” تعال الآن، أخبرني ما هو الجمال؟ “
” ما هو جميل صعب “
* محاورة هيبياس الأكبر ـ أفلاطون
يعدُّ مبحث علم الجمال من المباحث الرئيسيّة في الفلسفة، إلى جانب المنطق والأخلاق ونظرية المعرفة ..إلخ. غير أن علم الجمال لم يدرس بالقدر الّذي درست به المباحث الأخرى من الفلسفة كمبحث الميتافيزيقا مثلاً.
وفي الحقيقة كلمة ” الاستطيقا ” الّتي نسمعها اليوم كثيراً هي كلمة، بمعناها الحديث، لا يتجاوز عمرها ثلاثة قرون، ومصدرها لفظة في اللّغة الألمانيّة صاغها الفيلسوف بومجارتن مؤسس علم الجمال. على الرغم من أن اللّفظة ” استطيقا “، مستمدة من أصل يوناني قديم هو Aesthesis الّذي يعني ” إدراك حسيّ ” [1]. غير أن هذا المعنى اليوناني بعيد كلّ البعد عن المعنى الحديث لعلم الجمال ( استطيقا ) الّذي يمكن أن نعرفه بأنّه: ما يتعلق بالجميل والجمال من حكم ودراسة [2] . أو يمكن أن نعرفه أيضاً بأنه إعمال التّفكير في الفنّ والأعمال الفنيّة من أجل تكوين عالم من المفاهيم لمعرفة ما [3].
و منذ القرن الثامن عشر ظهرت كتب و رسائل كثيرة تهتم بعلم الجمال، منها كتاب ” الجماليّة ” لبومجارتن، و كتاب كانط ” نقد ملكة الحكم ” الّذي خصص الباب الأوّل منه لنقد ملكة الحكم الجمالي . ثم كتب شيلر رسائل عن تربيّة الإنسان الجماليّة، و جاء بعد ذلك هيجل فوضع محاضراته عن الجماليّة، و لولا هيجل ، كما يقول جورج لوكاش، لما كان علم الجمال على ما هو عليه اليوم . و في القرن العشرين ازدهر علم الجمال بشكل كبير خصوصاً في أمريكا .
بيد أنه إذا كان علم الجمال تأسس في القرن الثامن عشر، باعتباره مبحثاً فلسفياً قائماً بذاته، على يد الفيلسوف بومجارتن، فإن موضوع هذا العلم و هو الجمال و الجميل، قد تم تناوله منذ أفلاطون و أرسطو .
و نحن في هذه المقالة سنتطرق لموضوع الجمال من خلال نظرية أفلاطون و أرسطو، ثم سنضع قراءة شخصيّة للوحة الحداد الأوّل للرسام وليام أدولف بوغيرو معتمدين في قراءتها على ما سنذكره في هذا المقال من نظريات كلاسيكيّة حول الاستطيقا .
فما هو الجمال؟ و هل الفنّ محاكاة؟ و إلى أي حد يمكن أن نقول أن الفنّ نتاج للروح؟
هذه الأسئلة و غيرها سنحاول أن نجيب عنها فيما سيأتي من مدارسة و تحليل و مناقشة .
في محاورة هيبياس الأكبر يتطرق أفلاطون لموضوع الجمال . و في هذه المحاورة يناقش سقراط الأفلاطوني* هيبياس السّوفسطائيّ ** الّذي يرى أن السُّؤال عن ” الجمال ” هو سؤال عن ” الشيء الجميل ” . فلا فرق في نظر هيبياس الأكبر بين الشيء الجميل و الجمال . في حين أن سقراط الأفلاطوني يضع تمييزاً بين ” الشيء الجميل ” و ” الجمال ” . فالجمال جميل بذاته، بينما ” الشيء الجميل ” هو جميل لأن هناك شيء ما جميل بذاته يمنحه الجمال . و لهذا يقول سقراط الأفلاطوني : ” أليست الأشياء الجميلة جميلة بالجمال؟ “[4].
لكن ما هو هذا الشيء الجميل بذاته؟ إنه ماهية كليّة توجد في عالم المعقولات، أي في عالم المُثٌل، و هذه الماهية هي الّتي تمنح لكلّ الأشياء الجميلة جمالها . إنها ماهية خالدة و دائمة حسب التّصور السُّقراطي الأفلاطونيّ لعالم المُثٌل .
لذلك فإننا حين نقول أن ” الفرس الجميلة شيء جميل “، أو أن ” الفتاة الجميلة هي شيء جميل “، أو أن ” القيثارة جميلة “…إلخ ***، فإننا نعني أن كلّ تلك الأشياء الجميلة تستمد جمالها من مفهوم الجمال الكليّ ****، أي من الجميل بذاته : الجمال المطلق . و من هنا كان الجمال في الأشياء مجرد انعكاس للجمال الحقيقي الّذي يسمو عليها .
