الحروفية مذهب صوفي ينادي بوحدة الوجود، تعظّم وتقدس الحروف، والأرقام وتركيبها في الكلمات، ويقال أنها تأسست في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الميلادي، على يد رجل يعرف باسم" فضل الله الاستربادي" من استر باد إيران، وقد قتل فضل الله على يد ميران شاه بن تيمورلنك، وعلى أثر انتشار الحروفية بعد ذلك، ترك الحروفيون في القرن الخامس عشر الميلادي اللغة الفارسية، وبدءوا باستعمال اللغة التركية، وتعتبر الحروفية الكون مظهرا للوجود المطلق، حيث الدنيا راسخة في علم الكون،وهذا الرسوخ يعتبر تجليا للكائنات. وتتأسس إحكام الحروفية على الحروف الثمانية والعشرين في العربية مضافا إليها أربعة حروف إضافية (اللام ألف) التي تقرأ عند بسطها أي كتابتها كما تقرأ أربعة حروف إضافية هي (لام، ألف، ميم، فاء) وبذلك يصل عدد الحروف إلى اثنين وثلاثين حرفا. يعرف الحروفيون بترددهم في تأويل القرآن وأحيانا في تأويل التأويل، استنادا إلى القيمة العددية للحروف وتارة إلى قيمة الكلمات أو مجموعات الكلمات بإعطائها مثيلا باطنيا، كوزمولوجيا وجَفريا خاصا، يستخدم نظامهم العددي نظام "أخوان الصفا" من الناحية التنظيمية، لم تعش الحروفية طويلا، وقد عرفت مع ذلك العديد من الانقسامات الداخلية. بعض الأفكار الحروفية استمرت إذ تداخلت تعاليمها في البكتاشية (طريقة صوفية عثمانية) وإن جزئيا..(1).
من هنا يتضح أن للحروفية جذرا سياسيا، عبر تشكيل جماعة متجانسة لها، ترى في تأويل القرآن طريقة للمعرفة، ولها بنية عقلية رياضية في فهم الكون وعلاقة الأرض به، باعتمادها الحروف وقيمّها طريقة لحساب تلك المعرفة. ويذهب ابن عربي إلى أبعد من ذلك، عندما يعتبر الحروف كيانا اجتماعيا وأمة من الأمم فيقول: " إنَّ الحروف أمة من الأمم ، مخاطبون ومكلَّفون، وفيهم رُسُلٌ من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلاّ أهل الكشف من طريقنا، وعلم الحروف أفصح العالم لساناً وأوضحه بياناً" (2) يتضح أن الصوفية هي أكثر الفرق اهتماما بالحروف وقد أحصيت الحروف في القرآن الكريم التي تبتدئ بها السور فكانت 78 حرفا وهي عدد الحروف المقطعة في أوائل السور، الـ 29 سورة التي ابتدأت بالحروف ، وبدون التكرار فأن عددها 14 حرفا، ويرى البعض إن العدد 14 ضعف العدد 7 وهو من الأعداد التي ربما لها دلالات خاصة" (3) " فالصوفية اكتشفت في وقت مبكر المعنى الخفي وراء كل حرف، ومجموعات الحروف قد ألهمتهم تفسيرات مجازية مدهشة، ومعظم رؤوس الصوفية قد أعاروا هذا الموضوع اهتماماً "(4).
الحروفية والدين
يعني البحث أساساً أولاً، بفن الحروفية، بوصفه فناً ذا مرجعية دينية وتراثية قائمة على الفلسفة العربية الإسلامية. ثم تعني الورقة، ثانياً، بجماليات الحروفية عبر استخداماتها المختلفة، بما يؤكد أو ينفي الرؤية الفلسفية تلك؟ وثالثاً، دمج الاثنين؛ الحروفية والجمالية بمفهوم الحداثة في الفن التشكيلي المعاصر، وفيما إذا كانت الحداثة فيها مقيدة بتلك الفلسفة، أم متمردة عليها.
