بعض الرسائل على دفتر الزوار في موقع " الفـنان العـراقي " تطلب مني الكتابة عن كيفية عمل الحبر الجيد. وأعتقد انه طلب محق، لأن من يحضر حبره سيجد تدريجيا ان خطه قد تحسن، كذلك ان تحضير الحبر الاسود يساعد على تحضير الالوان الاخرى ايضا.
من الصعـب تلخيص كيفية تحـضـير الحـبر. ولكني سـأعـمل كما الاقـدمـين بإعـطاء الوصـفات والحوار معها. وبعد مقدمة شاعرية قصيرة، سـأتكلم بشـكل موسع عن الحبر للتأكيد على أن تحـضـير الحـبر هـو أيـضا موضوع نفـسي واجتـماعي وأدبي، ويتـطـلب خيالا واسـعا مــن قــبـل الخــطــاط.
في يوم من ايام الـشـتاء الرمادية، حيث السماء مثـقـلة بالغـيوم ، والمطر ينهـمر بخطوط هـوجاء في مهـب الرياح. كـنت اشـعر بالانـقـباض والضـيق لـتـقـلص الـفـضاء المحـيط بي وبـفـقـدان الاتساع والعمق للمنظر المرئي امامي. ولكنني قررت ان لا استسلم لضغـوط الطبـيعة، بل ان احـساسـاتي ذهـبت الى ماتـعلـمـته من رؤى الفـنانيــن. وهو أن الالوان كلها متساوية في العطاء، ولا يوجد مجال هـناك لمـعاداة لون على حـساب لون آخر.
وأن الالـوان الرمادية والـسـوداء هي التي تـتجمع وتخـتــلط فـيها كل الالوان .
وقـلت في نفـسي ان الـمعـرفة والـتـحليـل لـشيء مـتعـب ســوف يـساعد حتما على تحمله. وان الايمان بأن ألوان الــشــتاء الرمادية هي جزء من الحياة والطـبيعة، سـوف يـسـهـل تـقـبلها... وان هذه الالوان تخـفي بداخلها كل الوان الربيـع الزاهــية.
ومن هـذه الافكار التي بحـثت عـنها في زوايا ذهـني المـتعـب . قررت ان اعمل خطوطا بالالوان الرمادية. أريد ان أكون أنا الالوان الرمادية، كي أتـفاعل معها ولا أكون ضحية لها، قررت ان أتحد مع اللون. وأصبح أنا والخطوط واحد.
وهـكذا عـملت على خط عـشـرات الاوراق بالخـطوط العـريضة الرمادية والـسـوداء. وضعـت اناء كبـير للحــبر الاســود وآخر للماء. وبآلات الخط أتــنـقـل من الاسـود الغامق الى الرمادي الفاتـح وتـدريجـيا ًوبعد ساعات اخـتــفى اللون الاسود لـتــبقى نغـمات رمادية فـقـط... رمادي فاتح ورمادي افـتـح... وكـنت اريد الوصول الى اقـل درجة من اللون، فبـدأت العلاقة بـين الرمادي الفـاتح والرمادي الغامق تتحول الى عــلاقات ضوئية. الرمادي الفاتح كان أكثر منيراً من الرمادي الغـامـق، وتذكرت قول نظامي: " اللــيلة الاكـثر سـوادا لها نهاية مضــيئة " فرفعت عيناي نحو الــسـماء ، وأخذت اتأمل تلك القبة الرمادية الغائمة، انها الان تبدوا لي كصـفحات ملـساء... صفحات من النور الخافـت المـريح. ألـوان رمادية لاعـدد لها، والآن أريد لها ان تدخـل في خطـوطي. ولكن هنالك فرق شاسع بيـن اللـون كضـوء وهـو الغـيوم. واللون كمادة وهـو الحبر. بين ما أراه وبين ما أعـمله على الورق. ولكني مع ذلك اريد ان يتوغل هـذا النور في خطوطي. وبقيت اعيش ألوان الـفجر وكلي أمل بأن شـعــاع الشـمس ليس بعــيداً. ولم اعد كئـيبا. ولم يعــد اللون الرمادي بالنـسـبة لي من الالوان الحزينة.... الغـيوم الـفاتحة اللون عائمة تـسـبح في الـفـضاء... ترقص مع غـيوم اخرى بلون غـامق. هالات من النور ترقص مع هالات اخرى من النور.
إذن ماهي الالوان الرمادية؟... انها اللون الابـيض عندما يفتح ذراعـيه لذرات السـواد... الالوان الرمادية... اسـمها يأ تي من رماد... والرماد يأتي بعد حرق الاشـياء... وهكذا ان الالوان الرمادية آتـية من اللون الاسود...
وما هـو اللون الاسود اذن ومــن أيــن يأتي؟ انه اللـيل كنور... وانه الفـحم كـمادة. وكل الالوان تسودّ بعد الحريق... انه جوهر الالوان، وأن الالوان كلها مجتمعة لتكوّن اللون الاسود.
أريد من هـذه المقـدمة الـتأكـيد على ان الذهـاب لتحضـير وصـفات الحـبر الاسـود هـو رغـبة داخلـية عـمـيـقة. مثلما الجوع يـدفـع الانـسان لتحضـير الاكـل .
* * *
يعرف الخطاطون اللون الاسود ويستعملونه، منذ خمسة الاف سنه، يسجلون بواسطته الذاكرة الانسانية .
الحبر هو المادة المـرئـية الاولى لـفن الخـط، بل هـو الخـط نفـسه. اما كـيـفـيـة تحـضـيره وكيفـية اسـتخدامه، وبأي كثافة تخطه القـصـبة على الـورق. كل هذه الأشياء يصعـب التـكلم عـنها بـدقـة نظرياً وبـشكل وافٍ، فبالاضافـة للـمواد واسـرارها والـتـحضـير الكـيماوي لوصـفات الـحـبر، تاتي الحالة النفسية للخـطاط .
هنالك وصفات كـثيرة تركها القدماء لتحضير الحبر ، ولكنها مختصرة، وغــير دقيقة، وتـتـطـلب التأويل، كما قـد تغيرت اسماء بعـض المواد مـما يجعـلها غير مـفهومة احيانا . وقــسم مـنها لم يعـد متـوفـر بـسـهـولة.
في الـزمن القــديم لم تكـن هــناك قــنـاني حـبــر جاهز تــباع فـي محـــلات مخــتــصة كـما في يــومــنا الحالي. انـــما كان عــلى كل خـــطاط ان يحــضــّر الحـبر بــنــفــسة، حــســب الـمـواد المــتــوفـرة في مدينـــته. لذا ابــتــكر الخطـاطـون بعـــد الـتـجارب وصــفـات جــديــدة .
الوعي باهمية الحـبر، انما هـو الوعي بالمادة الأكثر اهمية في عـمل الخـطاط. ان معـرفته لهـذه المادة يقوده الى تطـوير معـــرفــته بالخــط ايضـا. وهـذا الـوعي بالمادة الملونة انما هـو من هـموم كل الـتشــكيلـيين ايضا. فـكل الفنانـين ومنـذ العـصور القـــديــمة وحتى القـرن العـشرين كانوا يحضرون الالوان بأنــفــــسـهــم أو من قــبل مساعـديهم، فكانوا يعــرفــون جــوهــر الالــوان ومن أين تأ تي، وأصـل هذه المواد وردود فعـــلها ....
مــدى تغـــيـر لونها عــنــد الجـــفاف، وبـمرور الزمن، أو عـــند الــتــمازج مع مواد اخرى. فــهــناك ألــوان تــسـتــخرج من الارض وأخرى من الــنــباتات وثالـثة مـصـدرهـا الحــيـوانات.
لا يــتـلائــم كل حــبـر مع جميع أنواع الورق، وبهــذا لابــد من معــرفــة مــواد الحبــر والورقة الــتي يراد الخـط علــيها .
هــناك كــلمـتــان في القــامـوس العــربي لهــذه الــمادة الســـائلة الســـوداء : الكــلـمة الاولى هــي " الحـــبر " والكــلمة الــثـــانــية هــي " الــمداد " . وهــنالك تعــريف للحــبرعــند الكاتــب الاديب " الصــولي " في القرن العاشر الميلادي
وهــو :
" ســمي الحــبر حـبــرا ً لتــحــســيــنه الخط ، ومن قــولهــم حبــرت الــشــيء تحــبــيــرا ً وحــبرته حــبرا ً ، زيــنـته وحــســنــته . "
" قـــيل لخــطاط : إخـفِ رداءة خــطــك بجــودة حــبرك "
ولــكاتــب مــجهــول نــص يــعـّرف الكــلـمـة الــثــانــية " المـــداد " بــهــذه الكــلمــات :
" ســمــي مـــدادا ً لانــه يمــد الــقـــــلم ، ويــعــيــنه عــلى الاســـتــمــداد . "
وان نــستعــمل الــيـوم كلـمة حــبراكــثر من كـلمة مــداد ، فأن الــنصــوص العـربــية الــقـديــمة تــسـتـعـمل كــلمة مــداد اكــثر من كلــمة حــبر .
( مــن لــم يــحـــســن الاســتــمــداد وبـري الــقــلم ، فـلــيـس مــن الكـتابة بــشـيء ـــ المــقر العــلائي )
* * *
عـندما كـنت خـطاطا ً مبتـدءً في بغـداد وقــبلها في النجـف لم اكن اعـرف تحضير الحبر ، ولم يعـلمني احـد كيـفــية تحضيره. فكنا نــشـتـري الحــبر الصـناعي في قـناني صغـيرة تباع في محلات بــيع مواد الرسـم. وكان هـذا الحـبر اسـودا ًغامـقاً والصمغ الذي فـيه أي ما يخــلط مع الــمـواد السوداء لعـمل الحبر يكون غــير جـيد للـخط. انه مــن نوع الصـمغ الابيـض المـسـتعــمل في لصــق الخشـب يـسـتـخرجونه مــن النـفط ...
في عام 1961 كـنــت ارســم لوحة اعلانــية على الرصــيف في شــارع الرشـــيد بـبـغـداد في زقاق قرب اوروزدي باك . كــنت اعــمل وقتذاك كــمــســاعد للخـــطاط عــباس . وأذا بــرجل ثــقــيل الخطوات ، في الســـتــين من العــمر، يتــقدم مني عارضا ً عــليّ قـــنــيــنة يحملها في يده ملــيــئة بالحــبرالاســود طالباً مــني شــراءها . بــعــد ذلك قــيل لي انه الخــطاط عــبد الــقــادر وانه خــطاط جــيد لكـنما وبــســبب ادمـانه عـلى الخـمـر لم يعـــد يــســتـطـيع الخــط . فـصار يــكــتــســب رزقه مـن بــيع الحــبر الذي يحــضره بنفـــسه . وعــند تجربتي لهـذا الحبـر آنــذاك لم اجده مــقــنعـا ً اذ كان اقــل ســوادا ً من الحــبر الصــناعي واكــثـر كــثــافة . وحــتــما ً انـني لــم اكـن اعرف ان هذا الحـبر كان يـسـتـعـمل مع "اللـيـقـة " أو " الــطرة " وهـي شــريحة من خــيوط حريرية توضــع في المــحـبرة .
