لعبت كل من مدرسة الحوليات ووريثتها مدرسة التاريخ الجديد دورا كبيرا في تطوير البحث التاريخي. وقد تأتى الأمر نتيجة لعاملين: أولهما اتساع مفهوم الوثيقة. وندرج في هذا الإطار مقولة لوسيان فبفر (Lucien Febvre) من كتابه "نضالات من أجل التاريخ"، يقول: "لا شك أن التاريخ يكتب اعتمادا على كل ما يستطيع الباحث بمهارته وحذقه أن يستنبطه من أي مصدر: من المفردات والرموز، والمناظر الطبيعية ومن تراكيب الآجر، ومن أشكال النباتات الطفيلية، ومن خسوفات القمر ومن مقارن الثيران، ومن فحوص العالم الجيولوجي للأحجار ومن تحليلات الكيميائي للسيوف الحديدية"(1). وثانيهما تجديد الإشكالية التي تشكل الإطار النظري الذي يعتمده المؤرخ لاستنطاق الوثائق وفهمها، وهذا الأمر لم يكن ليتأتى لولا الاستفادة من العلوم الإنسانية الأخرى(2).
وفي إطار محاولته الانفتاح على هاته العلوم وعلى وجه الخصوص الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا، اقتبس التاريخ مفهوم المثاقفة، وهو مصطلح ابتدعته أقلام الأنتربولوجيين الأمركيين في حدود 1880. وكان الإنجليز يستعملون بدلا عنه مصطلح التبادل الثقافي (Cultural exchange)، في حين آثر الإسبان مصطلح التحول الثقافي (Transculturation) وفضل الفرنسيون مفهوم تداخل الحضارات (Interpénétration des civilisations)، إلا أن مصطلح المثاقفة أصبح أكثر تداولا وانتشارا(3).
إن تحديد المصطلحات والمفاهيم يساعد على فهم أفضل للفرضيات والاستنتاجات، ويغني عن التأويل الخاطئ وعن الوقوع في الالتباس. ويحاول هذا المفهوم أن يختزل واقع تعايش وتلاقح ثقافات مختلفة، وقد اهتم المؤرخون بمظاهر التقاء الحضارات في إطارها الدينامي والمتحرك. وبرزت الأبحاث الرائدة في هذا المجال بأمريكا، إذ نتج عن الاكتشافات الجغرافية واستقرار الأوروبيين بهذه القارة التي ظلت ولقرون طويلة بمنأى عن تأثير ثقافة وحضارة العالم القديم وضعية فريدة من نوعها، فأصبحنا بالتالي أمام ثقافة أوروبية ترى لنفسها السبق، وثقافات أخرى كالثقافة الهندية المحلية والثقافة الإفريقية التي حملها العبيد السود.
ويقتضي المنهج المتبع لدراسة مظاهر المثقافة الارتكاز على التاريخ الذي يبحث في التغييرات الاجتماعية عبر الزمان وكذا على الأنتربلوجيا، لأنها تسعفنا في دراسة المجتمعات البدائية التي لا تتوفر على وثائق مكتوبة ولكن على رواية شفوية يستطيع الأنتربلوجي اعتمادا عليها أن يستحضر ماضي هذه المجتمعات.
ويرجع الفضل في ازدهار حقل الدراسات المرتبطة بالمثاقفة إلى المدرسة الانتشارية (Ecole diffusionniste) التي ظهرت بأمريكا وبلغت أوجها خلال العشرينيات من القرن الحالي بفضل أعمال رائدها فرانر بواز (Franz Boas). ورغم تراجع هذه المدرسة أمام انتقادات مالينوفسكي (Malinowski) رائد المدرسة الوظيفية، استمر اهتمام الباحثين بمسألة المثقافة حتى وقتنا الحالي(4).
وسيمكن تراكم المونغرافيات والدراسات الميدانية من المرور إلى مرحلة التنظير، وذلك بعد إجراء سلسلة من المقارنات ومحاولات التركيب لمختلف الأبحاث، على أنه يجب ألا نفهم الثقافة كأشياء مجردة بل كعناصر تجسدها وتحملها مجموعات بشرية عدة. وتتمثل في جميع مظاهر التعبير الإنساني، سواء تعلق الأمر بالأدب أو الفنون أو المعتقدات والأخلاق أو اللباس والسكن والأكل وهذا هو التعريف السائد في علم الاجتماع الأمريكي.
