عبدالكريم الكاصد - البريكان والإشهار (بمناسبة صدور مجموعته الشعرية الكاملة).

حين تمّ الإعلان عن إصدار المجموعة الشعرية الكاملة للبريكان تذكرت الإعلان عن المجموعة الشعرية للسياب، وما رافقه من تهويل، واحتفاء منقطع النظير من قراء بسطاء، ومحافل أكاديمية، وربما عالمية، ولم لا؟ ما دام يتصدر هذا الإعلان شاعر كبير كأدونيس، غير أن خيبتي كانت كبيرة حين اطلعت عليها. خيبة دفعتني إلى كتابة ما يقرب من ثماني مقالات طويلة سيجمعها كتاب قريب لم تخل صفحة منه من تدوين أخطاء المحقق (إنْ كان محققاً!) ولعلّ أشنع هذه الأخطاء ورود قصائد ركيكة لشعراء شباب مبتدئين أدرجت في المجموعة بصفتها قصائد للسياب، وهذه ليست فضيحة حسب، وإنما جريمة بحق الشعر، والسياب، والقراء، والحقيقة، لذلك كنت متوجساً ولا أزال من خلال ما قرأت من نتفٍ هنا وهناك عن مشروع إصدار مجموعة البريكان الشعرية الكاملة، ومن خلال نشر قصيدتين جديدتين للبريكان لا يكتبهما شاعر مبتدئ، فكيف بالبريكان الشاعر الكبير الذي جمعتني به صداقة عمر، منذ أن كنت طالباً في معهد اللغات ببغداد، وقد شاءت الصدفة أن نكون مدرسَين معاً في معهد واحد هو معهد المعلمين في البصرة، هو يدرّس اللغة العربية، وأنا أدرّس علم النفس. كنت أحسده آنذاك، لأن مهنته تكاد تكون شبه حيادية بينما، مادتي كانت تورطني في إشكالات لا حصر لها لولا ثقة طلابي ومحبتهم، مثلما تورطني الإشكالات الحالية التي أجدني فيها مشتبكاً رغماً عني.
المفاجأة الأولى الإعلان ومارافقه من توجس لي تأكد من خلال قراءة نص نشره الصديق الشاعر علي نوير باعتباره نصاً - نموذجاً.
هذا النص هو:

ترجمة ذاتية
~~~~
أنبياء بلا رسالة
وحوش داجنة
سادة الأسواق :
(يبيعون الحقيقة بالخضوع)
خطباء مُدرّبون يتكلّمون في أيّ شيء
وأنا رجلٌ بسيط .
أنا أكتفي بالسماع
وفي كلّ ليلةٍ
أغسل قلبي بصمت .
بسيطةٌ هي الشمس
بسيطة زرقة السماء
وبسيطة خضرة الأرض
وبسيطٌ هو وضوح الجبل
ولكن ما أبعد أصداءها !
ولعلّ البساطة ليست سوى تعقيدٍ متوازن .
أنا أحبّ عنف البحر
ولكنّني أتعب من التحديق في جدولٍ عَكِر ،
إجتزت التاريخ ولم أحترق ،
ولكن دخان الكلمات يعميني .
أنا ألعب
(ولكن لا بالكلمات)
أنا أكذب
(مُتلمّساً أعذاراً واهيةً لضعف الأصدقاء !)
أنا أعاندُ
(القلبَ الذي يعلم أنّ لا فائدة !)
أنا أتمرّغ
(على عتبة الليل ، مُحطّماً كبريائي الفارغة)
أنا أسقط
(على ذاتي كجبل)
أنا أنعزل
(لكي أرى المنظر كاملاً)
أنا أضعف
(كالجميع ولا أماري)
أنا أتضاءل
(لأنّ الأنموذج كبير)
أنا أغنّي على مهل
(لأنّه يجب أن أحيا)
النور رائع
أرى ذلك
أنا الرجل المطروح في سفينة
الجذام .

