(1) تحقيب الرواية او الفن عموماً
هذه النزعة المنتقاة من مفاهيم علم الاجتماع نحو تحقيب الرواية ، اي وضعها داخل برادايمات زمانية ، فهناك رواية كلاسيكية وأخرى حديثة واخرى حداثية وثالثة ما بعد حداثية صارت موضة هذه الايام ..انا شخصيا لا اجد ذلك منطقيا ، لسببين ان الحقب نفسها كالحداثة او ما بعد الحداثة فيها الكثير من التصنع ، لأنها تفترض بنيانا جامدا للتطور الانساني وان هذا البنيان تحدث به انقطاعات مفاجئة.. انا لا اؤمن بمسألة الانقطاعات هذه ، او لا استطيع ان اتقبلها بسهولة حتى لو كانت صحيحة ، لأن ما اعرفه اننا نتاج تراكمي وليس فجائي ، ان الشيء يفضي الى الشيء وبالتالي لا يمكننا اغفال حالة التلامس والذوبان في اطراف التغيرات بحيث نسميها بكل طمأنينة وتواص
ضع تطورات وليس حقبا مستقلة الظهور . لا شيء في عالمنا هذا ينبثق من اللا شيء ، هذه ليست قاعدة في العلوم الطبيعية فقط بل حتى في تكوين بنائنا المعرفي ... والسبب الثاني هو أن تحقيب الرواية يشير الى قصدية المحاكاة ، وهذا ليس شيئا مستحبا جدا ، ان ينطلق الأدب من قصدية المحاكاة لما يصبح ظاهرة أدبية ، الحديث عن العقل الأداتي او التشيؤ ، او التشظي ، او التساؤل بدلا عن الاجابة في الرواية الحديثة لا يمكن ان يستغرق كل التجارب الروائية ، تجربة فرجينيا وولف او جيمس جويس او خلافه ان كانت متميزة فهي تنسب لهما لا الى عصر كامل ، لا يمكن ان نسمي حقبة كاملة بإسلوبين جديدين ، صحيح ان الرواية تتغير لتعبر عن واقع في كثير من الأحيان لكن فكرة القصدية المحاكية تنفي قيمتها ، من قال أن الروائي اما ان يكتب عن التشيؤ والتشظي والتساؤل وغيرها من مفاهيم غير مستقرة حتى الآن ، ولماذا يجب ان يعبر الكاتب عن قضايا محددة ومرسومة له مسبقا ، هل هناك مانع من العودة الى الرواية الأخلاقية ، هل نستطيع ان ننفي مسمى الرواية عن النصوص الرومانسية؟ هل ننكر على الرواية البوليسية جدتها ونعتبرها ساقطة خلف جدار التاريخ؟ لا اعرف لكنني لا اعتقد صحة هذا الأمر ، هذا في حد ذاته لو حدث لأقحمنا في وصاية مذمومة جدا وغير مستندة على اي أساس.
