إن المتلقي القارئ الذي لا ينتمي لاي شكل من أشكال النقد الادبي بات يمثل توجها لا يستهان به في مجال التذوق الادبي فتخطي بذلك أشكال النقد المستقرة للأدب، فهذا القارئ ابن ثقافته المعاصرة، تلك الثقافة التي تطورت بعد الثقافة الكتابية، والتي تُعرف بالثقافة الشفاهية الثانية، هي ثقافة الميديا، التي خرجت من رحم الثقافة الكتابية نتيجة عصر ثورة الاتصالات، وغلبة الوسائط السمعبصرية، بات هذا القارئ الشفاهي الثاني المستنسخ من جده الكتابي الأول يفرض نفسه ليس فقط علي أساليب النقد الأدبية الكلاسيكية، والتي كان يمثل ذلك نشوزاً عليها، وإنما بات يفرض رغباته وميوله علي المبدعين، بل ويسعون لتلبية طلباته فاعترفوا بقيمته قبل النقاد، ومدي أهمية دوره في العملية الإبداعية، علي نحو تحكم في شكل أعمالهم الإبداعية بصورة ملفتة، ويتمثل ذلك في ظاهرة أدبية معاصرة، وهي ظاهرة ادعاء بعض الروائيين بعثورهم علي مخطوطات قديمة، قاموا بإعادة قراءتها، وتحقيقها ونشر محتوها فيما يكتبونه من روايات، وأشعار. روايات مخطوطية
افتتح بعض الروائيين في مصر، والعالم العربي، وأوروبا رواياتهم باستهلالها بعثورهم علي مخطوطة قديمة لمؤلف قد يكون مجهولاً عند احدهم، أو معلوماً عند الآخر، تنامي هذا العثور علي مخطوطات إلي الحد الذي جعل منه ظاهرة أدبية، تكشف تحولاً في عالم الرواية، والشعر، أو تحولاً في العملية الإبداعية الأدبية عموماً، ويمكن رصد هذه الظاهرة عبر تاريخ العثور علي المخطوطات الروائية التالية حسب ترتيبها الزمني:1 - رواية"اسم الوردة" للأديب الايطالي "امبيرتو إيكو"(1932م) والتي صدرت في العام 1980م، حيث يفتتحها بفصل عنوانه"مخطوط بطبيعة الحال" يحكي فيه قصة المخطوطة التي سلمها له الأب"فالي" وهي صادرة منذ القرن الرابع عشر، 2- رواية"من أوراق أبي الطيب المتنبي" للأديب المصري"محمد جبريل"(1938م)والتي صدرت في العام 1984م، والتي يبدؤها بالروايات التي شاعت عن الأماكن التي ترك فيها "المتنبي" أوراقه التي عثر عليه، 3- رواية"عزازيل" للأديب المصري د."يوسف زيدان"(1958م) والتي صدرت في العام 2009م، والتي يقوم المؤلف فيها بدور المترجم لمخطوطات عثر عليها باللغة السُيرانية لسيرة حياة الراهب"هيبا، "4- رواية"دير العاقول" لشاعر الدوحة"محمد السويدي"(1959م) والتي صدرت هذه السنة 2010م، ويفتتحها علي اعتبار أنها مخطوطة عثر عليها أحدهم في مكتبة مهجورة في زاوية من مسجد قديم في المنطقة التي تحمل نفس الاسم، والتي لقي فيها"المتنبي" مصرعه، 5- ديوان"الفلاح الفصيح" للشاعر المصري"بهاء جاهين"(1958م) والذي صدر هذه السنة 2010م، وفيه يترجم الشاعر مخطوطة فرعونية إلي اللغة العامية،6- "مذكرات فتوة تأليف المعلم يوسف أبو الحجاج" نشر وتحقيق"صلاح عيسي" والتي تنشر تباعاً في "جريدة القاهرة"2010م .