ويميز المؤرخون بين نوعين من المثقافة:
1 - المثاقفة التلقائية: وتندرج في إطار التلاقحات الناتجة عن الحروب الناجمة عن الرغبة في الحصول على العبيد أو الاتصالات السلمية بواسطة التجارة كما هو الشأن بكندا والشمال الحالي للولايات المتحدة الأمريكية.
2 - المثقافة المفروضة: وتتم عبر سيطرة الأوروبيين بصفة مباشرة وبالقوة على الهنود مثلا، وذلك بعد هضم حقوقهم الاقتصادية والسياسية والمس بشعائرهم الدينية، وهذا ما حدث بالفعل بكل من المكسيك والبيرو غداة الاكتشافات الجغرافية الكبرى. وقد أدى انتشار حركات الاستقلال خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى ظهور ما اصطلح عليه بالمفردات (reserves) بكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وتمثل أراضي محجوزة يقطنها السكان الأصليون.
وعادة ما تمر المجتمعات الضعيفة من مثاقفة تلقائية إلى مثقافة مفروضة، مادام أن القوى الاستعمارية الأوروبية كانت تسعى مع مرور الوقت إلى إحكام السيطرة بشكل مباشر على الهنود القاطنين بالقرب من مناطق نفوذها. ولكننا قد نجد حالات معاكسة يتم المرور فيها من مثاقفة مفروضة إلى مثاقفة تلقائية. ونذكر في هذا الإطار بما وقع ببعض المستعمرات الإسبانية بعد ثورة 1680 بمنطقة ريوغراندي (Rio Grande): فبالرغم من إفشال الثورة لم يتمكن الإسبان من إعادة السيطرة بشكل مباشر على الهنود، مما دفع بهم إلى إنشاء نظام المفردات. فالاختلافات لم تكن تنعكس على المكان فقط، بل تتنوع عبر الزمان(5).
أما من حيث مسارها ونتائجها فتنقسم المثاقفة إلى مستويين:
1 - نمط الدمج: ويتميز باقتباس النمط المحلي لعناصر أجنبية دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير كبير في قيم الثقافة المحلية. فقبائل النباهوس (Navahos)، والتي كان سكانها نصف رحل، كانت تعتمد في عيشها على الصيد والالتقاط، وقد دفعها احتكاكها واتصالها بمراكز الاستيطان الإسباني إلى الاستقرار واعتماد الفلاحة لكنها عادت ثانية إلى مزاولة تربية الماشية والماعز بعد أن اندمجت بقبائل أخرى ليصبح نمط عيشها الترحال من جديد. أما قبائل الكواكيوتيل (Kwakiutl) المتواجدة بشمال غرب المكسيك، فكانت تربطها وباستمرار علاقات سلمية وتجارية بالأوروبيين، وكانت تحصل على السلع الأوروبية مقابل تقدميها لفرو ثعالب الماء. وقد أدى الأمر إلى انتشار ظاهرتي المنافسة والمزايدة على حساب التبادل داخل النمط الهندي، وإجمالا لا تؤدي هذه التغييرات إلى انهيار الثقافة المحلية.
2 - نمط التمثل: ويعني أن تشرب ثقافة الهنود لعناصر الثقافة الغربية يوازيه القضاء على التقاليد المحلية والانقياد لقيم المجتمع المسيطر.
وتندرج بين نمطي الدمج والتمثل أنماط توفيقية عدة، إذ يبدو تأثير الثقافة الأوروبية مثلا واضحا على قبائل الياكي (Yaquis) القاطنة بأمريكا الجنوبية فيما يخص السكن والتنظيم السياسي وتقديس المسيح ومريم العذراء. ولكن ما كان لهذه الاقتباسات لتقضي على التقاليد المحلية بما فيها الحفلات الدينية وظاهرة تقديس الأرض، وقد أدى هذا التفاعل إلى بروز ثقافة جديدة أعطت لهذه القبائل نوعا من الاستقرار خلال القرن التاسع عشر. أما القبائل القاطنة بالقرب من ريوغراندي فعرفت مثاقفة محدودة في بعض المظاهر في وقت ظلت فيه أغلب التقاليد بمنأى عن التأثيرات الخارجية. وتمثل هذاالتثاقف في زراعة القمح وتربية الماشية والخيول واستعمال بعض الأدوات الحديدية، كما أن قبول بعض التنظيمات الغربية لم يكن يعني التخلي عن التنظيمات المحلية، ولا الإيمان ببعض المبادئ المسيحية تنكرا لمعتقدات الآباء والأجداد، والتي كان يتم القيام بشعائرها في بعض الأحيان سرا.
