المقصود بكلمة " قلم " هنا هو القصبة المبرية للكتابة، وليس ما هو شائع اليوم كقلم الرصاص وقلم الحبر والقلم الجاف . قلم القصب كان الآلة الاكثر استعمالا ً منذ الحضارة المصرية القديمة ، ولحد القرن العشرين .
ولا يمكن مقارنة القلم القديم بالقلم الحديث. فأن قلم القصب كان في الماضي محاطا ً بهالة من القدسية والاحترام . كهذا الوصف :
" أقلام تختلس بلطفها أحلام ، صافية الجواهر ، زاهية الأزاهر ، لينة الأعطاف ، ناعمة الأطراف، طويلة الأنابيب، تسلب القلوب بحسن الأساليب، تدهش الناظر، وتحجل العامل ولا ترض بامتطاء غير الأنامل ... "
ابن الحبيب الحلبي
وقد يتساءل البعض عن الهدف من الكتابة عن القلم والذي لم يعد يستعمله إلا القلائل من الخطاطين.
يمكن أن يكون للقلم فوائد كثرة للجسم والفكر والإحساس تجعله آلة فنية، معطاءة كالآلة الموسيقية. سوى أننا إزاء آلة للكتابة، وكل إنسان يحتاج للكتابة، والقصب متوفر بكثرة وبشكل مجاني في ضفاف البحار والأنهار وداخل الأهوار. وكما تعطى دروس في الموسيقى والرسم في المدارس فيمكن إعطاء دروس خط بالقلم، لمدة ساعة او ساعتين في الاسبوع . فوائدها: إضفاء الطمأنينة والهدوء إلى نفس المتعلم، إضافة إلى منافع جمالية متعددة .
إن عطاء القلم للهدوء يكون بسبب ارتباط القلم بالتنفس . فعند الكتابة يوقف الإنسان تنفسه بشكل أوتوماتيكي. ويأخذ شهيقا من جديد عند التوقف عن الكتابة، أي في لحظة العودة للمحبرة للاستمداد من جديد .
توقف التنفس لحظة الخط إنما هو منح الحياة للحركة الخطية. وأن هذا التوقف هو شيء طبيعي يولد مع الإنسان منذ الطفولة. فكلما أراد الطفل التركيز على عمل شيء صعب يعض لسانه بشكل عفوي. أي انه يحبس نفسه لبعض اللحظات. ولكن هناك فرق بين الخط بقلم القصب حسب تقاليد الخط العربي، وبين الكتابة بقلم الجاف. قلم الماضي كان يجعل توقف النفس متعادلا ً ومتناغماً. وأقلام اليوم توقف التنفس عشوائياً.
يتكلم الخطاطون القدماء دائما ًعن أهمية التحكم في التنفس، وأتفق الكل سابقا ً بضرورة البطيء في الخط. وهذا يعني إطالة ما يسميه الخطاطون " حبس النفس". أي التوقف عن التنفس حتى العودة للمحبرة... ولحظة العودة للمحبرة على قصر زمنها تسمح بالتنفس من جديد ورواء الدماغ بالأوكسجين ، والتفكير بالجزء القادم من الحرف . وبهذه الطريقة يمكن للإنسان التحكم ليس في تنفسه فقط إنما بكل جسمه .
ولو نضيف خزان حبر للقصبة لن يمكن التحكم بالتنفس. فأن القصبة تأخذ حبرا ً قليلا ً يعادل إمكانية الإنسان على إيقاف تنفسه.
كانت الكتابة ومنذ الزمن القديم تعمل حسب " النسب الفاضلة " أي القياسات السليمة التي تعرف عليها الإنسان عبر دراسته للطبيعة في العلاقة النسبية بين الأجزاء الصغيرة والكبيرة .
كل حرف يتكون من عدة أجزاء وكل جزء مدروس بشكل دقيق، وبهذا يكون للحرف شكل متعارف عليه من بدايته إلى نهايته .
كان متعلم الخط بالقلم يتحكم بسهولة في اطالة وتقصير تنفسه .