فهي مناهل أدبية مختلفة المشارب ربما اختلفت فيما بينها تبعاً لثقافة مبدعيها، وبين كونها روايات وأشعارا، إلا أن الخيط الرفيع الذي يربط بينها جميعاً أنها تدعي أمام القارئ أن مصدرها مخطوطات نادرة مجهولة تم عثور هؤلاء المبدعين عليها في ظروف يلفها الغموض، فما كان من القارئ هو الآخر إلا وان أعلن انه لن يقرأ هذه النصوص عبر اي مدرسة نقدية مستقرة، ولا حتي عبر الدراسات الأدبية المقارنة، فقد أعلن انه قارئ نموذجي وقبل خدعة أدبائه، ومن ثم سيدور عليهم بدوائر الخداع، وسيلتزم حيال هذه النصوص بالوقوف علي عتبة الاستقبال الحر التي تمناها المبدعون.
سر المخطوطات
لماذا يلجأ الأدباء في العصر الحديث للادعاء بعثورهم علي مخطوطات لتكون مفتاح السرد الروائي عندهم؟ هذا السؤال يعيد القارئ النموذجي صياغته عبر منظور آخر هو منظور ذلك التنوع الثقافي التاريخي المتحول من الشفاهية إلي الكتابية، ومن الكتابية إلي الشفاهية العائدة مرة أخري في عصر الميديا كما يقول"والتر. ج. أونج" في كتابه"الشفاهية والكتابية" ترجمة د."حسن البنا عز الدين" سلسلة عالم المعرفة الكويتية 1990م، ليصبح السؤال: ما المبررات التي من اجلها دفعت كتاب العصر الكتابي لان يتمسحوا بآليات الثقافة الشفاهية في إبداعاتهم المعاصرة، بإقران إبداعاتهم بالمخطوطات والتي تُعد لحظات التماس بين الثقافة الشفاهية والكتابية؟ أو لماذا يميل المبدعون المعاصرون للوقوف علي أعتاب العصر الشفاهي في مرحلة ما قبل التحول إلي الكتابية في إبداعاتهم اليوم علي عكس ما تمليه ثقافة عصرهم؟ هذه القضية تعكس تاريخ السرد القصصي نفسه كما عرضها"شولز وكيلوج" ونقلها عنه "أونج" حيث يري أن هناك اختلافا بارزا ومتميزا بين القصص التي تروي في خلفية ثقافية شفاهية، وتلك التي تؤلف ضمن خلفية كتابية، هذا الاختلاف جعل الإبداع الروائي الحديث يجد نفسه بالعودة إلي جذوره الشفاهية، وكانت هذه العودة مبررة بالعثور علي مخطوطة قديمة، تلك المخطوطة المعثور عليها ادعاءً تعني أن الرواية ستكون منتمية للثقافة الشفاهية بيد انه كتبت في عصر متأخر عن زمن إبداعها.
الحبكة القصصية!
لقد تمسح أدباؤنا الذين عثروا علي مخطوطات في الأدب الشفاهي حيث تسعفهم آليات التذكر الشفاهية في التحلل من قواعد السرد التصاعدي للقص من البداية إلي الوسط، والنهاية، فالقص الشفاهي يسرع من فعل القص بدفع السامع إلي وسط الأحداث مباشرة، فيغفل القاص الشفاهي التعاقب الزمني، كما فعل"هوميروس"، فهو يورد موقفا ما ولا يشرح كيف تكوّن هذا الموقف إلا بعد أن يكون قد تجاوزه، وهذا ما فعله الشاعر"محمد السويدي" في رواية"دير العاقول" حيث افتتحها بخروج البطل"المتنبي" من جوار "سيف الدولة"، مباشرة ودون تمهيد، ثم راح يبرر القرب، ثم البعد عنه فيما بعد، وكذلك فعل"محمد جبريل" من قبله والذي بطلهما واحد هو"المتنبي" فقد افتتح "جبريل" روايته"من أوراق أبي الطيب المتنبي" بلحظة تالية لتلك اللحظة التي افتتح بها"السويدي" روايته في حياة "المتنبي" وهي لحظة دخوله إلي مصر تاركاً"سيف الدولة" دون ذكر لمبررات سفره إلي مصر، وإنما كشف عن تلك الأسباب في السياق اللاحق، وكذلك فعل"إيكو" في مخطوطة التي عثر عليها فبدأ أيام سرده السبعة من حيث قمة الفوضي والاضطرابات في المدينة البابوية، وكذلك فعل"يوسف زيدان" حيث ألقي بالقارئ في خضم لحظة ضياع البطل"هيبا" وهو يطلب الغفران، وينظر إلي صفحات مخطوطته وهي لاتزال بيضاء، غريباً مبعداً عن وطنه، وحتي الشاعر"بهاء جاهين" لم يمهل قارئ نثره المقفي وعاجله بالشكوي رقم واحد للفلاح الفصيح، أما"صلاح عيسي" فألقي بنا مباشرة في أول خناقات فتوته ونحن نتعرف عليه، فجميع كتابنا الذين عثروا علي مخطوطات استهلوا رواياتهم كما لو كانوا قادمين من الزمن الشفاهي، فبدءها من حيث ينتهي أقرانهم الكتاب الكتابيون الخلّص من لحظة التنوير،أو من حيث قمة الحبكة الدرامية، ليتحول القارئ بين أيديهم من قارئ إلي مستمع، ويتحولون هم بدورهم من كتاب إلي رواة، فيمكن قول إنهم بسبب ادعائهم حصولهم علي مخطوطات قد سمحوا لأنفسهم أن يقدموا ما يؤخره الكتابيون، والكتابيون يؤخرون ما يقدمه الشفاهيون، فكان علي النقاد أن يمتنعوا.
