الثورات الكبرى في العالم قامت على الفكر ، وحين تبنى الناس الفكر وفهموه ناضلوا من أجله ، فانطلقت الثورات من إنتاج فكري إلى إنتاج سياسي بنت الحضارات التي توصلت إلى فك شفرة الجينوم لدى الكائن الحي بلغ حدّ ضبط الجينوم البشري ، توصلت إلى تكنولوجيا النانو ، والهندسة الوراثية والعلاج بالخلايا الجذعية ، توصلت إلى ثورة معلوماتية والبحوث جارية على قدم وساق لتحديد العلاقة بين الذكاء البيولوجي والذكاء الصناعي . توصلت إلى اكتشاف مجاهل الكون وأرسلت المراكب الفضائية على القمر والمريخ وبعضها تجاوز المجموعة الشمسية وهو في طريقه في الاكتشاف وفض بكارة الكون الفسيح ... وما هو آت أعظم مما أتى ، وما سيقف عليه أحفادنا من معارف قد لا يمكننا حتى تخيلها .
لو تساءل امرئ كيف لهذه الطفرة أن تحدث في زمن وجيز لا يتعدى بضعة قرون لكان الجواب أن سببين مكنا بني آدم من بلوغ ما بلغ . السبب الأول هو اختراع المطبعة ، والسبب الثاني هو قطع المشيمة بين الدين والعلم / العلم بمعنى سيانس . لأن العلم عندنا نحن العرب مازال يجمع بين ما لا جامع بينهما . إذ يضع أينشتاين والإمام مالك في نفس التصنيف كلاهما عالم . والحال أن النشاطين متباينان كل التباين ، والتباين لا يقصد منه إضفاء قيمة تفوق قيمة ، وإنما العلم في هذا العصر وما سيأتي من العصور أصبح دقيقا في تحديد المصطلح دقيقا في ضبط المناهج والسبل . وما لم يحدث العرب لفظا معناه العلم / سيانس ، وبقي الحال على ما هو عليه فلا تقدم ولا رقي . المعرفة سلطة ، ومن امتلك المعرفة امتلك السيطرة على العقول والوجدان ، لذلك حرص الكهنة في ما مضى من العصور على احتكار المعرفة ، بل إن بعض الشعوب كان فيها الحكم بالإعدام على من لمس خزانة الكهنة ليطلع على ورقة من الأوراق أو كتابا من الكتب أو وثيقة من الوثائق . لكن باختراع المطبعة تم الإفراج عن نتاج الفكر البشري وتمكن جميع البشر من امتلاك الكتاب والقراءة وبالتالي تحرر فكريا وملك زمام عقله . ولو تتبعنا من عارض انتشار المطبعة لوجدناهم الكهنة في كل الأديان ، وعلتهم في ذلك عدم تدنيس الكتب المقدسة بالمطبعة المدنسة ووضعه بين أيد مدنسة . هذا الظاهر ، لكن المخفي هو خوف الكهنة من انفلات أكبر ما كان يميزهم عن بقية خلق الله وهو المعرفة . وإذا كانت شعوب الدنيا كلهم قد انعتقوا من تسلط الكهنوت إلا أن العرب المسلمين مازالوا يرزحون تحت نير هذه الأغلال والقيود .
كل من حاد عن الكهنوت الإسلامي الستندار كان الحكم عليه بالإعدام ، إما إعداما حقيقيا ، وإما إعداما معنويا ، وأحيانا الإعدام المعنوي أشد قساوة على النفس الأبية من الإعدام الحقيقي . كما حدث للطاهر الحداد ، ذلك المصلح التونسي الذي أعدمه الكهنوت المنغلق إعداما معنويا لم تطل به المدة الزمنية حتى فعل الغبن فيه فعله ودمره القهر فقضى وقد تنبأ بأنه سيفدي الوطن بنفسه وحدث ، إذ يقول :
أَفديكَ يا وَطَني بِالنَّفسِ وَالمــــــــــال مِمّا يَسومك سوءاً فيه إِذلالـــــــــي
أَفديكَ يا وَطَني أفديكَ يا سكنـــــــــي بِكَ اعتِزازي وَفيكَ اليَوم آمالــــــي
حبي إِلَيكَ أَراني الخطب منقبـــــــــة تزيدني شرفاً يزري بِعذالـــــــــــي
لا عيش لي أَبتَغي إن لم يعش وطني في عزة وَرَخاء هانئ البــــــــــــالِ
إِنّي بخدمَة أوطاني أذب علـــــــــــى قومي وَأَهلي وَمَجدي الشامِخ العالي
هذا الرجل زيتوني ، لكنه شذ عن الكهنوت الستندار ، فهو المتحصل على شهادة التطويع ، وهي شهادة أصبحت تسمى شهادة التحصيل في العلوم منذ أفريل 1933 . حين قرأ طه حسين كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع قال قولته الشهيرة : لقد سبق هذا الفتى قومه بقرنين . في حين أن بني قومه هاجموه هجوما شرسا بلغ أحظ الدرجات في الخسة والضعة وقلة الذوق الأدبي والعلمي والجمالي فممن هاجمه محمد الصالح بن مراد وقد ألف كتابا في الرد عليه عنوانه : الحداد (بكسر الحاء) على امرأة الحداد . النسخة التي امكن الاطلاع عليها تقع في 240 صفحة – طبعت بالمطبعة التونسية – نهج سوق البلاط عدد 57 بتونس بتاريخ 4 ربيع الثاني 1350 هـ / 16 سبتمبر 1931 م . لكن لا احد يمنع تأليف كتاب للرد على كتاب لولا أن هذا قد كتب هجوما عنيفا قبل قراءة الكتاب ختمه بعبارة لا أجد توصيفا لها حيث يقول : " هذه دفعة على الحساب حتى أقرأ الكتاب" . ذاك هو قدر المفكر حيث تهيمن سلطة الكهنوت . فقد تشكلت لجنة يرأسها العلامة الطاهر بن عاشور انتهت إلى تكفير الطاهر الحداد مطالبة بحجز الكتاب . و نزعت كل صفة للحداد وكل انتساب وشهادة نالها من جامع الزيتونة بأمر ملكي . بعد أربع سنوات توفي الحداد ولم يشهد جنازته إلا قلة من الناس رغم أن الرجل مفكر اجتماعي مناضل نقابي شاعر وطني .