وابتداء نقول: أن الحروفية ليست الحروف الأبجدية فقط، بل هي فن يتشكل من امتزاج الشكل واللفظ. ويكون اللون لغة في الحروفية أيضا. " فاللغة سابقاً كانت بداياتها الأولى لغة تشكيلية، كما كان الصوت هو أيضا اصطلاحاً رمزيا لمعنى أو مدلول" (5) ويبدو لي أن هذه البدايات تحتاج لأكثر من بحث في جوانبها المتعددة، خاصة الرؤية الفلسفية التي تتحكم بالحروفية وتجعلها لغة تشكيلية دون أن تكون ثمة معرفة بالفن التشكيلي، ثم وهذا الأهم الكيفية التي انطلت بها تلك النواة لتصبح فنا حداثيا ومستقبلياً. من هنا يصبح المرور من بدايات الحروفية التشكيلية الأولى، إلى الجمالية وصولا للحداثة، بحاجة إلى جسور معرفية، تربط فيما بين مراحل تحولاتها، وأن هذه الجسور تستفيد من التجربة الذاتية للفنانين العرب، بوصفهم منغمرين دون أن يعرفوا بجمالية الحرف العربي وبنيته التشكيلية، ومن التجربة الفنية العالمية التي سبقتنا وحولت الحروف اللاتينية إلى جمالية فنية. أما خارج هذين المدارين فلسفيا وعمليا، فلن يكون حديثنا عن الحروفية العربية، بل عن حروفيات أخر. أعني لتكوين يخص كل نشاط فني أو عملي أو فكري.. أي الحرف بمعناه الحرفة.. وهي مهمة ليست هينة أيضاً، ولا يستطيع بحث مقتضب كهذا الإيفاء بجوانب هذه المديات. لأن الحروفية ليست حصيلة تجربة لفنان أو خطاط، واحد، ولا لتجارب منطقة معينة من مناطق العالم الإسلامي دون أخرى، بل هي تيار فني /فكري، ينهل من معين الفلسفة العربية الإسلامية، بوصفها مصدرا قارا، ويتمرد عليها، عندما بدأت تتحكم بآليات تطورها، ويحاكي التجربة العالمية ويتأثر بها، دون أن ينح مسارها ويتمرد على جذورها الدينية، ومن هنا تواجهنا مسألة معقدة، أن الحروفية العربية، ليست حروفية للغة فقط، بل حروفية لفنون اللغة والفنون الأخرى، ولذلك قٌيدت بما تحمله من جذورها الفلسفية لتبقيها ضمن نطاقها، ثم لتحدد تطورها.. إن من يتابع تطورات الحروفية اليوم، تلك التي كانت نتيجة التلاقح الثقافي، أو نتيجة للابتكار، يجدها قد شملت ميادين فنية، ومعمارية، وتزينية، وطباعية مختلفة. فعندما نقول فن الحروفية، نجد لها تاريخاً متشعباً وطويلا يمتد عبر قرون، من مرحلة ما قبل الإسلام وإلى يومنا هذا.ومن يدقق في جمالياتها، يجدها قد تداخلت مع ثقافات وممارسات أجنبية وفنية، أغنت واغتنت، إلى الحد الذي يجعلها اليوم، تياراً قائما بذاته، سواء أكان ذلك في منطقة الشرق، التي صانت أوليات الممارسات الفنية ومنهجها دينيا،التي تعني أيضا تجديداتها في الهند والصين، واليابان، وبلاد فارس، وتركيا، أم الشرق الأوسط،، وهو المركز الديني، أم شمال إفريقيا، حيث بدأ الانفتاح منه على العالم الغربي، أم العالم الغربي الذي تأثر إيجابياً بفنون الشرق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم طور فنونه بما ينسجم وروح الحداثة.... إذن ليس من بقعة جغرافية معنية يحدد بها فن الحروفية، ولا من مساهمة فنية محددة كانت هي الأساس، أو يمكن الانطلاق منها إلى ما وصلت إليه اليوم.
ونقول ثانياً، أن مفهوم الحروفية كمصطلح قابل للحياة، لأنه يختص، ليس بالأبجدية الكتابية فقط،، بل بأبجدية كل الأعمال اليدوية، والفكرية،والفلسفية، ومنها يمكن تلمس الخطوط الأولى لوضع مفهوم جمالي – فلسفي أطلق عليه لاحقا " الإطار" الذي وضع "حدودا" لكل فن وأوليات لأبجديته.. فالحرفة مشتقة من الحرف، ونعني بذلك أن أبجدية ما تشمل فنون النجارة، الزراعة، والأعمال اليدوية؛ من حياكة وسباكة وفنون شعبية ، وصولا إلى الفنون الجمالية من أدبية وفكرية فكل منها لها حروف مختصة بها.
هذا البحث غير معنى بجماليات هذه الأبجديات الواسعة للمهن والصناعات والإيديولوجيات والفلسفات، ولكن الإشارة إليها تعني، أن سعة فكرية ما، يمكن أن ينطوي عليها مفهوم الحروفية، خاصة ضمن تيارات الفلسفة العربية الإسلامية.