ولأول وهـلة ولـمن لم يـتعــلم طــرق اســتعـمال الحبر القـديم يــبـدو الـيه ان الحـبر الصناعي احـسـن وأنـظـف من الحـبرالــمــحضــّر من قـبل الخطاطــين. ثـم انني كــنت مـنـبهـرا بـثـبات الحــبر الصناعي اذ يمكن غســل الورقة بالــماء فلا يؤثر ذلك على الحـبر.
ولكـني في ذلك الزمن كــنت كلـما عـملـت خطا بالحـبرالصــناعي اجده غــير دقــيقٍ، وكــنت اعـاني من ذلك كثــيرا، ولـم اكن اعـرف ان ســبـب ذلك هــو رداءة الحــبر الصــناعي الذي اســـتعــمله . فكــنت اعود لتصـليح الحــروف وخصـوصا ً نهــاياتها الدقيقة باللون الابيـض. بـينما كـنت معـجــبا ً بدقــة وأناقــة حروف الخـطاطـيــن الكبار. وخـصوصا من تعــرفــت علــيهم كالخــطاط هـاشـــم او الخـطاط مـهــدي محــمد صالح. فقــد كانوا يحصــلون على الاناقـة للـحروف بارفــع السـلايات ولأصغر الحـروف .
الآن ادرك جـيـدا ً ان معــرفـتهم العـاليـة بالـمواد كالحـبر والورق لها جانــب مهـم في جــودة عملهــم الـفـني. وكمــثال على ذلك، فأن من يحضـر الحبـر بنــفــسـه هــو كــمن يحضــر الاكل في مـــطــبخ داره . ومن يـــشـــتري الحــبر الصــناعي هــو كــمن يقـــتــنع بأكــل المعـــلبات . ان الــمصــانع التي تــنـــتج المعــلبات لا تـبحث عــن الصحي و الــنادر والخاص وانــما تــبحث عــن المــواد المـــتــوفــرة بــســـهــولة لعـــمل آلاف العـــلب . ونفـــس الشــيء يكون في مصــانع الحــبر فأنها تحــضــر الحــبر من المــواد المتـــوفــرة بكــثـــرة . ولا تحضـــر الحــبر للخــطاط فــقـــط انمــا لاســـتعــمالات اخرى متعــــددة .
وهـكـذا عــنــدما كــنت في بغــداد ، كان يــبدوا لي ان تحــضــير الحبـــر هــو شـــيء قــديــم ، شـيء ثـانـوي ... ولم نعـد نحــتاجه بل انـني كـنت معـــجب بالالوان الصـــناعــية الـكـيـمـائـيـة الزاهـــية الــبراقـة الــسـهــلة الاســتــعــمال . فالحــبر الـمحــضـــر عــند الخــطاطــين كان يتــعــفــن في بعـض الاحــيان ، ويحـتاج لأضــافــة الصـــمغ من جــديــد او مواد اخرى ، لانه مادة حــية وتصــيـبه تحــولات عــند تركه لمــدة طويلة في محـــبرة مـغــلــقــة . بـــيـنــما الحــبر الــصــناعي كان مــيــتا ً ولايهــمه ان بــقي مــســجونا ً في المــحــبرة .
لم اكن اتصّـور ان هـذا الحـــبر الصـــناعي " الجــميل المـظهر " كان يــسـاهـم في رداءة خــطي . ولم اعرف انـذاك ان الحــبر الصــناعي يجـعل الـــمادة الــمرئـية لكل الخـطوط على الكـرة الارضـية متــشــابهــة . بـيــنما عــندما نـنــظر لخـطوط المــتاحف ، فأنــنا سـنــمتع نـظرنا بأخــتلاف الــمادة الــسـوداء للحــبر. كل خـطاط عــنده حـبر اســود يعــكـس شــخصــيــته .
ربـع الكــتابة في ســواد مــدادهــا
والربــع حــســن صــناعة الكــتـــاب
والـربــع فــي قـلــم مــلــيح بــريـه
وعــلى الاوراق رابــع الاســبــاب.
عـن ملخص الفـطر والالباب ومصباح الهـدى للكـتاب
* * *
عام 1980 كـنت اعـمل عـلى تحضـير كـتاب عـن الخــط العــربي القــديم، وعــندما وصــلت الى موضــوع الحـبر اكـتــشـفـت ان الحـبر الـمـستــعـمل ســابقا عــند الخــطـاطــين كان عـلى نوعـين : الاول يـسـمى: " الحــبر الــفحــمي " والـثـــانــي يـسـمى " الحـبر العـفــصي ـ الـمعـدني" .
الاول يعــود اســتــعــماله لاول مرة الى الخـطـاطــين المـصــريــيــن القـــدماء زمن الفــراعــنة . والثاني كـنت ابحـث عــن بداية اسـتـعـمالة ، وقـــرأت فــي بعــض الكـتـب العـربيـة، ان ابن مقــلة خـطاط بــغــداد في القــرن العـاشــر كان يــســتـعــمل العــفـص في وصـفاتــه، فـقـلت ربما انه هـو نـفـسه الـذي ابتـكرالوصفة الـثـانـية. ونـقــرأ ايضا ً ان ابن مقــلة تــرك " رســالة في عــلم الخـــط والقـــلم " محفــوظة في دار الكــتاب بالقـاهـرة . فذهبت الى القاهـــرة للاطلاع عــليها . وعـند قــراءتها وجــدت ان ابن مقـــلة لم يــذكر العــفص . والنســخة ليـسـت مخـــطــوطة بيـــد ابن مقــلة. انــما نـــســخت من قــبل خطاط آخر اسمه محـــمد الشـــافــعي عام 1663 وتوجــد نــســـخة اخرى بالمـكـتـبة الـوطـنـية بــتــونــس فــيها نفــس النصوص .
الــمعــروف ان ابن مقــلة دعا الى تبـــديل اســـلوب خــط القــرآن من الكــوفي الى النـــســخ ، وعــنده تجارب كــثــيرة في تــقــنــيات الخــط ومواده ، وهــو الــذي رســم القـــواعــد للحــروف وعمل نـــســبة مابــين حرف الالــف والدائــرة المــحيــطة به وجعــلهــما المــقــياس لــكل الحــروف الاخرى . ورغم انـنا لم نر خطـوطه ، لكنـنا نعـرف انه كان عـبقـري زمانه .
ولكـني لم اكــتـشــف حــسـنة جـديـدة لابن مقــلة بأســتعــماله لأول مرة العـفـص في الحــبر ، فأنه لم يــتـكلم عـن العــفــص . ولا ادري من الذي اضـاف ذلك الى وصفة ابن مقــلة في بعــض الكــتب العـربـية . وبعـد البـحث والتـنـقـيـب عـرفت ان هــذه الوصـفة ايـضا ً قـديــمة جدا ً . ويــعـتــقـد الــبعــض ان اســتعــمال العــفـص والاملاح الـمعـــدنـية في الحــبر يعــود اكــتــشـافـه للاغـريق منذ حوالي 2200 ســنة .
أعـود الان لـشــرح الفــرق ما بيــن النــوعـيــن :
الحــبر الــفحــمي يعــود اكــتـشــافـه الى مصــر الــفرعــونيــة ، واما ماكان قــبل العــصور المــصرية القــديــمة ، فلا نعرفه اذ لم نجد وثــائــق مخــطــوطة بالحــبر ... قـــبل عصــر حضــارة المــصــريــيـــن القــدماء كان اللون الاســود عــبارة عن مادة غامقـــة يجـــدها الانســان في ارض الكهــوف ويضــيف لها الماء ، وقد تكــن خلــيط من الطــين وبقايا النار .
والزخارف الســومرية الســوداء على الخــزف قــد تكــن من نفــس المصدر . اما الحبر كما نعــرفه اليــوم فهــو اكـــتــشــاف مصــري .
عـند تحــلـيل العــلماء للخــطوط المــصرية اكتــشــفـوا وجود الصــمغ العـربي مع المـســحوق الاســود المــكــّون للحـبر . وهـذا اكــتــشـاف مهـم ، فــقـبل اســتعـمال الصــمغ العـــربي كان الحــبر عــند تركه في الاناء تـــنزل الذرات الســوداء للاسفــل ويــبــقى الماء في الاعلى .
واســتعــمال الصـمغ العـربي غــّير كل شــيء . فالــذرات الجــزئية للصــمغ العــربي عــند اخــتلاطها بالــماء ، تعــوم فوق سطح الســائل ويصــبح الماء ممـــتــزجا ً بالصـــمغ ولاتــهــبط ذرات الصــمغ لأسـفــل الاناء بل انها تــســبح في الــماء . فتــصعد على ظهـرها ذرات السـخـام الــســوداء الناعــمة ويــتحول الــماء الى ســائل اســود نسـميه الحـبرالفـحمي او : " حــبر الكاربون " .
وهـكذا بعــد التحلــيل للكـتابة المـخـطوطه على ورق الـبردي للحضارة الـفـرعونـية . يرى العــلماء ان احد الخــطاطــين المــصــريــيـن جاءت له فــكرة مزج الصـمغ العربي مع الماء والمسـحوق الاســود، ليـهـدي للانـسـانية " الحــبر" هذا الحبر الـذي أوصـل لــنا أهـم ثــروة للـثـقــافــة العــربية، ألا وهــي كـنوز الشــعـر ، كذلك كـتابات الفارابي عن الموسـيـقى وكتابات ابن سينا عن الـطب على سـبيل الـمـثال .
أما المـواد الاسـاســية لصــنع الحـبر فيـمكن الـيوم شــراؤها أو البـحث عـنها في الطـبيعة . وللحصول على سـخــام الدخـان لتــحضــير الحــبر مثلا ً . تــوجد طــرق عــديدة ، مــنها وضع أواني خـزفـية مائـلة في أعـلى الشـــموع ، وعـند ملامــسـة اللهـب للاناء ســـيترك اللهــب سـخام الـدخان على الاناء وبعــملية دقــيــقة تــؤخذ ذرات الســخام الاســود لعــمل الحــبر . وكان هـذا يأخـذ في الـزمن القــديم اياما ً عـديدة . وهـناك من يعــمل جهــازا ً من الحــديد يــشــعل فــيه النــار ويضــع في الاعلى صـفائح مائــلة لتــجمـــيع ســواد الدخان . كان خـطاطي اسـطـنــبول يــتــزودون بــسـخام الدخان من اللــذيــن يــشــعلون النار للتـــدفــئة والــماء الحار قرب ســـور المــديــنة .
ويفضل الخطاطون السـخام المأخوذ من مادة غير جافة كالنفـط . او الـشـموع الكبــيـــرة .
في العــصر الحالي يــباع الـســخام بالكيــلوغرام في المـحلات التــي تجـــهــز المخــتــبرات العـلــمــية ، او عــند بائعي المــســاحيــق الملونة .