إننا حسب التّصور السقراطي الأفلاطوني لا يمكن أن نعرف الجمال من خلال الأشياء الجميلة، لأن الأشياء الجميلة في عالم المحسوسات هي أشياء متغيرة و غير ثابتة، في حين أن ما لا يتغير هو الوحيد الّذي يمكن معرفته، و ما لا يتغير يوجد في عالم المُثُل . فالجمال كمفهوم كليّ، أي الجمال : الخالص، الثابت، الّذي لا يتغير، لا يوجد في الأشياء الجميلة المتغيرة . ذلك لأن هذه الأشياء توجد في الزمان و المكان، و لو وجد الجمال في الزّمان و المكان، كما الأشياء الجميلة، لكان معرضاً لما تتعرض له كل الأشياء المحسوسة .
و الحقّ أن تعريف الجميل تعريفاً واضحاً لا نجده في محاورة هيبياس الأكبر، فسقراط الأفلاطوني ينتهي في هذه المحاورة إلى الإقرار بأنه جاهل في الجميل، لدرجة أنه لا يقوى على معرفته في ذاته [5] . غير أننا يمكن أن نستنتج الجواب عن سؤال الجمال في ثنايا المحاورة بشكل غامض حين يقول سقراط الأفلاطوني أن الأشياء الجميلة جميلة بالجمال .
لكن كيف يحِل الجميل بذاته في الأشياء الجميلة فيمنحها الجمال؟ هنا لا بد من التوقف عند نظرية المعرفة عند أفلاطون . فأفلاطون يرَ أن المعرفة هي تذكر للوجود الحقيقيّ الّذي هو وجود الماهيات، و الجمال من الماهيات . و لهذا فإن رؤية الأشياء الجميلة تمكننا من تذكر مثال الجَمال . و ترتيباً على ما سبق، فإن الجمال لا يحل في الأشياء الجميلة، بل إن الأشياء الجميلة تُذكرنا به، لأنها تشارك فيه [6] . ذلك أننا حين نرى الأشياء الجميلة كالوردة أو المرأة …إلخ، فإننا نستطيع أن نتصور مثال الجمال من خلال تلك الأشياء، و ذلك عبر الديالكتيك ( فنّ الجدل ) *****. بمعنى أننا نرتقي من تأمّل الأشياء الجميلة، إلى تأمّل النّفوس الجميلة، إلى الأفعال الجميلة … إلى أن نصل إلى الجمال المطلق الذي يجعله أفلاطون مرتبطاً بالفضيلة، و بالتّالي بالخير الّذي يُعدًّ، حسب أفلاطون، مثال المُثُل . يقول أفلاطون : ” إن الخير لا يمكنه أن يكون جميلاً، و لا الجميل خيّراً، إن لم يكن الاثنان متطابقين أحدهما مع الآخر ” [7] .
و هذا التّصور الأفلاطوني السقراطي للجمال تعرض لانتقادات من طرف أرسطو الّذي يُحبّ معلمه أفلاطون، كما قال، إلا أنه يفضل الحقّ على محبته. فإذا كان أفلاطون لا يفصل بين الجميل و الخير، فإن أرسطو يقصر الجميل على الجميل الحسيّ، و بالتّالي يضع أرسطو الجميل بمعزل عن الأخلاق .
و هنا لا بد من الحديث عن واقعيّة أرسطو الّتي تختلف عن واقعية أفلاطون في كونها لا تجعل الصور مفارقة لعالم المحسوسات، بل إن الصور حسب أرسطو محايثة . ذلك أن الكليات، وفق أرسطو، لم تكن مجردة و لا منفصلة عن الأشياء الّتي تكمن فيها تلك الكليات، و إنّما هي موجودة مع الأشياء الجزئيّة في عالم الزمان و المكان . فالمرأة الجميلة يتعين فيها الجمال، و الفرس الجميل يتعين فيه الجمال أيضاً ..إلخ . و معنى هذا أن الجمال يوجد في مختلف الأشياء الجميلة .
و يرى أرسطو أننا أمام الشيء الجميل نشعر باللّذة، غير أن هذه اللّذة مختلفة، كلّ الاختلاف، عن اللّذات الحسيّة مثل لذة الأكل و لذة الجِماع ..إلخ . إن اللّذة الّتي نشعر بها أمام ما هو جميل هي لذة جماليّة غير حسيّة و غير وقتية، إنّها لذة دائمة .