عتبة العنوان
لم إذن كل هذا الاهتمام بالحروف؟ والحروف العربية على وجه التحديد؟
يتألف عنوان الورقة من أربع كلمات هي " حروف، "يه" وتعني الجمالية، ثم حداثة، ثم مقيدة " وهذا بحد ذاته إشكالية نقدية، لأننا سنجمع بين ثلاثة حقول مفترقة المفاهيم أيضاً.
فالحروف هي الأبجدية العربية تحديداً، منتقلة من الخط، إلى المدونة، ومن المدونة إلى العلامة، ومن العلامة إلى الصورة، ومن الصورة إلى التجريد. ولكن الحروف التي يتعامل الفنان معها ليست معزولة عن الرؤية الفلسفية للإسلام، خاصة الدينية منها. فهي مهما اتخذت من أشكال فنية تعبيرية ورمزية، ومهما تنوعت مادتها وتراكيبها، تنتمي للفكرة الصيانية الكبرى التي تدين بها الفلسفة العربية الإسلامية، وهي التوحيد. ولهذه الفلسفة قوة معرفية تمارس حضورها على كل الأنشطة الفكرية والاجتماعية للمسلم. ومن هنا فالبنية الصيانية ليست مجرد أفكار، بل هي مؤسسات، لها دور الهيمنة على الفكر والحياة. فالمسلم يقر بالأهمية القصوى للأبجدية العربية، وهي ملازمة له مهما كانت قوميته أو لغته،" فهي الأحرف التي أوحيت فيها كلمة الله الخالدة. والقرآن بين أنه لو كان البحر مدادا، وكانت الأشجار أقلاما لما كان ذلك يكفي لسطر كلمات المولى" (...) فهي وعاء الوحي ولا يمكن التعبير عن أسماء الله وصفاته إلاّ بوساطتها ومع ذلك فإن تلك الحروف مختلفة عنه؛ فهي "حجاب المغايرة" الذي يجب على الصوفي تخطيه،لأنه مادامت الحروف تقيده فهو لا يزال أسيرا لشيء من الأصنام، كما يقول النفري (ت354هـ) إنه يعبد نفسه، بدلا من أن يكون حيث لا حروف ولا أشكال.(6).
الحروفية والفلسفة
على مستوى التجربة الفنية، لن نتفهم العلاقة بين الحروفية والفلسفة العربية الإسلامية عملياً إلا إذا كانت مقترنة بالمكانية، فوجود الحروفية كخطوط تتعانق مع المكان- الورقة – الحائط- القماش-.... الخ لتشكل كتلة بصرية مقروءة / مرئية وتتداخل مع غيرها من مكونات اللوحة، هي محاولة لتجسيد تلك الرؤية الفلسفية عيانا، وبشكل محسوس، ناقلة فكرة التوحيد من الماورائيات إلى الواقع.لذا فهي ليست استجابة من غير هدف لقدرة الحروف الذاتية على تشكيل رؤية روحية، بل وتشعرنا ونحن نقرؤها، أننا قريبون من الله. نعزو – كما سنرى- هذه الثورة الفنية في الحروفية إلى قدرة الفلسفة العربية الإسلامية على تطويع الحروف لأن تصبح جزءاً من بنية فلسفية تصون الدين، وتحميه، وتوسع من تأثيره، وتفتح له نوافذ جديدة تستوعب شطحات الفكر. فعندما تصبح الحروف ضمن تشكيلة بصرية /معملية سواء أكانت هذه التشكيلة لحرف واحد، أو لأحرف عدة تصبح تجريداً،تعبر عن معنى في مكان تجريدي أيضاً، بالرغم من امكانية تلمسه والتعامل معه. بمعنى أن الحروف، انتقلت عن طريق الفن، لتصبح صورة مركبة، ناقلة روح الدين إلى الحياة. ومن يتتبع هذه الانتقالة للحروفية، يجدها قد مرت بسلسلة من الممارسات الوظيفية، ابتدأت تزيينية نفعية، وانتهت جمالية فلسفية، مروراً بعدد غير محدود من التحولات الداخلية. "لقد اكتشفت الصوفية – في وقت مبكر- المعنى الخفي وراء كل حرف، ومجموعات الحروف المتفرقة في 29 سورة من القرآن قد ألهمتهم بتفسيرات مجازية مدهشة. (...) حتى أنها أصبحت لدى الصوفية لغة سرية..(7)
أما مفردة الجمالية، تعني، فلسفة تقييم، وتقويم، العمل، من خلال نماذج من 81 لوحة سنعرضها، مع الشرح لبعضها، كي نبين أين يكمن جمال الاستعمال. ولذا سيكون تعاملنا مع الحروفية بوصفها إبداعاً، تحرر الإنسان من الرؤية السطحية المباشرة للعبادات، لتذهب به، إلى ما وراء الصورة الفنية للحروف، أي إلى العقل، إلى الفكر، إلى تلك الوشيجة التي تربط الحروف بالله. وسنجد أن هذا المحور هو محور واحد من محاور الجمالية. وخلال الصور سنجد أن مبدأ الصيانية متحكما بسياقات اللوحات الفنية حتى الحديثة منها. نحن إذن في تحديدنا للجمالية كي نبحث في تطور الحروف، من إيقاع الشكل البدائي لها، إلى المطلق. نسعى لتبيان العلاقة بين الحروفية والدين، بين الحروفية والمساحة المكانية، بين الحروفية والكتلة. فالجمالية في الحروفية، نوع من العبادة، أو الصلاة، هي صيرورة للكائن، وشكل من أشكال الصلة بين الخالق والمخلوق. وسنوضح عبر النماذج تسلسلا للوحات الفنانين التي تتعامل مع الحروفية تعاملا متدرج الفهم والتشكيل.
