مكتوب لا حيلة فيه!
فأصبح العاجزون في زماننا يقولون: ماذا نصنع؟ وما الحيلة؟ هذه ضرورات الاقتصاد التي تسيطر على إرادة الأفراد، فلا لوم عليهم، ولا تقصير من قبلهم، وإنما اللوم لوم المجتمع والتقصير تقصير (الأحوال)
وما كتبنا قط مقالاً عن الفرد والمجتمع إلا أحسسنا بخطر هذه القدرية في أسئلة بعض السائلين، وتعقيب بعض المعقبين، فعلمنا أنه (مهرب) جديد من التبعات الفردية، يلوذ به من يحاول فيفشل فيعز عليه أن يلوم نفسه على فشله، فيذهب به ليلقيه على كاهل المجتمع أو الأحوال الاقتصادية أو التفسير المادي للتاريخ.
أحسسنا بخطر هذه القدرية مرة أخرى على أثر المقال الذي كتبناه عن أسس الإصلاح، والمقال الذي كتبناه عن فلسفة الترجمة، لأننا أثبتنا في كلا المقالين وجود الفرد إلى جانب وجود الدولة أو المجتمع، وخرجنا منهما بالرأي الذي خلاصته أن الفرد قد يكون قوة فاعلة كما يكون نتيجة منفعلة، وإن الإصلاح الذي يلغي حرية الفرد فساد شر من كل فساد.
كتبنا ذينك المقالين فلم يسترح إليهما أناس ممن استراحوا إلى القدرية الجديدة، لأن إعفاء النفس من اللوم راحة، وإلقاء التبعة كلها على المجتمع راحة، وفيما ذكرناه في المقالين ما يزعج المستنيم إلى تينك الراحتين.
يجب أن نقول إن المجتمع هو كل شيء، وإن الذنب كله هو ذنبه، ليستريح المؤمنون بالقدرية الجديدة
ولكننا لا نقول ذلك، وليس لنا أن نقوله. . . بل نحن نقول إن المجتمع شيء فقط وليس بكل شيء، وإن عليه ذنوباً وليست عليه جميع الذنوب، فالقدريون إذن غير مستريحين، و (الحوقلة) من نوع جديد هي كل ما يعبرون به عن هذا القلق المستحدث: قلق التفسير المادي للتاريخ!
ومهما يبلغ هؤلاء القدريون الجدد من الحوقلة فما هم بقادرين على إلغاء الفرد وإنكار قسطه من توجيه التاريخ، وبخاصة حين يكون من عظماء الأفراد
قالوا مثلاً ما طاب لهم أن يقولوا عن المظالم التي ضيقت على الناس منذ قرون فهجروا بلادهم إلى القارة الأمريكية، وقالوا ما طاب لهم أن يقولوا عن الأسباب الاقتصادية التي حفزت أناساً إلى البحث عن طريق جديد إلى الهند، فعثروا من طريق المصادفة على تلك القارة الأمريكية.
ولكن الذي قالوه كله لن يفسر لنا الفوارق بين الناس في التأثر بالمظالم أو بالعوامل الاقتصادية؟
فالمظالم قد نزلت بملايين من الناس، والعوامل الاقتصادية قد أحاطت بملايين من الناس، فلماذا وجد فيهم من ينفر من الظلم فيهجر بلاده ووجد فيهم من يستكين إلى الظلم فيقيم حيث أقام؟ ولماذا قنع أفراد بالشظف وطمح أناس إلى الوفر والثراء في قطر مجهول؟
أهي العوامل الاقتصادية التي فرقت بين فرد وفرد في حظوظ الحياة وملكات الشعور؟
وإذا كانت العوامل الاقتصادية لم تخلق هذا فمن أين لها أن تلغيه، وكيف يسعها أن تفسر التاريخ وهذه الفوارق الحيوية باقية عندها بغير تفسير.