(2) الناص بين الرسالة والرمز
بالتأكيد تبدو لنا النصوص الرمزية محققة لدرجة من القيمة الابداعية ، ويرفض الكثير من النقاد منح العمل الأدبي حقه من التقييم النقدي اذا كان عملا مباشرا. الكثير من الكتاب لم يستمروا دائما على خط واحد من الكتابة جيدة ، فكما كتب محفوظ كتابات عالية الرمزية كتب كتابات قد تكون شديدة المباشرة ، ومثله ماركيز وغيرهما .. ان الكتابة يحكمها أمران في تقديري المتواضع في هذا الشأن: اولهما هو الرغبة نفسها في الكتابة ، حين لا يجد الكاتب من يكبح جماح شغفه بكتابة نص ما مهما كان مباشرا ومفتقدا للرمزية ، هو غالبا لا يأبه لذلك .. أو يغلب اشباع شغفه على الحفاظ على مستوى قياسي معين للكتابة. أما الأمر الثاني فهو النزاع بين الكتابة كرسالة والكتابة كابداع ؛ فحين يكتب الروائي او المسرحي الايرلندي نصا ليعبر عن القضية الايرلندية مثلا ، يواجه بهدفه الأساسي وهو نقل قضيته الى اكبر عدد من الجماهير ، وهذا قد لا يتأتى عن طريق الرمزية التي تحتاج للقراء النخبة. فعندما تكون الكتابة رسالة يضع الكاتب الجمهور المستهدف بالنص نصب عينيه ، يضعه برمته ، أي بكل مستوياته وأسقفه المعرفية ، بل أنه قد يهتم بالقاعدة الاقل قدرة على التأويل والتحليل ، ان ماركس مثلا كتب للعمال ، كتب لهم بمستوى يتفق وقدرتهم على استيعاب فلسفته ، وتبعه انجلز في ذلك. ان الناص هنا لا يهتم بالجانب المتعالي كمبدع وانما بالجانب الرسالي كحامل لسلاح القلم . هنا لا يكترث الكاتب بشهرته السابقة ، ولا يهتم بإعادة تقييمه كمبدع ، وانما يتحول الى جندي يدافع عن قضيته باستبسال . لقد انتقد النقاد مثلا رواية طائر الشؤم لفرنسيس دينق ، نعتوها بالهزالة ووصفوا كاتبها بانعدام الموهبة الروائية ، لكنهم نسوا ان فرانسيس دينق لم يكن يكتب هذه الرواية ليشار اليه ككاتب مبدع ، انما لينقل رسالته عبر الكتابة الأدبية ، لأن الناس تتقبل الرسائل من خلال الأدب كما يتقبل المؤمنون اختلافات شيوخهم ويرفضون ذات الاختلافات اذا صدرت من ملحدين. بالفعل أدت رواية طائر الشؤم دورها الرسالي هذا وحققت هدفها والدليل البسيط على ذلك انها انتشرت على اوسع نطاق ونالت قبولا عاما يهزم انتقائية النقاد ومقاييسهم التقنية. وعندما تكون الكتابة رسالة فهي مهما عانت من ضعف الا انها ستجد اقبالا واسعا من الجماهير وقد تكون اكثر تأثيرا من كتابة شديدة التقعر ومربكة لعقل القارئ العادي. قد يعتقد البعض انها كتابة شعبوية او خطابا ديماغوغيا كخطابات الزعماء السياسيين ، ولكن في كل الاحوال من قال ان الخطاب الشعبوي او الديماغوغي لا قيمة له ، على العكس تماما ، ان الزعامات السياسية ذات الكاريزما خاطبت شعوبها هكذا ، وأثارت حماستهم للدخول في حروب غير محسوبة العواقب بناء على هذه الخطابات لا بناء على نقاشات فلسفية معقدة. كذلك الأدب قد ينحو الى هذا الخطاب ليحقق هدفه المنشود عبر الرواية او المسرح او الشعر او القصة...
(3) سلطة الكتابة