لكن ألا يعني هذا أننا ينبغي أن نشعر أمام المرأة الجميلة بلذة جمالية مادام أن ” الجمال هو فتاة جميلة ” بتعبير هيبياس الأكبر في محاورة أفلاطون؟ ألا ينبغي أن ننظر للمرأة الجميلة كما ننظر للوردة الجميلة و للوحة الجميلة؟
الحق أن هذا التصور الأرسطي لما هو جميل ينطبق على العمل الفنيّ، فالفنّ في نظر أرسطو هو محاكاة للعالم الخارجي . معنى هذا أننا كلما أعدنا محاكاة ما هو موجود في الطبيعة باتقان و بمهارة تامة سنكون قد نجحنا في الفنّ و في تحصيل اللّذة الجماليّة . إننا حسب تصور أرسطو ينبغي أن نعيد ما هو موجود من قبل في العالم الخارجي . و لهذا فإننا أمام صحن من الفواكه المرسوم على لوحة زيتية باتقان لا نشعر بأي رغبة في الأكل، بل ما نشعر به هو لذة جماليّة .
و إذا كان أرسطو يرى أن الفنّ محاكاة للعالم الخارجي، فإن أستاذه أفلاطون كان يرى أيضاً أن الفنّ محاكاة، لكنه محاكاة لعالم المُثُل . فالفنّ حسب التّصور الأفلاطونيّ للجميل ينبغي أن يقترب من عالم المُثل الأعلى . و رغم أن أفلاطون يرى أن الفنّ هو محاكاة لعالم المثل، فإنه أدان هذه المحاكاة إذا لم تخضع للفلسفة . فالمحاكاة حسب أفلاطون هي في الدرجة الثانية أو الثالثة، تبتعد عن الشكل، و عن المثال . إنّها شبه خادع مستعمل للأغراء و الإفساد، و لها عواقب وخيمة على التّربيّة [8]، لهذا لا يحظى الشعراء و الموسيقيون و المصورون و المسرحيون المقلدون بأي مكان في المدينة الفاضلة، جمهورية أفلاطون .
نأتي الآن بعد أن عرضنا بإيجاز شديد تصورات أفلاطون و أرسطو لما هو جميل ـ نأتي لتأمّل لوحة فنيّة مسقطين عليها تصور أرسطو للفنّ . و اللّوحة الّتي اخترتها هي لوحة ” الحِداد الأوّل ” للرّسام الفرنسي الواقعي ويليام أدولف بوغيرو ****** :
الحداد الأوّل لوليام أدولف بوغيرو
إن لوحة الحداد الأوّل *******الّتي رسمت سنة 1888 ميلاديّة تصور بكاء آدم و حواء على ابنهما القتيل هابيل . لعلّ جماليّة اللّوحة تكمن، وفقاً لتصور أرسطو، في المحاكاة لما هو موجود قي الطبيعية . فالشخصيات الثلاثة في اللّوحة رسمت باتقان و بمهارة تامة، بل إن متأمّل هذه اللّوحة قد يقول ما ينقص هذه الشخصيات الثلاثة لتدب فيها الحياة هي الرّوح ( قد نقول نفس الأمر على تمثال دافيد لمايكل أنجيلو ) . لكن في اعتقادي أن هذه المحاكاة لا تكفي حتّى نقول أن لوحة الحِداد الأوّل تتصف بالجماليّة، لأنه ما الفائدة من المحاكاة المتقنة اليوم لجسد الإنسان أو لأي شيء ما في الطبيعة بوجود آلات التّصوير
الفوتوغرافي؟ و بسؤال هيجل :
” ما ضرورة تصوير ما هو موجود أصلاً، و ما ضرورة إعادة تشكيله؟ ” [9] .
إن ما يضفي الجماليّة على لوحة الحداد الأوّل، في نظري، هو أولاً ما يحمله موضوعها من ثقل مخيالي ديني، فهي تذكرنا بآدام و حواء، و بالجريمة الأولى الّتي ارتكبت في التّاريخ البشري وفقاً للقصة المذكورة في الأديان السماوية الثلاثة . و لو استبعدنا هذا المعطى من اللّوحة لنقصت جماليتها . كذلك، فإن وضعية الشخصيات الثلاثة تضفي على اللّوحة جماليّة خاصة، و تجعل المتأمّل لها يشعر بلذة جمالية، مثل وضع آدم يده على قلبه، و تغطية حواء لوجهها بيديها، كذلك فإن ما يؤثر فينا حين رؤية هذه اللّوحة : وجه آدم الكئيب و وجه هابيل القتيل :
آدم يضع يده على قلبه
وجه آدم الكئيب
وجه هابيل
كذلك لا ينبغي اغفال اللّون الرمادي بكل تدرجاته الغالب على اللّوحة، و لو تصورنا نفس اللوحة لكن بلون أزرق للسماء مثلاً لشعرنا بنقص في جماليتها .