وهذا يساعده في مواجهة ما يخيفه، فكما هو معروف أن تنفس الإنسان يقصر ويسرع عند مواجهته لشيء مخيف . والعكس هو الصحيح فأن إطالة النفس وإبطائه يجلب شعور بالهدوء والطمأنينة .
إن أول ما يتعلمه الخطاط هو أن لا يجاهد ضد الآخرين ، إنما يجب أن يكافح الإنسان ضد غرائزه. عبر تمارين الخط . وعندما يختار عبارات ليخطها، فأنه بنفس الوقت يكافح أيضا ًضد أنانيته. فالعبارات التي يخطها هي عبارات تتكلم عن الخير والجمال والكرم ، بهدف خلق أجواء منيرة ، سليمة ومسالمة .
قبل الدعوة للسلام لابد للإنسان أن يفرضه على ذاته أولاً. ففي داخلنا تكمن أنانية فردية، آتية من سوء التربية داخل المجتمع ، وهذه الأنانية هي العدو الأكثر شراسة .
روح العداء عند الإنسان هي غريزة طبيعية ، وهي كالحيوان الوحشي في داخلنا . ودور التربية السليمة هو قيادة هذا الحيوان نحو التهذيب ليصبح قوة إيجابية. لكن الأحداث السلبية تطور روح العداء وتعمقها، وتوجهها ضد المجموعة البشرية التي تطوّق الفرد . فتخلق أجواء من التوتر.
يمكن أن توجه هذه الغريزة نحو دروب سليمة بوسائل الثقافة وأحدها الخط. فتصبح بالنتيجة طاقة بناء، وليست طاقة هدم .
السرعة في الزمن الحالي هي سمة العصر، لها فوائدها في بعض المجالات. ولكن لها مضارها ايضا ً. على سبيل المثال: استعمال القلم الجاف للكتابة والذي يسمح بالسرعة ، وسهولة الانسياب على الورق، فيه ضرر لمن لم يتعلم شكل الحروف ، وخصوصا ً عند الأطفال. فلا يعرف الطفل في أي مكان سيتوقف وبالتالي يفقد سيطرته على التنفس بشكل سليم ، على العكس من متعلمي الخط في الزمن القديم . كان التعليم وقتذاك يتناول الحركات المتناغمة للحروف وبالتالي يتناغم التنفس ايضا ً.
الكتابة الحديثة هي فوضى من الحركات ... في البداية كان كل فرد يخلق شكل كتابته حسب الدافع الداخلي العفوي. ومع الزمن تصبح هذه الكتابة طريقته في التعبير . وهذه الفوضى لها تأثيرات سلبية على الإنسان .
الأقلام الجافة تتطلب ضغطا ً على الورق ، بينما آلة القصب كانت تلامس الورقة برقه . ولعدم معرفة الطفل أين سيتوقف في كتابة الحرف بالقلم الجاف ، فأنه سوف يستمر بوقت أطول من قدرته ، بسبب سيولة الحبر وسهولة الاستمرار، ويسبب هذا الاختلال إنهاكاً للدماغ بسبب عدم وصول الأوكسجين إليه ، لأن كل حركة طويلة هي قطع للنفس اكثر ما يمكن ... وهذ يقود الى ردود فعل سلبية وعنيفة لدى الطفل .
كان المتعلم للخط في الماضي يتعلم اولا ً طريقة الجلوس ... يستند الرأس فوق العمود الفقري تماما ً . وكان قدماء الخطاطين ينصحون المبتدئين بوضع كتاب على رأسهم لحظة الخط فأن سقط فأن ذلك دليل خطأ في الجلوس . وان هذا الخطأ له مردود سيئ للجسم ، وينهك متعلم الكتابة .
بعد ذلك يتعلم المبتدئ كيفية مسك القلم ، بثلاث اصابع ممدودة . وأي اتجاه يأخذ منقارالقلم على الورقة . إذ يكون منحنيا ً بما يقارب ال 45 درجة نسبة إلى الخط الأفقي للورقة .