▪الكتابة كرئاسة دولة الى حد كبير ولكنها رئاسة ديمقراطية، ليس فقط لأنك تتلقى انتقادات واشادات متعارضة ومتناقضة ، وتقابل كارهين وحاسدين ، بل لأنك ايضا تشارك في نقل مفاهيمك بعمقها وسطحيتها للآخرين ، انت تطلب منهم اكثر من ذلك ان يفكروا وبالتالي يمارسوا نقدا للنص ، فخلافا للرئاسة السياسية التي تحاول نزع اي سلطات من المحكومين وتركيزها جميعا في يدها ، فإن الكاتب يسعى لمنح هذه السلطة للقراء ، الا انه يتحول هو نفسه الى هدف للانقلاب على سلطته هذه ممن قدم لهم هو سلطته بكل رحابة صدر ، والكاتب وهو يفعل ذلك يرحب بهذا الانقلاب لأن لديه ثقة في قدرته على مواجهة التحدي مادام عابرا بفكره في بحر الزمن ... فالفكر لا ينضب . فقط اؤلئك الذين انبثقت لديهم -في شكل معجزة- فكرة واحدة اعتاشوا عليها اولئك هم من يحاولون احتكار السلطة لأطول فترة زمنية ممكنة ، ويفشلوا في النهاية ، لأن الانسانية لا تتوقف على فكرة واحدة ولا تتطور بها ، مهما كانت فكرة ثاقبة ولماحة. الكتابة كسلطة لها بهرجها في نفس الكاتب ، إلا ان عليه ان يستمر في التجرد والامتناع عن الانبهار بقوة هذه السلطة لأنها سلطة تنبثق عن التواضع قبل كل شيء ، تنبثق عن تقبل كل معارف الانسان الذكية والبسيطة ، لأن الكتابة تستعين بكل شيء لكي تلعب درها السلطوي . فهي تنطلق من الاسفل الى الأعلى تنطلق من الانسان بمفهومه البسيط الى الأكثر تعقيدا ، وتنطلق من الثقافة المجتمعية ثم تقوم بتفكيك هذه الثقافة . ان اي محاولة من الكاتب للتعالي على حقيقة هذا التنوع الانساني الثقافي والاقتصادي ورؤية قيمة متساوية في كل هذا التنوع حتى وهو يشاهد متسولا في الشارع ، هو ما يستطيع ان يعطه عناصر الكتابة المكثفة ، الجادة ، والمؤثرة..
هذه النزعة المنتقاة من مفاهيم علم الاجتماع نحو تحقيب الرواية ، اي وضعها داخل برادايمات زمانية ، فهناك رواية كلاسيكية وأخرى حديثة واخرى حداثية وثالثة ما بعد حداثية صارت موضة هذه الايام ..انا شخصيا لا اجد ذلك منطقيا ، لسببين ان الحقب نفسها كالحداثة او ما بعد الحداثة فيها الكثير من التصنع ، لأنها تفترض بنيانا جامدا للتطور الانساني وان هذا البنيان تحدث به انقطاعات مفاجئة.. انا لا اؤمن بمسألة الانقطاعات هذه ، او لا استطيع ان اتقبلها بسهولة حتى لو كانت صحيحة ، لأن ما اعرفه اننا نتاج تراكمي وليس فجائي ، ان الشيء يفضي الى الشيء وبالتالي لا يمكننا اغفال حالة التلامس والذوبان في اطراف التغيرات بحيث نسميها بكل طمأنينة وتواص
ضع تطورات وليس حقبا مستقلة الظهور . لا شيء في عالمنا هذا ينبثق من اللا شيء ، هذه ليست قاعدة في العلوم الطبيعية فقط بل حتى في تكوين بنائنا المعرفي ... والسبب الثاني هو أن تحقيب الرواية يشير الى قصدية المحاكاة ، وهذا ليس شيئا مستحبا جدا ، ان ينطلق الأدب من قصدية المحاكاة لما يصبح ظاهرة أدبية ، الحديث عن العقل الأداتي او التشيؤ ، او التشظي ، او التساؤل بدلا عن الاجابة في الرواية الحديثة لا يمكن ان يستغرق كل التجارب الروائية ، تجربة فرجينيا وولف او جيمس جويس او خلافه ان كانت متميزة فهي تنسب لهما لا الى عصر كامل ، لا يمكن ان نسمي حقبة كاملة بإسلوبين جديدين ، صحيح ان الرواية تتغير لتعبر عن واقع في كثير من الأحيان لكن فكرة القصدية المحاكية تنفي قيمتها ، من قال أن الروائي اما ان يكتب عن التشيؤ والتشظي والتساؤل وغيرها من مفاهيم غير مستقرة حتى الآن ، ولماذا يجب ان يعبر الكاتب عن قضايا محددة ومرسومة له مسبقا ، هل هناك مانع من العودة الى الرواية الأخلاقية ، هل نستطيع ان ننفي مسمى الرواية عن النصوص الرومانسية؟ هل ننكر على الرواية البوليسية جدتها ونعتبرها ساقطة خلف جدار التاريخ؟ لا اعرف لكنني لا اعتقد صحة هذا الأمر ، هذا في حد ذاته لو حدث لأقحمنا في وصاية مذمومة جدا وغير مستندة على اي أساس.