كانت نظم الحكم في الدولة العثمانية واحدة، وكانت أسباب المعيشة بين رعاياها متماثلة أو متقاربة، ولكنها كانت تدين اليوم لسلطان قوي فإذا هي قوة مخيفة لمن حولها، ثم يخلفه على الأثر سلطان ضعيف فإذا هي مطمع لكل طامع فيها
فكيف ينكر المنكرون مع هذا أن اختلاف الأفراد لا يغير ولا يبدل في حوادث الأمم وحركات التاريخ؟
وسألنا سائل: ماذا يكون (صلاح الدين) لولا الحروب الصليبية؟ فسألناه: وماذا تكون الحروب الصليبية لولا صلاح الدين؟ بل لماذا تغيرت الوقائع كلما تغير القواد في تلك الحروب وفي جميع الحروب؟
والطريف في مناقشات هؤلاء القدريين أنهم يعقدون المقارنة بين الأبطال والحوادث ليرجحوا نصيب الحوادث على نصيب الأبطال، فيضعون صلاح الدين في كفة ويضعون الحوادث الصليبية في كفة أخرى، ويفعلون مثل ذلك في جميع الحوادث وجميع الأقدار، فإذا هم يبدعون للناس وزناً لا يستقيم في ميزان لأن المقارنة إنما تنعقد بين الأمثال والأشباه؛ فتنعقد المقارنة بين الحروب الصليبية وبين الغارات التترية، أو بين حروب الإسلام وحروب المسيحية، أو بين الثورة الفرنسية والثورة الروسية، ثم تنعقد المقارنة بين القواد هنا والقواد هناك، وبين العظماء في نهضة والعظماء في نهضة أخرى، ليتبين لنا ما استطاعه هؤلاء وما استطاعه هؤلاء، ويثبت لنا الميزان رجحان هذا أو رجحان ذاك.
أما من هو الأرجح: صلاح الدين أو الحوادث الصليبية؟ فهو ميزان لا يفيد ولا يدل على شيء، ولا يثوب إلى أصول
أو الوجه الصحيح في بيان فعل صلاح الدين وفضله أن تنعقد المقارنة بينه وبين فرد آخر ممن كانوا في عصره ولم يفعلوا مثل فعله ولم يؤثر لهم فضل كفضله. فيقال إنه فعل وأن غيره لم يفعل، وأن اختلاف الأفراد يؤدي إلى اختلاف الأفعال.
لكن الغرام الذي ملك على هؤلاء القدريين ألبابهم هو غرام البخس والانتقاص، وأقرب طريق إلى البخس والانتقاص أن يكون العظماء فضولاً وترفاً (مستغنى عنه). . . لأنهم أفراد وليسوا بمجتمع وافر التعداد!
نحن أبناء الشرق أحرى الناس أن نفلت من إرهاق هذه الآفة، لأننا قد فنينا في المجتمع آلافاً من السنين. فحق لنا أن نعطي الفرد أمداً من الحرية يرتع فيه جيلاً أو جيلين، ولو على سبيل التجربة إلى حين!
على أن الحقيقة البينة التي نؤمن بها أن المستقبل للفرد إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر نستقصيه، وأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الفرد في اضطلاعه بالحقوق والواجبات. فكلما أوغلنا في القدم رجعنا على التوالي إلى أزمنة تقل فيها حقوقه كلما تقل فيها واجباته، وكلما تقدمنا مع الزمن كانت آية التقدم أن الفرد يزداد في تبعاته أي يزداد في حقوقه وواجباته، ويعرف له شأناً في المجتمع مستقلاً به ما وسعه أن يستقل، أو هو على الجملة أوفر استقلالاً مما أتيح له في مجتمعات الزمن القديم.
ومقاييس التقدم كما قلنا في بعض كتبنا (كثيرة يقع فيها الاختلاف والاختلال: فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى فقد يغنى الجاهل ويفتقر العالم، وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة وتجهل الأمم الوثيقة الفتية، إلا مقياساً واحداً لا يقع فيه الاختلاف والاختلال، وهو مقياس المسئولية واحتمال التبعة. فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسئولية، وصاحب القدرة الراجحة على النهوض بتبعاته والاضطلاع بحقوقه وواجباته، ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل على اختلاف أوجه التفضيل.
(فاحتمال التبعات هو مناط التقدم المستطاع)
ومعنى ذلك أن التقدم هو الاعتراف بالفرد والاعتراف بشأنه في المجتمع، والخروج به من ربقة القدرية التي تفرض عليه سلطاناً يستغرقه ويطويه.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 509
بتاريخ: 05 - 04 - 1943