ما يطلبه القراء
عندما تملكت رغبة التحلل من السرد التصاعدي للأحداث من كتابنا، وجدوا أنفسهم لا شعورياً يعثرون علي مخطوطات مجهولة، توهموا، وأوهموا قراءهم أنهم لها محققون، وهذا السعي نحو التحول في أسس السرد المستقرة كان مصدره رغبات القراء الشفاهيين في عصر الميديا، فهذا ما جعل أدباءنا الروائيين بما فيهم"إيكو" الذي تحدي ناشره في قدرته علي إبداع رواية بوليسية، يسعون لمخاطبة مثقف شفاهي لعصر ما بعد الثقافة الكتابية، فقاموا بالتمسح بالمخطوطات من اجل استدعاء صيغ سرد شفاهية تلبية لما يطلبه القراء الشفاهيون في عصر الكتابة من رغبتهم في سرعة بلوغ ذروة الأحداث، كما كان يفعل أجدادهم الشفاهيون الخلّص وهم يستمعون للرواة، فالمخطوطات ما هي إلا مبررات أملاها عليهم اقتصاد سوق النشر الطباعي، أكثر ما أملتها الرغبة في إبداع أشكال روائية جديدة، مستخدمين آليات التذكر الشفاهية القديمة والتي باتت نفس آليات التذكر للقراء المعاصرين، ليتحول فعل الكتابة عندهم إلي فعل مكمل للصوت وليس فعلاً إبداعياً أصيلاً، ولتذهب دعاوي الفيلسوف الفرنسي، الجزائري المولد"جاك دريدا"(19302004م) إلي الجحيم، والتي يدافع فيها عن أصالة فعل الكتابة، في مؤلفه المطول"علم الكتابة".
كتاب أم رواة؟
بهذه الروايات المخطوطية يتحول أدباؤنا من كتاب إلي رواة، فالكاتب يغيب عنه التفاعل المباشر مع المتلقي، أو هو تفاعل حاضر لديه بدرجة أقل من حضورها مع زميله الراوي الشفاهي، فالكاتب الخالص وهو الذي يخاطب قارئاً كتابياً مثله يأتي إبداعه بتفاعله هو ذاتياً أولاً مع من سبقه من المبدعين الكتاب بمعزل عن المتلقي، بينما المبدع الشفاهي يأتي إبداعه في المقام الأول نتيجة حضوره مع متلقيه، مما يجعل هذا التفاعل معتمداً في مقامه الأول علي الصيغ القوالبية، المصبوب فيها فراغات السرد، وتلك القوالب منتشرة في روايات المخطوطات التي بين أيدينا، ف"إيكو" جعل قوالبه سبعة أيام الأسبوع، و"السويدي" جعل قوالبه الأماكن التي مشي إليها"المتنبي"، ومن قبله جعل"جبريل" نفس الأماكن قالبه السردي، و"بهاء جاهين" جعل قالبه هو وحدة الشكوي التي يقدمها الفلاح الفصيح، و"زيدان" لم يستطع أن يتحرر من المخطوطات التي ادعي عثوره عليها فألقي بقوالبه علي وحدة صفحاتها، إلا أنهم استخدموا تقنيات كتابية في الإعداد لرواياتهم هذه، ف"إيكو" صرف عاماً يبحث عن أسماء الرهبان، وخرائط الدير الذي أدار فيه أحداث مخطوطته، واعترف بفعلته هذه "زيدان"، وكذلك صرح"جبريل" بأنه عمل في روايته من خلال بطاقات، وكذلك خطط"السويدي"، بينما ترجم"بهاء" شكاوي فلاحه عن مصادرها عند"سليم حسن" في موسوعته"مصر القديمة" إلي اللغة المصرية العامية، و"صلاح عيسي" أقنعنا بانه يحقق مخطوطة بالفعل بهوامش التحقيق، فهم أدباء خدعوا قراءهم مرة بادعائهم العثور علي مخطوطات، وخدعوا أنفسهم مرة أخري عندما استخدموا تقنيات كتابية لإنتاج أدب شفاهي مكتوب.