(2) الناص بين الرسالة والرمز
بالتأكيد تبدو لنا النصوص الرمزية محققة لدرجة من القيمة الابداعية ، ويرفض الكثير من النقاد منح العمل الأدبي حقه من التقييم النقدي اذا كان عملا مباشرا. الكثير من الكتاب لم يستمروا دائما على خط واحد من الكتابة جيدة ، فكما كتب محفوظ كتابات عالية الرمزية كتب كتابات قد تكون شديدة المباشرة ، ومثله ماركيز وغيرهما .. ان الكتابة يحكمها أمران في تقديري المتواضع في هذا الشأن: اولهما هو الرغبة نفسها في الكتابة ، حين لا يجد الكاتب من يكبح جماح شغفه بكتابة نص ما مهما كان مباشرا ومفتقدا للرمزية ، هو غالبا لا يأبه لذلك .. أو يغلب اشباع شغفه على الحفاظ على مستوى قياسي معين للكتابة. أما الأمر الثاني فهو النزاع بين الكتابة كرسالة والكتابة كابداع ؛ فحين يكتب الروائي او المسرحي الايرلندي نصا ليعبر عن القضية الايرلندية مثلا ، يواجه بهدفه الأساسي وهو نقل قضيته الى اكبر عدد من الجماهير ، وهذا قد لا يتأتى عن طريق الرمزية التي تحتاج للقراء النخبة. فعندما تكون الكتابة رسالة يضع الكاتب الجمهور المستهدف بالنص نصب عينيه ، يضعه برمته ، أي بكل مستوياته وأسقفه المعرفية ، بل أنه قد يهتم بالقاعدة الاقل قدرة على التأويل والتحليل ، ان ماركس مثلا كتب للعمال ، كتب لهم بمستوى يتفق وقدرتهم على استيعاب فلسفته ، وتبعه انجلز في ذلك. ان الناص هنا لا يهتم بالجانب المتعالي كمبدع وانما بالجانب الرسالي كحامل لسلاح القلم . هنا لا يكترث الكاتب بشهرته السابقة ، ولا يهتم بإعادة تقييمه كمبدع ، وانما يتحول الى جندي يدافع عن قضيته باستبسال . لقد انتقد النقاد مثلا رواية طائر الشؤم لفرنسيس دينق ، نعتوها بالهزالة ووصفوا كاتبها بانعدام الموهبة الروائية ، لكنهم نسوا ان فرانسيس دينق لم يكن يكتب هذه الرواية ليشار اليه ككاتب مبدع ، انما لينقل رسالته عبر الكتابة الأدبية ، لأن الناس تتقبل الرسائل من خلال الأدب كما يتقبل المؤمنون اختلافات شيوخهم ويرفضون ذات الاختلافات اذا صدرت من ملحدين. بالفعل أدت رواية طائر الشؤم دورها الرسالي هذا وحققت هدفها والدليل البسيط على ذلك انها انتشرت على اوسع نطاق ونالت قبولا عاما يهزم انتقائية النقاد ومقاييسهم التقنية. وعندما تكون الكتابة رسالة فهي مهما عانت من ضعف الا انها ستجد اقبالا واسعا من الجماهير وقد تكون اكثر تأثيرا من كتابة شديدة التقعر ومربكة لعقل القارئ العادي. قد يعتقد البعض انها كتابة شعبوية او خطابا ديماغوغيا كخطابات الزعماء السياسيين ، ولكن في كل الاحوال من قال ان الخطاب الشعبوي او الديماغوغي لا قيمة له ، على العكس تماما ، ان الزعامات السياسية ذات الكاريزما خاطبت شعوبها هكذا ، وأثارت حماستهم للدخول في حروب غير محسوبة العواقب بناء على هذه الخطابات لا بناء على نقاشات فلسفية معقدة. كذلك الأدب قد ينحو الى هذا الخطاب ليحقق هدفه المنشود عبر الرواية او المسرح او الشعر او القصة...
(3) سلطة الكتابة