هكذا يظهر لنا أن المحاكاة وحدها لا تكفي لكي نقول أن لوحة الحِداد الأوَّل هي عمل جميل . بل إن هناك في اللوحة ما هو إضافة للواقع كما هو : إنه الرّمز و الخيال المتضمن فيها . و هنا نكون قد اقتربنا من تصور هيجل الّذي يرى أن الجمال الفنيّ أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج للرّوح [10] . فأليس كلّ ما في لوحة الحِداد الأوّل نتاج للروح الّتي لا تجعل من اللّوحة الفنيّة مجرّد محاكاة للطبيعة فحسب، بل شيء أسمى من ذلك بكثير؟!
ختاماً، هل نشعر بالسعادة حين نتأمّل هذه اللّوحة، أعني لوحة الحداد الأوّل؟ بالطبع، لا . لكننا لا نشعر بالحزن أيضاً . ما نشعر به هو الشعور بلذة جمالية بعيدة عن كلّ شعور واقعي كالخوف أو الحزن أو السعادة ..إلخ . إنّها لذة رؤيتنا للشيء الجميل الّذي قال عنه أفلاطون أنه صعب.
هوامش و حواشي:
ـ نشرت هذه المادة في العدد العاشر من مجلة أفكار المغربية
1 ـ وج.أو.أرمسون، الموسوعة الفلسفيّة المختصرة، تعريب : مجموعة من المترجمين . مكتبة الانجلو المصريّة، طبعة سنة : 1963، ص : 200
2 ـ انظر :
Paul Foulquié، Dictionnaire de la langue philosophique، Presses Universitaires de France، Edition 1992، Janvier. P P : 232، 233
3 ـ مارك جيمينيز، ما الجمالية؟، ترجمة : شربل داغز، المنظمة العربيّة للترجمة، ط : 1، ص : 31 .
* نقول سقراط / الأفلاطوني لأن أفلاطون كتب فلسفة أستاذه سقراط في المحاورات، فيصعب تحديد الأفكار الواردة في المحاورات هل هي أفكار أفلاطون أم هي أفكار سقراط .
** السّوفسطائيّة، كمدرسة تنفي العلم بالماهيات، ترى في موضوع الجمال أنه لا يوجد جميل بطبعه، بل يتوقف الأمر على أهواء النّاس و ظروفهم و ثقافتهم و أخلاقهم ..إلخ .
4 ـ أفلاطون، محاورة هيبياس الأكبر، نقلها إلى العربيّة : شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر و التوزيع، طبعة سنة 1994، ص : 207
*** هذه الأمثلة يذكرها أفلاطون في محاورة هيبياس الأكبر إلى جانب أمثلة أخرى، كالقِدر …
**** الكليّ هو الّذي يصدق على الكثيرين، و الكليات هي الماهيات و الصور .
5 ـ مارك جيمينيز، مرجع سابق، ص : 225
6 ـ هذا الرأي نجده في محاورة فيدون حين يتحدث أفلاطون السقراطي عن التذكر و عن المشاركة في المثل، انظر : أفلاطون، محاورات أفلاطون، محاورة فيدون، عربها عن الانجليزية : زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التّأليف و التّرجمة و النّشر، طبعة سنة : 1937 .
7 ـ أفلاطون، محاورة هيبياس الأكبر، مصدر سابق، ص : 239
8 / 8
***** في محاورة المأدبة نجد هذا الجدل الصاعد حيث نرتقي من الأشياء المحسوسة إلى أن نصل لمعرفة الجميل كما هو في ذاته .
****** هذه القراءة للوحة هي قراءة شخصية من الكاتب .
8 ـ مارك جيمينيز، مرجع سابق، ص : 243
******* العناوين الّتي تحملها بعض اللوحات تضيف للوحة جمالية و عمقاً، أذكر مثلاً لوحة للرسام الإنجليزي Walter Langley التي عنوانها اقتباس من قصيدة و هو Never Morning Wore to Evening but some heart did break
9 ـ هيجل، المدخل إلى علم الجمال، ترجمة : جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة و النّشر، بيروت، يونيو 1978، ص : 34
10 ـ هيجل، نفسه، ص ص : 5 ـ
محفوظ أبي يعلا
مساعد رئيس قسم الفلسفة والعلوم الإنسانيّة بمؤسسة “مؤمنون بلا حدود” باحث في الفلسفة والفكر الإسلامي
* نقلا للفائدة عن حكمة
” ما هو جميل صعب “
* محاورة هيبياس الأكبر ـ أفلاطون
يعدُّ مبحث علم الجمال من المباحث الرئيسيّة في الفلسفة، إلى جانب المنطق والأخلاق ونظرية المعرفة ..إلخ. غير أن علم الجمال لم يدرس بالقدر الّذي درست به المباحث الأخرى من الفلسفة كمبحث الميتافيزيقا مثلاً.