كـنـت في احـد الايام اشـــتـري الحــبـر الجــاف من مــحل مخــتص بمــديـنــة نارا اليــابانــية . مـحل لازال بمــكانه مــنذ الــقــرن الـســادس عــشــر . وكانت هـنالك عــشــرات الاشــكال من الحــبر الجاف على شـكل قـضـبان كالاصــابع ، كلهــا تــقـريبا ً بنفــس الحجــم لكــنما الاســـعار تخــتــلف بــشــكل مبـالغ فــيه . فكان بعــضها أغلى مائة مرة من الاخـريات . وعـندما ســـألت صـاحب الـمحل عـن ســبب هـذا الـفرق الـشـاسـع قال لي: ان الـفرق هـو مدى نعــومة المــسـحوق الاســود، وأصله وطريــقة تحضــيرة ، ولم ينــس ان يــذكر لي اهــمـية الصــمغ الذي مزجت به كل الـمواد لعـمل الحــبر . ورغم ان اليابان هـو من كبار البلدان الصناعيـة ، الا ان الخطاطين هنـاك لازالوا يسـتعـملون الحبـر القـديم . ولا يـحـبذون اسـتعــمال الحــبر الصناعي للـخـط . ويعـتـبر اليابانـيـون ان أحد روافد تقـدمهم الصناعي هو اسـتمرارية الفـنون والمهـن القـديمه . لأنها تعـلـمهم الدقـة والذوق الراقي للاشكال. والذي انعـكــس على صـناعاتهـم الالكــترونية .
اما الصـمغ العربي والـمـسـتعـمل بكـثرة في صناعة الحـبر عـنـد الخطاطين فأنـه مــســتـخرج من شــق يعــمل على اغـــصان بعــض ا شـجار الاقـاصـيا في الصـحراء الحارة . والخطاطون العـرب الـقــدماء كانــوا يجــدون الصــمغ الجــيد في صـحراء دول الخلـيج ايضا ً. وهـو نفــس الصــمغ الاصـفر الذي نجده عــند باعة القــرطاســية . وتــوجد انـواع متــعـددة من الصمـغ العـربي ، ويعـود ذلك الى الاشــجار ومــناطق وجـودها ومـدى ارتـفـاع درجة الحرارة فــيـها . واسـتعمال الصمغ العـربي واسـع ولا يمكن حصره . كان ولازال يدخـل في بعض الادوية . في وصـفات الاكل وفي صـناعات عـديـدة . كان الخـطاطون في الزمن القــديـم ، يـبلعـون حبة من الحبر الجاف ، عـندما تكون يشعرون باوجاع في المعـدة. فهـم يعـرفـون ما وضعــوا من المواد لتحضـيره . كالصــمغ والفحـم ... وبـدون الصمغ العـربي لايمكن عمل " الليتوغرافي " أي الطـباعة المـلونة بواسطة الصخر، قـبل معرفة الاوفـسيت ، ولازال التـشــكيــليــون يـسـتعـملون هـذه الطريقة اليدوية بالطباعة لاعـمالهم المـســتــنســخة .
ان وصـفة الحـبر الفـحمي الآ تـية من مـصر الـقــديـمة اســتـمرت ليـومــنا الحاضــر . ويــســتعــملها الخــطاطــون في العــالم العـــربي مع اضافات متعـــددة لتحــســيـنها فــمـنهم من يضــيف القــلــيل من العــسـل لاعــطاء مرونة وســيــولة، او المــلح والـشــب.
لقــد رأيت في صـحراء مـوريتانيا اطــفالاً لازالوا يحـضّرون الحـبر بهـذه الوصــفات البــســيطة . فـيأخــذون مســحوقا ً ناعـما ً من بقــايا النــار الاســود ، ثم يصــعدون على شــجرة قــريــبة يـبــحثــون عن قطـرات جافــة من الصـمغ ، ويخــلطــون كل هــذا في اناء صغــير من الطيــن ، ليكــتـبوا بقــلم القــصب الذي يأخــذونه من نبــاتـات الصـحراء المحـيطة بهم ، ويكــتبون على قـطعة من الخـشــب يسمـونها " اللوحة ". عـندما ارى هـذا المنـظر امامي اشـعر بانـني اشـاهــد الانـسـان يكـتب كما كان قــبل الآف السـنـين... اكـتـفاء ذاتي وممـارسة فـنـــية
وهكذا فان الحـبر الفـحمي هـو اقــدم حـبر ويعــود الى حوالي خمــسة الآف ســنة .
اما الحـبر الثـاني المــسـمى بالحبــر " العــفــصي ـ الـمعــدني " والــذي يعــود الى حوالي الالفـين ســنة، فيرى المـؤرخـون انه من ابتكار الاغـريق. فـتـستعـمل فـيه مادة " الدبـغ " الـتي تــتــوفـر في العــفص بحــوالي 40 بالـمائة وتــتوفر في نبـاتات اخرى كالبلوط او قــشــور الرمان .... بنــســب قــلــيلة .
لذا فان العــفـص يدخل في العــشــرات من الوصــفات في دول ما حول حوض البــحر الابيــض المــتوسـط. والعــفص هـو مرض يأتي على بعــض اوراق شــجرة الــبلوط فيـكون كرة صغــيرة هي العــفصة. وأحسـن العـفص هو عـفـص حلب وحجـمه كالجـوزة . وكـنت اجده بسـهـولة في باريـس في الثـمانيـنات. في المحلات التي تكـثر فيها عـوائل مهاجرة من دول شـــمال افريقـيا. حيـث يســتـعـمـل لـتـقـويـة وتـلـوين شـعـر الرأس. ولـحـد الآن يـتــوفـر بسهـولة ولـكن بحجم صغـير جدا. ويـباع بالكـيلوغرام .
كيف نـسـتخرج مادة الدبغ من العـفص ؟
في الوصـفـات العـربية القـديمة او الوصفات الغـربية نجد طريقـتين : الاولى تـتم بوضع العـفص مع الماء في قـدر وتركه على النار لمدة ساعـتـيـن بحرارة تعـادل 90 درجة أي قـبل الغـليـان . ومن ثم تصـفـيته لأخـذ المحلول النـقي .
والطريقة الـثانية للحصول على مادة الدبغ تـتم بوضع العـفص مع الماء في اناء وتركه لاسابـيع .
وفي الـسابـق كان للخطاطين طوال الـسـنة اناء يحوي على هـذا السائل، ياخذون منه دائما ما يحتاجونه ويضـيفون الماء والعفص كلما قل السائل في الاناء .
كيــف يتحول ســائل الدبــغ الى حــبر ؟
لابد من اضــافــة الــمادة الـثــانـيــة المــحمــلة بذرات معــدنيــة . في الوصــفات العــربية القـــديــمة يطلــق علــيها اســـم " الزاج " ويــمــكن ان نجـد اليــوم اشـــياء متعــددة تعــطي نفــس النـتـيـجة كـســلـفـات الحـديد او ســلفات النحاس. ولكن ابــسـط طريقـة للحصول على ســائل مــشــبع بأملاح الحــديد، يتم بأخذ مــســامــير قــديمــة صـدئه ، او اشـــياء اخرى حديــدية مـشــابهة ، ووضــعها في اناء مع الخل وبعد اســـابيــع ســوف تــتــآكل المـســامــير بفــعــل الخل ويصــبح الــسـائل مــمتــزجا ً بأملاح معــدنية.
وعــند مـزج ســائل الدبــغ مع الخــل المحـــمل بالحــديد وبأ تصـــالهــما بالاوكســجـين يتحول المــزيج تــد ريجــيا ً الى حـبر اســود . ولكنه يخـتــلف كل مرة حــســب اخــتلاف المــواد وكــثــا فــتها. وهــنا لابد من الــتجربـــة الــمــتــكررة لمــن يحضــر الحــبر لاول مرة .
وتــدريجــيا ً يتــحــسـن الحــبر وبعــضهــم يضــيف اليه سـواد الدخان لاكـثــار الســواد . وآخرون يضــيـفون الــشــب المــطحون ومن خــصائصــة انه يـزيد من الســواد ويــسـاعد على تمــاســك المــواد فــيما بــيــنها . ولابــد من اضـافة الصـــمغ العــربي . الذي يـثـبــته على الورق . ويـرفع من كــثـافــة الحــبر . ان هــذا النــوع من الحــبر يكون بحاجة الى لـيـقـة " طـرة " داخل المحـبرة . ويمكن ان تكـون اسـفــنجة طــبــيعــية . او خــيـوط من الحرير .
وقد قال اسحاق ابن ابراهـيم : ومما يزيد الخط حـسنا ً، ويـمـكن له في الـقـلب مـوضـعا ً ، شـــدة ســـواد المـــداد ..
وبعــض الخــطاطــين يضــيف للحــبر ماء الورد او الـقـــرنـفـل ، او الـمـســك لتــطيــيـب رائـحة الحـبر .
مـداد المـحابـر طــيـب الرجال
وطـيـب الـنـساء من الزعـفران
فهذا يـلــيــق بأثـــواب ذا
وهـــذا يـــلـــيــق بــثـــوب الحـسان.
ابو عـبـد الله الــبـلوي
المــقـاديــر القــديــمة الـمذكـورة في الوصفات اكـثرها غـير دقــيـقــة ولابــد من الـتجارب المــتـعــددة . ويــتــطــلب الحــبر لـتــما ســكه تحــريكه بكــثرة لدمــج المـواد فــيــما بــيـنها . وفي الوصــفات العــربية الـقـــديــمة نـصــائح تــثـــير الضــحــك ، ولكـن لها حـقــيـقــة . فــمـثــلا يقــال انه من الضــرورة هز قــنــيــنة الحــبر الآف المــرات . ولــمن لايــســتطــيع ذلك يــعــطــيها الى صــديق يــسـافر الى مكة ليربطها على ظهــر البعــيــر . او اعــطــائها الى صــاحب حــمام لربطـها على الـباب .
" لاتجزعن من المداد ولطخه ان المداد خلوق ثوب الكاتب "
محـمـد بن مـوسى الرازي
* * *
وصـفـة الحــبر لأبن مقــلة كـما جاءت في نــســخة محمــد الشـــافــعي 1663 القــاهــرة والمــنــسـوخة عــن كــتاب ابن مــقـلــة المـفـــقود :
أجـود الـمــداد ما أخــذ من دخان النـــفـط بأن يــؤخــذ مــنه ثـــلاثــة أرطال فــيـجاد تخــلصـها وتصــفــيــتها وتــلقــى في طنــجــير ويصــب عــليه من الماء ثــلاثــة امثـــاله ومن العـــســل رطــل واحــد ومــن المــلح خمـسـة عــشــر درهــما ً ومن الصــمغ المــســحــوق وزن عـشـرة دراهـم ويـسـاط عــلى نار ليـــنة حــتى يثـــخن جــرمه ويصــيـر دُهـــنه كالـطــيـن ويــترك في اناء ويـسـتـعـمـل عـنــد الحـاجة بقــدر مايكـتـفي به .