تناص أم سرقات أدبية؟
تثير الرويات المخطوطية قضية أخري وهي قضية التناص، حيث إن مفهوم التناص الذي يعنينا هنا هو ذلك المفهوم الذي يفسح المجال لدور القارئ فالنصوص المستعان بها داخل هذه الروايات فتحت الباب لتأويل القارئ لها من خلال خبرته الشخصية السابقة مع تلك النصوص، وكل هذا بسبب إطلاق حرية القارئ في التأويل، والتناص في هذه الروايات استخدم علي درجات متفاوتة تتفاوت فيما بينها علي اعتبار مدي حداثة التأويل الذي ينتجه النص داخل البناء السردي في كل رواية لدي قارئها، فنجد أعلاها ذروة في"اسم الوردة" حيث قام "إيكو" بإدراج نصوص قديمة من العهد الجديد، وكتابات"أبي بكر الرازي" لتنتج دلالات جديدة لدي القارئ تماهت إلي الحد الذي عندما واجهه قراؤه بتأويلاتهم أن اقرها لهم، واعترف بأنه لم يكن يقصدها علي هذا النحو، بينما قام"السويدي" بإعادة إنتاج أشعار"المتنبي" داخل سرد قصصي علي نحو جعل من نفسه -كمؤلف- مؤولاً معتمداً لتلك الأشعار، فرغم أنها آتية من بطن التاريخ، إلا أنها تحولت لمنتج حديث، وكذلك فعل الشاعر"بهاء جاهين" حيث اكتشف أن ترجمته لشكاوي الفلاح الفصيح ما هي إلا سيرة معاصرة لحفيده اليوم، واقترب"زيدان" من أن يحول الموقف من الفلسفة القديمة إلي موقف مماثل لموقف الأصولية من العلمانية المعاصرة، أما "جبريل" فامتنع عن تأويل المخطوطة التي عثر عليها، وترك هذا لحرية القارئ، وكذلك امتنع"صلاح عيسي"، فهل هذه المخطوطات المعثور عليها تعلن عجز الأدباء المعاصرين عن التعبير عن الواقع بلغته؟ فلجئوا للاستعانة بإسقاطات الماضي علي الحاضر تحاشياً للرقابة؟ ربما كان هذا قائماً في أدبنا العربي إلا انه مبرر لا وجود له في الأدب الاوروبي، فقد كانت رواية"اسم الوردة" تحدياً أمام مبدعها في مجال الشكل والمضمون، واللغة الخاصة، فإن تم الاعتراف بصدق وجود مخطوطات كان التناص سرقة أدبية، وإن لم يتم ذلك الاعتراف كان التناص منحة تأويلية لا يد للمؤلف فيها وإنما يعود الفضل فيها للمؤلف الأول للنص المتداخل في السرد الروائي؟
إذا كانت البنيوية فرضت نموذجها الصارم من اجل الوصول إلي نتائج علمية حاسمة نتج عنها إلغاء دور القارئ، فإن الروايات المخطوطية تعد تحولاً في الأداء الروائي من شأنه أن يهز عرش البنيوية، وما بعدها، ويعود بالقارئ إلي الصدارة الأولي في عملية التواصل الأدبي، وكذلك التفكيكية التي حرصت علي دور القارئ فمنحته فرصة التأويل نجده أصبح ضحية خدعة مصطنعة للمؤلف المبدع فوجب علي النقاد أن يسيطروا علي تأويلات القراء، ويبصروهم بخدع مبدعيهم قبل أن يفرطوا في التأويل، فأصبحت التفكيكية شريكاً متواطئاً مع صاحب المخطوطة المزعوم علي القارئ الساذج الضحية الموهوم، والذي لم يعد شريكاً مساهماً في عملية إنتاج النص الأدبي بمنحه تأويلات لامنتهية تزيد من عمر النص، فإن كان بمجرد طباعة الرواية يعلن موت المؤلف، ويصبح النص ملكاً للقارئ، فإنه يمكن القول انه في ظل هذه المخطوطات الروائية قد مات النص، لحظة موت المؤلف علي عكس ما تمني المؤلفون، ونقاد الأدب بكل طوائفهم، ولا عزاء للقراء.