لذلك لا يمكن أن تحدث ثورة ما لم يقطع الحبل السري بين العامة والكهنوت .
وممن حمل مشروعا حضاريا أجهض :
• ابن المقفع .
• رفاعة الطهطاوي .
• طه حسين .
• عبد الرحمن الكواكبي
ابن المقفع كانت صاحب مشروع سياسي يضاهي مشروع المفكرين الذين مهدوا للثورة الفرنسية . فقد ألف أربعة كتب ضمنها مشروعه السياسي . كليلة ودمنة / الأدب الصغير / الأدب الكبير / رسالة الصحابة . الآثار الأربعة بجمعها معا والتأليف بينها وقراءة بعضها ببعض تكوّن مشروعا مجتمعيا سياسيا كان ابن المقفع يصبو إليه ، إنه حلم الذي كان يرنو إليه كشأن جان جاك روسو حين كتب العقد الاجتماعي للتأسيس السياسي بين الحاكم والمحكوم يقطع مع الحكم الفردي والاستبداد التسلطي ، وغير روسو في التنظير السياسي الذي صارت الأمم المتقدمة تسير على نهجه . لا يمتاز الغرب عن العرب بعقل ولا بغباء فالعقل والغباء توزع على الخلق بنسب متساوية أو متقاربة ، لكن الفرق بينهما - العرب والغرب – لخصه أحمد زويل حين قال : الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء ، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ، ونحن نحارب الفاشل حتى يفشل . ليت محاربة الناجح تقف عند حد الإفشال إنها تتعداه إلى القتل ، وأي قتل قطع الجسد الحي وشيه كي يشم المقتول رائحة قتاد لحمه قبل أن يلفظ أنفاسه ، ذاك ما وقع لعبد الله بن المقفع لأنه كان صاحب مشروع مجتمعي / سياسي . والحال أن السياسة من اختصاص الخليفة لا من اختصاص العامة ولو كان مفكرا . في عرف العرب أنه مادام خليفة فلا أحد يحق له أن يفكر ، بل حسم الأمر ، فعندنا كتاب عنوانه "درة تعارض العقل والنقل" ، وجعلنا مفكرينا أقزاما ، وألف كتاب تطرح منه المطابع آلاف النسخ كل سنة عنوانه : أعلام وأقزام في ميزان الإسلام . ويفتتح الكتاب بعبارة : هم العدو فاحذروهم . القائمة طويلة تكاد تشمل كل من له ذرة عقل في بلادنا بلاد العرب . الغبن كل الغبن أن يعتبر صاحب هذا الكتاب الدكتور فؤاد زكريا عدوا يجب أن نحذره ، ويعتبره قزما ، والحال أن لهذا الرجل عملا لو أنجزه ولم ينجز شيئا آخر غيره لكفاه فخرا وفَخَارا ، فهو الذي بعث سلسلة كتاب عالم المعرفة ، كتاب يصدر كل شهر ، وفي هذا الشهر – أفريل 2018 – يصدر الكتاب عدد 459 . رغم أن الرجل توفي فقد بقيت صدقته جارية يأتيه ثوابها وهو هي دار الخلد . الكهنوت عدو للعقل ، عدو للفكر والتفكير ، لأنه يريد أن يكون الآخرون قطيعا يقادون إليه ، ينتجون ليستهلك ، في نهاية المطاف ليست السماء هي الغاية بل الذهب والفضة ، الدينار والدرهم ، حين انعتق الغرب من نير الكهنوت ولجأ إلى العقل والتفكير حقق ما حقق ، وحين استكنّا نحن العرب للكهنوت فأوقفنا عقولنا وعطلنا تفكيرنا إذ لدينا النقل ، وليس في الإمكان أحسن مما كان ، ولم يترك السلف شيئا لم يفتوا فيه ، فلننعم بعطالة الفكر وعطالة العقل ، وإن لزم شيء من عقل أو تفكير فالكهنوت كفيل بذلك دون سواه .
لما تتطاول ابن المقفع على الخليفة ، والخليفة ليست شخصا وإنما مؤسسة كهنوتية من احتمى بظلها ناله من فتات الموائد ورضا الحاكم ، ومن شذ عنها حورب في رزقه ودينه وخلقه وربما في أعز ما يملك الكائن الحي حياته ، قتل ابن المقفع أشنع قتلة ولكن مشروعه حتى وإن لم يتحقق فهو حي ما بقي إنسان على هذه البسيطة ، لأن الكهنوت يعدم جسما لكنه عاجز ولن – زمخشرية – يقدر على قتل عقل أو إعدام فكر .