وهـناك وصفات مبـســـطة لتــحضــير الحــبر الاســـود كهذه الوصفة لأحد الخــطاطين القـــدامى :
" ضـع ورد جـوري في قــدر كبــير ، ثم دعه يغــلي بالــماء الحار ، حــتى ينحل ، ويــقـطر مـنه ماء الورد ، ثــم خــذ البــقــيــة ( الحــثــالة ) او العـصارة على لغـة اهل الصــناعة . ضع فـيها ( حديد صـدء ) فيــتـفاعل معها بالـتأكــسـد ، ويــتـــبدل لون الحـثـــالة الى اســـود ، ثم تجـــفــف هـــذه الحـــثــالة حـتى تكون كالفصـوص، ثم تطـحن جـيدا ً وتـذاب بالمـاء الحار فـــتــكون اســودا ً .
يضــاف الى هـــذا الحــبر ، قـليــل من الصــمغ العـــربي حتى يــلـتــصق الحــبر بالورق عــند الكــتابة ، ولا يســقـط بالنــفــض او النـــفخ ، كذلـك يكتـــسـب الحـبر من الصــمغ لمعــانا ً . "
وهـذه وصـفة قـد يـمة لمـداد من مديـنة الكــوفة :
" تأخـذ قــشــور الـرمان ، تحـرقـه ، وتأخـذ رماده ، تعـجـنه بلـبــن حلــيـب وشـيء من صـمـغ محـلول .
ثـم اجـعـله ا قــراصا ً ، وجــفـفه في الـظل ، فأنه اجـود مايكون من المـداد ."
وعــند الاطلاع على وصفــات الحــبر القــديمة نــجد ان اكثــر الخــطاطــين كانوا يحاولون تحــسـيـن الحــبر بإضــافات جديـــدة ، فهــناك من يحــمص الرز كالقهـوة حتى يصبح اســـود ثم ُيـبرّد ويُــطـحن ويُخـــلط بالصـــمغ ويتـــرك في الـشـمـس لــعــدة ايام ، يضــاف اليه الصـبر لمـنع مجيء الـذباب علـيه، وبعضـهم يضـيف اليه الـسـخام المتجـمع من الشـموع التي تستخدم في حفلات العـرس الكبــيــرة .
خطــاط آخــر يحرق نوى التـــمر ثم يطـــحنها ويضـــيــفها للحــبر. وفي دول المغــرب العــربي ، ولحـــد اليــوم ، في بعـــض المــناطــق يحرقــون بقـــايا خــروف من قــطع جلــد وصــوف وقــرون حتى التـكلــس ، والعجيـنة السـوداء الـتي تــتـكون يكـفـي خلــطها بالــماء لتــكون حبــرا بــنــيا ًجـيدا ً، يــســتــعــمل للوحات الخــشــبــية في الـمـدارس القــرآنــية . وحـتما ً كان هـذا النــوع من الحــبريـســتعــمل في الماضي للخط على جلود الحــيوانات . وكل هــذه الأشـــياء المــخـلوطة في عـمل الحــبر تــتــطلب تصــفيــة ، واحــســن شيء يـســتـعـمل للـتصفـية هـو الـقـماش النــاعـم جدا ً كالحــرير او كالـجوارب النــسـائــية الــناعــمة .
وهـنا يتكلم ابن شهــيد في القـرن 12 عن نـظافـة الحبر والاعـتـناء به :
" انما مدادكم ماء ديــباجتـــكم وصــبغة امانتــكم ، فأســتـنـظفـوه اسـتـضا فـتكم لـملابـسـكم ، وأسـتجـملوه اســتجـمالكم لمـصابغـكم ، وإنـما خطـوطـكم خلـفاء الـسـنـتـكم وخطبـاء عـقـــولكـــم ..."
ابــن الــبواب في القــرن الحادي عــشــر يتــكلم عن الحــبر :
وألـق دواتـك بالـدخان مـدبــرا ً بالــخل او بالحــصــرم المعــصور
وأضــف اليــه مغــرة قــد صـولت مع اصــفر الزرنيــخ والكافــور
حتـى اذا ماخــمــرّت فأعــمــد الى الورق النــقي الـناعــم المـخبـور
ويعتني الخطاطون بالدواة وهـناك اوصـاف مـتعددة لها ويضع أكثر الخطاطين فيها ليقة ، وهـي كمية من خيوط الحرير . وتـسمى ايضا ً طرة . ويمكن كذلك وضع اسفنجة طبيعية تـساعد القلم على اخذ الكمية الملائـمة من الحـبر .
وتوجد نصــوص ادبـــية وأشـــعار كــثـــيرة حول المــحــبرة .
وهــذا النــص يعــود للخــطاط احمــد بن بنــت الاعـــز . اذ انه ترك الدواة لــمدة طــويلة دون ان يخـط لانه لم يحصل على عمل له . وعند عودته للمـحـبرة فـيــجد البــياض قد غـطى الســواد بســـبب التعـــفن فقــال :
تعــطـلــت فأ بيــضت دواتي لحـزنها
ومــذ قــل مالي قــل منها مـدادهـا
وللــنـاس من ســـود اللــباس حدادهــم
ولكــن مــبــيض الدواة حدادها
وقد عبر الخـطاطون عن مـشاعرهم بأستعارات عن مواد عملهم، وعن المداد ومركباته كما في النـص التـالي :
" قال ابو هـفان الـشــاعر العـباســي ، ســألت خــطاطا ً عن حاله فــقـال : عــيـشـي أضــيق من محــبرة ، وجـســمي أدق من مـســــطرة ، وجاهــي أرق من الزجاج ، ووجهــي عــند الــناس أشـــد من ســواد الحــبر بالزاج ، وحــظي أخــفى من شـــق الــقـلم ، وبدني اضعــف من قصــبة ، وطــعامي أمّر من العــفص ، وشــرابي أحــر من الحــبر ، وســوء الحال ألــزم لي من الصــمغ .
فــقــلت له عــبرت عن بلاء بــبلاء .... "
وكان عـمل الخطاطين في الماضي يقـترب من العـمل الســياسي ايـضا فعـندما أراد ابن المقـفع فـضح الـسـفاح اســتعـمل الحـبر الســري والكــتابة بالحـبر الـســري تـــتم اولا بالكـتـابة بالــمحـلول الــشـفاف المـســتخــلص من العــفص . فـتكون الحــروف غـير مرئية عـند الجفاف. وترسل الرســالة الى الــشــخص الذي يــجــب ان يــقــرأها . فــيــمرر عليــها قــطنة مــبللة بالـمحلول المــكون من الخل والاملاح الـمعــدنــية كما ذكرنا ســابقـا ً بوصــفة الحـبر ، فــتــظهر الكــتابة ســوداء . ويمكن قراءتها .
وهــناك نص قـديم يتــكلم عن هــذه الوصــفة :
" ..إن َقــتل الخلــيــفة ابن المقـــفع ، فأن طريقــتــه الســـرية في تهــريب الكلام الحر انـتــقــلت الى الـقـرامــطة فــحــملوهــا دعــوتــهم الى الثــورة والعــدل .
ثم بلغــت محــمد بن علي فدعا بها الزنوج بــســباخ البــصرة الى كــسر الاغــلال ... وأنــتهى هــذا الحــبر الى اخوان الصفـا فدونوا به رســائلهم الســرية الداعــية الى اســقاط الخلافــة العــباســية المـــتهــرئة .
وكاد المخــبرون والوشــاة يلــقــون الــقــبض على الطريقــة الســرية لاســـتحضـار هــذا الحبر لما داهــموا دار الاديب الــفــيلــســوف ابن الراوندي في الــقرن التــاســع وقــتـلوه ... الا ان احدى معــشــوقات الفــيلــســوف تــمكــنت من اخــفاء الوصفة بيــن نــهديها وهــربت ... وتجوب هــذه الوصـــفة الآن بلاد العـــرب متخـــفــية عن عــيون الســلــــطان ... "
ويعـبرابي بكـر محمـد بن يحـيي عن اهــمـية الحـبر والقــلم بالكــلمات الـتالـية :
" ... فـما رأيـنا مـدادا ً قـبل ذاك دما ً ولا رأيـنا حـساما ً قـبل ذا قصـبا ... "
وقـبل الف سـنة كانت التـقارير السـرية التي ترسـلها المـدن للســلطان ، تـكـتـب من قـبل الخطاط . ولكـنه عـندما كان يـراهـا ظالــمة ، فأنه يكـــتـبها بحــبر رديء كي لاتــقرأ . كما يعـلــمـنا النــص التــالي لاحــمد بن ابراهــيم :
" كان مــشـايخ الكـتــــّــاب وزهـاد العـــمال يخــتارون ان يكون مايــرفــعــونه من جـــماعــاتهـم الى دواويــن الســلطان بخـط غــير جــيد ومداد غــير حالك ، في صحف مظــلمة ، ليثـــقــل على من يرد عــليه من المــتــصـفحين ، فــيـعـدل عـنها الى غــيرها مــما لايــتعــبه ..."
وأخيرا ً ما هي اهــمية تحضــير الحــبر في عــصرنا الحالي ؟
اولا ً: للخطاط المهني ضرورة لابد مـنها لتحسـين خطه ، واضفاء الاناقــة لأشــكال حروفه .
ثـانـيا ً: ان هــذه المعـرفة ســوف تعــطي الخطــاط ( او الفــنان التــشـكـيلي ) الحـرية لتحضــير الالوان حـسـب المــواد المتــوفرة بالـمكان الذي يتواجد فيه ، فأن وصفات الحــبر الاســود هي الــقاعدة الــتي يمكن ان تطــبق لتحضـير بقـية الالوان ، وذلك بتــبديل الســخام الاســود بمــســـحوق ناعــم ملون آخـر .
لتحضــير لون ترابي مثلا ً يكــفي عــند التــجول في الريف اخذ طين غامـق اللون من الارض ومن الافـضل ان يمــيل لونه للـصفرة او للـحمرة . وثم خلــطه بالـماء في اناء كـبـيــر ، وتركه يــترســب لمدة قــليــلة ، ثم اخــذ الماء الخابط في اناء آخر وتركه في الشـمــس حتى يجــف ، وما ســوف يترســب في قعــر الاناء من قــشــرة ملونة ، تطحن لكي تصــير ناعــمة جدا ًوهــذا هــو المــســحوق الـملون الذي يــسـتــعـمله كل الفـنــانيــين للحصـول على الالوان التــرابـية . وتطبق عليه نفــس وصــفة الحبــر الاســود .
وإن أردنا لونا ً كثـــيفا ً فيـجب خلط المـسحوق الملون مع قـليل من الـماء ، حتى يصبح كالمـعجون ، وثم يضاف اليه الصمغ لكي يثــبت على الورق عند اســـتعــماله .
وهكـذا يكون بالامكان انـتاج الوان لا تـشابه الالوان التجارية ان كان المتوفر منها رديــئا، وكذلك يمكن ايضا ً تحـســين الالوان المــباعة بخلــطها بمواد نــبــيلة كالمــسـحوق التــرابي الذي عــملناه . فالاحبارالصــناعية ذات الوان فاقــعة وفـقـــيرة ، وبمجرد خلطها بمــســحوق ملون جــيد فــســوف تكون اكثـــر نــبلا ً وأكـــثر ثراء ً .