وفي الحقيقة كلمة ” الاستطيقا ” الّتي نسمعها اليوم كثيراً هي كلمة، بمعناها الحديث، لا يتجاوز عمرها ثلاثة قرون، ومصدرها لفظة في اللّغة الألمانيّة صاغها الفيلسوف بومجارتن مؤسس علم الجمال. على الرغم من أن اللّفظة ” استطيقا “، مستمدة من أصل يوناني قديم هو Aesthesis الّذي يعني ” إدراك حسيّ ” [1]. غير أن هذا المعنى اليوناني بعيد كلّ البعد عن المعنى الحديث لعلم الجمال ( استطيقا ) الّذي يمكن أن نعرفه بأنّه: ما يتعلق بالجميل والجمال من حكم ودراسة [2] . أو يمكن أن نعرفه أيضاً بأنه إعمال التّفكير في الفنّ والأعمال الفنيّة من أجل تكوين عالم من المفاهيم لمعرفة ما [3].
و منذ القرن الثامن عشر ظهرت كتب و رسائل كثيرة تهتم بعلم الجمال، منها كتاب ” الجماليّة ” لبومجارتن، و كتاب كانط ” نقد ملكة الحكم ” الّذي خصص الباب الأوّل منه لنقد ملكة الحكم الجمالي . ثم كتب شيلر رسائل عن تربيّة الإنسان الجماليّة، و جاء بعد ذلك هيجل فوضع محاضراته عن الجماليّة، و لولا هيجل ، كما يقول جورج لوكاش، لما كان علم الجمال على ما هو عليه اليوم . و في القرن العشرين ازدهر علم الجمال بشكل كبير خصوصاً في أمريكا .
بيد أنه إذا كان علم الجمال تأسس في القرن الثامن عشر، باعتباره مبحثاً فلسفياً قائماً بذاته، على يد الفيلسوف بومجارتن، فإن موضوع هذا العلم و هو الجمال و الجميل، قد تم تناوله منذ أفلاطون و أرسطو .
و نحن في هذه المقالة سنتطرق لموضوع الجمال من خلال نظرية أفلاطون و أرسطو، ثم سنضع قراءة شخصيّة للوحة الحداد الأوّل للرسام وليام أدولف بوغيرو معتمدين في قراءتها على ما سنذكره في هذا المقال من نظريات كلاسيكيّة حول الاستطيقا .
فما هو الجمال؟ و هل الفنّ محاكاة؟ و إلى أي حد يمكن أن نقول أن الفنّ نتاج للروح؟
هذه الأسئلة و غيرها سنحاول أن نجيب عنها فيما سيأتي من مدارسة و تحليل و مناقشة .
في محاورة هيبياس الأكبر يتطرق أفلاطون لموضوع الجمال . و في هذه المحاورة يناقش سقراط الأفلاطوني* هيبياس السّوفسطائيّ ** الّذي يرى أن السُّؤال عن ” الجمال ” هو سؤال عن ” الشيء الجميل ” . فلا فرق في نظر هيبياس الأكبر بين الشيء الجميل و الجمال . في حين أن سقراط الأفلاطوني يضع تمييزاً بين ” الشيء الجميل ” و ” الجمال ” . فالجمال جميل بذاته، بينما ” الشيء الجميل ” هو جميل لأن هناك شيء ما جميل بذاته يمنحه الجمال . و لهذا يقول سقراط الأفلاطوني : ” أليست الأشياء الجميلة جميلة بالجمال؟ “[4].
لكن ما هو هذا الشيء الجميل بذاته؟ إنه ماهية كليّة توجد في عالم المعقولات، أي في عالم المُثٌل، و هذه الماهية هي الّتي تمنح لكلّ الأشياء الجميلة جمالها . إنها ماهية خالدة و دائمة حسب التّصور السُّقراطي الأفلاطونيّ لعالم المُثٌل .
لذلك فإننا حين نقول أن ” الفرس الجميلة شيء جميل “، أو أن ” الفتاة الجميلة هي شيء جميل “، أو أن ” القيثارة جميلة “…إلخ ***، فإننا نعني أن كلّ تلك الأشياء الجميلة تستمد جمالها من مفهوم الجمال الكليّ ****، أي من الجميل بذاته : الجمال المطلق . و من هنا كان الجمال في الأشياء مجرد انعكاس للجمال الحقيقي الّذي يسمو عليها .