إذا كان مشروع ابن المقفع مشروعا سياسيا مجتمعيا فإن مشروع طه حسين كان مشروعا فكريا يمس التراث ككل . وبما أن الكهنوت أي كهنوت أساسه التراث ، فأي مساس بالتراث مساس بالكهنوت كمؤسسة . لذلك توضع أسس وركائز لأي كهنوت تعتبر ثوابت ومقدسات لا يجوز المساس بها أو التصرف فيها أو مجرد وضعها موضع سؤال وتساؤل . خوفا من هدم ركيزة من الركائز فتنهار المؤسسة بأكملها . بدأ طه حسين مشروعه بكتاب عنوانه : في الشعر الجاهلي . النسخة التي تيسر الاطلاع عليها هي النسخة الأصلية في طبعته الأولى واليتيمة . ط . مطبعة دار الكتب المصرية 1344 هـ - 1926 م . لم يشفع لطه حسين أن اهدى كتابه لرئيس وزراء الملك فؤاد الأول حيث ينهي بقوله : فهل تأذن لي أن أقدم إليك هذا الكتاب مع التحية الخالصة والإجلال العظيم ؟ لم تفده لا التحية الخالصة ولا الإجلال العظيم ، كما فعل بالطاهر الحداد في تونس سبق أن فعل بطه حسين في مصر ، كلاهما خريج جامعة دينية ، الحداد خريج جامع الزيتونة ، وطه حسين خريج جامع الأزهر . سنة صدور الكتاب هاج طلبة الأزهر في مظاهرات بقيادة شيوخ الأزهر وقدمت عرائض للمحكمة ، إلا أن القضية حفظت لتثار من جديد سنة 1932 انتهت بضغط من الأزهر على الحكومة والبرلمان فصدر قرار من مجلس الوزراء بفصل طه حسين من الجامعة مما جعله يشهر الحرب بقلمه عن الأزهر والأزهريين بالرغم من كونه أزهريا . انتهت المعركة بأن دعت مجلة الأزهر طه حسين أن يكتب في السيرة النبوية مما نال رضا الأزهر والأزهريين . وخمدت المعركة بين شخص طه حسين والأزهر ، إلا أن المشروع تم إجهاضه ، وكما خسر العرب دولة قوامها المؤسسة والتعاقد كما نظر لها ابن المقفع فقدْ فقدَ العرب مشروعا حداثيا كان يمكن أن يغير كثيرا من الرداءة والنمطية في قراءة التراث مما يجعل العرب ينزعون جبة السلفية ليلبسوا حلة الحداثة فيكون لهم مكان في الحاضر ، لا أن يعيشوا حاضرهم بأجسادهم والعقول متجهة نحو السلف صالحا كان أو طالحا . لفهم المشروع الذي طرحه طه حسين نقتطف هذا المقطع المزع بين الصفحتين 28 / 29 : فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية . فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن خازم .
قلت إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية . وهذه القضية غريبة حين تسمعها ، ولكنها بدهية حين تفكر فيها قليلا . فليس من اليسير أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذي يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه . وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه . وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله على العرب . فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر . إنما كان القرآن جديدا في أسلوبه ، جديدا فيما يدعو إليه ، جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ، ولكنه كان كتابا عربيا ، لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي .
ليس الغرض الانتصار لطه حسين بلا تحفّظ ولا الغرض تخطئته بلا رويّة . إنما الٍرأي يقارع بالرأي والفكرة تناظر بالرأي ، من غير أن يكون لأحد الطرفين سلطة يتفوق بها على الآخر ، فلا سلطة إلا سلطة الحجة والبرهان . كما أن التراث لا ينظر إليه بقداسة فكذلك رأي طه حسين أو غير طه حسين لا ينظر إليه على أنه الحقيقة المطلقة لأنه يعتمد مقاييس لم يسبق لغيره أن اعتمدها . فطه حسين عاش زمن ثلاثة أرباع القرن العشرين ، نظرته للشعر الجاهلي لن تكون بعين العصر الذي قيل فيه ومعاييره ليست هي معايير زمن القول . فقد جاء في كتاب أخبار القضاة لوكيع (توفي سنة 306 هـ) : اخبرني أحمد بن أبي عثمان ، عن عثمان بن أبي شيخ ، عن صالح بن سليمان ، قال : قدم حماد الراوية على بلال بن أبي بردة ، فأنشده شعرا مدحه به ، وعند بلال ذو الرمة الشاعر ، فقال له بلال : كيف ترى هذا الشعر ؟ قال حسدا : ليس هو قاله ، قال فمن يقوله ؟ قال لا أدري ، إلا أنه لم يقله هو . فلما قضى بلال حوائج حماد فأجازه قال له : إن لي إليك حاجة ، أنت قلت هذا الشعر ؟ قال : لا . قال : فمن قاله ؟ قال : هو شعر قديم لبعض القبائل لا يرويه غيري . قال : فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك ؟ قال عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام .
هذا الشاهد حجة لطه حسين كما أنه حجة عليه في نفس الوقت . حجة لطه حسين أن حماد أنشد شعرا ونال به صلة ، ولو لم يكشفه ذو الرمة لاعتبر أن الشعر لحماد ومن هنا يصدق طه حسين في كل شك يشكه فيما قيل من الشعر القديم ، والحجة عليه ، إن طه حسين في القرن الرابع عشر هجريا غير قادر على التمييز بين كلام الجاهلية وكلام الإسلام ، إذا كان رجل في القرن الثاني للهجرة لم يميز ، فكيف لرجل في القرن الرابع عشر أن يميز . لكن ذلك لا ينفي ما لطه حسين من فضل في طرح السؤال وكان يؤمل أن يدرس سؤاله دراسة تعتمد المناهج العلمية بالآليات القديمة والحديثة للخروج بنتيجة ، حتى ولو كانت النتيجة لغير طه حسين فالفضل له في أنه طرح الإشكالية . أما أن يجابه موقفه بتلك الطريقة الفظة وأن يحارب بكهنوت محافظة على الستندار ففي ذلك تكميم للأفواه وتحجيم للعقول.
أما المشروع الثالث الذي فقده العرب وكان يمكن أن يكون الحال غير الحال لو استمر واستغل كما استغلت الأمم الأخرى مشاريع مفكريها فهو مشروع رفاعة الطهطاوي . هو خريج الأزهر درس الفقه والحديث والتفسير والنحو والصرف وغير ذلك . شاعر له ديوان منه هذه الأبيات :
للحرب هلموا يا شجعان حب الأوطان من الإيمان
لا تعطوا الأعدا مقودكــم
لا ترضوا أن يستعبدكـــم
والله تعالى أسعدكــــــــــم
بقتال وهزم ذوي الطغيان
كان وعيه بمشروعه قد نشأ حين سافر إلى فرنسا في بعثة تضم أربعين طالبا على متن سفينة حربية .