وهذه الهندسية المبسطة تجعل من يتعلم الكتابة في علاقة مع المركز والمحور العمودي والخط الأفقي . مما يعطي الفرد هياكل بناء داخلية في ذهنه تعينه على بناء حياته داخل المجموعة البشرية .
ولا يعني هذا أن تعاليم الخط هذه، هي تعاليم متجمدة ثابتة بل على العكس أنها تعطيه السعادة عند تجاوزها . فهو يعرف ما يتخطى من تعاليم المجتمع .
إن قواعد الخط وضعت منذ مئات السنين ومن قبل أجيال متعددة . ولكن كل جيل أضاف شيئاً جديداً . بعد معرفة وهضم ترِكة الأقدمين . فأن الحدود ما وضعت إلا لتخطيها نحو إبداع وابتكار جديد .
وهذا ما يعبر عنه بكلمات قليلة ابراهيم بن العباس الصولي: " وربما طغى القلم فوصل منفصلا ً، وفصل متصلا ً "
لم يعط قلم القصب المتعلم عبر أستاذه ، تعلم الكتابة بشكل جيد فقط، بل يعطيه أيضا ً تعلم طرق العيش، والكينونة في الحياة والتغذي بالمباديء الاخلاقية .
منذ خمسة آلاف سنة وحتى منتصف القرن العشرين ، كان التعليم يتم في آن واحد باتجاهين. الأول: يتناول المعنى كما في الكتابة المصرية القديمة، أو الصوت في الألفباء . والاتجاه الثاني وهو ما يهمني هنا ، كان يتضمن تعلم بناء شكل الحروف ... كيف نرسم الحرف ؟ من اين نبدأ وأين ننتهي ؟
بينما عندما ولد القلم الجاف في منتصف القرن العشرين. أهمل الجانب الثاني . أي أهمل الفن في الكتابة أن صح القول . وهذه الظاهرة هي ظاهرة عالمية . ويعتقد البعض أنها التطور بينما بالنسبة لي أن الإنسانية تراجعت وتخلفت في الكتابة . وأن السرعة في الكتابة هي ضرر للفرد والمجموعة ... ضرر متعدد الاتجاهات ، منها النفسية والجمالية ...
وقد يتساءل البعض عن الفائدة من هذا الكلام، ألا يمكن العودة للكتابة بالقصب في المدارس ؟ ونحن في عصر الكتابة الإلكترونية ! اعتقد انه يمكن اليوم الاستفادة من القلم كممارسة فنية كما الموسيقى. فالهدف هو التعرف على الجسم والتنفس . والاستفادة من هذا في وجود اجتماعي سليم. فقبل أن نخط بشكل منتظم على الورق ، لابد أن نخلق هذا الانتظام في داخلنا .
وبالإضافة لتحسين الكتابة. فأننا نتعلم تطويل النفس للهدوء. وفي خلال هذه العمليات أي تطويل النفس أو تقصيره، فأن الجسم يّولد موادا ً في الذهن تمنح السلام والهدوء للإنسان، أما فقدانها فيدفعه نحو العنف. وهذا العنف قد يوقظ الحيوان النائم في داخلنا .
التمرين على الحروف المدروسة يجعلنا نرسل إلى اللاوعي معلومات سليمة . إذ لابد من حفظ على ظهر قلب نسب الحروف وقياساتها. فنغذي عالمنا الفطري. إن العالم الفطري في داخلنا هو كالحجر الصلد ، وبالتعلم ننحت هذا الحجر ونصقلة ليتحول الى الجمال . بدل ان نتحمل ثقل شكله المبهم .
هنالك دائما ً تجاذب مستمر بين الحيوان الغريزي الكامن بداخلنا والإنسان الذي نريده . في بعض الظروف يتردد الإنسان في اتخاذ موقفه تجاه هذا الحيوان . فيصبح أسير الغريزة ، ويتحول إلى فرد سلبي في المجتمع .
هناك من يستطيع كبح جماح غريزته عبر الاختلاط بالآخرين ومعرفتهم وبالتالي محبتهم . والوصول إلى حقيقة جوهرية ألا وهي احترام الإنسان ... احترام الحياة .