افتتح بعض الروائيين في مصر، والعالم العربي، وأوروبا رواياتهم باستهلالها بعثورهم علي مخطوطة قديمة لمؤلف قد يكون مجهولاً عند احدهم، أو معلوماً عند الآخر، تنامي هذا العثور علي مخطوطات إلي الحد الذي جعل منه ظاهرة أدبية، تكشف تحولاً في عالم الرواية، والشعر، أو تحولاً في العملية الإبداعية الأدبية عموماً، ويمكن رصد هذه الظاهرة عبر تاريخ العثور علي المخطوطات الروائية التالية حسب ترتيبها الزمني:1 - رواية"اسم الوردة" للأديب الايطالي "امبيرتو إيكو"(1932م) والتي صدرت في العام 1980م، حيث يفتتحها بفصل عنوانه"مخطوط بطبيعة الحال" يحكي فيه قصة المخطوطة التي سلمها له الأب"فالي" وهي صادرة منذ القرن الرابع عشر، 2- رواية"من أوراق أبي الطيب المتنبي" للأديب المصري"محمد جبريل"(1938م)والتي صدرت في العام 1984م، والتي يبدؤها بالروايات التي شاعت عن الأماكن التي ترك فيها "المتنبي" أوراقه التي عثر عليه، 3- رواية"عزازيل" للأديب المصري د."يوسف زيدان"(1958م) والتي صدرت في العام 2009م، والتي يقوم المؤلف فيها بدور المترجم لمخطوطات عثر عليها باللغة السُيرانية لسيرة حياة الراهب"هيبا، "4- رواية"دير العاقول" لشاعر الدوحة"محمد السويدي"(1959م) والتي صدرت هذه السنة 2010م، ويفتتحها علي اعتبار أنها مخطوطة عثر عليها أحدهم في مكتبة مهجورة في زاوية من مسجد قديم في المنطقة التي تحمل نفس الاسم، والتي لقي فيها"المتنبي" مصرعه، 5- ديوان"الفلاح الفصيح" للشاعر المصري"بهاء جاهين"(1958م) والذي صدر هذه السنة 2010م، وفيه يترجم الشاعر مخطوطة فرعونية إلي اللغة العامية،6- "مذكرات فتوة تأليف المعلم يوسف أبو الحجاج" نشر وتحقيق"صلاح عيسي" والتي تنشر تباعاً في "جريدة القاهرة"2010م .
فهي مناهل أدبية مختلفة المشارب ربما اختلفت فيما بينها تبعاً لثقافة مبدعيها، وبين كونها روايات وأشعارا، إلا أن الخيط الرفيع الذي يربط بينها جميعاً أنها تدعي أمام القارئ أن مصدرها مخطوطات نادرة مجهولة تم عثور هؤلاء المبدعين عليها في ظروف يلفها الغموض، فما كان من القارئ هو الآخر إلا وان أعلن انه لن يقرأ هذه النصوص عبر اي مدرسة نقدية مستقرة، ولا حتي عبر الدراسات الأدبية المقارنة، فقد أعلن انه قارئ نموذجي وقبل خدعة أدبائه، ومن ثم سيدور عليهم بدوائر الخداع، وسيلتزم حيال هذه النصوص بالوقوف علي عتبة الاستقبال الحر التي تمناها المبدعون.