شئنا أم أبينا فإن التحديث في الوطن العربي وفد من أوروبا . أحمد باي بتونس سعى إلى التحديث في الصناعة وفي المؤسسة العسكرية وفي التعليم حين عودته من زيارة فرنسا ولابن أبي الضياف صفحات في الحديث عن هذه الزيارة وقد ذكر في كتابه هذا رفاعة الطهطاوي في ذكر جمال باريس [وقد أعطاها حقها الشيخ رفاعة الطهطاوي واجتمعت به فيها] إشارة إلى كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ومن أطرف ما ذكر ابن أبي الضياف وكان رفيقا للباي أثناء هذه الزيارة في كتابه : إتحاف أهل الزمان . أنه حضر مع الباي مسرحية بحضور ملك فرنسا ، وفي المسرحية مشهد لفتاة من الطبقة الأرستقراطية أحبت رجلا من عامة الشعب وحين اعترضت أمها قائلة : إن أنظارك من الأكابر لا يريدون ذلك وأن السلطان لا يريد ذلك ويمنعك من الرضى به . فصاحت البنت في ذلك المجمع الحافل : بأي شرع يتصرف السلطان بأرواحنا ونحن أحرار ؟ وأقسمت أن تتزوج بالرجل إظهارا لحريتها . وخرجت فورا للكنيسة . وأظهر السلطان الفرنسي استحسانه لمقالة البنت سياسة لهذا الجمهور . وقال ابن أبي الضياف في حوار بينه وبين الباي : إن القوم سبقونا إلى الحضارة بأحقاب من السنين حتى تخلقوا بها ، وصارت من طباعهم ، وبيننا وبينهم بون بائن ، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه . فقال (الباي) : نسأل الله العاقبة .
في تبادل الزيارات بين ملوك الإطلاق والدول الأوروبية تنازع بين إحساسين لدى ملوك العرب إحساس برغبة في مجاراة الحضارة وقيم الحرية وإحساس بعدم فقد ما أتيح لهم من سلطة . لكن أهل الفكر منزعهم غير منزع أهل السياسة ، وأهل الفكر صنفان ، صنف يسعى لتحقيق قيم العدل والحرية مهما كان الثمن كشأن رفاعة الطهطاوي وصنف يهادن ويجاري ويميل مع النعماء حيث تميل كشأن ابن أبي الضياف . يتحدث عن حمودة باشا فيقول : فهو في هذه الحالة كملوك القانون مع أنه من ملوك الإطلاق ، وكان يعاني من وزيره أبي المحاسن يوسف صاحب الطابع مرارة الرد عليه ، ويقول له : يا يوسف إنك لن تعيش مع غيري نصف سنة . وفعلا ذاك مع حدث فقد قتل شر قتلة إثر وفتة حمودة باشا .
في هذا العصر ، حيث الخلافة العثمانية تهيمن على الأوطان العربية من غير أن تدخل العصر لا في تعليم ولا في تكنولوجيا ولا في أساليب الحكم ، فمن بقي حيث هو كان قانعا او خائفا أو يرجو ثوابا من إطاعة ولي الأمر ، في حين أن الذي لامس الحضارة الغربية سواء من خلال القراءة أو من خلال الرحلة تبين له الفرق بين شعب وشعب والحال أن الجميع من أصل واحد آدم وحواء وتشرق عليهم شمس واحدة . فمنهم من رفض الموجود وسعى إلى المنشود ، وطن فيه حرية وفيه عدل وفيه علم وفيه رفاهة . تبين لهم بالمشاهدة والاطلاع على الفكر الغربي والفلسفة أن سبيل الرقي هو الانعتاق من الحكم الاستبدادي .
مشروع رفاعة الطهطاوي إرساء دولة يسودها العدل ويحكمها القانون ، مجتمع من المتعلمين وقد فتح مراكز لمحو الأمية ، إدخال الثقافة الغربية بإنشاء مؤسسة تعنى بالترجمة ، إنشاء مطبعة لإشاعة العلم والمعرفة . إدخال العلوم الحديثة في التعليم ، تعليم اللغات الأجنبية للانفتاح على الثقافات الأخرى والعلوم العصرية ، تم تكليفه بإدارة جريدة الوقائع المصرية فجعل اللغة العربية هي الأولى واللغة التركية هي الرديفة ، وقبل تحمل أعباء إدارتها كان العكس ... وكأنّ رجال السلطة كانوا يخافونه أكثر مما يخافهم ، فقد أهداه محمد علي 250 فدانا في مدينة طهطا ، وأهداه الخديو سعيد 200 فدانا ، وأهداه الخديو إسماعيل 250 فدانا . لكن إجهاض التجربة كان على يد الخديو عباس حين تولى الحكم انقلب الحال . أغلق مدرسة الألسن ، وأوقف الترجمة ، وقصر توزيع جريدة الوقائع على كبار رجال الأتراك ، ونفى رفاعة إلى السودان تحت ذريعة إدارة مدرسة هناك . لكن رفاعة الطهطاوي لم يتخل عن دوره في مشروعه ، إذ أصدر أول مجلة ثقافية في التاريخ العربي سماها روضة المدارس .
ولعله لا يجوز إنهاء الموضوع قبل لفتة لشخصية لا بد من ذكر مشروعها ، عبد الرحمن الكواكبي، وهو من الذين اعتبروا قزما من الأقزام في ميزان الإسلام وهو في نظر كتاب الأقزام عدو يجب أن نحذره . على نهج جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي التي قام عليه الحكم الحديث في أوروبا ألف عبد الرحمن الكواكبي كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، وهو ليس اقتباسا ولا هو محاكاة ، فطبائع الاستبداد كتاب عربي أصيل مستمد من البيئة العربية الإسلامية ، فيه تحليل لواقع المجتمع العربي وتوصيف لتسلط الحاكم عليه فيه عرض للاستبداد فيه نقد للحكم المطلق ، يدعو لثقافة التعاقد بين الحاكم والمحكوم والقطع مع أعطه ألف دينار ، والقطع مع وأمر بضرب عنقه وهو ما تمتلئ به صفحات تاريخنا المشين . فيه توصيف حقيقي لتسلط العثمانيين وتجبرهم واعتبار الأوطان العربية بقرة حلوب أينما تدر فحليبها نحو عاصمة الدولة العثمانية ، كقول هرون الرشيد مخاطبا سحابة : أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك . أو حين ضاعف باي تونس الجباية من 36 ريالا إلى 72 ريالا وعارضة بعض حاشيته برر له متملق متزلف بأن المال يفسد العربان . ذاك هو حال العرب في زمن تأليف الكواكبي مصنَّفه طبائع الاستبداد . نفس المصير لكل من يتجرأ على السلطان ، لكن بقفاز أكل عبد الرحمن الكواكبي ، بالفرشاة على غير الطريقة التي أكل بها ابن المقفع ، دُعِيَ لقصر ذيل من أذيال السلطان وأكرمت وفادته بتقديم قهوة مسمومة . لكن رحل الكواكبي وبقي كتابه ، فالفكر دوما لا يموت ، والباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة .
عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي
لو تساءل امرئ كيف لهذه الطفرة أن تحدث في زمن وجيز لا يتعدى بضعة قرون لكان الجواب أن سببين مكنا بني آدم من بلوغ ما بلغ . السبب الأول هو اختراع المطبعة ، والسبب الثاني هو قطع المشيمة بين الدين والعلم / العلم بمعنى سيانس . لأن العلم عندنا نحن العرب مازال يجمع بين ما لا جامع بينهما . إذ يضع أينشتاين والإمام مالك في نفس التصنيف كلاهما عالم . والحال أن النشاطين متباينان كل التباين ، والتباين لا يقصد منه إضفاء قيمة تفوق قيمة ، وإنما العلم في هذا العصر وما سيأتي من العصور أصبح دقيقا في تحديد المصطلح دقيقا في ضبط المناهج والسبل . وما لم يحدث العرب لفظا معناه العلم / سيانس ، وبقي الحال على ما هو عليه فلا تقدم ولا رقي . المعرفة سلطة ، ومن امتلك المعرفة امتلك السيطرة على العقول والوجدان ، لذلك حرص الكهنة في ما مضى من العصور على احتكار المعرفة ، بل إن بعض الشعوب كان فيها الحكم بالإعدام على من لمس خزانة الكهنة ليطلع على ورقة من الأوراق أو كتابا من الكتب أو وثيقة من الوثائق . لكن باختراع المطبعة تم الإفراج عن نتاج الفكر البشري وتمكن جميع البشر من امتلاك الكتاب والقراءة وبالتالي تحرر فكريا وملك زمام عقله . ولو تتبعنا من عارض انتشار المطبعة لوجدناهم الكهنة في كل الأديان ، وعلتهم في ذلك عدم تدنيس الكتب المقدسة بالمطبعة المدنسة ووضعه بين أيد مدنسة . هذا الظاهر ، لكن المخفي هو خوف الكهنة من انفلات أكبر ما كان يميزهم عن بقية خلق الله وهو المعرفة . وإذا كانت شعوب الدنيا كلهم قد انعتقوا من تسلط الكهنوت إلا أن العرب المسلمين مازالوا يرزحون تحت نير هذه الأغلال والقيود .
كل من حاد عن الكهنوت الإسلامي الستندار كان الحكم عليه بالإعدام ، إما إعداما حقيقيا ، وإما إعداما معنويا ، وأحيانا الإعدام المعنوي أشد قساوة على النفس الأبية من الإعدام الحقيقي . كما حدث للطاهر الحداد ، ذلك المصلح التونسي الذي أعدمه الكهنوت المنغلق إعداما معنويا لم تطل به المدة الزمنية حتى فعل الغبن فيه فعله ودمره القهر فقضى وقد تنبأ بأنه سيفدي الوطن بنفسه وحدث ، إذ يقول :
أَفديكَ يا وَطَني بِالنَّفسِ وَالمــــــــــال مِمّا يَسومك سوءاً فيه إِذلالـــــــــي
أَفديكَ يا وَطَني أفديكَ يا سكنـــــــــي بِكَ اعتِزازي وَفيكَ اليَوم آمالــــــي
حبي إِلَيكَ أَراني الخطب منقبـــــــــة تزيدني شرفاً يزري بِعذالـــــــــــي
لا عيش لي أَبتَغي إن لم يعش وطني في عزة وَرَخاء هانئ البــــــــــــالِ
إِنّي بخدمَة أوطاني أذب علـــــــــــى قومي وَأَهلي وَمَجدي الشامِخ العالي
هذا الرجل زيتوني ، لكنه شذ عن الكهنوت الستندار ، فهو المتحصل على شهادة التطويع ، وهي شهادة أصبحت تسمى شهادة التحصيل في العلوم منذ أفريل 1933 . حين قرأ طه حسين كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع قال قولته الشهيرة : لقد سبق هذا الفتى قومه بقرنين . في حين أن بني قومه هاجموه هجوما شرسا بلغ أحظ الدرجات في الخسة والضعة وقلة الذوق الأدبي والعلمي والجمالي فممن هاجمه محمد الصالح بن مراد وقد ألف كتابا في الرد عليه عنوانه : الحداد (بكسر الحاء) على امرأة الحداد . النسخة التي امكن الاطلاع عليها تقع في 240 صفحة – طبعت بالمطبعة التونسية – نهج سوق البلاط عدد 57 بتونس بتاريخ 4 ربيع الثاني 1350 هـ / 16 سبتمبر 1931 م . لكن لا احد يمنع تأليف كتاب للرد على كتاب لولا أن هذا قد كتب هجوما عنيفا قبل قراءة الكتاب ختمه بعبارة لا أجد توصيفا لها حيث يقول : " هذه دفعة على الحساب حتى أقرأ الكتاب" . ذاك هو قدر المفكر حيث تهيمن سلطة الكهنوت . فقد تشكلت لجنة يرأسها العلامة الطاهر بن عاشور انتهت إلى تكفير الطاهر الحداد مطالبة بحجز الكتاب . و نزعت كل صفة للحداد وكل انتساب وشهادة نالها من جامع الزيتونة بأمر ملكي . بعد أربع سنوات توفي الحداد ولم يشهد جنازته إلا قلة من الناس رغم أن الرجل مفكر اجتماعي مناضل نقابي شاعر وطني .
لذلك لا يمكن أن تحدث ثورة ما لم يقطع الحبل السري بين العامة والكهنوت .
وممن حمل مشروعا حضاريا أجهض :
• ابن المقفع .
• رفاعة الطهطاوي .
• طه حسين .