وهو نص ركيك ليس من الشعر بشيء فمثل هذه الأسطر لن تكون شعراً سواءٌ أكانت منفردة أو جزءاً من كلّ لأنّ القصيدة ذاتها تفتقد الكلّ:

أنا ألعب
(ولكن لا بالكلمات)
أنا أنعزل
(لكي أرى المنظر كاملاً)
أنا أضعف
(كالجميع ولا أماري)
أنا أتضاءل
(لأنّ الأنموذج كبير)
أنا أغنّي على مهل
(لأنّه يجب أن أحيا)

أما بداية القصيدة فيؤسفني أن أقول أن شاعراً كالبريكان من الصعب أن تنسب له قصيدة مفتتحها هذا المطلع المرتبك:

أنبياء بلا رسالة
وحوش داجنة
سادة الأسواق :
(يبيعون الحقيقة بالخضوع)
خطباء مُدرّبون يتكلّمون في أيّ شيء
وأنا رجلٌ بسيط

مقارنا نفسه، هو الرجل البسيط، بمن سماهم أنبياء، ووحوشاً، وسادة أسواق وخطباء. ولا أدري أين يكمن جمال المطلع أو عمقه الفكريّ وهو الشاعر المولع بالأفكار.
هذا نص لا يليق بشعر البريكان ولا بنثره، ولو كان لائقاً لاختاره مع مختاراته التي كان ينشرها بين فترة وأخرى، ولا سيما أنه ليس من نصوصه القديمة في الأربعينات والخمسينات، وإنما هو مؤرخ في 1963 أي بعد تجربةٍ في كتابة الشعر تمتد إلى ما يقرب من عشرين عاماً أو أكثر.
أما القصيدة الثانية التي طالعنا بها الشاعر علي نوير فهي بعنوان " مدينة السبعة":

في لحظة مشؤومة
دخلت مدينة يملكها سبعة رجال
مدينة فيها سبعة قصور
وسبع حضائر
وسبع مشانق
وسبع بوابات
وعندما دخلت مدينة السبعة
وضع كلٌّ منهم يده عليَّ ودعاني عبده .
ومنذ مائة عام
أتنفّس حبيساً تحت الأرض
حتى يتّخذ السبعة قراراً بشأني .
أنا رجلٌ هالك ، بلا بصيص أمل
لا أذكر إلّا اللحظة التي دخلت فيها
مدينة السبعة .

أول ما استوقفني في القصيدة هو الخطأ الإملائي: حضائر والصحيح حظائر جمع حظيرة.
قصيدة قصيرة يُـؤتى بها نموذجاً بمثل هذا الخطأ الفاقع. (أتراه خطأ مطبعيّاً حدث سهواً؟ أين اللجنة إذاً؟ وأين الحذر في التقديم؟)
إذا كانت اللجنة الموكلة بمراجعة المجموعة لم تنتبه لمثل هذا الخطأ البسيط الذي يستوقف حتى القارئ غير المختص فكم هناك من أخطاء في القصائد الأخرى التي لم أطلع عليها!.
ولعل ما استغربتُ له أيضاً هو التهويل في استقبال هاتين القصيدتين باعتبارهما من الشعر العظيم ولا سيما هذه القصيدة التي لا تقل ركاكة عن السابقة.

وعندما دخلت مدينة السبعة
وضع كلٌّ منهم يده عليَّ ودعاني عبده .

أحقّا هذه الصياغة وهذه النبرة هما صياغة البريكان ونبرته؟

أما مطلع القصيدة فهو من أسوأ المطالع بتقريريته الفاقعة:

في لحظة مشؤومة
دخلت مدينة يملكها سبعة رجال

يعقبهما تكرار لا نراه إلا في الحكايات العادية:

مدينة فيها سبعة قصور
وسبع حضائر
وسبع مشانق
وسبع بوابات

ألا يوجد ما هو أفضل من هذين النموذجين؟
حسناً
آنذاك تذكرت ملاحظاتي العديدة عند قراءتي مقال الشاعر عارف الساعدي المنشور، في جريدة الشرق الأوسط، قبل القصيدة الثانية ببضعة أسابيع، فتبين لي أنني أمام كارثة أخرى، لا تقل بشاعة عما مورس من تشويه في التعامل مع إرث السياب، لأنّ ما يطرحه عارف الساعدي هو أقرب إلى الإشهار والتخليط، منه إلى أبسط الأعراف الأخلاقية والمهنية المتعارف عليها، أو التي يمكن التصرف قريباً منها، فهو يتحدث بيقين " نادراً ما تجد شاعراً زاهداً في حضور المهرجانات أو الدعوات والسفر وطباعة الدواوين واللقاءات التلفزيونية، والكثير الكثير من عوامل النجومية والشهرة التي يطمح أغلب الشعراء إليها، إلا أن البريكان زهد بكل ذلك" وهذا الذي كتبه هو الألصق به، فإن تركنا ما هو لصيق به فسيفجؤنا بما هو أسوأ، متقمصاً دور رئيس اتحاد الكتاب، ومستشار رئيس الوزراء، ورئيس دار الشؤون الثقافية، والدكتور، والشاعر، وما شئت من ألقاب أخرى، مدلّلا بالوقائع ما قاله عن النجومية والشهرة ومعمّماً ما خُصّ به. ها هو يتحدث عن البريكان وقصيدته "ينفر بها بعيداً عن غنائية جيله، ورومانسيتهم، يغذِّي قصيدته بمرجعيات ثقافية كبرى (لاحظوا الألفاظ الفخمة)، ربما تعدى شعراء مجايلين له بخطوات عديدة، حيث الثقافة العربية والأجنبية تدخل بقوة في نسيج القصيدة البريكانية"
