ما اود ان اشير اليه هنا الى خدعة التمييز بين اللغة العامية واللغة الفصحى. حيث لا اجد اي طرح منطقي يفسر هذا التمييز. اذا كانت اللغة في كل الاحوال ليست اكثر من مواضعات مجتمعية لدوال ومدلولات ، فإن التمييز الذي اراه شديد النخبوية او الطبقية لا معنى له في الحقيقة. يعتقد من يميز بينهما ان العامية لغة بلا قواعد ولا نسق ينظمها ، وهذا واضح البطلان ، ليس فقط لأن انعدام النسق يفقد اللغة غايتها الاساسية وهي التواصل والتفاهم ، ولكن لأن هناك دليل بسيط جدا على ان كسر هذا النسق يتم ملاحظته بشدة من قبل الافراد. فعلى سبيل المثال ؛ اللغة العربية الفصحى ، والتي تعتبر اداة المخاطبات الرسمية في السودان ، انبثقت عنها لغة عامية (مع تحفظي على وصف عامية) ، انفصلت العامية عن الفصحى بمواضعات اجتماعية وكونت لها ذخيرة من المفردات المستقلة عن الفصحى ، كما احيطت بنسق يعطها قبولها لدى الناس ، ويمكنها من تسهيل التواصل بينهم عبر تسهيل التفاهم. هناك في السودان قبائل غير عربية ، لها لغتها الخاصة ، لم تتمكن من محاكاة النسق الخاص بالعامية ، فكسرت هذا النسق وظهرت لغة عربي جوبا ، وهي لغة انبثقت هي بدورها عن العامية السودانية وانتشرت في مناطق الجنوب (دولة جنوب السودان الحالية) ، عربي جوبا كلغة ايضا انفصل عن العامية السودانية واتخذ لنفسه نسقا خاصا به ، ويؤدي كسر هذا النسق الذي تكون (من خلال الممارسة والمواضعات) ، الى تمييز لغوي جديد . اذا كانت اللغات ليست اكثر من عمليات توالد مستمرة من بعضها البعض ، واذا كانت كل لغة تتشكل كمنظومة وتتمتع بنسق ، فهذا يمنح هذه اللغة ذاتية تفصلها عن الرحم الذي ولدت منه. لذلك فلا معنى للتمييز بين عامية وفصحى ، فالفصحى الحديثة هي ايضا عامية لفصحى اكثر تأخرا منها ، ربما تكون اللغة الانجليزية هي عامية اللغة اللاتينية ، واللغة العربية هي عامية اللغة السريانية ، وهكذا. هذا اذا اعتبرنا بالتأكيد ان كلمة عامي لها معنى استعلائي ، لكن في الواقع فاللغة العامية هي اساسا لغة فصحى مستقلة ما دامت قد تجاوزت حالة الفوضى والعشوائية ورسخت كمواضعة مجتمعية. بل وحصلت على قداستها التي تجعل كسرها من قبل من لا يجيدها أمرا مثيرا للسخرية. ونحن مثلا عندما نتحدث -وفق هذا المنظور- عن تساوي الفصحى والعامية هادمين التمييز الصفوي بينهما ، لا نستطيع ان نعتمد على معيار حسابي ، فحجم من يتداولون اللغة لا يؤدي الى اعتبارها فصحى او عامية ، فبالرغم من ان اللغة العربية هي لغة تتوفر -باختلاف الدرجة- في اثنين وعشرين دولة ، وان الخطاب الرسمي بين هذه الدول غالبا ما يتم بينها ، الا ان هذا المعيار الكمي لا علاقة له بتصنيف اللغة الى فصحى او غير فصحى. فاللغة فصحى دائما ما دامت تفصح عن المدلولات لدى جماعة معينة حتى ولو لم يتجاوز افراد هذه الجماعة عدد اصابع اليد الواحدة. نلاحظ هذا الامر في لغة اطفال الشوارع عندنا والتي تسمى (الراندوك) ، فهي لغة لها ذاتيتها ومن ثم احترامها ، ما دامت قد حصلت على قبول هذه الفئة كوسيلة للتعبير عن فكرهم ايا كان سقف هذا الفكر. وبالتالي هي لغة فصحى بمعنى انها تفصح عن هذا الفكر بشكل منطقي ومقبول وسلس بين افراد هذه الجماعة.