• عبد الرحمن الكواكبي
ابن المقفع كانت صاحب مشروع سياسي يضاهي مشروع المفكرين الذين مهدوا للثورة الفرنسية . فقد ألف أربعة كتب ضمنها مشروعه السياسي . كليلة ودمنة / الأدب الصغير / الأدب الكبير / رسالة الصحابة . الآثار الأربعة بجمعها معا والتأليف بينها وقراءة بعضها ببعض تكوّن مشروعا مجتمعيا سياسيا كان ابن المقفع يصبو إليه ، إنه حلم الذي كان يرنو إليه كشأن جان جاك روسو حين كتب العقد الاجتماعي للتأسيس السياسي بين الحاكم والمحكوم يقطع مع الحكم الفردي والاستبداد التسلطي ، وغير روسو في التنظير السياسي الذي صارت الأمم المتقدمة تسير على نهجه . لا يمتاز الغرب عن العرب بعقل ولا بغباء فالعقل والغباء توزع على الخلق بنسب متساوية أو متقاربة ، لكن الفرق بينهما - العرب والغرب – لخصه أحمد زويل حين قال : الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء ، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ، ونحن نحارب الفاشل حتى يفشل . ليت محاربة الناجح تقف عند حد الإفشال إنها تتعداه إلى القتل ، وأي قتل قطع الجسد الحي وشيه كي يشم المقتول رائحة قتاد لحمه قبل أن يلفظ أنفاسه ، ذاك ما وقع لعبد الله بن المقفع لأنه كان صاحب مشروع مجتمعي / سياسي . والحال أن السياسة من اختصاص الخليفة لا من اختصاص العامة ولو كان مفكرا . في عرف العرب أنه مادام خليفة فلا أحد يحق له أن يفكر ، بل حسم الأمر ، فعندنا كتاب عنوانه "درة تعارض العقل والنقل" ، وجعلنا مفكرينا أقزاما ، وألف كتاب تطرح منه المطابع آلاف النسخ كل سنة عنوانه : أعلام وأقزام في ميزان الإسلام . ويفتتح الكتاب بعبارة : هم العدو فاحذروهم . القائمة طويلة تكاد تشمل كل من له ذرة عقل في بلادنا بلاد العرب . الغبن كل الغبن أن يعتبر صاحب هذا الكتاب الدكتور فؤاد زكريا عدوا يجب أن نحذره ، ويعتبره قزما ، والحال أن لهذا الرجل عملا لو أنجزه ولم ينجز شيئا آخر غيره لكفاه فخرا وفَخَارا ، فهو الذي بعث سلسلة كتاب عالم المعرفة ، كتاب يصدر كل شهر ، وفي هذا الشهر – أفريل 2018 – يصدر الكتاب عدد 459 . رغم أن الرجل توفي فقد بقيت صدقته جارية يأتيه ثوابها وهو هي دار الخلد . الكهنوت عدو للعقل ، عدو للفكر والتفكير ، لأنه يريد أن يكون الآخرون قطيعا يقادون إليه ، ينتجون ليستهلك ، في نهاية المطاف ليست السماء هي الغاية بل الذهب والفضة ، الدينار والدرهم ، حين انعتق الغرب من نير الكهنوت ولجأ إلى العقل والتفكير حقق ما حقق ، وحين استكنّا نحن العرب للكهنوت فأوقفنا عقولنا وعطلنا تفكيرنا إذ لدينا النقل ، وليس في الإمكان أحسن مما كان ، ولم يترك السلف شيئا لم يفتوا فيه ، فلننعم بعطالة الفكر وعطالة العقل ، وإن لزم شيء من عقل أو تفكير فالكهنوت كفيل بذلك دون سواه .
لما تتطاول ابن المقفع على الخليفة ، والخليفة ليست شخصا وإنما مؤسسة كهنوتية من احتمى بظلها ناله من فتات الموائد ورضا الحاكم ، ومن شذ عنها حورب في رزقه ودينه وخلقه وربما في أعز ما يملك الكائن الحي حياته ، قتل ابن المقفع أشنع قتلة ولكن مشروعه حتى وإن لم يتحقق فهو حي ما بقي إنسان على هذه البسيطة ، لأن الكهنوت يعدم جسما لكنه عاجز ولن – زمخشرية – يقدر على قتل عقل أو إعدام فكر .
إذا كان مشروع ابن المقفع مشروعا سياسيا مجتمعيا فإن مشروع طه حسين كان مشروعا فكريا يمس التراث ككل . وبما أن الكهنوت أي كهنوت أساسه التراث ، فأي مساس بالتراث مساس بالكهنوت كمؤسسة . لذلك توضع أسس وركائز لأي كهنوت تعتبر ثوابت ومقدسات لا يجوز المساس بها أو التصرف فيها أو مجرد وضعها موضع سؤال وتساؤل . خوفا من هدم ركيزة من الركائز فتنهار المؤسسة بأكملها . بدأ طه حسين مشروعه بكتاب عنوانه : في الشعر الجاهلي . النسخة التي تيسر الاطلاع عليها هي النسخة الأصلية في طبعته الأولى واليتيمة . ط . مطبعة دار الكتب المصرية 1344 هـ - 1926 م . لم يشفع لطه حسين أن اهدى كتابه لرئيس وزراء الملك فؤاد الأول حيث ينهي بقوله : فهل تأذن لي أن أقدم إليك هذا الكتاب مع التحية الخالصة والإجلال العظيم ؟ لم تفده لا التحية الخالصة ولا الإجلال العظيم ، كما فعل بالطاهر الحداد في تونس سبق أن فعل بطه حسين في مصر ، كلاهما خريج جامعة دينية ، الحداد خريج جامع الزيتونة ، وطه حسين خريج جامع الأزهر . سنة صدور الكتاب هاج طلبة الأزهر في مظاهرات بقيادة شيوخ الأزهر وقدمت عرائض للمحكمة ، إلا أن القضية حفظت لتثار من جديد سنة 1932 انتهت بضغط من الأزهر على الحكومة والبرلمان فصدر قرار من مجلس الوزراء بفصل طه حسين من الجامعة مما جعله يشهر الحرب بقلمه عن الأزهر والأزهريين بالرغم من كونه أزهريا . انتهت المعركة بأن دعت مجلة الأزهر طه حسين أن يكتب في السيرة النبوية مما نال رضا الأزهر والأزهريين . وخمدت المعركة بين شخص طه حسين والأزهر ، إلا أن المشروع تم إجهاضه ، وكما خسر العرب دولة قوامها المؤسسة والتعاقد كما نظر لها ابن المقفع فقدْ فقدَ العرب مشروعا حداثيا كان يمكن أن يغير كثيرا من الرداءة والنمطية في قراءة التراث مما يجعل العرب ينزعون جبة السلفية ليلبسوا حلة الحداثة فيكون لهم مكان في الحاضر ، لا أن يعيشوا حاضرهم بأجسادهم والعقول متجهة نحو السلف صالحا كان أو طالحا . لفهم المشروع الذي طرحه طه حسين نقتطف هذا المقطع المزع بين الصفحتين 28 / 29 : فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية . فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن خازم .