سر المخطوطات
لماذا يلجأ الأدباء في العصر الحديث للادعاء بعثورهم علي مخطوطات لتكون مفتاح السرد الروائي عندهم؟ هذا السؤال يعيد القارئ النموذجي صياغته عبر منظور آخر هو منظور ذلك التنوع الثقافي التاريخي المتحول من الشفاهية إلي الكتابية، ومن الكتابية إلي الشفاهية العائدة مرة أخري في عصر الميديا كما يقول"والتر. ج. أونج" في كتابه"الشفاهية والكتابية" ترجمة د."حسن البنا عز الدين" سلسلة عالم المعرفة الكويتية 1990م، ليصبح السؤال: ما المبررات التي من اجلها دفعت كتاب العصر الكتابي لان يتمسحوا بآليات الثقافة الشفاهية في إبداعاتهم المعاصرة، بإقران إبداعاتهم بالمخطوطات والتي تُعد لحظات التماس بين الثقافة الشفاهية والكتابية؟ أو لماذا يميل المبدعون المعاصرون للوقوف علي أعتاب العصر الشفاهي في مرحلة ما قبل التحول إلي الكتابية في إبداعاتهم اليوم علي عكس ما تمليه ثقافة عصرهم؟ هذه القضية تعكس تاريخ السرد القصصي نفسه كما عرضها"شولز وكيلوج" ونقلها عنه "أونج" حيث يري أن هناك اختلافا بارزا ومتميزا بين القصص التي تروي في خلفية ثقافية شفاهية، وتلك التي تؤلف ضمن خلفية كتابية، هذا الاختلاف جعل الإبداع الروائي الحديث يجد نفسه بالعودة إلي جذوره الشفاهية، وكانت هذه العودة مبررة بالعثور علي مخطوطة قديمة، تلك المخطوطة المعثور عليها ادعاءً تعني أن الرواية ستكون منتمية للثقافة الشفاهية بيد انه كتبت في عصر متأخر عن زمن إبداعها.
الحبكة القصصية!
لقد تمسح أدباؤنا الذين عثروا علي مخطوطات في الأدب الشفاهي حيث تسعفهم آليات التذكر الشفاهية في التحلل من قواعد السرد التصاعدي للقص من البداية إلي الوسط، والنهاية، فالقص الشفاهي يسرع من فعل القص بدفع السامع إلي وسط الأحداث مباشرة، فيغفل القاص الشفاهي التعاقب الزمني، كما فعل"هوميروس"، فهو يورد موقفا ما ولا يشرح كيف تكوّن هذا الموقف إلا بعد أن يكون قد تجاوزه، وهذا ما فعله الشاعر"محمد السويدي" في رواية"دير العاقول" حيث افتتحها بخروج البطل"المتنبي" من جوار "سيف الدولة"، مباشرة ودون تمهيد، ثم راح يبرر القرب، ثم البعد عنه فيما بعد، وكذلك فعل"محمد جبريل" من قبله والذي بطلهما واحد هو"المتنبي" فقد افتتح "جبريل" روايته"من أوراق أبي الطيب المتنبي" بلحظة تالية لتلك اللحظة التي افتتح بها"السويدي" روايته في حياة "المتنبي" وهي لحظة دخوله إلي مصر تاركاً"سيف الدولة" دون ذكر لمبررات سفره إلي مصر، وإنما كشف عن تلك الأسباب في السياق اللاحق، وكذلك فعل"إيكو" في مخطوطة التي عثر عليها فبدأ أيام سرده السبعة من حيث قمة الفوضي والاضطرابات في المدينة البابوية، وكذلك فعل"يوسف زيدان" حيث ألقي بالقارئ في خضم لحظة ضياع البطل"هيبا" وهو يطلب الغفران، وينظر إلي صفحات مخطوطته وهي لاتزال بيضاء، غريباً مبعداً عن وطنه، وحتي الشاعر"بهاء جاهين" لم يمهل قارئ نثره المقفي وعاجله بالشكوي رقم واحد للفلاح الفصيح، أما"صلاح عيسي" فألقي بنا مباشرة في أول خناقات فتوته ونحن نتعرف عليه، فجميع كتابنا الذين عثروا علي مخطوطات استهلوا رواياتهم كما لو كانوا قادمين من الزمن الشفاهي، فبدءها من حيث ينتهي أقرانهم الكتاب الكتابيون الخلّص من لحظة التنوير،أو من حيث قمة الحبكة الدرامية، ليتحول القارئ بين أيديهم من قارئ إلي مستمع، ويتحولون هم بدورهم من كتاب إلي رواة، فيمكن قول إنهم بسبب ادعائهم حصولهم علي مخطوطات قد سمحوا لأنفسهم أن يقدموا ما يؤخره الكتابيون، والكتابيون يؤخرون ما يقدمه الشفاهيون، فكان علي النقاد أن يمتنعوا.