وقد تتوالى كل الأنماط عبر الزمان بالنسبة للمجتمع الواحد فنمط الدمج يوازي حالة المثاقفة التلقائية في حين يتماشى نمط التمثل ووضعية الاستعمار والسيطرة المفروضة. ولكننا لا نستطيع أن نجزم بمرور ضروري للمثاقفة في مسارها من مرحلة الدمج إلى مرحلة التمثل، فتدعيم هذه الفكرة أو دحضها يستوجب تعدد المونغرافيات الجادة، وقد نجد في الحالات المعيشة يوميا نوعا من الاصطدام بين ثقافتين مختلفتين، إذ يعيش بعض الأشخاص حالة من الازدواجية، فيسايرون ثقافة المجتمع المسيطرة وهم يعيشون وسطه، ثم لا يفتأون يتخلون عن هذه القيم عند عودتهم إلى مجتمعهم الأصلي(6)
يضع إذن اختلاف المجتمعات وتنوع سبل اتصالها وتباين أنماط المثقافة في مسارها ونتائجها الدارس أمام حالات متنوعة وسيمكن تزايد الكم المعرفي من المرور في مرحلة لاحقة إلى وضع نماذج وتصنيفات عامة، وليس هذا بالأمر الهين، لأن مظاهر التثاقف لا تتغير فقط بفعل عامل الزمان بل قد تتعايش وتتداخل أنماط مختلفة في نفس المكان، أكثر من ذلك نرى أن مسألة المثاقفة اقتصرت على الوضعية الاستعمارية وسيكون من الضروري لاحقا الاهتمام بهذه الظاهرة داخل المجتمع الواحد.
الهوامش:
1 - Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, Paris, Albin Michel, 1965, p.428.
2 - Georges Duby, “Histoire sociale et idéologies des sociétés”, in Faire de l’histoire, I, Nouveaux problèmes, sous la direction de Jacques le Goff et de Pierre Nora, Paris, Gallimard, 1968, p.203.
3 - Roger Bastide, “Acculturation”, in Encyclopedia Universalis, p.114.
4 - Nathan Wachtel, La vision des vaincus. Les Iniens de Pérou devant la conquête Espagnole, Paris, Gallimard, 1971, pp.24-25.
5 - Nathan Wachtel, “L’acculturation”, in Faire de l’histoire, I, Nouveaux problèmes, pp.180-2.
6 - Ibid, pp.182-5.
* عن فكر ونقد
وفي إطار محاولته الانفتاح على هاته العلوم وعلى وجه الخصوص الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا، اقتبس التاريخ مفهوم المثاقفة، وهو مصطلح ابتدعته أقلام الأنتربولوجيين الأمركيين في حدود 1880. وكان الإنجليز يستعملون بدلا عنه مصطلح التبادل الثقافي (Cultural exchange)، في حين آثر الإسبان مصطلح التحول الثقافي (Transculturation) وفضل الفرنسيون مفهوم تداخل الحضارات (Interpénétration des civilisations)، إلا أن مصطلح المثاقفة أصبح أكثر تداولا وانتشارا(3).
إن تحديد المصطلحات والمفاهيم يساعد على فهم أفضل للفرضيات والاستنتاجات، ويغني عن التأويل الخاطئ وعن الوقوع في الالتباس. ويحاول هذا المفهوم أن يختزل واقع تعايش وتلاقح ثقافات مختلفة، وقد اهتم المؤرخون بمظاهر التقاء الحضارات في إطارها الدينامي والمتحرك. وبرزت الأبحاث الرائدة في هذا المجال بأمريكا، إذ نتج عن الاكتشافات الجغرافية واستقرار الأوروبيين بهذه القارة التي ظلت ولقرون طويلة بمنأى عن تأثير ثقافة وحضارة العالم القديم وضعية فريدة من نوعها، فأصبحنا بالتالي أمام ثقافة أوروبية ترى لنفسها السبق، وثقافات أخرى كالثقافة الهندية المحلية والثقافة الإفريقية التي حملها العبيد السود.