قلت إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية . وهذه القضية غريبة حين تسمعها ، ولكنها بدهية حين تفكر فيها قليلا . فليس من اليسير أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذي يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه . وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه . وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله على العرب . فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر . إنما كان القرآن جديدا في أسلوبه ، جديدا فيما يدعو إليه ، جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ، ولكنه كان كتابا عربيا ، لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي .
ليس الغرض الانتصار لطه حسين بلا تحفّظ ولا الغرض تخطئته بلا رويّة . إنما الٍرأي يقارع بالرأي والفكرة تناظر بالرأي ، من غير أن يكون لأحد الطرفين سلطة يتفوق بها على الآخر ، فلا سلطة إلا سلطة الحجة والبرهان . كما أن التراث لا ينظر إليه بقداسة فكذلك رأي طه حسين أو غير طه حسين لا ينظر إليه على أنه الحقيقة المطلقة لأنه يعتمد مقاييس لم يسبق لغيره أن اعتمدها . فطه حسين عاش زمن ثلاثة أرباع القرن العشرين ، نظرته للشعر الجاهلي لن تكون بعين العصر الذي قيل فيه ومعاييره ليست هي معايير زمن القول . فقد جاء في كتاب أخبار القضاة لوكيع (توفي سنة 306 هـ) : اخبرني أحمد بن أبي عثمان ، عن عثمان بن أبي شيخ ، عن صالح بن سليمان ، قال : قدم حماد الراوية على بلال بن أبي بردة ، فأنشده شعرا مدحه به ، وعند بلال ذو الرمة الشاعر ، فقال له بلال : كيف ترى هذا الشعر ؟ قال حسدا : ليس هو قاله ، قال فمن يقوله ؟ قال لا أدري ، إلا أنه لم يقله هو . فلما قضى بلال حوائج حماد فأجازه قال له : إن لي إليك حاجة ، أنت قلت هذا الشعر ؟ قال : لا . قال : فمن قاله ؟ قال : هو شعر قديم لبعض القبائل لا يرويه غيري . قال : فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك ؟ قال عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام .
هذا الشاهد حجة لطه حسين كما أنه حجة عليه في نفس الوقت . حجة لطه حسين أن حماد أنشد شعرا ونال به صلة ، ولو لم يكشفه ذو الرمة لاعتبر أن الشعر لحماد ومن هنا يصدق طه حسين في كل شك يشكه فيما قيل من الشعر القديم ، والحجة عليه ، إن طه حسين في القرن الرابع عشر هجريا غير قادر على التمييز بين كلام الجاهلية وكلام الإسلام ، إذا كان رجل في القرن الثاني للهجرة لم يميز ، فكيف لرجل في القرن الرابع عشر أن يميز . لكن ذلك لا ينفي ما لطه حسين من فضل في طرح السؤال وكان يؤمل أن يدرس سؤاله دراسة تعتمد المناهج العلمية بالآليات القديمة والحديثة للخروج بنتيجة ، حتى ولو كانت النتيجة لغير طه حسين فالفضل له في أنه طرح الإشكالية . أما أن يجابه موقفه بتلك الطريقة الفظة وأن يحارب بكهنوت محافظة على الستندار ففي ذلك تكميم للأفواه وتحجيم للعقول.
أما المشروع الثالث الذي فقده العرب وكان يمكن أن يكون الحال غير الحال لو استمر واستغل كما استغلت الأمم الأخرى مشاريع مفكريها فهو مشروع رفاعة الطهطاوي . هو خريج الأزهر درس الفقه والحديث والتفسير والنحو والصرف وغير ذلك . شاعر له ديوان منه هذه الأبيات :
للحرب هلموا يا شجعان حب الأوطان من الإيمان
لا تعطوا الأعدا مقودكــم
لا ترضوا أن يستعبدكـــم
والله تعالى أسعدكــــــــــم
بقتال وهزم ذوي الطغيان
كان وعيه بمشروعه قد نشأ حين سافر إلى فرنسا في بعثة تضم أربعين طالبا على متن سفينة حربية .
شئنا أم أبينا فإن التحديث في الوطن العربي وفد من أوروبا . أحمد باي بتونس سعى إلى التحديث في الصناعة وفي المؤسسة العسكرية وفي التعليم حين عودته من زيارة فرنسا ولابن أبي الضياف صفحات في الحديث عن هذه الزيارة وقد ذكر في كتابه هذا رفاعة الطهطاوي في ذكر جمال باريس [وقد أعطاها حقها الشيخ رفاعة الطهطاوي واجتمعت به فيها] إشارة إلى كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ومن أطرف ما ذكر ابن أبي الضياف وكان رفيقا للباي أثناء هذه الزيارة في كتابه : إتحاف أهل الزمان . أنه حضر مع الباي مسرحية بحضور ملك فرنسا ، وفي المسرحية مشهد لفتاة من الطبقة الأرستقراطية أحبت رجلا من عامة الشعب وحين اعترضت أمها قائلة : إن أنظارك من الأكابر لا يريدون ذلك وأن السلطان لا يريد ذلك ويمنعك من الرضى به . فصاحت البنت في ذلك المجمع الحافل : بأي شرع يتصرف السلطان بأرواحنا ونحن أحرار ؟ وأقسمت أن تتزوج بالرجل إظهارا لحريتها . وخرجت فورا للكنيسة . وأظهر السلطان الفرنسي استحسانه لمقالة البنت سياسة لهذا الجمهور . وقال ابن أبي الضياف في حوار بينه وبين الباي : إن القوم سبقونا إلى الحضارة بأحقاب من السنين حتى تخلقوا بها ، وصارت من طباعهم ، وبيننا وبينهم بون بائن ، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه . فقال (الباي) : نسأل الله العاقبة .