ما يطلبه القراء
عندما تملكت رغبة التحلل من السرد التصاعدي للأحداث من كتابنا، وجدوا أنفسهم لا شعورياً يعثرون علي مخطوطات مجهولة، توهموا، وأوهموا قراءهم أنهم لها محققون، وهذا السعي نحو التحول في أسس السرد المستقرة كان مصدره رغبات القراء الشفاهيين في عصر الميديا، فهذا ما جعل أدباءنا الروائيين بما فيهم"إيكو" الذي تحدي ناشره في قدرته علي إبداع رواية بوليسية، يسعون لمخاطبة مثقف شفاهي لعصر ما بعد الثقافة الكتابية، فقاموا بالتمسح بالمخطوطات من اجل استدعاء صيغ سرد شفاهية تلبية لما يطلبه القراء الشفاهيون في عصر الكتابة من رغبتهم في سرعة بلوغ ذروة الأحداث، كما كان يفعل أجدادهم الشفاهيون الخلّص وهم يستمعون للرواة، فالمخطوطات ما هي إلا مبررات أملاها عليهم اقتصاد سوق النشر الطباعي، أكثر ما أملتها الرغبة في إبداع أشكال روائية جديدة، مستخدمين آليات التذكر الشفاهية القديمة والتي باتت نفس آليات التذكر للقراء المعاصرين، ليتحول فعل الكتابة عندهم إلي فعل مكمل للصوت وليس فعلاً إبداعياً أصيلاً، ولتذهب دعاوي الفيلسوف الفرنسي، الجزائري المولد"جاك دريدا"(19302004م) إلي الجحيم، والتي يدافع فيها عن أصالة فعل الكتابة، في مؤلفه المطول"علم الكتابة".
كتاب أم رواة؟
بهذه الروايات المخطوطية يتحول أدباؤنا من كتاب إلي رواة، فالكاتب يغيب عنه التفاعل المباشر مع المتلقي، أو هو تفاعل حاضر لديه بدرجة أقل من حضورها مع زميله الراوي الشفاهي، فالكاتب الخالص وهو الذي يخاطب قارئاً كتابياً مثله يأتي إبداعه بتفاعله هو ذاتياً أولاً مع من سبقه من المبدعين الكتاب بمعزل عن المتلقي، بينما المبدع الشفاهي يأتي إبداعه في المقام الأول نتيجة حضوره مع متلقيه، مما يجعل هذا التفاعل معتمداً في مقامه الأول علي الصيغ القوالبية، المصبوب فيها فراغات السرد، وتلك القوالب منتشرة في روايات المخطوطات التي بين أيدينا، ف"إيكو" جعل قوالبه سبعة أيام الأسبوع، و"السويدي" جعل قوالبه الأماكن التي مشي إليها"المتنبي"، ومن قبله جعل"جبريل" نفس الأماكن قالبه السردي، و"بهاء جاهين" جعل قالبه هو وحدة الشكوي التي يقدمها الفلاح الفصيح، و"زيدان" لم يستطع أن يتحرر من المخطوطات التي ادعي عثوره عليها فألقي بقوالبه علي وحدة صفحاتها، إلا أنهم استخدموا تقنيات كتابية في الإعداد لرواياتهم هذه، ف"إيكو" صرف عاماً يبحث عن أسماء الرهبان، وخرائط الدير الذي أدار فيه أحداث مخطوطته، واعترف بفعلته هذه "زيدان"، وكذلك صرح"جبريل" بأنه عمل في روايته من خلال بطاقات، وكذلك خطط"السويدي"، بينما ترجم"بهاء" شكاوي فلاحه عن مصادرها عند"سليم حسن" في موسوعته"مصر القديمة" إلي اللغة المصرية العامية، و"صلاح عيسي" أقنعنا بانه يحقق مخطوطة بالفعل بهوامش التحقيق، فهم أدباء خدعوا قراءهم مرة بادعائهم العثور علي مخطوطات، وخدعوا أنفسهم مرة أخري عندما استخدموا تقنيات كتابية لإنتاج أدب شفاهي مكتوب.