كما يعبر عن هذا الشاعر الكوفي والبة ابن الحباب ، في القرن الثامن :
احسن من در ٍ ومرجان ِ
آثار إنسان ٍ بإنسان
وفي العصر الأموي يبالغ الشاعر الاحمير السعدي يأسه من الإنسان ويترك الغريزة تعبر في هذا المقطع الشعري . والذي لا يوجد أي تبرير له :
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصّوت إنسان فكدت أطير
* * *
تحيط القلم نصوص جميلة ، كهذا النص حول إتقان الحروف لخطاط مجهول :
"الخط يحتاج إلى سبع معانٍ: الخط المجرد بالتحقيق، والمحلى بالتحديق، والمجمل بالتحويق، والمزين بالتخريق، والمحسن بالتشقيق، والمجاد بالتدقيق، والمميز بالتفريق . "
ثم يستمر بعد ذلك بشرح هذه الكلمات بنص جميل ومقفى .
ويصف خطاط آخر ما يستحق بالجودة في الخط :
" إذا اعتدلت أقسامه / وطالت ألفه ولامه ، استقامت سطوره ، وضاهى صعوده حدوره ، وتفتحت عيونه ولم تشتبه راءه ونونه . .. "
كل هذه التعاليم لتناغم الحروف وجمالها . والنصوص ذات المعاني الإنسانية التي كان الخطاطون يخطونها . جعلت منهم وجودا ً إيجابيا ً في المجتمع الإسلامي القديم . ولم يذكر لنا التاريخ حادثة إجرام واحدة ارتكبت من قبل خطاط. ولابد من التذكير أن أعداد الخطاطين في السابق ليست مثل اليوم فقد كان عددهم يحسب بالآلاف. كان الخطاطين يتفاخرون بحملهم القلم وليس السيف .
هذه نصوص قديمة بخصوص القلم توضح لنا كيف كان المعلم يلقن تلميذه على معرفة رهيفة بالقلم :
" إن للقلم سنا ً ايمن وسنا ً ايسر، وعرضا ً، ووجها ً، وصدرا ً، وأنه يتعين على الكاتب معرفة كل منهما، ليعطي كل واحد منهما حقه في الموضع الذي يقتضيه الحال ... " السرمدي
ويؤكد الخطاطون على أهمية تحضير القلم من قبل الشخص نفسه :
" إن جودت قلمك جودت خطك ، وأن أهملت قلمك أهملت خطك . "
أمين الدين ياقوت الملكي
وإبراهيم بن المحبس يلخص الموضوع بهذه العبارة :
" الخط كله القلم "
جمهرة من المثقفين في التاريخ الإسلامي شهدوا على أهمية القلم ضد السيف ... على أفضلية الثقافة ضد العنف ...
" القلم مجهز جنود الكلام ، يخدم للإرادة ، ولا يمل الاستزادة ، يسكت قائما ً ، وينطق سائرا ً . على ارض بياضها مظلم وسوادها مضيء ... "
ابن المعتز
"ما رأينا ضربة من بطل بحسام قطعت ألف قلم. بل رأينا مترجة من قلم بمداد نكست الف علم .... "
حسن الحسيني
وإذا أمرّ على المهارق كفهُ بأنامل يحملن شختا ً مرهفا
مُتقاصرا ً، مُتطاولا ً، ومفصلا ً ومُوصلا ً ومُشتتا ً ومُؤلفا
ترك العُداة رواجفا ً احشاؤها وقلاعها قـُلعا ًهنالك رجفا
كالحية الرقشاء الا انه يستنزل الاروى اليه تلطفا
يرمي به قلما ً يمج لـُـعابه فيعود سيفا ً صارما ً ومثقفا ً
طلحة بن عبد الله
قال القلم للسيف :
" ... انا آلة الحياة وأنت آلة الردى ....
أنت للرهب وأنا للرغب ...
انا ابن ماء السماء . وأليف الغدير وحليف الهواء ...
وأما أنت فأبن النار والدخان ...
كم افنيت وأعدمت ....
وأرملت ويتمت ...