* حسن المسعود ـ باريس ـ كانون الثاني 2007
المصدر:
Massoudy Calligraphe
من الصعـب تلخيص كيفية تحـضـير الحـبر. ولكني سـأعـمل كما الاقـدمـين بإعـطاء الوصـفات والحوار معها. وبعد مقدمة شاعرية قصيرة، سـأتكلم بشـكل موسع عن الحبر للتأكيد على أن تحـضـير الحـبر هـو أيـضا موضوع نفـسي واجتـماعي وأدبي، ويتـطـلب خيالا واسـعا مــن قــبـل الخــطــاط.
في يوم من ايام الـشـتاء الرمادية، حيث السماء مثـقـلة بالغـيوم ، والمطر ينهـمر بخطوط هـوجاء في مهـب الرياح. كـنت اشـعر بالانـقـباض والضـيق لـتـقـلص الـفـضاء المحـيط بي وبـفـقـدان الاتساع والعمق للمنظر المرئي امامي. ولكنني قررت ان لا استسلم لضغـوط الطبـيعة، بل ان احـساسـاتي ذهـبت الى ماتـعلـمـته من رؤى الفـنانيــن. وهو أن الالوان كلها متساوية في العطاء، ولا يوجد مجال هـناك لمـعاداة لون على حـساب لون آخر.
وأن الالـوان الرمادية والـسـوداء هي التي تـتجمع وتخـتــلط فـيها كل الالوان .
وقـلت في نفـسي ان الـمعـرفة والـتـحليـل لـشيء مـتعـب ســوف يـساعد حتما على تحمله. وان الايمان بأن ألوان الــشــتاء الرمادية هي جزء من الحياة والطـبيعة، سـوف يـسـهـل تـقـبلها... وان هذه الالوان تخـفي بداخلها كل الوان الربيـع الزاهــية.
ومن هـذه الافكار التي بحـثت عـنها في زوايا ذهـني المـتعـب . قررت ان اعمل خطوطا بالالوان الرمادية. أريد ان أكون أنا الالوان الرمادية، كي أتـفاعل معها ولا أكون ضحية لها، قررت ان أتحد مع اللون. وأصبح أنا والخطوط واحد.
وهـكذا عـملت على خط عـشـرات الاوراق بالخـطوط العـريضة الرمادية والـسـوداء. وضعـت اناء كبـير للحــبر الاســود وآخر للماء. وبآلات الخط أتــنـقـل من الاسـود الغامق الى الرمادي الفاتـح وتـدريجـيا ًوبعد ساعات اخـتــفى اللون الاسود لـتــبقى نغـمات رمادية فـقـط... رمادي فاتح ورمادي افـتـح... وكـنت اريد الوصول الى اقـل درجة من اللون، فبـدأت العلاقة بـين الرمادي الفـاتح والرمادي الغامق تتحول الى عــلاقات ضوئية. الرمادي الفاتح كان أكثر منيراً من الرمادي الغـامـق، وتذكرت قول نظامي: " اللــيلة الاكـثر سـوادا لها نهاية مضــيئة " فرفعت عيناي نحو الــسـماء ، وأخذت اتأمل تلك القبة الرمادية الغائمة، انها الان تبدوا لي كصـفحات ملـساء... صفحات من النور الخافـت المـريح. ألـوان رمادية لاعـدد لها، والآن أريد لها ان تدخـل في خطـوطي. ولكن هنالك فرق شاسع بيـن اللـون كضـوء وهـو الغـيوم. واللون كمادة وهـو الحبر. بين ما أراه وبين ما أعـمله على الورق. ولكني مع ذلك اريد ان يتوغل هـذا النور في خطوطي. وبقيت اعيش ألوان الـفجر وكلي أمل بأن شـعــاع الشـمس ليس بعــيداً. ولم اعد كئـيبا. ولم يعــد اللون الرمادي بالنـسـبة لي من الالوان الحزينة.... الغـيوم الـفاتحة اللون عائمة تـسـبح في الـفـضاء... ترقص مع غـيوم اخرى بلون غـامق. هالات من النور ترقص مع هالات اخرى من النور.
إذن ماهي الالوان الرمادية؟... انها اللون الابـيض عندما يفتح ذراعـيه لذرات السـواد... الالوان الرمادية... اسـمها يأ تي من رماد... والرماد يأتي بعد حرق الاشـياء... وهكذا ان الالوان الرمادية آتـية من اللون الاسود...
وما هـو اللون الاسود اذن ومــن أيــن يأتي؟ انه اللـيل كنور... وانه الفـحم كـمادة. وكل الالوان تسودّ بعد الحريق... انه جوهر الالوان، وأن الالوان كلها مجتمعة لتكوّن اللون الاسود.
أريد من هـذه المقـدمة الـتأكـيد على ان الذهـاب لتحضـير وصـفات الحـبر الاسـود هـو رغـبة داخلـية عـمـيـقة. مثلما الجوع يـدفـع الانـسان لتحضـير الاكـل .
* * *
يعرف الخطاطون اللون الاسود ويستعملونه، منذ خمسة الاف سنه، يسجلون بواسطته الذاكرة الانسانية .
الحبر هو المادة المـرئـية الاولى لـفن الخـط، بل هـو الخـط نفـسه. اما كـيـفـيـة تحـضـيره وكيفـية اسـتخدامه، وبأي كثافة تخطه القـصـبة على الـورق. كل هذه الأشياء يصعـب التـكلم عـنها بـدقـة نظرياً وبـشكل وافٍ، فبالاضافـة للـمواد واسـرارها والـتـحضـير الكـيماوي لوصـفات الـحـبر، تاتي الحالة النفسية للخـطاط .
هنالك وصفات كـثيرة تركها القدماء لتحضير الحبر ، ولكنها مختصرة، وغــير دقيقة، وتـتـطـلب التأويل، كما قـد تغيرت اسماء بعـض المواد مـما يجعـلها غير مـفهومة احيانا . وقــسم مـنها لم يعـد متـوفـر بـسـهـولة.
في الـزمن القــديم لم تكـن هــناك قــنـاني حـبــر جاهز تــباع فـي محـــلات مخــتــصة كـما في يــومــنا الحالي. انـــما كان عــلى كل خـــطاط ان يحــضــّر الحـبر بــنــفــسة، حــســب الـمـواد المــتــوفـرة في مدينـــته. لذا ابــتــكر الخطـاطـون بعـــد الـتـجارب وصــفـات جــديــدة .
الوعي باهمية الحـبر، انما هـو الوعي بالمادة الأكثر اهمية في عـمل الخـطاط. ان معـرفته لهـذه المادة يقوده الى تطـوير معـــرفــته بالخــط ايضـا. وهـذا الـوعي بالمادة الملونة انما هـو من هـموم كل الـتشــكيلـيين ايضا. فـكل الفنانـين ومنـذ العـصور القـــديــمة وحتى القـرن العـشرين كانوا يحضرون الالوان بأنــفــــسـهــم أو من قــبل مساعـديهم، فكانوا يعــرفــون جــوهــر الالــوان ومن أين تأ تي، وأصـل هذه المواد وردود فعـــلها ....
مــدى تغـــيـر لونها عــنــد الجـــفاف، وبـمرور الزمن، أو عـــند الــتــمازج مع مواد اخرى. فــهــناك ألــوان تــسـتــخرج من الارض وأخرى من الــنــباتات وثالـثة مـصـدرهـا الحــيـوانات.
لا يــتـلائــم كل حــبـر مع جميع أنواع الورق، وبهــذا لابــد من معــرفــة مــواد الحبــر والورقة الــتي يراد الخـط علــيها .
هــناك كــلمـتــان في القــامـوس العــربي لهــذه الــمادة الســـائلة الســـوداء : الكــلـمة الاولى هــي " الحـــبر " والكــلمة الــثـــانــية هــي " الــمداد " . وهــنالك تعــريف للحــبرعــند الكاتــب الاديب " الصــولي " في القرن العاشر الميلادي
وهــو :
" ســمي الحــبر حـبــرا ً لتــحــســيــنه الخط ، ومن قــولهــم حبــرت الــشــيء تحــبــيــرا ً وحــبرته حــبرا ً ، زيــنـته وحــســنــته . "
" قـــيل لخــطاط : إخـفِ رداءة خــطــك بجــودة حــبرك "
ولــكاتــب مــجهــول نــص يــعـّرف الكــلـمـة الــثــانــية " المـــداد " بــهــذه الكــلمــات :
" ســمــي مـــدادا ً لانــه يمــد الــقـــــلم ، ويــعــيــنه عــلى الاســـتــمــداد . "
وان نــستعــمل الــيـوم كلـمة حــبراكــثر من كـلمة مــداد ، فأن الــنصــوص العـربــية الــقـديــمة تــسـتـعـمل كــلمة مــداد اكــثر من كلــمة حــبر .
( مــن لــم يــحـــســن الاســتــمــداد وبـري الــقــلم ، فـلــيـس مــن الكـتابة بــشـيء ـــ المــقر العــلائي )
* * *
عـندما كـنت خـطاطا ً مبتـدءً في بغـداد وقــبلها في النجـف لم اكن اعـرف تحضير الحبر ، ولم يعـلمني احـد كيـفــية تحضيره. فكنا نــشـتـري الحــبر الصـناعي في قـناني صغـيرة تباع في محلات بــيع مواد الرسـم. وكان هـذا الحـبر اسـودا ًغامـقاً والصمغ الذي فـيه أي ما يخــلط مع الــمـواد السوداء لعـمل الحبر يكون غــير جـيد للـخط. انه مــن نوع الصـمغ الابيـض المـسـتعــمل في لصــق الخشـب يـسـتـخرجونه مــن النـفط ...
في عام 1961 كـنــت ارســم لوحة اعلانــية على الرصــيف في شــارع الرشـــيد بـبـغـداد في زقاق قرب اوروزدي باك . كــنت اعــمل وقتذاك كــمــســاعد للخـــطاط عــباس . وأذا بــرجل ثــقــيل الخطوات ، في الســـتــين من العــمر، يتــقدم مني عارضا ً عــليّ قـــنــيــنة يحملها في يده ملــيــئة بالحــبرالاســود طالباً مــني شــراءها . بــعــد ذلك قــيل لي انه الخــطاط عــبد الــقــادر وانه خــطاط جــيد لكـنما وبــســبب ادمـانه عـلى الخـمـر لم يعـــد يــســتـطـيع الخــط . فـصار يــكــتــســب رزقه مـن بــيع الحــبر الذي يحــضره بنفـــسه . وعــند تجربتي لهـذا الحبـر آنــذاك لم اجده مــقــنعـا ً اذ كان اقــل ســوادا ً من الحــبر الصــناعي واكــثـر كــثــافة . وحــتــما ً انـني لــم اكـن اعرف ان هذا الحـبر كان يـسـتـعـمل مع "اللـيـقـة " أو " الــطرة " وهـي شــريحة من خــيوط حريرية توضــع في المــحـبرة .