ويقتضي المنهج المتبع لدراسة مظاهر المثقافة الارتكاز على التاريخ الذي يبحث في التغييرات الاجتماعية عبر الزمان وكذا على الأنتربلوجيا، لأنها تسعفنا في دراسة المجتمعات البدائية التي لا تتوفر على وثائق مكتوبة ولكن على رواية شفوية يستطيع الأنتربلوجي اعتمادا عليها أن يستحضر ماضي هذه المجتمعات.
ويرجع الفضل في ازدهار حقل الدراسات المرتبطة بالمثاقفة إلى المدرسة الانتشارية (Ecole diffusionniste) التي ظهرت بأمريكا وبلغت أوجها خلال العشرينيات من القرن الحالي بفضل أعمال رائدها فرانر بواز (Franz Boas). ورغم تراجع هذه المدرسة أمام انتقادات مالينوفسكي (Malinowski) رائد المدرسة الوظيفية، استمر اهتمام الباحثين بمسألة المثقافة حتى وقتنا الحالي(4).
وسيمكن تراكم المونغرافيات والدراسات الميدانية من المرور إلى مرحلة التنظير، وذلك بعد إجراء سلسلة من المقارنات ومحاولات التركيب لمختلف الأبحاث، على أنه يجب ألا نفهم الثقافة كأشياء مجردة بل كعناصر تجسدها وتحملها مجموعات بشرية عدة. وتتمثل في جميع مظاهر التعبير الإنساني، سواء تعلق الأمر بالأدب أو الفنون أو المعتقدات والأخلاق أو اللباس والسكن والأكل وهذا هو التعريف السائد في علم الاجتماع الأمريكي.
ويميز المؤرخون بين نوعين من المثقافة:
1 - المثاقفة التلقائية: وتندرج في إطار التلاقحات الناتجة عن الحروب الناجمة عن الرغبة في الحصول على العبيد أو الاتصالات السلمية بواسطة التجارة كما هو الشأن بكندا والشمال الحالي للولايات المتحدة الأمريكية.
2 - المثقافة المفروضة: وتتم عبر سيطرة الأوروبيين بصفة مباشرة وبالقوة على الهنود مثلا، وذلك بعد هضم حقوقهم الاقتصادية والسياسية والمس بشعائرهم الدينية، وهذا ما حدث بالفعل بكل من المكسيك والبيرو غداة الاكتشافات الجغرافية الكبرى. وقد أدى انتشار حركات الاستقلال خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى ظهور ما اصطلح عليه بالمفردات (reserves) بكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وتمثل أراضي محجوزة يقطنها السكان الأصليون.
وعادة ما تمر المجتمعات الضعيفة من مثاقفة تلقائية إلى مثقافة مفروضة، مادام أن القوى الاستعمارية الأوروبية كانت تسعى مع مرور الوقت إلى إحكام السيطرة بشكل مباشر على الهنود القاطنين بالقرب من مناطق نفوذها. ولكننا قد نجد حالات معاكسة يتم المرور فيها من مثاقفة مفروضة إلى مثاقفة تلقائية. ونذكر في هذا الإطار بما وقع ببعض المستعمرات الإسبانية بعد ثورة 1680 بمنطقة ريوغراندي (Rio Grande): فبالرغم من إفشال الثورة لم يتمكن الإسبان من إعادة السيطرة بشكل مباشر على الهنود، مما دفع بهم إلى إنشاء نظام المفردات. فالاختلافات لم تكن تنعكس على المكان فقط، بل تتنوع عبر الزمان(5).
أما من حيث مسارها ونتائجها فتنقسم المثاقفة إلى مستويين:
1 - نمط الدمج: ويتميز باقتباس النمط المحلي لعناصر أجنبية دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير كبير في قيم الثقافة المحلية. فقبائل النباهوس (Navahos)، والتي كان سكانها نصف رحل، كانت تعتمد في عيشها على الصيد والالتقاط، وقد دفعها احتكاكها واتصالها بمراكز الاستيطان الإسباني إلى الاستقرار واعتماد الفلاحة لكنها عادت ثانية إلى مزاولة تربية الماشية والماعز بعد أن اندمجت بقبائل أخرى ليصبح نمط عيشها الترحال من جديد. أما قبائل الكواكيوتيل (Kwakiutl) المتواجدة بشمال غرب المكسيك، فكانت تربطها وباستمرار علاقات سلمية وتجارية بالأوروبيين، وكانت تحصل على السلع الأوروبية مقابل تقدميها لفرو ثعالب الماء. وقد أدى الأمر إلى انتشار ظاهرتي المنافسة والمزايدة على حساب التبادل داخل النمط الهندي، وإجمالا لا تؤدي هذه التغييرات إلى انهيار الثقافة المحلية.