أبمثل هذه النماذج التي أتى بها الشاعر علي نوير يتعدى البريكان مجايليه، ومن بينهم السياب الكبير وقصائده: النهر والموت، وأنشودة المطر وغيرهما من قصائد تتجدد دوماً مع مرور الزمن.
الحماس في ذروته!
هكذا هو العراق في كلّ شيء، عراق الحاضر الذي يترجرج جيئة وذهاباً، ماءً ودماً، صدقاً وكذباً، بين ماضٍ وحاضر وآتٍ... كلّ ذلك في لحظةٍ راهنة.
ولكي يضفي على مشروعه البائس هذا هالةً لا تقدمها النماذج الجديدة كما يبدو، فلا بأس من العودة إلى أسطورة " قصائده أيام الحرب العراقية - الإيرانية كانت مودَعة في مصرف الرافدين فرع البصرة، وهي حكاية غريبة لم نتثبت من صحتها، ولكن البريكان تحول مثل كرة الثلج إلى حكايات وأساطير، حتى موته كان يشبه الأسطورة"
أين الأسطورة في موته الشنيع الذي ملأ جسده بطعنات السكاكين. كان الأولى بك باعتبارك حاملاً كلّ ما ذكرناه من أوسمةٍ وألقاب أن تطالب بالتحقيق في جريمة قتله التي مضت وكأن ما جرى حدثاً عادياً مضت قرون عليه.
ما هي الأسطورة رجاءً؟
وإذا كان إيداع قصائده في مصرف الرافدين أسطورة وحكاية غريبة لمْ تثبتْ صحتها فلماذا استعادتها لترويجها ثانية من قبلك أيها العارف.
أهي جزء من الإشهار؟
بعد التغيير التي أعقب رحيل النظام السابق هل بقيت ثمة أسرار كهذه في مصرف كان موضع نهب للجميع. لم يترك ناهبوه وراءهم سرّاً غير سر لصوصيتهم؟
في مقاله هذا يتحدث عارف الساعدي عن "شهوة الغياب" لدى البريكان، التي أشار إليها الدكتور حيدر سعيد ويضيف إليها صفة المتعّمّد أي " شهوة الغياب المتعمّد" اعتمدها البريكان في حياته؛ - كما يقول عارف - لكي يضفى على شعره وشخصه هالةً، ناسياً هو والكثيرون غيره أن غياب البريكان ليس وليد شهوة لصنع هالة، لأنه ببساطة غياب مريع لمجتمعٍ بأكلمه، فبعد مجيء البعث سنة 1963 والمجازر التي رافقته زجّ بالكثير من الشعراء في السجون ومن بقي خارجها في البلاد لا يأمن السلامة حتى لجسده، وكان من بين هؤلاء البريكان فعن أيّ "شهوة" أو "شهرة" يتحدث الآخرون، ولعلّ ما يدعو إلى الغرابة أن الشعراء المساجين حين استطاعوا تمرير بعض قصائدهم من السجون للنشر في بعض المجلات العربية كالأداب اللبنانية، بأسمائهم أوبأسماء مستعارة، سرعان ما امتنعت هذه المجلات عن نشرها بسبب وشايات بعض الأدباء البعثيين وتقاريرهم إلى محرريها. ولن أنسى ما كتبته مجلة الآداب في أحد أعدادها في منتصف الستينات في تعليق لها عن أسفها لنشر قصائد هؤلاء الذين كان أغلبهم يرسلونها من سجن "نقرة السلمان" الذي كان يضم الشعراء مظفر النواب، وفاضل العزاوي، والفريد سمعان، والناقد فاضل ثامر وآخرين، وكان من بينهم من يرسل قصائده باسم "عذراء السلمان"، مع أن الكثير من هذه القصائد ليس فيها ما يخيف سلطة، أو مجلة، أو شخصاً. هذا حدث في مجلة حاملة راية الحداثة آنذاك. فهل تتصور أن البريكان يبحث عن الهالة في مثل هذه الظروف وهو المواطن الضعيف المهدد مثل غيره من الشعراء. وحين حدث انفراج بسيط في هذه الظروف المريعة لم يمتنع البريكان من نشر مختارات له بين فترة وأخرى.. مختارات تحتوي على العديد من القصائد التي تعدّ بالعشرات أحياناً.