ولأول وهـلة ولـمن لم يـتعــلم طــرق اســتعـمال الحبر القـديم يــبـدو الـيه ان الحـبر الصناعي احـسـن وأنـظـف من الحـبرالــمــحضــّر من قـبل الخطاطــين. ثـم انني كــنت مـنـبهـرا بـثـبات الحــبر الصناعي اذ يمكن غســل الورقة بالــماء فلا يؤثر ذلك على الحـبر.
ولكـني في ذلك الزمن كــنت كلـما عـملـت خطا بالحـبرالصــناعي اجده غــير دقــيقٍ، وكــنت اعـاني من ذلك كثــيرا، ولـم اكن اعـرف ان ســبـب ذلك هــو رداءة الحــبر الصــناعي الذي اســـتعــمله . فكــنت اعود لتصـليح الحــروف وخصـوصا ً نهــاياتها الدقيقة باللون الابيـض. بـينما كـنت معـجــبا ً بدقــة وأناقــة حروف الخـطاطـيــن الكبار. وخـصوصا من تعــرفــت علــيهم كالخــطاط هـاشـــم او الخـطاط مـهــدي محــمد صالح. فقــد كانوا يحصــلون على الاناقـة للـحروف بارفــع السـلايات ولأصغر الحـروف .
الآن ادرك جـيـدا ً ان معــرفـتهم العـاليـة بالـمواد كالحـبر والورق لها جانــب مهـم في جــودة عملهــم الـفـني. وكمــثال على ذلك، فأن من يحضـر الحبـر بنــفــسـه هــو كــمن يحضــر الاكل في مـــطــبخ داره . ومن يـــشـــتري الحــبر الصــناعي هــو كــمن يقـــتــنع بأكــل المعـــلبات . ان الــمصــانع التي تــنـــتج المعــلبات لا تـبحث عــن الصحي و الــنادر والخاص وانــما تــبحث عــن المــواد المـــتــوفــرة بــســـهــولة لعـــمل آلاف العـــلب . ونفـــس الشــيء يكون في مصــانع الحــبر فأنها تحــضــر الحــبر من المــواد المتـــوفــرة بكــثـــرة . ولا تحضـــر الحــبر للخــطاط فــقـــط انمــا لاســـتعــمالات اخرى متعــــددة .
وهـكـذا عــنــدما كــنت في بغــداد ، كان يــبدوا لي ان تحــضــير الحبـــر هــو شـــيء قــديــم ، شـيء ثـانـوي ... ولم نعـد نحــتاجه بل انـني كـنت معـــجب بالالوان الصـــناعــية الـكـيـمـائـيـة الزاهـــية الــبراقـة الــسـهــلة الاســتــعــمال . فالحــبر الـمحــضـــر عــند الخــطاطــين كان يتــعــفــن في بعـض الاحــيان ، ويحـتاج لأضــافــة الصـــمغ من جــديــد او مواد اخرى ، لانه مادة حــية وتصــيـبه تحــولات عــند تركه لمــدة طويلة في محـــبرة مـغــلــقــة . بـــيـنــما الحــبر الــصــناعي كان مــيــتا ً ولايهــمه ان بــقي مــســجونا ً في المــحــبرة .
لم اكن اتصّـور ان هـذا الحـــبر الصـــناعي " الجــميل المـظهر " كان يــسـاهـم في رداءة خــطي . ولم اعرف انـذاك ان الحــبر الصــناعي يجـعل الـــمادة الــمرئـية لكل الخـطوط على الكـرة الارضـية متــشــابهــة . بـيــنما عــندما نـنــظر لخـطوط المــتاحف ، فأنــنا سـنــمتع نـظرنا بأخــتلاف الــمادة الــسـوداء للحــبر. كل خـطاط عــنده حـبر اســود يعــكـس شــخصــيــته .
ربـع الكــتابة في ســواد مــدادهــا
والربــع حــســن صــناعة الكــتـــاب
والـربــع فــي قـلــم مــلــيح بــريـه
وعــلى الاوراق رابــع الاســبــاب.
عـن ملخص الفـطر والالباب ومصباح الهـدى للكـتاب
* * *
عام 1980 كـنت اعـمل عـلى تحضـير كـتاب عـن الخــط العــربي القــديم، وعــندما وصــلت الى موضــوع الحـبر اكـتــشـفـت ان الحـبر الـمـستــعـمل ســابقا عــند الخــطـاطــين كان عـلى نوعـين : الاول يـسـمى: " الحــبر الــفحــمي " والـثـــانــي يـسـمى " الحـبر العـفــصي ـ الـمعـدني" .
الاول يعــود اســتــعــماله لاول مرة الى الخـطـاطــين المـصــريــيــن القـــدماء زمن الفــراعــنة . والثاني كـنت ابحـث عــن بداية اسـتـعـمالة ، وقـــرأت فــي بعــض الكـتـب العـربيـة، ان ابن مقــلة خـطاط بــغــداد في القــرن العـاشــر كان يــســتـعــمل العــفـص في وصـفاتــه، فـقـلت ربما انه هـو نـفـسه الـذي ابتـكرالوصفة الـثـانـية. ونـقــرأ ايضا ً ان ابن مقــلة تــرك " رســالة في عــلم الخـــط والقـــلم " محفــوظة في دار الكــتاب بالقـاهـرة . فذهبت الى القاهـــرة للاطلاع عــليها . وعـند قــراءتها وجــدت ان ابن مقـــلة لم يــذكر العــفص . والنســخة ليـسـت مخـــطــوطة بيـــد ابن مقــلة. انــما نـــســخت من قــبل خطاط آخر اسمه محـــمد الشـــافــعي عام 1663 وتوجــد نــســـخة اخرى بالمـكـتـبة الـوطـنـية بــتــونــس فــيها نفــس النصوص .
الــمعــروف ان ابن مقــلة دعا الى تبـــديل اســـلوب خــط القــرآن من الكــوفي الى النـــســخ ، وعــنده تجارب كــثــيرة في تــقــنــيات الخــط ومواده ، وهــو الــذي رســم القـــواعــد للحــروف وعمل نـــســبة مابــين حرف الالــف والدائــرة المــحيــطة به وجعــلهــما المــقــياس لــكل الحــروف الاخرى . ورغم انـنا لم نر خطـوطه ، لكنـنا نعـرف انه كان عـبقـري زمانه .
ولكـني لم اكــتـشــف حــسـنة جـديـدة لابن مقــلة بأســتعــماله لأول مرة العـفـص في الحــبر ، فأنه لم يــتـكلم عـن العــفــص . ولا ادري من الذي اضـاف ذلك الى وصفة ابن مقــلة في بعــض الكــتب العـربـية . وبعـد البـحث والتـنـقـيـب عـرفت ان هــذه الوصـفة ايـضا ً قـديــمة جدا ً . ويــعـتــقـد الــبعــض ان اســتعــمال العــفـص والاملاح الـمعـــدنـية في الحــبر يعــود اكــتــشـافـه للاغـريق منذ حوالي 2200 ســنة .
أعـود الان لـشــرح الفــرق ما بيــن النــوعـيــن :
الحــبر الــفحــمي يعــود اكــتـشــافـه الى مصــر الــفرعــونيــة ، واما ماكان قــبل العــصور المــصرية القــديــمة ، فلا نعرفه اذ لم نجد وثــائــق مخــطــوطة بالحــبر ... قـــبل عصــر حضــارة المــصــريــيـــن القــدماء كان اللون الاســود عــبارة عن مادة غامقـــة يجـــدها الانســان في ارض الكهــوف ويضــيف لها الماء ، وقد تكــن خلــيط من الطــين وبقايا النار .
والزخارف الســومرية الســوداء على الخــزف قــد تكــن من نفــس المصدر . اما الحبر كما نعــرفه اليــوم فهــو اكـــتــشــاف مصــري .
عـند تحــلـيل العــلماء للخــطوط المــصرية اكتــشــفـوا وجود الصــمغ العـربي مع المـســحوق الاســود المــكــّون للحـبر . وهـذا اكــتــشـاف مهـم ، فــقـبل اســتعـمال الصــمغ العـــربي كان الحــبر عــند تركه في الاناء تـــنزل الذرات الســوداء للاسفــل ويــبــقى الماء في الاعلى .
واســتعــمال الصـمغ العـربي غــّير كل شــيء . فالــذرات الجــزئية للصــمغ العــربي عــند اخــتلاطها بالــماء ، تعــوم فوق سطح الســائل ويصــبح الماء ممـــتــزجا ً بالصـــمغ ولاتــهــبط ذرات الصــمغ لأسـفــل الاناء بل انها تــســبح في الــماء . فتــصعد على ظهـرها ذرات السـخـام الــســوداء الناعــمة ويــتحول الــماء الى ســائل اســود نسـميه الحـبرالفـحمي او : " حــبر الكاربون " .
وهـكذا بعــد التحلــيل للكـتابة المـخـطوطه على ورق الـبردي للحضارة الـفـرعونـية . يرى العــلماء ان احد الخــطاطــين المــصــريــيـن جاءت له فــكرة مزج الصـمغ العربي مع الماء والمسـحوق الاســود، ليـهـدي للانـسـانية " الحــبر" هذا الحبر الـذي أوصـل لــنا أهـم ثــروة للـثـقــافــة العــربية، ألا وهــي كـنوز الشــعـر ، كذلك كـتابات الفارابي عن الموسـيـقى وكتابات ابن سينا عن الـطب على سـبيل الـمـثال .
أما المـواد الاسـاســية لصــنع الحـبر فيـمكن الـيوم شــراؤها أو البـحث عـنها في الطـبيعة . وللحصول على سـخــام الدخـان لتــحضــير الحــبر مثلا ً . تــوجد طــرق عــديدة ، مــنها وضع أواني خـزفـية مائـلة في أعـلى الشـــموع ، وعـند ملامــسـة اللهـب للاناء ســـيترك اللهــب سـخام الـدخان على الاناء وبعــملية دقــيــقة تــؤخذ ذرات الســخام الاســود لعــمل الحــبر . وكان هـذا يأخـذ في الـزمن القــديم اياما ً عـديدة . وهـناك من يعــمل جهــازا ً من الحــديد يــشــعل فــيه النــار ويضــع في الاعلى صـفائح مائــلة لتــجمـــيع ســواد الدخان . كان خـطاطي اسـطـنــبول يــتــزودون بــسـخام الدخان من اللــذيــن يــشــعلون النار للتـــدفــئة والــماء الحار قرب ســـور المــديــنة .
ويفضل الخطاطون السـخام المأخوذ من مادة غير جافة كالنفـط . او الـشـموع الكبــيـــرة .
في العــصر الحالي يــباع الـســخام بالكيــلوغرام في المـحلات التــي تجـــهــز المخــتــبرات العـلــمــية ، او عــند بائعي المــســاحيــق الملونة .