إننا حسب التّصور السقراطي الأفلاطوني لا يمكن أن نعرف الجمال من خلال الأشياء الجميلة، لأن الأشياء الجميلة في عالم المحسوسات هي أشياء متغيرة و غير ثابتة، في حين أن ما لا يتغير هو الوحيد الّذي يمكن معرفته، و ما لا يتغير يوجد في عالم المُثُل . فالجمال كمفهوم كليّ، أي الجمال : الخالص، الثابت، الّذي لا يتغير، لا يوجد في الأشياء الجميلة المتغيرة . ذلك لأن هذه الأشياء توجد في الزمان و المكان، و لو وجد الجمال في الزّمان و المكان، كما الأشياء الجميلة، لكان معرضاً لما تتعرض له كل الأشياء المحسوسة .
و الحقّ أن تعريف الجميل تعريفاً واضحاً لا نجده في محاورة هيبياس الأكبر، فسقراط الأفلاطوني ينتهي في هذه المحاورة إلى الإقرار بأنه جاهل في الجميل، لدرجة أنه لا يقوى على معرفته في ذاته [5] . غير أننا يمكن أن نستنتج الجواب عن سؤال الجمال في ثنايا المحاورة بشكل غامض حين يقول سقراط الأفلاطوني أن الأشياء الجميلة جميلة بالجمال .
لكن كيف يحِل الجميل بذاته في الأشياء الجميلة فيمنحها الجمال؟ هنا لا بد من التوقف عند نظرية المعرفة عند أفلاطون . فأفلاطون يرَ أن المعرفة هي تذكر للوجود الحقيقيّ الّذي هو وجود الماهيات، و الجمال من الماهيات . و لهذا فإن رؤية الأشياء الجميلة تمكننا من تذكر مثال الجَمال . و ترتيباً على ما سبق، فإن الجمال لا يحل في الأشياء الجميلة، بل إن الأشياء الجميلة تُذكرنا به، لأنها تشارك فيه [6] . ذلك أننا حين نرى الأشياء الجميلة كالوردة أو المرأة …إلخ، فإننا نستطيع أن نتصور مثال الجمال من خلال تلك الأشياء، و ذلك عبر الديالكتيك ( فنّ الجدل ) *****. بمعنى أننا نرتقي من تأمّل الأشياء الجميلة، إلى تأمّل النّفوس الجميلة، إلى الأفعال الجميلة … إلى أن نصل إلى الجمال المطلق الذي يجعله أفلاطون مرتبطاً بالفضيلة، و بالتّالي بالخير الّذي يُعدًّ، حسب أفلاطون، مثال المُثُل . يقول أفلاطون : ” إن الخير لا يمكنه أن يكون جميلاً، و لا الجميل خيّراً، إن لم يكن الاثنان متطابقين أحدهما مع الآخر ” [7] .
و هذا التّصور الأفلاطوني السقراطي للجمال تعرض لانتقادات من طرف أرسطو الّذي يُحبّ معلمه أفلاطون، كما قال، إلا أنه يفضل الحقّ على محبته. فإذا كان أفلاطون لا يفصل بين الجميل و الخير، فإن أرسطو يقصر الجميل على الجميل الحسيّ، و بالتّالي يضع أرسطو الجميل بمعزل عن الأخلاق .
و هنا لا بد من الحديث عن واقعيّة أرسطو الّتي تختلف عن واقعية أفلاطون في كونها لا تجعل الصور مفارقة لعالم المحسوسات، بل إن الصور حسب أرسطو محايثة . ذلك أن الكليات، وفق أرسطو، لم تكن مجردة و لا منفصلة عن الأشياء الّتي تكمن فيها تلك الكليات، و إنّما هي موجودة مع الأشياء الجزئيّة في عالم الزمان و المكان . فالمرأة الجميلة يتعين فيها الجمال، و الفرس الجميل يتعين فيه الجمال أيضاً ..إلخ . و معنى هذا أن الجمال يوجد في مختلف الأشياء الجميلة .
و يرى أرسطو أننا أمام الشيء الجميل نشعر باللّذة، غير أن هذه اللّذة مختلفة، كلّ الاختلاف، عن اللّذات الحسيّة مثل لذة الأكل و لذة الجِماع ..إلخ . إن اللّذة الّتي نشعر بها أمام ما هو جميل هي لذة جماليّة غير حسيّة و غير وقتية، إنّها لذة دائمة .