كانت هذه القصائد موضع احتفاء وتمّ نشرها باختياره، أما الكتب التي نشرت بعد مقتله فقد ضم بعضها ما يقرب من 70 قصيدة بالإضافة إلى قصائده الأخرى المتناثرة في المجلات هنا وهناك، وكان الأولى بأي لجنة مكلفة بجمع أشعاره ونشرها أن يقتصر عملها على القصائد المنشورة، أما ما تبقّى، مودعا عند الآخرين، فهو ليس بالضرورة ما يرغب الشاعر في نشره، فإن كان هناك إصرار على النشر ممن تعهدوا بالحفاظ على ما خلّفه البريكان من إرث فليكن النشر إذاً مقتصراً على هذا الإرث منفصلاً، عن نتاجه المنشور باختياره، لئلا تعاد المهزلة التي وقعت مع السياب، بعد أن نسبوا إليه أشعاراً لم يكتبها، ومن كتبها شعراء مبتدئون.
اسألك يا صديقي عارف بعد الحديث عن شهوة الغياب أو شهرته ألا يكفيك ما تحمل من أوسمة لتضيف إليها نعتاً جديداً آخر هو "عالم النفس التحليلي، أو عارف النفس التحليلي الساعدي"!
لنترك الجماليات والآراء الفنية إلى وقت آخر فأنا لم أطّلع على المجموعة الشعرية بعد، وإنما على ما صادفني من نتفٍ منشورةٍ هنا وهناك، أي ما تناولته في مقالتي هذه، وليتني لن أطلع على المجموعة لئلا أصطدم بما هو أسوأ بكثير:
لنتناول ما جاء في مقالك في جانبه العمليّ!
تقول في مقالك هذا إنك بعد أن كلفك وزير الثقافة والسياحة والآثار السابق مديراً لدار الشؤون الثقافية، وبعدأن أصدرتم "قائمة لتشتمل عدداً كبيراً من الرواد العراقيين في ميادين الشعر والقصة والفكر والمعرفة" التمعت في ذهنك صورة البريكان:
"وهنا التمع البريكان في ذاكرتي مرة ثانية، وبدأت أتصل بأصدقائي من شعراء البصرة"
إذاً هي التماعات ذهنك.
بهذه الالتماعات تسير مؤسساتنا وتُطبع كتبنا، وليس من خلال لجان ذات معرفة بالأدب العراقي، وأجياله واستحقاق هذه الأجيال، جماعاتٍ وأفراداً، في حقّها في النشر.
إنك تتكلم وكأن هذه المؤسسة ملكك، مرهونة بك، وبالتماعاتك تنشر لمن شاء وما تشاء عبر علاقاتك المتشابكة التي تتطلب وساماً آخر أيضاً.
يفترض بهذه الدور مثلما يجري في أماكن أخرى، كمصر مثلاً، أن تكون ملك الموتى والأحياء معاً من أدباء قضوا ولم يأخذوا حقهم في النشر، ومبدعين أحياء يستحقون أن تصل أعمالهم إلى الناس، عبر معرفة دقيقة بأسمائهم وأجيالهم وهذا ينطبق على الأحياء والأموات. أما أن تنشر بمزاجك والتماعاتك فهذا غاية الاستهانة بالأدب، والأدباء، وبالقيم الثقافية المتوارثة.