كـنـت في احـد الايام اشـــتـري الحــبـر الجــاف من مــحل مخــتص بمــديـنــة نارا اليــابانــية . مـحل لازال بمــكانه مــنذ الــقــرن الـســادس عــشــر . وكانت هـنالك عــشــرات الاشــكال من الحــبر الجاف على شـكل قـضـبان كالاصــابع ، كلهــا تــقـريبا ً بنفــس الحجــم لكــنما الاســـعار تخــتــلف بــشــكل مبـالغ فــيه . فكان بعــضها أغلى مائة مرة من الاخـريات . وعـندما ســـألت صـاحب الـمحل عـن ســبب هـذا الـفرق الـشـاسـع قال لي: ان الـفرق هـو مدى نعــومة المــسـحوق الاســود، وأصله وطريــقة تحضــيرة ، ولم ينــس ان يــذكر لي اهــمـية الصــمغ الذي مزجت به كل الـمواد لعـمل الحــبر . ورغم ان اليابان هـو من كبار البلدان الصناعيـة ، الا ان الخطاطين هنـاك لازالوا يسـتعـملون الحبـر القـديم . ولا يـحـبذون اسـتعــمال الحــبر الصناعي للـخـط . ويعـتـبر اليابانـيـون ان أحد روافد تقـدمهم الصناعي هو اسـتمرارية الفـنون والمهـن القـديمه . لأنها تعـلـمهم الدقـة والذوق الراقي للاشكال. والذي انعـكــس على صـناعاتهـم الالكــترونية .
اما الصـمغ العربي والـمـسـتعـمل بكـثرة في صناعة الحـبر عـنـد الخطاطين فأنـه مــســتـخرج من شــق يعــمل على اغـــصان بعــض ا شـجار الاقـاصـيا في الصـحراء الحارة . والخطاطون العـرب الـقــدماء كانــوا يجــدون الصــمغ الجــيد في صـحراء دول الخلـيج ايضا ً. وهـو نفــس الصــمغ الاصـفر الذي نجده عــند باعة القــرطاســية . وتــوجد انـواع متــعـددة من الصمـغ العـربي ، ويعـود ذلك الى الاشــجار ومــناطق وجـودها ومـدى ارتـفـاع درجة الحرارة فــيـها . واسـتعمال الصمغ العـربي واسـع ولا يمكن حصره . كان ولازال يدخـل في بعض الادوية . في وصـفات الاكل وفي صـناعات عـديـدة . كان الخـطاطون في الزمن القــديـم ، يـبلعـون حبة من الحبر الجاف ، عـندما تكون يشعرون باوجاع في المعـدة. فهـم يعـرفـون ما وضعــوا من المواد لتحضـيره . كالصــمغ والفحـم ... وبـدون الصمغ العـربي لايمكن عمل " الليتوغرافي " أي الطـباعة المـلونة بواسطة الصخر، قـبل معرفة الاوفـسيت ، ولازال التـشــكيــليــون يـسـتعـملون هـذه الطريقة اليدوية بالطباعة لاعـمالهم المـســتــنســخة .
ان وصـفة الحـبر الفـحمي الآ تـية من مـصر الـقــديـمة اســتـمرت ليـومــنا الحاضــر . ويــســتعــملها الخــطاطــون في العــالم العـــربي مع اضافات متعـــددة لتحــســيـنها فــمـنهم من يضــيف القــلــيل من العــسـل لاعــطاء مرونة وســيــولة، او المــلح والـشــب.
لقــد رأيت في صـحراء مـوريتانيا اطــفالاً لازالوا يحـضّرون الحـبر بهـذه الوصــفات البــســيطة . فـيأخــذون مســحوقا ً ناعـما ً من بقــايا النــار الاســود ، ثم يصــعدون على شــجرة قــريــبة يـبــحثــون عن قطـرات جافــة من الصـمغ ، ويخــلطــون كل هــذا في اناء صغــير من الطيــن ، ليكــتـبوا بقــلم القــصب الذي يأخــذونه من نبــاتـات الصـحراء المحـيطة بهم ، ويكــتبون على قـطعة من الخـشــب يسمـونها " اللوحة ". عـندما ارى هـذا المنـظر امامي اشـعر بانـني اشـاهــد الانـسـان يكـتب كما كان قــبل الآف السـنـين... اكـتـفاء ذاتي وممـارسة فـنـــية
وهكذا فان الحـبر الفـحمي هـو اقــدم حـبر ويعــود الى حوالي خمــسة الآف ســنة .
اما الحـبر الثـاني المــسـمى بالحبــر " العــفــصي ـ الـمعــدني " والــذي يعــود الى حوالي الالفـين ســنة، فيرى المـؤرخـون انه من ابتكار الاغـريق. فـتـستعـمل فـيه مادة " الدبـغ " الـتي تــتــوفـر في العــفص بحــوالي 40 بالـمائة وتــتوفر في نبـاتات اخرى كالبلوط او قــشــور الرمان .... بنــســب قــلــيلة .
لذا فان العــفـص يدخل في العــشــرات من الوصــفات في دول ما حول حوض البــحر الابيــض المــتوسـط. والعــفص هـو مرض يأتي على بعــض اوراق شــجرة الــبلوط فيـكون كرة صغــيرة هي العــفصة. وأحسـن العـفص هو عـفـص حلب وحجـمه كالجـوزة . وكـنت اجده بسـهـولة في باريـس في الثـمانيـنات. في المحلات التي تكـثر فيها عـوائل مهاجرة من دول شـــمال افريقـيا. حيـث يســتـعـمـل لـتـقـويـة وتـلـوين شـعـر الرأس. ولـحـد الآن يـتــوفـر بسهـولة ولـكن بحجم صغـير جدا. ويـباع بالكـيلوغرام .
كيف نـسـتخرج مادة الدبغ من العـفص ؟
في الوصـفـات العـربية القـديمة او الوصفات الغـربية نجد طريقـتين : الاولى تـتم بوضع العـفص مع الماء في قـدر وتركه على النار لمدة ساعـتـيـن بحرارة تعـادل 90 درجة أي قـبل الغـليـان . ومن ثم تصـفـيته لأخـذ المحلول النـقي .
والطريقة الـثانية للحصول على مادة الدبغ تـتم بوضع العـفص مع الماء في اناء وتركه لاسابـيع .
وفي الـسابـق كان للخطاطين طوال الـسـنة اناء يحوي على هـذا السائل، ياخذون منه دائما ما يحتاجونه ويضـيفون الماء والعفص كلما قل السائل في الاناء .
كيــف يتحول ســائل الدبــغ الى حــبر ؟
لابد من اضــافــة الــمادة الـثــانـيــة المــحمــلة بذرات معــدنيــة . في الوصــفات العــربية القـــديــمة يطلــق علــيها اســـم " الزاج " ويــمــكن ان نجـد اليــوم اشـــياء متعــددة تعــطي نفــس النـتـيـجة كـســلـفـات الحـديد او ســلفات النحاس. ولكن ابــسـط طريقـة للحصول على ســائل مــشــبع بأملاح الحــديد، يتم بأخذ مــســامــير قــديمــة صـدئه ، او اشـــياء اخرى حديــدية مـشــابهة ، ووضــعها في اناء مع الخل وبعد اســـابيــع ســوف تــتــآكل المـســامــير بفــعــل الخل ويصــبح الــسـائل مــمتــزجا ً بأملاح معــدنية.
وعــند مـزج ســائل الدبــغ مع الخــل المحـــمل بالحــديد وبأ تصـــالهــما بالاوكســجـين يتحول المــزيج تــد ريجــيا ً الى حـبر اســود . ولكنه يخـتــلف كل مرة حــســب اخــتلاف المــواد وكــثــا فــتها. وهــنا لابد من الــتجربـــة الــمــتــكررة لمــن يحضــر الحــبر لاول مرة .
وتــدريجــيا ً يتــحــسـن الحــبر وبعــضهــم يضــيف اليه سـواد الدخان لاكـثــار الســواد . وآخرون يضــيـفون الــشــب المــطحون ومن خــصائصــة انه يـزيد من الســواد ويــسـاعد على تمــاســك المــواد فــيما بــيــنها . ولابــد من اضـافة الصـــمغ العــربي . الذي يـثـبــته على الورق . ويـرفع من كــثـافــة الحــبر . ان هــذا النــوع من الحــبر يكون بحاجة الى لـيـقـة " طـرة " داخل المحـبرة . ويمكن ان تكـون اسـفــنجة طــبــيعــية . او خــيـوط من الحرير .
وقد قال اسحاق ابن ابراهـيم : ومما يزيد الخط حـسنا ً، ويـمـكن له في الـقـلب مـوضـعا ً ، شـــدة ســـواد المـــداد ..
وبعــض الخــطاطــين يضــيف للحــبر ماء الورد او الـقـــرنـفـل ، او الـمـســك لتــطيــيـب رائـحة الحـبر .
مـداد المـحابـر طــيـب الرجال
وطـيـب الـنـساء من الزعـفران
فهذا يـلــيــق بأثـــواب ذا
وهـــذا يـــلـــيــق بــثـــوب الحـسان.
ابو عـبـد الله الــبـلوي
المــقـاديــر القــديــمة الـمذكـورة في الوصفات اكـثرها غـير دقــيـقــة ولابــد من الـتجارب المــتـعــددة . ويــتــطــلب الحــبر لـتــما ســكه تحــريكه بكــثرة لدمــج المـواد فــيــما بــيـنها . وفي الوصــفات العــربية الـقـــديــمة نـصــائح تــثـــير الضــحــك ، ولكـن لها حـقــيـقــة . فــمـثــلا يقــال انه من الضــرورة هز قــنــيــنة الحــبر الآف المــرات . ولــمن لايــســتطــيع ذلك يــعــطــيها الى صــديق يــسـافر الى مكة ليربطها على ظهــر البعــيــر . او اعــطــائها الى صــاحب حــمام لربطـها على الـباب .
" لاتجزعن من المداد ولطخه ان المداد خلوق ثوب الكاتب "
محـمـد بن مـوسى الرازي
* * *
وصـفـة الحــبر لأبن مقــلة كـما جاءت في نــســخة محمــد الشـــافــعي 1663 القــاهــرة والمــنــسـوخة عــن كــتاب ابن مــقـلــة المـفـــقود :
أجـود الـمــداد ما أخــذ من دخان النـــفـط بأن يــؤخــذ مــنه ثـــلاثــة أرطال فــيـجاد تخــلصـها وتصــفــيــتها وتــلقــى في طنــجــير ويصــب عــليه من الماء ثــلاثــة امثـــاله ومن العـــســل رطــل واحــد ومــن المــلح خمـسـة عــشــر درهــما ً ومن الصــمغ المــســحــوق وزن عـشـرة دراهـم ويـسـاط عــلى نار ليـــنة حــتى يثـــخن جــرمه ويصــيـر دُهـــنه كالـطــيـن ويــترك في اناء ويـسـتـعـمـل عـنــد الحـاجة بقــدر مايكـتـفي به .
وهـناك وصفات مبـســـطة لتــحضــير الحــبر الاســـود كهذه الوصفة لأحد الخــطاطين القـــدامى :
" ضـع ورد جـوري في قــدر كبــير ، ثم دعه يغــلي بالــماء الحار ، حــتى ينحل ، ويــقـطر مـنه ماء الورد ، ثــم خــذ البــقــيــة ( الحــثــالة ) او العـصارة على لغـة اهل الصــناعة . ضع فـيها ( حديد صـدء ) فيــتـفاعل معها بالـتأكــسـد ، ويــتـــبدل لون الحـثـــالة الى اســـود ، ثم تجـــفــف هـــذه الحـــثــالة حـتى تكون كالفصـوص، ثم تطـحن جـيدا ً وتـذاب بالمـاء الحار فـــتــكون اســودا ً .
يضــاف الى هـــذا الحــبر ، قـليــل من الصــمغ العـــربي حتى يــلـتــصق الحــبر بالورق عــند الكــتابة ، ولا يســقـط بالنــفــض او النـــفخ ، كذلـك يكتـــسـب الحـبر من الصــمغ لمعــانا ً . "
وهـذه وصـفة قـد يـمة لمـداد من مديـنة الكــوفة :
" تأخـذ قــشــور الـرمان ، تحـرقـه ، وتأخـذ رماده ، تعـجـنه بلـبــن حلــيـب وشـيء من صـمـغ محـلول .
ثـم اجـعـله ا قــراصا ً ، وجــفـفه في الـظل ، فأنه اجـود مايكون من المـداد ."
وعــند الاطلاع على وصفــات الحــبر القــديمة نــجد ان اكثــر الخــطاطــين كانوا يحاولون تحــسـيـن الحــبر بإضــافات جديـــدة ، فهــناك من يحــمص الرز كالقهـوة حتى يصبح اســـود ثم ُيـبرّد ويُــطـحن ويُخـــلط بالصـــمغ ويتـــرك في الـشـمـس لــعــدة ايام ، يضــاف اليه الصـبر لمـنع مجيء الـذباب علـيه، وبعضـهم يضـيف اليه الـسـخام المتجـمع من الشـموع التي تستخدم في حفلات العـرس الكبــيــرة .
خطــاط آخــر يحرق نوى التـــمر ثم يطـــحنها ويضـــيــفها للحــبر. وفي دول المغــرب العــربي ، ولحـــد اليــوم ، في بعـــض المــناطــق يحرقــون بقـــايا خــروف من قــطع جلــد وصــوف وقــرون حتى التـكلــس ، والعجيـنة السـوداء الـتي تــتـكون يكـفـي خلــطها بالــماء لتــكون حبــرا بــنــيا ًجـيدا ً، يــســتــعــمل للوحات الخــشــبــية في الـمـدارس القــرآنــية . وحـتما ً كان هـذا النــوع من الحــبريـســتعــمل في الماضي للخط على جلود الحــيوانات . وكل هــذه الأشـــياء المــخـلوطة في عـمل الحــبر تــتــطلب تصــفيــة ، واحــســن شيء يـســتـعـمل للـتصفـية هـو الـقـماش النــاعـم جدا ً كالحــرير او كالـجوارب النــسـائــية الــناعــمة .
وهـنا يتكلم ابن شهــيد في القـرن 12 عن نـظافـة الحبر والاعـتـناء به :
" انما مدادكم ماء ديــباجتـــكم وصــبغة امانتــكم ، فأســتـنـظفـوه اسـتـضا فـتكم لـملابـسـكم ، وأسـتجـملوه اســتجـمالكم لمـصابغـكم ، وإنـما خطـوطـكم خلـفاء الـسـنـتـكم وخطبـاء عـقـــولكـــم ..."
ابــن الــبواب في القــرن الحادي عــشــر يتــكلم عن الحــبر :
وألـق دواتـك بالـدخان مـدبــرا ً بالــخل او بالحــصــرم المعــصور
وأضــف اليــه مغــرة قــد صـولت مع اصــفر الزرنيــخ والكافــور
حتـى اذا ماخــمــرّت فأعــمــد الى الورق النــقي الـناعــم المـخبـور
ويعتني الخطاطون بالدواة وهـناك اوصـاف مـتعددة لها ويضع أكثر الخطاطين فيها ليقة ، وهـي كمية من خيوط الحرير . وتـسمى ايضا ً طرة . ويمكن كذلك وضع اسفنجة طبيعية تـساعد القلم على اخذ الكمية الملائـمة من الحـبر .
وتوجد نصــوص ادبـــية وأشـــعار كــثـــيرة حول المــحــبرة .
وهــذا النــص يعــود للخــطاط احمــد بن بنــت الاعـــز . اذ انه ترك الدواة لــمدة طــويلة دون ان يخـط لانه لم يحصل على عمل له . وعند عودته للمـحـبرة فـيــجد البــياض قد غـطى الســواد بســـبب التعـــفن فقــال :
تعــطـلــت فأ بيــضت دواتي لحـزنها
ومــذ قــل مالي قــل منها مـدادهـا
وللــنـاس من ســـود اللــباس حدادهــم
ولكــن مــبــيض الدواة حدادها
وقد عبر الخـطاطون عن مـشاعرهم بأستعارات عن مواد عملهم، وعن المداد ومركباته كما في النـص التـالي :
" قال ابو هـفان الـشــاعر العـباســي ، ســألت خــطاطا ً عن حاله فــقـال : عــيـشـي أضــيق من محــبرة ، وجـســمي أدق من مـســــطرة ، وجاهــي أرق من الزجاج ، ووجهــي عــند الــناس أشـــد من ســواد الحــبر بالزاج ، وحــظي أخــفى من شـــق الــقـلم ، وبدني اضعــف من قصــبة ، وطــعامي أمّر من العــفص ، وشــرابي أحــر من الحــبر ، وســوء الحال ألــزم لي من الصــمغ .
فــقــلت له عــبرت عن بلاء بــبلاء .... "
وكان عـمل الخطاطين في الماضي يقـترب من العـمل الســياسي ايـضا فعـندما أراد ابن المقـفع فـضح الـسـفاح اســتعـمل الحـبر الســري والكــتابة بالحـبر الـســري تـــتم اولا بالكـتـابة بالــمحـلول الــشـفاف المـســتخــلص من العــفص . فـتكون الحــروف غـير مرئية عـند الجفاف. وترسل الرســالة الى الــشــخص الذي يــجــب ان يــقــرأها . فــيــمرر عليــها قــطنة مــبللة بالـمحلول المــكون من الخل والاملاح الـمعــدنــية كما ذكرنا ســابقـا ً بوصــفة الحـبر ، فــتــظهر الكــتابة ســوداء . ويمكن قراءتها .
وهــناك نص قـديم يتــكلم عن هــذه الوصــفة :
" ..إن َقــتل الخلــيــفة ابن المقـــفع ، فأن طريقــتــه الســـرية في تهــريب الكلام الحر انـتــقــلت الى الـقـرامــطة فــحــملوهــا دعــوتــهم الى الثــورة والعــدل .
ثم بلغــت محــمد بن علي فدعا بها الزنوج بــســباخ البــصرة الى كــسر الاغــلال ... وأنــتهى هــذا الحــبر الى اخوان الصفـا فدونوا به رســائلهم الســرية الداعــية الى اســقاط الخلافــة العــباســية المـــتهــرئة .
وكاد المخــبرون والوشــاة يلــقــون الــقــبض على الطريقــة الســرية لاســـتحضـار هــذا الحبر لما داهــموا دار الاديب الــفــيلــســوف ابن الراوندي في الــقرن التــاســع وقــتـلوه ... الا ان احدى معــشــوقات الفــيلــســوف تــمكــنت من اخــفاء الوصفة بيــن نــهديها وهــربت ... وتجوب هــذه الوصـــفة الآن بلاد العـــرب متخـــفــية عن عــيون الســلــــطان ... "
ويعـبرابي بكـر محمـد بن يحـيي عن اهــمـية الحـبر والقــلم بالكــلمات الـتالـية :
" ... فـما رأيـنا مـدادا ً قـبل ذاك دما ً ولا رأيـنا حـساما ً قـبل ذا قصـبا ... "
وقـبل الف سـنة كانت التـقارير السـرية التي ترسـلها المـدن للســلطان ، تـكـتـب من قـبل الخطاط . ولكـنه عـندما كان يـراهـا ظالــمة ، فأنه يكـــتـبها بحــبر رديء كي لاتــقرأ . كما يعـلــمـنا النــص التــالي لاحــمد بن ابراهــيم :
" كان مــشـايخ الكـتــــّــاب وزهـاد العـــمال يخــتارون ان يكون مايــرفــعــونه من جـــماعــاتهـم الى دواويــن الســلطان بخـط غــير جــيد ومداد غــير حالك ، في صحف مظــلمة ، ليثـــقــل على من يرد عــليه من المــتــصـفحين ، فــيـعـدل عـنها الى غــيرها مــما لايــتعــبه ..."
وأخيرا ً ما هي اهــمية تحضــير الحــبر في عــصرنا الحالي ؟
اولا ً: للخطاط المهني ضرورة لابد مـنها لتحسـين خطه ، واضفاء الاناقــة لأشــكال حروفه .
ثـانـيا ً: ان هــذه المعـرفة ســوف تعــطي الخطــاط ( او الفــنان التــشـكـيلي ) الحـرية لتحضــير الالوان حـسـب المــواد المتــوفرة بالـمكان الذي يتواجد فيه ، فأن وصفات الحــبر الاســود هي الــقاعدة الــتي يمكن ان تطــبق لتحضـير بقـية الالوان ، وذلك بتــبديل الســخام الاســود بمــســـحوق ناعــم ملون آخـر .
لتحضــير لون ترابي مثلا ً يكــفي عــند التــجول في الريف اخذ طين غامـق اللون من الارض ومن الافـضل ان يمــيل لونه للـصفرة او للـحمرة . وثم خلــطه بالـماء في اناء كـبـيــر ، وتركه يــترســب لمدة قــليــلة ، ثم اخــذ الماء الخابط في اناء آخر وتركه في الشـمــس حتى يجــف ، وما ســوف يترســب في قعــر الاناء من قــشــرة ملونة ، تطحن لكي تصــير ناعــمة جدا ًوهــذا هــو المــســحوق الـملون الذي يــسـتــعـمله كل الفـنــانيــين للحصـول على الالوان التــرابـية . وتطبق عليه نفــس وصــفة الحبــر الاســود .
وإن أردنا لونا ً كثـــيفا ً فيـجب خلط المـسحوق الملون مع قـليل من الـماء ، حتى يصبح كالمـعجون ، وثم يضاف اليه الصمغ لكي يثــبت على الورق عند اســـتعــماله .
وهكـذا يكون بالامكان انـتاج الوان لا تـشابه الالوان التجارية ان كان المتوفر منها رديــئا، وكذلك يمكن ايضا ً تحـســين الالوان المــباعة بخلــطها بمواد نــبــيلة كالمــسـحوق التــرابي الذي عــملناه . فالاحبارالصــناعية ذات الوان فاقــعة وفـقـــيرة ، وبمجرد خلطها بمــســحوق ملون جــيد فــســوف تكون اكثـــر نــبلا ً وأكـــثر ثراء ً .
* حسن المسعود ـ باريس ـ كانون الثاني 2007
المصدر:
Massoudy Calligraphe