أدب أندلسي محمد محمد الخطابي - صفحات من التراث الأندلسي.. ابن السراج والحسناء شريفة

قصة إبن السراج والحسناء شريفة، كتاب طريف يحكي صفحات مشرقة من الوجود العربي في الأندلس، لمؤلفه أنطونيو دي فييغاس ما فتئ الإسبان وغير الإسبان يتهافتون على هذا الكتاب إلى يومنا هذا، وما زالت دور النشر، سواء في إسبانيا أو في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية تعيد طبعه وإصداره في حلل قشيبة، ورونق بديع . كما أن مناهج التربية والتعليم في بعض هذه البلدان قد أدرجته ضمن مقرراتها الدراسية.
تشير معظم المراجع العربية والإسبانية على حد سواء الى أن واضع هذا الكتاب الرومانسي الطريف لا يعرف تاريخ مولده ولا تاريخ مماته، حتى إن كانت بعض المصادر ترجح أنه ربما يكون قد توفي عام 1577، إذ في عام 1565 كان قد نشر في مدينة ريال كامبو، كتابا طريفا جمع فيه قصائد وحكايات تشكل قصصا طريفة نال بها مؤلفه شهرة واسعة في الأندلس، وفي مختلف أصقاع شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن السادس عشر .
قصص من وحي موريسكي
وقبيلة بني سراج هي إحدى القبائل التي تنحدر من المغرب، التي كان لها شأن كبير وبارز في مملكة غرناطة في القرن الخامس عشر. ويقال إنها تنسب إلى يوسف بن سراج رأس القبيلة في عهد محمد السابع، وقد أورد هذه الكلمة الباحث الدكتور عدلي طاهر نور في معجمه القيم ' كلمات عربية في اللغة الاسبانية '، وما زالت هناك عوائل تحمل هذا الاسم في المغرب إلى يومنا هذا .
ويشير الباحث والمؤرخ محمد عبد الله عنان (صاحب الموسوعة الضخمة دولة الإسلام في الأندلس) من جهته: 'إلى أن أصلهم يرجع، حسبما يشير المقري الى (مذحج وطيء)، وهي من البطون العربية التي وفد بنوها إلى الأندلس منذ الفتح الإسلامي، وكان منزلهم في قرطبة ومرسية، بيد أنهم لم يظهروا على مسرح الحوادث في تاريخ إسبانيا إلا في مرحلته الأخيرة، أعني في تاريخ قرطبة'.
ويشير الدكتورعدلي طاهر نور الى أن هذه الحقبة اشتهرت في تاريخ الأندلس بالصراع الدامي بين الملوك والأسر القويةْ من ناحية، وبين تلك الأسر نفسها، خصوصا أسرتي بني سراج وبني الثغري من ناحية أخرى، وكان النزاع الأخير من أسباب التعجيل بسقوط غرناطة.
وقد حيكت حول تلك الأسرة قصص وأساطير كثيرة من وحي موريسكي، تناولها أكثر من كاتب، ولا تزال هذه الأساطير إلى يومنا هذا تملأ أرجاء قاعة بني السراج في قصر الحمراء، فتقول ان أبا عبد الله، أباد أسرة بني سراج في تلك القاعة، وقيل إن السلطان أبو الحسن هو الذي عمد الى تدبير هلاكهم .
مشاعر سامية وأحاسيس مرهفة
وبعيدا عن المكائد والنزاعات والمشاحنات والصراعات، نعود إلى كتاب أنطونيو فييغاس الذي استوحاه من نص بعنوان 'حكايات الأمير الماجد دون فرناندو الذي استرجع أنطيكيرا'، حيث يحكي لنا كيف تزوج ابن سراج من الحسناء شريفة في الخفاء، في ظروف عصيبة صعبة ساد فيها التطاحن والمواجهات، وعششت فيها الضغائن والأحقاد بين مختلف العوائل والأسر الحاكمة من الجانبين العربي الإسلامي وبين الإسبان النصارى، ومع ذلك انتصر الحب الذي كان مغلفا بالعفة والصدق والوفاء وسط هذه الأجواء الحالكة والمدلهمات والمحن. وهذه القصة تظهر في العديد من الحكايات والكتب الرومانسية في ذلك العصر، وعليه فإن قيمة عمل أنطونيو فييغاس تكمن في إحياء هذه القصة ونشرها على أوسع نطاق، وقد قدمها في قالب سهل وبسيط بحيث أصبح له بسببها صيت بعيد في مختلف أرجاء إسبانيا. وتسجل القصة المشاعر السامية النبيلة، والأحاسيس المرهفة العفيفة لبعض النبلاء الإسبان في ذلك العصر وفي العصور التي جاءت فيما بعد، فحتى الكاتب الإسباني العالمي ميغيل دي سرفانتيس في روايته الشهيرة 'دون كيشوت' لم يفته أن يشير إلى قصة ابن السراج والحسناء شريفة.

عادات وتقاليد حميدة
وكان ابن سراج قد وقع في أسر الفارس الإسباني رودريغو دي نارفايس عمدة مدينة 'أنطيكيرا' التي تبعد عن غرناطة بحوالي مئة كيلومتر جنوبا، وعندما رأى نارفايس العربي المسلم غارقا في حزن عميق وهو في سجنه سأله عن سبب كربه وغمه ووجومه، وعندما عرف الحاكم الإسباني قصته وكيف أنه وقع في الأسر قريبا من المكان الذي كانت تنتظره فيه شريفة قرر الفارس الإسباني على الفور إطلاق سراحه بشرط واحد أن يعطيه 'كلمته' بأن يعود للسجن متى التقى بها.
انطلق ابن سراج في البحث عن شريفة وتزوجها سرا، وعندما عرفت شريفة قصة وسوء حظ زوجها قررت ألا تفارقه وأن تصحبه إلى السجن، الذي لم يتوان قيد أنملة في العودة إليه على الفور، احتراما ووفاء للعهد الذي قطعه على نفسه مع الفارس الإسباني نارفايس حاكم أنطيكيرا، الذي فكر كيف يجازي 'الفارس المسلم' على وفائه واحترامه لكلمته ويكافئ زوجته شريفة على إخلاصها ووفائها لزوجها فأطلق سراحهما.
ونجد في هذه القصة الرومانسية غير قليل من تعابير الشهامة والولاء والوفاء والحب والنبل في عهد كانت الكلمة فيه تحترم والعهد لا ينكث حتى مع الخصوم والأعداء.
و يجد القارئ متعة كبرى وهو يقرأ لهذا الكاتب الكلاسيكي الطيب والأصيل ليس فيما يتعلق بمضمون القصة العميق في حد ذاته، بل على اعتبار الأجواء المحيطة بهذه الحكاية الطريفة التي تذكرنا بماضي المسلمين الزاهر ومجدهم التليد. كما تضعنا هذه القصة المثيرة كذلك إزاء العادات والتقاليد الحميدة، والأصيلة للمجتمع العربي المسلم، بل إنها تطلعنا كذلك على جوانب من التأثير الذي أحدثه هذا المجتمع حتى في صفوف مجتمع الجانب الآخر غير العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
د. محمد محمد الخطابي
المشاهدات
1,298
آخر تحديث
أعلى