لكن ألا يعني هذا أننا ينبغي أن نشعر أمام المرأة الجميلة بلذة جمالية مادام أن ” الجمال هو فتاة جميلة ” بتعبير هيبياس الأكبر في محاورة أفلاطون؟ ألا ينبغي أن ننظر للمرأة الجميلة كما ننظر للوردة الجميلة و للوحة الجميلة؟
الحق أن هذا التصور الأرسطي لما هو جميل ينطبق على العمل الفنيّ، فالفنّ في نظر أرسطو هو محاكاة للعالم الخارجي . معنى هذا أننا كلما أعدنا محاكاة ما هو موجود في الطبيعة باتقان و بمهارة تامة سنكون قد نجحنا في الفنّ و في تحصيل اللّذة الجماليّة . إننا حسب تصور أرسطو ينبغي أن نعيد ما هو موجود من قبل في العالم الخارجي . و لهذا فإننا أمام صحن من الفواكه المرسوم على لوحة زيتية باتقان لا نشعر بأي رغبة في الأكل، بل ما نشعر به هو لذة جماليّة .
و إذا كان أرسطو يرى أن الفنّ محاكاة للعالم الخارجي، فإن أستاذه أفلاطون كان يرى أيضاً أن الفنّ محاكاة، لكنه محاكاة لعالم المُثُل . فالفنّ حسب التّصور الأفلاطونيّ للجميل ينبغي أن يقترب من عالم المُثل الأعلى . و رغم أن أفلاطون يرى أن الفنّ هو محاكاة لعالم المثل، فإنه أدان هذه المحاكاة إذا لم تخضع للفلسفة . فالمحاكاة حسب أفلاطون هي في الدرجة الثانية أو الثالثة، تبتعد عن الشكل، و عن المثال . إنّها شبه خادع مستعمل للأغراء و الإفساد، و لها عواقب وخيمة على التّربيّة [8]، لهذا لا يحظى الشعراء و الموسيقيون و المصورون و المسرحيون المقلدون بأي مكان في المدينة الفاضلة، جمهورية أفلاطون .
نأتي الآن بعد أن عرضنا بإيجاز شديد تصورات أفلاطون و أرسطو لما هو جميل ـ نأتي لتأمّل لوحة فنيّة مسقطين عليها تصور أرسطو للفنّ . و اللّوحة الّتي اخترتها هي لوحة ” الحِداد الأوّل ” للرّسام الفرنسي الواقعي ويليام أدولف بوغيرو ****** :
الحداد الأوّل لوليام أدولف بوغيرو
إن لوحة الحداد الأوّل *******الّتي رسمت سنة 1888 ميلاديّة تصور بكاء آدم و حواء على ابنهما القتيل هابيل . لعلّ جماليّة اللّوحة تكمن، وفقاً لتصور أرسطو، في المحاكاة لما هو موجود قي الطبيعية . فالشخصيات الثلاثة في اللّوحة رسمت باتقان و بمهارة تامة، بل إن متأمّل هذه اللّوحة قد يقول ما ينقص هذه الشخصيات الثلاثة لتدب فيها الحياة هي الرّوح ( قد نقول نفس الأمر على تمثال دافيد لمايكل أنجيلو ) . لكن في اعتقادي أن هذه المحاكاة لا تكفي حتّى نقول أن لوحة الحِداد الأوّل تتصف بالجماليّة، لأنه ما الفائدة من المحاكاة المتقنة اليوم لجسد الإنسان أو لأي شيء ما في الطبيعة بوجود آلات التّصوير
الفوتوغرافي؟ و بسؤال هيجل :
” ما ضرورة تصوير ما هو موجود أصلاً، و ما ضرورة إعادة تشكيله؟ ” [9] .
إن ما يضفي الجماليّة على لوحة الحداد الأوّل، في نظري، هو أولاً ما يحمله موضوعها من ثقل مخيالي ديني، فهي تذكرنا بآدام و حواء، و بالجريمة الأولى الّتي ارتكبت في التّاريخ البشري وفقاً للقصة المذكورة في الأديان السماوية الثلاثة . و لو استبعدنا هذا المعطى من اللّوحة لنقصت جماليتها . كذلك، فإن وضعية الشخصيات الثلاثة تضفي على اللّوحة جماليّة خاصة، و تجعل المتأمّل لها يشعر بلذة جمالية، مثل وضع آدم يده على قلبه، و تغطية حواء لوجهها بيديها، كذلك فإن ما يؤثر فينا حين رؤية هذه اللّوحة : وجه آدم الكئيب و وجه هابيل القتيل :
آدم يضع يده على قلبه
وجه آدم الكئيب
وجه هابيل
كذلك لا ينبغي اغفال اللّون الرمادي بكل تدرجاته الغالب على اللّوحة، و لو تصورنا نفس اللوحة لكن بلون أزرق للسماء مثلاً لشعرنا بنقص في جماليتها .