لعمرك مالسيف سيف الكمي
بأخوف من قلم الكاتب ... "
ابن الرومي
* حسن المسعود
ـ باريس ـ نيسان 2007
المصدر:
Massoudy Calligraphe
ولا يمكن مقارنة القلم القديم بالقلم الحديث. فأن قلم القصب كان في الماضي محاطا ً بهالة من القدسية والاحترام . كهذا الوصف :
" أقلام تختلس بلطفها أحلام ، صافية الجواهر ، زاهية الأزاهر ، لينة الأعطاف ، ناعمة الأطراف، طويلة الأنابيب، تسلب القلوب بحسن الأساليب، تدهش الناظر، وتحجل العامل ولا ترض بامتطاء غير الأنامل ... "
ابن الحبيب الحلبي
وقد يتساءل البعض عن الهدف من الكتابة عن القلم والذي لم يعد يستعمله إلا القلائل من الخطاطين.
يمكن أن يكون للقلم فوائد كثرة للجسم والفكر والإحساس تجعله آلة فنية، معطاءة كالآلة الموسيقية. سوى أننا إزاء آلة للكتابة، وكل إنسان يحتاج للكتابة، والقصب متوفر بكثرة وبشكل مجاني في ضفاف البحار والأنهار وداخل الأهوار. وكما تعطى دروس في الموسيقى والرسم في المدارس فيمكن إعطاء دروس خط بالقلم، لمدة ساعة او ساعتين في الاسبوع . فوائدها: إضفاء الطمأنينة والهدوء إلى نفس المتعلم، إضافة إلى منافع جمالية متعددة .
إن عطاء القلم للهدوء يكون بسبب ارتباط القلم بالتنفس . فعند الكتابة يوقف الإنسان تنفسه بشكل أوتوماتيكي. ويأخذ شهيقا من جديد عند التوقف عن الكتابة، أي في لحظة العودة للمحبرة للاستمداد من جديد .
توقف التنفس لحظة الخط إنما هو منح الحياة للحركة الخطية. وأن هذا التوقف هو شيء طبيعي يولد مع الإنسان منذ الطفولة. فكلما أراد الطفل التركيز على عمل شيء صعب يعض لسانه بشكل عفوي. أي انه يحبس نفسه لبعض اللحظات. ولكن هناك فرق بين الخط بقلم القصب حسب تقاليد الخط العربي، وبين الكتابة بقلم الجاف. قلم الماضي كان يجعل توقف النفس متعادلا ً ومتناغماً. وأقلام اليوم توقف التنفس عشوائياً.
يتكلم الخطاطون القدماء دائما ًعن أهمية التحكم في التنفس، وأتفق الكل سابقا ً بضرورة البطيء في الخط. وهذا يعني إطالة ما يسميه الخطاطون " حبس النفس". أي التوقف عن التنفس حتى العودة للمحبرة... ولحظة العودة للمحبرة على قصر زمنها تسمح بالتنفس من جديد ورواء الدماغ بالأوكسجين ، والتفكير بالجزء القادم من الحرف . وبهذه الطريقة يمكن للإنسان التحكم ليس في تنفسه فقط إنما بكل جسمه .
ولو نضيف خزان حبر للقصبة لن يمكن التحكم بالتنفس. فأن القصبة تأخذ حبرا ً قليلا ً يعادل إمكانية الإنسان على إيقاف تنفسه.
كانت الكتابة ومنذ الزمن القديم تعمل حسب " النسب الفاضلة " أي القياسات السليمة التي تعرف عليها الإنسان عبر دراسته للطبيعة في العلاقة النسبية بين الأجزاء الصغيرة والكبيرة .
كل حرف يتكون من عدة أجزاء وكل جزء مدروس بشكل دقيق، وبهذا يكون للحرف شكل متعارف عليه من بدايته إلى نهايته .
كان متعلم الخط بالقلم يتحكم بسهولة في اطالة وتقصير تنفسه .
وهذا يساعده في مواجهة ما يخيفه، فكما هو معروف أن تنفس الإنسان يقصر ويسرع عند مواجهته لشيء مخيف . والعكس هو الصحيح فأن إطالة النفس وإبطائه يجلب شعور بالهدوء والطمأنينة .