2 - نمط التمثل: ويعني أن تشرب ثقافة الهنود لعناصر الثقافة الغربية يوازيه القضاء على التقاليد المحلية والانقياد لقيم المجتمع المسيطر.
وتندرج بين نمطي الدمج والتمثل أنماط توفيقية عدة، إذ يبدو تأثير الثقافة الأوروبية مثلا واضحا على قبائل الياكي (Yaquis) القاطنة بأمريكا الجنوبية فيما يخص السكن والتنظيم السياسي وتقديس المسيح ومريم العذراء. ولكن ما كان لهذه الاقتباسات لتقضي على التقاليد المحلية بما فيها الحفلات الدينية وظاهرة تقديس الأرض، وقد أدى هذا التفاعل إلى بروز ثقافة جديدة أعطت لهذه القبائل نوعا من الاستقرار خلال القرن التاسع عشر. أما القبائل القاطنة بالقرب من ريوغراندي فعرفت مثاقفة محدودة في بعض المظاهر في وقت ظلت فيه أغلب التقاليد بمنأى عن التأثيرات الخارجية. وتمثل هذاالتثاقف في زراعة القمح وتربية الماشية والخيول واستعمال بعض الأدوات الحديدية، كما أن قبول بعض التنظيمات الغربية لم يكن يعني التخلي عن التنظيمات المحلية، ولا الإيمان ببعض المبادئ المسيحية تنكرا لمعتقدات الآباء والأجداد، والتي كان يتم القيام بشعائرها في بعض الأحيان سرا.
وقد تتوالى كل الأنماط عبر الزمان بالنسبة للمجتمع الواحد فنمط الدمج يوازي حالة المثاقفة التلقائية في حين يتماشى نمط التمثل ووضعية الاستعمار والسيطرة المفروضة. ولكننا لا نستطيع أن نجزم بمرور ضروري للمثاقفة في مسارها من مرحلة الدمج إلى مرحلة التمثل، فتدعيم هذه الفكرة أو دحضها يستوجب تعدد المونغرافيات الجادة، وقد نجد في الحالات المعيشة يوميا نوعا من الاصطدام بين ثقافتين مختلفتين، إذ يعيش بعض الأشخاص حالة من الازدواجية، فيسايرون ثقافة المجتمع المسيطرة وهم يعيشون وسطه، ثم لا يفتأون يتخلون عن هذه القيم عند عودتهم إلى مجتمعهم الأصلي(6)
يضع إذن اختلاف المجتمعات وتنوع سبل اتصالها وتباين أنماط المثقافة في مسارها ونتائجها الدارس أمام حالات متنوعة وسيمكن تزايد الكم المعرفي من المرور في مرحلة لاحقة إلى وضع نماذج وتصنيفات عامة، وليس هذا بالأمر الهين، لأن مظاهر التثاقف لا تتغير فقط بفعل عامل الزمان بل قد تتعايش وتتداخل أنماط مختلفة في نفس المكان، أكثر من ذلك نرى أن مسألة المثاقفة اقتصرت على الوضعية الاستعمارية وسيكون من الضروري لاحقا الاهتمام بهذه الظاهرة داخل المجتمع الواحد.
الهوامش:
1 - Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, Paris, Albin Michel, 1965, p.428.
2 - Georges Duby, “Histoire sociale et idéologies des sociétés”, in Faire de l’histoire, I, Nouveaux problèmes, sous la direction de Jacques le Goff et de Pierre Nora, Paris, Gallimard, 1968, p.203.
3 - Roger Bastide, “Acculturation”, in Encyclopedia Universalis, p.114.
4 - Nathan Wachtel, La vision des vaincus. Les Iniens de Pérou devant la conquête Espagnole, Paris, Gallimard, 1971, pp.24-25.
5 - Nathan Wachtel, “L’acculturation”, in Faire de l’histoire, I, Nouveaux problèmes, pp.180-2.
6 - Ibid, pp.182-5.
* عن فكر ونقد