في تبادل الزيارات بين ملوك الإطلاق والدول الأوروبية تنازع بين إحساسين لدى ملوك العرب إحساس برغبة في مجاراة الحضارة وقيم الحرية وإحساس بعدم فقد ما أتيح لهم من سلطة . لكن أهل الفكر منزعهم غير منزع أهل السياسة ، وأهل الفكر صنفان ، صنف يسعى لتحقيق قيم العدل والحرية مهما كان الثمن كشأن رفاعة الطهطاوي وصنف يهادن ويجاري ويميل مع النعماء حيث تميل كشأن ابن أبي الضياف . يتحدث عن حمودة باشا فيقول : فهو في هذه الحالة كملوك القانون مع أنه من ملوك الإطلاق ، وكان يعاني من وزيره أبي المحاسن يوسف صاحب الطابع مرارة الرد عليه ، ويقول له : يا يوسف إنك لن تعيش مع غيري نصف سنة . وفعلا ذاك مع حدث فقد قتل شر قتلة إثر وفتة حمودة باشا .
في هذا العصر ، حيث الخلافة العثمانية تهيمن على الأوطان العربية من غير أن تدخل العصر لا في تعليم ولا في تكنولوجيا ولا في أساليب الحكم ، فمن بقي حيث هو كان قانعا او خائفا أو يرجو ثوابا من إطاعة ولي الأمر ، في حين أن الذي لامس الحضارة الغربية سواء من خلال القراءة أو من خلال الرحلة تبين له الفرق بين شعب وشعب والحال أن الجميع من أصل واحد آدم وحواء وتشرق عليهم شمس واحدة . فمنهم من رفض الموجود وسعى إلى المنشود ، وطن فيه حرية وفيه عدل وفيه علم وفيه رفاهة . تبين لهم بالمشاهدة والاطلاع على الفكر الغربي والفلسفة أن سبيل الرقي هو الانعتاق من الحكم الاستبدادي .
مشروع رفاعة الطهطاوي إرساء دولة يسودها العدل ويحكمها القانون ، مجتمع من المتعلمين وقد فتح مراكز لمحو الأمية ، إدخال الثقافة الغربية بإنشاء مؤسسة تعنى بالترجمة ، إنشاء مطبعة لإشاعة العلم والمعرفة . إدخال العلوم الحديثة في التعليم ، تعليم اللغات الأجنبية للانفتاح على الثقافات الأخرى والعلوم العصرية ، تم تكليفه بإدارة جريدة الوقائع المصرية فجعل اللغة العربية هي الأولى واللغة التركية هي الرديفة ، وقبل تحمل أعباء إدارتها كان العكس ... وكأنّ رجال السلطة كانوا يخافونه أكثر مما يخافهم ، فقد أهداه محمد علي 250 فدانا في مدينة طهطا ، وأهداه الخديو سعيد 200 فدانا ، وأهداه الخديو إسماعيل 250 فدانا . لكن إجهاض التجربة كان على يد الخديو عباس حين تولى الحكم انقلب الحال . أغلق مدرسة الألسن ، وأوقف الترجمة ، وقصر توزيع جريدة الوقائع على كبار رجال الأتراك ، ونفى رفاعة إلى السودان تحت ذريعة إدارة مدرسة هناك . لكن رفاعة الطهطاوي لم يتخل عن دوره في مشروعه ، إذ أصدر أول مجلة ثقافية في التاريخ العربي سماها روضة المدارس .
ولعله لا يجوز إنهاء الموضوع قبل لفتة لشخصية لا بد من ذكر مشروعها ، عبد الرحمن الكواكبي، وهو من الذين اعتبروا قزما من الأقزام في ميزان الإسلام وهو في نظر كتاب الأقزام عدو يجب أن نحذره . على نهج جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي التي قام عليه الحكم الحديث في أوروبا ألف عبد الرحمن الكواكبي كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، وهو ليس اقتباسا ولا هو محاكاة ، فطبائع الاستبداد كتاب عربي أصيل مستمد من البيئة العربية الإسلامية ، فيه تحليل لواقع المجتمع العربي وتوصيف لتسلط الحاكم عليه فيه عرض للاستبداد فيه نقد للحكم المطلق ، يدعو لثقافة التعاقد بين الحاكم والمحكوم والقطع مع أعطه ألف دينار ، والقطع مع وأمر بضرب عنقه وهو ما تمتلئ به صفحات تاريخنا المشين . فيه توصيف حقيقي لتسلط العثمانيين وتجبرهم واعتبار الأوطان العربية بقرة حلوب أينما تدر فحليبها نحو عاصمة الدولة العثمانية ، كقول هرون الرشيد مخاطبا سحابة : أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك . أو حين ضاعف باي تونس الجباية من 36 ريالا إلى 72 ريالا وعارضة بعض حاشيته برر له متملق متزلف بأن المال يفسد العربان . ذاك هو حال العرب في زمن تأليف الكواكبي مصنَّفه طبائع الاستبداد . نفس المصير لكل من يتجرأ على السلطان ، لكن بقفاز أكل عبد الرحمن الكواكبي ، بالفرشاة على غير الطريقة التي أكل بها ابن المقفع ، دُعِيَ لقصر ذيل من أذيال السلطان وأكرمت وفادته بتقديم قهوة مسمومة . لكن رحل الكواكبي وبقي كتابه ، فالفكر دوما لا يموت ، والباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة .
عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي