ان اسوأ البشر هم اولئك الذين يزعمون ان من ضربك عل خدك الايسر فادر له خدك الايمن. ربما لم يفهم الكثيرون نيتشة حين طعن في تعاليم العهد الجديد التي تفضي الى انسان كاذب . لأنه يخالف طبيعته البشرية تلك التي تدعوه للصراع من اجل التفوق ، وتدعوه للفوز والانتصار وتجعله نافرا من الهزيمة...واذا كانت حياة الانسان تتمحور حول تكوين هوياته منذ الطفولة ، فليس ذلك لأن الهوية لها قيمة ذاتية بقدر ما تحقق له مصالح تبدأ من حماية ملكيته الخاصة ، وتحقيق امانه الاقتصادي والجسدي والجنسي ، وتجعله اكثر منعة في خوض الصراع من خلال جماعة لا بمجرد كونه فردا ، فانه لابد بل وحتما ولزاما ان تتعارض هويته مع الآخرين ، وان تتقاطع مصالحه ، بما في ذلك مبادءه وقناعاته مع مصالح ومبادئ وقناعات الآخرين. لقد قيل بأن هتلر لم تفارق ذهنه افكار نيتشة عن الانسان السوبر ، الانسان المتصالح مع طبيعته الحيوانية ومع واقعه الانساني. ان بعض نداءات الضعفاء والمتخاذلين بضرورة تبني الانسانية لبعض القيم لتحد من الصراع البشري ليست بريئة كل البراءة ولا حيادية بنزاهة ، فالواقع ان هؤلاء يحاولون الحفاظ على مصالحهم من خلال فرض قيم مثالية على العالم من حولهم. فالقضية تتعلق بايجاد وسائل تتفق وضعفهم تحميهم بطرح المثالية الاخلاقية كرسالة مقدسة او سردية كبرى ؛ والمدهش جدا ان هذه المثالية الاخلاقية (والتي سيختلف مفهومها حتما) ستتحول هي بذاتها الى اداة صراع انساني عالمي بدلا من ان تحقق سلاما منشودا. لأن كل شيء في نسقنا الحيواني يتحول الى مبرر لخوض صراع ايا كان شكل او طبيعة هذا الصراع. هذه النزعة سنجدها اكثر وضوحا حين يتفوق حضورها على اكذوبة الخد الايمن ، فعلى سبيل المثال ؛ حين قام احدهم باغتصاب وقتل طفلة ؛ خرجت الجماهير تنادي بتنفيذ الاعدام في ميدان عام. ان الجماهير تنشد الانتقام ولن تقتنع بفكرة العقوبات غير الوحشية او التي تمثل انتهاكا لكرامة المجرم ، رغم ان هذه الفكرة (المثالية جدا) تتعارض مع الطبيعة الانسانية التي يمكنها ان تتخلى عن المثالية في سبيل الشعور بالانتقام والتشفي. ولم يتوقف الامر على هذا ، فمحامي المتهم اعلن عن رفضه لاتخاذ اي موقف دفاعي عن موكله منتهكا بالتالي مبادئ المحاكمة العدالة ومنتهكا لواجبه القانوني حين جعل موقف موكله يزداد سوءا ، مع ذلك ظل هذا المحامي بطلا في نظر الجماهير الغاضبة ، فالمثالية المفرطة والتي نحاول تغييها لتحقيق السلام للضعفاء ، لن تقف امام انفجار الغريزة الحيواية عند الانسان. غريزة الصراع. فلنتناول القضية من زاوية اخرى ، زاوية اولئك الذين يزعمون تعرضهم للعنصرية ، ان تعرضهم للعنصرية لا يجعلهم فقط يرفضون العنصرية بشكل طوباوي بل على العكس ، حيث يتحول شعورهم بالعنصرية الى عنصرية مضادة. وهكذا تنعدم المثالية التي يخاطبون بها اعداءهم حيث يتحول الامر الى عنصرية وعنصرية مقابلة ، ان الانسان لا يستطيع ان يكون ملاكا لأن هذا ضد طبيعته ، ضد حقائق حياته ، ضد نزعاته الاحتكارية والاستحواذية ، ضد رغبته في التفوق. ورغم ان الانسان يخفي كل ذلك الا ان هناك لحظة ما سوف لن يتمكن حينها من تحمل ارتداء قناعه الرسولي هذا الى الأبد. الانسان الذي يرغب في تشكيل العالم على هويته ومفاهيمه ، دينية او فلسفية ، حتما لابد ان يتحلل من مثاليته ليتمكن من مواجهة الهويات والمفاهيم الاخرى . بل ان الانكى من ذلك ان هويته ومفاهيمه قد تتحول الى مبررات لقمع الاخر او حتى ابادته او السيطرة عليه او استغلاله او ابتزازه. فكما تبدأ المفاهيم دينية او فلسفية بمقدمات مثالية عالية الا انها لا تلبث ان تنقلب على مثلها الاولى وتتحول الى اداة قمع وتعزيز الملكية. ان انكار الصراع الانساني هو انكار كاذب ومضلل جدا ، وربما يدفع هذا الانكار الى التطرف اكثر من تحقيق السلام ، فحينما تصطدم المثالية المفرطة بحقائق الحياة قد يؤدي ذلك بالفرد الى كفره الدامغ بكل مثاليته السابقة وباجتماع هذا الكفر مع الحنق يتحول الى مجرم وارهابي ينتقم من هذا العالم الذي لا يتفق ومقياس المثل لديه ، مما يزيح العالم كله الى خانة العدو الضال الذي لابد من افنائه تماما. وهكذا يتحول الايمان بالمثل الى تعزيز الاقتناع بالعنف والدموية كحل نهائي لبشاعة هذا العالم. اما ان كان الانسان يؤمن بالصراع كحقيقة فإنه اولا سيتلقى الهزيمة بصدر رحب وقبلها سيعمل على تخفيف اسلحة الصراع ليقلل من خسائره بقدر الامكان ، وهذا ما حدث حين قام احد العلماء بنشر طريقة صنع القنبلة الذرية منعا لاحتكارها من قبل دولة واحدة مبررا فعله ذلك بأن انتشار السلاح النووي سيجعل جميع الاطراف اقل رغبة في استخدامه. وهذا ما حدث بالفعل... حين تم عقد اتفاقيات للحد من انتشار الاسلحة النووية واسلحة الدمار الشامل لم يكن ذلك لأسباب اخلاقية مثالية بل لأن توازن القوى يفرض على هذه الدول تغيير ادوات صراعها بحيث تتفادى الخسارات الجسيمة. ان ايماننا بالصراع يعني اننا سنتمكن من وضع قواعد تضمن توازنات في ميزان القوة power والسيطرة والاكراه ، ان الصراع الذي يشجبه الكثيرون هو في الحقيقة المصدر الاساسي لما يطلق عليه العدالة ، فببحثنا الدؤوب عن اسلحة التفوق ، وبحث الاخرين ايضا عن ذات الامر ، ومن ثم تتكافأ القوى ، سوف نضطر الى وضع محاصصات اكثر تساويا من حيث الحقوق والواجبات. اما إن تبنى احد الاطراف المثالية وخاض الطرف الثاني الصراع ورجح ميزان القوة لهذا الاخير فلن يستقيم ميزان العدالة ابدا. لا يمكن ابدا ان يتساوى الرئيس او الملك بالمواطنين ولا صاحب العمل بالعمال ، ولا امريكا بالسودان . ان التوازن والتساوي يتم عندما تتساوى القوة بين اطراف الصراع. لقد ثار العمال في امريكا ضد شروط تعاقداتهم المجحفة ، ونالوا حقوقهم ، وكذلك فعل السود وكذلك فعلت النساء ، ولو قرر هؤلاء عدم خوض الصراع لظلوا يقبعون كالصراصير بين شقوق الجدران. فعندما يمتلك العمال القوة الموازية لقوة صاحب العمل سوف تصير عقود العمل اقل اجحافا واكثر توازنا بين حقوق والتزامات الطرفين. وهذا هو نفسه منطق كيفية صناعة القوانين والتشريعات.