تناص أم سرقات أدبية؟
تثير الرويات المخطوطية قضية أخري وهي قضية التناص، حيث إن مفهوم التناص الذي يعنينا هنا هو ذلك المفهوم الذي يفسح المجال لدور القارئ فالنصوص المستعان بها داخل هذه الروايات فتحت الباب لتأويل القارئ لها من خلال خبرته الشخصية السابقة مع تلك النصوص، وكل هذا بسبب إطلاق حرية القارئ في التأويل، والتناص في هذه الروايات استخدم علي درجات متفاوتة تتفاوت فيما بينها علي اعتبار مدي حداثة التأويل الذي ينتجه النص داخل البناء السردي في كل رواية لدي قارئها، فنجد أعلاها ذروة في"اسم الوردة" حيث قام "إيكو" بإدراج نصوص قديمة من العهد الجديد، وكتابات"أبي بكر الرازي" لتنتج دلالات جديدة لدي القارئ تماهت إلي الحد الذي عندما واجهه قراؤه بتأويلاتهم أن اقرها لهم، واعترف بأنه لم يكن يقصدها علي هذا النحو، بينما قام"السويدي" بإعادة إنتاج أشعار"المتنبي" داخل سرد قصصي علي نحو جعل من نفسه -كمؤلف- مؤولاً معتمداً لتلك الأشعار، فرغم أنها آتية من بطن التاريخ، إلا أنها تحولت لمنتج حديث، وكذلك فعل الشاعر"بهاء جاهين" حيث اكتشف أن ترجمته لشكاوي الفلاح الفصيح ما هي إلا سيرة معاصرة لحفيده اليوم، واقترب"زيدان" من أن يحول الموقف من الفلسفة القديمة إلي موقف مماثل لموقف الأصولية من العلمانية المعاصرة، أما "جبريل" فامتنع عن تأويل المخطوطة التي عثر عليها، وترك هذا لحرية القارئ، وكذلك امتنع"صلاح عيسي"، فهل هذه المخطوطات المعثور عليها تعلن عجز الأدباء المعاصرين عن التعبير عن الواقع بلغته؟ فلجئوا للاستعانة بإسقاطات الماضي علي الحاضر تحاشياً للرقابة؟ ربما كان هذا قائماً في أدبنا العربي إلا انه مبرر لا وجود له في الأدب الاوروبي، فقد كانت رواية"اسم الوردة" تحدياً أمام مبدعها في مجال الشكل والمضمون، واللغة الخاصة، فإن تم الاعتراف بصدق وجود مخطوطات كان التناص سرقة أدبية، وإن لم يتم ذلك الاعتراف كان التناص منحة تأويلية لا يد للمؤلف فيها وإنما يعود الفضل فيها للمؤلف الأول للنص المتداخل في السرد الروائي؟
إذا كانت البنيوية فرضت نموذجها الصارم من اجل الوصول إلي نتائج علمية حاسمة نتج عنها إلغاء دور القارئ، فإن الروايات المخطوطية تعد تحولاً في الأداء الروائي من شأنه أن يهز عرش البنيوية، وما بعدها، ويعود بالقارئ إلي الصدارة الأولي في عملية التواصل الأدبي، وكذلك التفكيكية التي حرصت علي دور القارئ فمنحته فرصة التأويل نجده أصبح ضحية خدعة مصطنعة للمؤلف المبدع فوجب علي النقاد أن يسيطروا علي تأويلات القراء، ويبصروهم بخدع مبدعيهم قبل أن يفرطوا في التأويل، فأصبحت التفكيكية شريكاً متواطئاً مع صاحب المخطوطة المزعوم علي القارئ الساذج الضحية الموهوم، والذي لم يعد شريكاً مساهماً في عملية إنتاج النص الأدبي بمنحه تأويلات لامنتهية تزيد من عمر النص، فإن كان بمجرد طباعة الرواية يعلن موت المؤلف، ويصبح النص ملكاً للقارئ، فإنه يمكن القول انه في ظل هذه المخطوطات الروائية قد مات النص، لحظة موت المؤلف علي عكس ما تمني المؤلفون، ونقاد الأدب بكل طوائفهم، ولا عزاء للقراء.