إن أول ما يتعلمه الخطاط هو أن لا يجاهد ضد الآخرين ، إنما يجب أن يكافح الإنسان ضد غرائزه. عبر تمارين الخط . وعندما يختار عبارات ليخطها، فأنه بنفس الوقت يكافح أيضا ًضد أنانيته. فالعبارات التي يخطها هي عبارات تتكلم عن الخير والجمال والكرم ، بهدف خلق أجواء منيرة ، سليمة ومسالمة .
قبل الدعوة للسلام لابد للإنسان أن يفرضه على ذاته أولاً. ففي داخلنا تكمن أنانية فردية، آتية من سوء التربية داخل المجتمع ، وهذه الأنانية هي العدو الأكثر شراسة .
روح العداء عند الإنسان هي غريزة طبيعية ، وهي كالحيوان الوحشي في داخلنا . ودور التربية السليمة هو قيادة هذا الحيوان نحو التهذيب ليصبح قوة إيجابية. لكن الأحداث السلبية تطور روح العداء وتعمقها، وتوجهها ضد المجموعة البشرية التي تطوّق الفرد . فتخلق أجواء من التوتر.
يمكن أن توجه هذه الغريزة نحو دروب سليمة بوسائل الثقافة وأحدها الخط. فتصبح بالنتيجة طاقة بناء، وليست طاقة هدم .
السرعة في الزمن الحالي هي سمة العصر، لها فوائدها في بعض المجالات. ولكن لها مضارها ايضا ً. على سبيل المثال: استعمال القلم الجاف للكتابة والذي يسمح بالسرعة ، وسهولة الانسياب على الورق، فيه ضرر لمن لم يتعلم شكل الحروف ، وخصوصا ً عند الأطفال. فلا يعرف الطفل في أي مكان سيتوقف وبالتالي يفقد سيطرته على التنفس بشكل سليم ، على العكس من متعلمي الخط في الزمن القديم . كان التعليم وقتذاك يتناول الحركات المتناغمة للحروف وبالتالي يتناغم التنفس ايضا ً.
الكتابة الحديثة هي فوضى من الحركات ... في البداية كان كل فرد يخلق شكل كتابته حسب الدافع الداخلي العفوي. ومع الزمن تصبح هذه الكتابة طريقته في التعبير . وهذه الفوضى لها تأثيرات سلبية على الإنسان .
الأقلام الجافة تتطلب ضغطا ً على الورق ، بينما آلة القصب كانت تلامس الورقة برقه . ولعدم معرفة الطفل أين سيتوقف في كتابة الحرف بالقلم الجاف ، فأنه سوف يستمر بوقت أطول من قدرته ، بسبب سيولة الحبر وسهولة الاستمرار، ويسبب هذا الاختلال إنهاكاً للدماغ بسبب عدم وصول الأوكسجين إليه ، لأن كل حركة طويلة هي قطع للنفس اكثر ما يمكن ... وهذ يقود الى ردود فعل سلبية وعنيفة لدى الطفل .
كان المتعلم للخط في الماضي يتعلم اولا ً طريقة الجلوس ... يستند الرأس فوق العمود الفقري تماما ً . وكان قدماء الخطاطين ينصحون المبتدئين بوضع كتاب على رأسهم لحظة الخط فأن سقط فأن ذلك دليل خطأ في الجلوس . وان هذا الخطأ له مردود سيئ للجسم ، وينهك متعلم الكتابة .
بعد ذلك يتعلم المبتدئ كيفية مسك القلم ، بثلاث اصابع ممدودة . وأي اتجاه يأخذ منقارالقلم على الورقة . إذ يكون منحنيا ً بما يقارب ال 45 درجة نسبة إلى الخط الأفقي للورقة .
وهذه الهندسية المبسطة تجعل من يتعلم الكتابة في علاقة مع المركز والمحور العمودي والخط الأفقي . مما يعطي الفرد هياكل بناء داخلية في ذهنه تعينه على بناء حياته داخل المجموعة البشرية .