ولم يقتصر الأمر على التماع الذهن في التقييم، بل تعدّاه إلى ما هو أشدّ تناقضاً في سياسة دار الشؤون الثقافية ألا وهو عدم الأمانة في التعامل مع الآثار الكاملة لمن يُطبع لهم من الشعراء.
ثمة شعراء تُنشر أعمالهم الكاملة ولكن يُستثنى منها أعمال الشاعر في مديح السلطة السابقة، كما حدث لمجموعة الشاعر حسب الشيخ جعفر، وآخرون تُنشر أعمالهم الكاملة بكل قضّها وقضيضها فلا تترك ورقة حتى لو كان الشاعر قد كتبها ثم أهملها فامّحت حروفها فهي لا تقرأ، كما حدث مع السياب في مجموعته الصادرة عن دار الرافدين، وها هي تحدث مع البريكان، كما أتوقع، من خلال النموذجين اللذين قرأتهما.
وهذه ظاهرة لا تخصّ داراً معينة، بل يبدو أنها تشيع في أجواء النشر العراقية قاطبةً، ولعلّ هذه من مظاهر الديمقراطية الجديدة ومؤسساتها الثقافية.
أريد أن افهم من مقالك شيئاً واحداً لماذا امتنع شقيق البريكان عن طبع أعمال شقيقة طوال كل هذه السنوات التي مضت على مقتل البريكان، أي منذ أكثر من عشرين عاماً إن لم يكن هناك عائقٌ يجده في نوعية المخطوطات وقدمها، وشكه بقيمة أكثر هذه المخطوطات، ومعرفته بتردد شقيقه عن نشرها، وأشياء أخرى تدل على الحرص الشديد من أخٍ يبدو أن علاقته بالشعر ليست علاقة طارئة.
يقول عارف في رسالته إنه اتصل بشقيق البريكان عبر الخاص في الفيس بوك:
"فردَّ التحية باقتضاب، ثم قلت له إنني أريد (لاحظوا جملة: إنني أريد) أن أطبع أعمال البريكان الشعرية، فلم يردّ عليَّ، تركته أياماً، وعُدتُ إليه، فلم يرد عليَّ، ثم عُدتُ إليه ولكن من دون جواب، حتى سمعت بعد اقل من شهر بوفاته"
وبعد وفاته يقول عارف "سلَّمت زوجة عبد الله الأمانة التي كانت مع زوجها" إلى ابن عمه قاسم البريكان الذي التقاه عارف في الرياض في أثناء قيامه بإعداد برنامج هناك: "وسلَّمني لحظتها حقيبة تزن عشرة كيلوغرامات، وإذا بها أشعار محمود البريكان." دون أن يشير إلى عقد أو اتفاق مكتوب، لا من قبله ولا من قبل اللجنة التي تشكلت فيما بعد، وكأن طبع الاعمال الشعرية الكاملة للبريكان قضية شخصية، أو عائلية محضة، وليست قضية هي أبعد من ذلك.
حتى هذه اللحظة لم نستشف أي جهد يشي أن ثمة مؤسسة حقيقية تعنى حقّا بتراث الموتى والأحياء، بل هي التماعات شاطر ومبادرة فرد.
في نهاية مقاله يذكر عارف بعض ردود الفعل التي أعقبت نشر مجموعة البريكان الشعرية وأصداءها، وكانه يستبق الانتقادات التي يتوقعها من الآخرين لمعرفته بكل الثغرات التي تخللت هذا النشر فيذكر "أهديت نسخة من ديوان البريكان بمجلدين لأحد الشعراء الأصدقاء، وكان يتطلع بحب لقراءة شعره، لكن بعد يومين التقيت صديقاً لي، وإذا به غير متفاعل مع شعر البريكان، قائلاً إن لغته غير شعرية وعوالمه مختلفة عن جيل الرواد، وإن الأفكار التي يطرحها في شعره ممكن أن تُطرح في مقالة فكرية أو فلسفية، وهذا الشاعر الصديق ليس جاهلاً أو قارئاً سطحياً"
وكان ردّه على هذا الشاعر يمكن أن يلخصه قوله في آخر المقال: "فالذين يبحثون عن إجابات مطمئنة لن يجدوا ضالَّتهم في شعر البريكان".
على الرغم من أن إجاباته التي تخللت مقاله هذا مليئة بالاطمئنان
أعلى