هكذا يظهر لنا أن المحاكاة وحدها لا تكفي لكي نقول أن لوحة الحِداد الأوَّل هي عمل جميل . بل إن هناك في اللوحة ما هو إضافة للواقع كما هو : إنه الرّمز و الخيال المتضمن فيها . و هنا نكون قد اقتربنا من تصور هيجل الّذي يرى أن الجمال الفنيّ أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج للرّوح [10] . فأليس كلّ ما في لوحة الحِداد الأوّل نتاج للروح الّتي لا تجعل من اللّوحة الفنيّة مجرّد محاكاة للطبيعة فحسب، بل شيء أسمى من ذلك بكثير؟!
ختاماً، هل نشعر بالسعادة حين نتأمّل هذه اللّوحة، أعني لوحة الحداد الأوّل؟ بالطبع، لا . لكننا لا نشعر بالحزن أيضاً . ما نشعر به هو الشعور بلذة جمالية بعيدة عن كلّ شعور واقعي كالخوف أو الحزن أو السعادة ..إلخ . إنّها لذة رؤيتنا للشيء الجميل الّذي قال عنه أفلاطون أنه صعب.
هوامش و حواشي:
ـ نشرت هذه المادة في العدد العاشر من مجلة أفكار المغربية
1 ـ وج.أو.أرمسون، الموسوعة الفلسفيّة المختصرة، تعريب : مجموعة من المترجمين . مكتبة الانجلو المصريّة، طبعة سنة : 1963، ص : 200
2 ـ انظر :
Paul Foulquié، Dictionnaire de la langue philosophique، Presses Universitaires de France، Edition 1992، Janvier. P P : 232، 233
3 ـ مارك جيمينيز، ما الجمالية؟، ترجمة : شربل داغز، المنظمة العربيّة للترجمة، ط : 1، ص : 31 .
* نقول سقراط / الأفلاطوني لأن أفلاطون كتب فلسفة أستاذه سقراط في المحاورات، فيصعب تحديد الأفكار الواردة في المحاورات هل هي أفكار أفلاطون أم هي أفكار سقراط .
** السّوفسطائيّة، كمدرسة تنفي العلم بالماهيات، ترى في موضوع الجمال أنه لا يوجد جميل بطبعه، بل يتوقف الأمر على أهواء النّاس و ظروفهم و ثقافتهم و أخلاقهم ..إلخ .
4 ـ أفلاطون، محاورة هيبياس الأكبر، نقلها إلى العربيّة : شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر و التوزيع، طبعة سنة 1994، ص : 207
*** هذه الأمثلة يذكرها أفلاطون في محاورة هيبياس الأكبر إلى جانب أمثلة أخرى، كالقِدر …
**** الكليّ هو الّذي يصدق على الكثيرين، و الكليات هي الماهيات و الصور .
5 ـ مارك جيمينيز، مرجع سابق، ص : 225
6 ـ هذا الرأي نجده في محاورة فيدون حين يتحدث أفلاطون السقراطي عن التذكر و عن المشاركة في المثل، انظر : أفلاطون، محاورات أفلاطون، محاورة فيدون، عربها عن الانجليزية : زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التّأليف و التّرجمة و النّشر، طبعة سنة : 1937 .
7 ـ أفلاطون، محاورة هيبياس الأكبر، مصدر سابق، ص : 239
8 / 8
***** في محاورة المأدبة نجد هذا الجدل الصاعد حيث نرتقي من الأشياء المحسوسة إلى أن نصل لمعرفة الجميل كما هو في ذاته .
****** هذه القراءة للوحة هي قراءة شخصية من الكاتب .
8 ـ مارك جيمينيز، مرجع سابق، ص : 243
******* العناوين الّتي تحملها بعض اللوحات تضيف للوحة جمالية و عمقاً، أذكر مثلاً لوحة للرسام الإنجليزي Walter Langley التي عنوانها اقتباس من قصيدة و هو Never Morning Wore to Evening but some heart did break
9 ـ هيجل، المدخل إلى علم الجمال، ترجمة : جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة و النّشر، بيروت، يونيو 1978، ص : 34
10 ـ هيجل، نفسه، ص ص : 5 ـ
محفوظ أبي يعلا
مساعد رئيس قسم الفلسفة والعلوم الإنسانيّة بمؤسسة “مؤمنون بلا حدود” باحث في الفلسفة والفكر الإسلامي
* نقلا للفائدة عن حكمة