ولا يعني هذا أن تعاليم الخط هذه، هي تعاليم متجمدة ثابتة بل على العكس أنها تعطيه السعادة عند تجاوزها . فهو يعرف ما يتخطى من تعاليم المجتمع .
إن قواعد الخط وضعت منذ مئات السنين ومن قبل أجيال متعددة . ولكن كل جيل أضاف شيئاً جديداً . بعد معرفة وهضم ترِكة الأقدمين . فأن الحدود ما وضعت إلا لتخطيها نحو إبداع وابتكار جديد .
وهذا ما يعبر عنه بكلمات قليلة ابراهيم بن العباس الصولي: " وربما طغى القلم فوصل منفصلا ً، وفصل متصلا ً "
لم يعط قلم القصب المتعلم عبر أستاذه ، تعلم الكتابة بشكل جيد فقط، بل يعطيه أيضا ً تعلم طرق العيش، والكينونة في الحياة والتغذي بالمباديء الاخلاقية .
منذ خمسة آلاف سنة وحتى منتصف القرن العشرين ، كان التعليم يتم في آن واحد باتجاهين. الأول: يتناول المعنى كما في الكتابة المصرية القديمة، أو الصوت في الألفباء . والاتجاه الثاني وهو ما يهمني هنا ، كان يتضمن تعلم بناء شكل الحروف ... كيف نرسم الحرف ؟ من اين نبدأ وأين ننتهي ؟
بينما عندما ولد القلم الجاف في منتصف القرن العشرين. أهمل الجانب الثاني . أي أهمل الفن في الكتابة أن صح القول . وهذه الظاهرة هي ظاهرة عالمية . ويعتقد البعض أنها التطور بينما بالنسبة لي أن الإنسانية تراجعت وتخلفت في الكتابة . وأن السرعة في الكتابة هي ضرر للفرد والمجموعة ... ضرر متعدد الاتجاهات ، منها النفسية والجمالية ...
وقد يتساءل البعض عن الفائدة من هذا الكلام، ألا يمكن العودة للكتابة بالقصب في المدارس ؟ ونحن في عصر الكتابة الإلكترونية ! اعتقد انه يمكن اليوم الاستفادة من القلم كممارسة فنية كما الموسيقى. فالهدف هو التعرف على الجسم والتنفس . والاستفادة من هذا في وجود اجتماعي سليم. فقبل أن نخط بشكل منتظم على الورق ، لابد أن نخلق هذا الانتظام في داخلنا .
وبالإضافة لتحسين الكتابة. فأننا نتعلم تطويل النفس للهدوء. وفي خلال هذه العمليات أي تطويل النفس أو تقصيره، فأن الجسم يّولد موادا ً في الذهن تمنح السلام والهدوء للإنسان، أما فقدانها فيدفعه نحو العنف. وهذا العنف قد يوقظ الحيوان النائم في داخلنا .
التمرين على الحروف المدروسة يجعلنا نرسل إلى اللاوعي معلومات سليمة . إذ لابد من حفظ على ظهر قلب نسب الحروف وقياساتها. فنغذي عالمنا الفطري. إن العالم الفطري في داخلنا هو كالحجر الصلد ، وبالتعلم ننحت هذا الحجر ونصقلة ليتحول الى الجمال . بدل ان نتحمل ثقل شكله المبهم .
هنالك دائما ً تجاذب مستمر بين الحيوان الغريزي الكامن بداخلنا والإنسان الذي نريده . في بعض الظروف يتردد الإنسان في اتخاذ موقفه تجاه هذا الحيوان . فيصبح أسير الغريزة ، ويتحول إلى فرد سلبي في المجتمع .
هناك من يستطيع كبح جماح غريزته عبر الاختلاط بالآخرين ومعرفتهم وبالتالي محبتهم . والوصول إلى حقيقة جوهرية ألا وهي احترام الإنسان ... احترام الحياة .
كما يعبر عن هذا الشاعر الكوفي والبة ابن الحباب ، في القرن الثامن :
احسن من در ٍ ومرجان ِ
آثار إنسان ٍ بإنسان
وفي العصر الأموي يبالغ الشاعر الاحمير السعدي يأسه من الإنسان ويترك الغريزة تعبر في هذا المقطع الشعري . والذي لا يوجد أي تبرير له :
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصّوت إنسان فكدت أطير
* * *
تحيط القلم نصوص جميلة ، كهذا النص حول إتقان الحروف لخطاط مجهول :
"الخط يحتاج إلى سبع معانٍ: الخط المجرد بالتحقيق، والمحلى بالتحديق، والمجمل بالتحويق، والمزين بالتخريق، والمحسن بالتشقيق، والمجاد بالتدقيق، والمميز بالتفريق . "
ثم يستمر بعد ذلك بشرح هذه الكلمات بنص جميل ومقفى .
ويصف خطاط آخر ما يستحق بالجودة في الخط :
" إذا اعتدلت أقسامه / وطالت ألفه ولامه ، استقامت سطوره ، وضاهى صعوده حدوره ، وتفتحت عيونه ولم تشتبه راءه ونونه . .. "
كل هذه التعاليم لتناغم الحروف وجمالها . والنصوص ذات المعاني الإنسانية التي كان الخطاطون يخطونها . جعلت منهم وجودا ً إيجابيا ً في المجتمع الإسلامي القديم . ولم يذكر لنا التاريخ حادثة إجرام واحدة ارتكبت من قبل خطاط. ولابد من التذكير أن أعداد الخطاطين في السابق ليست مثل اليوم فقد كان عددهم يحسب بالآلاف. كان الخطاطين يتفاخرون بحملهم القلم وليس السيف .
هذه نصوص قديمة بخصوص القلم توضح لنا كيف كان المعلم يلقن تلميذه على معرفة رهيفة بالقلم :
" إن للقلم سنا ً ايمن وسنا ً ايسر، وعرضا ً، ووجها ً، وصدرا ً، وأنه يتعين على الكاتب معرفة كل منهما، ليعطي كل واحد منهما حقه في الموضع الذي يقتضيه الحال ... " السرمدي
ويؤكد الخطاطون على أهمية تحضير القلم من قبل الشخص نفسه :
" إن جودت قلمك جودت خطك ، وأن أهملت قلمك أهملت خطك . "
أمين الدين ياقوت الملكي
وإبراهيم بن المحبس يلخص الموضوع بهذه العبارة :
" الخط كله القلم "
جمهرة من المثقفين في التاريخ الإسلامي شهدوا على أهمية القلم ضد السيف ... على أفضلية الثقافة ضد العنف ...
" القلم مجهز جنود الكلام ، يخدم للإرادة ، ولا يمل الاستزادة ، يسكت قائما ً ، وينطق سائرا ً . على ارض بياضها مظلم وسوادها مضيء ... "
ابن المعتز
"ما رأينا ضربة من بطل بحسام قطعت ألف قلم. بل رأينا مترجة من قلم بمداد نكست الف علم .... "
حسن الحسيني
وإذا أمرّ على المهارق كفهُ بأنامل يحملن شختا ً مرهفا
مُتقاصرا ً، مُتطاولا ً، ومفصلا ً ومُوصلا ً ومُشتتا ً ومُؤلفا
ترك العُداة رواجفا ً احشاؤها وقلاعها قـُلعا ًهنالك رجفا
كالحية الرقشاء الا انه يستنزل الاروى اليه تلطفا
يرمي به قلما ً يمج لـُـعابه فيعود سيفا ً صارما ً ومثقفا ً
طلحة بن عبد الله
قال القلم للسيف :
" ... انا آلة الحياة وأنت آلة الردى ....
أنت للرهب وأنا للرغب ...
انا ابن ماء السماء . وأليف الغدير وحليف الهواء ...
وأما أنت فأبن النار والدخان ...
كم افنيت وأعدمت ....
وأرملت ويتمت ...
لعمرك مالسيف سيف الكمي
بأخوف من قلم الكاتب ... "
ابن الرومي
* حسن المسعود
ـ باريس ـ نيسان 2007
المصدر:
Massoudy Calligraphe