في حين تكون الحداثة في بحثنا تحديداً، هي الأسلوب، أي الكيفية التي تحولت الحروفية فيها إلى فكر ومفهوم وطريقة شاملة لا تختص بالفن التشكيلي وحده، بل بعموم تطور الأساليب الفنية. ولذا فالحداثة فيها كما سنرى، حداثة مقيدة، ولكنها نقلة فكرية وأسلوبية كبيرة تحررت فيها من بعض القيود الدينية لتجاري تجارب عالمية ولكنها بقيت ضمن السياق الفلسفي العام ومن هنا فهي ليست حداثة حرة كالحداثة الغربية، بل حداثة مقيدة بأصولها الفلسفية كي لا تخرج الحروفية فنياً عن هدفها الأساس، وهو التقرب إلى الله عن طريق الكلمة. من هنا نجد الحداثة التي نعنيها في هذا البحث تشكل مفهوما محدداً، وغامضاً، وكبيراً، ليس من الهين أن نلم بأطرافه هنا، فهو يتصل بالبناء الاجتماعي فالحرف هنا لغة للجميع، وبالبناء الفلسفي والفكري والثقافي حيث الرؤية الفلسفية تتحكم بكل الأنشطة لتطوير المجتمع..
هذه أقانيم ثلاثة متسعة، ومن حقول معرفية غير متجانسة زمنياً. فالحروف قديمة قدم الإنسان، بينما الجمالية والحداثة نتاج فلسفات وأفكار حضارات القرون الأخيرة. وعلينا كي نؤلف منها سياقاً مقبولاً لهذه الورقة، أن نضحي بالكثير من الأطروحات التي تعرقل سير تكوين رؤية متسقة لهذا البحث. فالصعوبة تكمن أولاً، في اختزال المفاهيم، والثانية في تكييفها لسياق معاصر.
تنويع المصادر
تتكشف حقيقة الفنون الإسلامية،وخاصة الحروفية عند تجاورها مع فنون مشابهة لها.فهل جاءت الحروفية في الفن، نتيجة تأثر بعض الفنانين، بالحروفية الهيروغليفية والنبطية القديمة، وما وجد منها من بقايا في القرن الثالث الهجري عندما استخدمت في القبور واللوحات الفنية؟. أم هي منطلقة من جذور الفلسفة العربية الإسلامية ومدياتها المعرفية وحدها؟. أم أنها اكتسبت قيمة فنية بعدما اشتغل الخطاطون العرب، وغير العرب،على فكرة التوحيد في الخط؟ أم جاءت الفنية للحروفية العربية بعد أن تأثرت بالترجمات وبالاحتكاك بثقافات الشعوب الأخرى، خاصة ما نقله المستشرقون والفنانون الذين زاروا الشرق العربي، والشرق الأقصى، واطلعوا على تراث الأمم ومخطوطاتهم، واكتشفوا الطاقة الفنية التي تمتلكها الخطوط العربية، فنقلوها لحضارتهم؟. أم لا هذا ولا ذاك، إن من يراجع صلة الحروف بالدين سيجد أن تحولها إلى بنية صوفية تجريدية تستغرق عمليا طاقة التأمل بالخالق. في هذا المجال، نجد أن صلة اللغة العربية بالدين" الإسلام " تتحول من الصورة إلى الكلمة ومن الكلمة إلى الكتلة ولذا فهي بنية تجريدية دينية حملت الوحدانية في أبعادها الفنية. بالرغم من أن فنون الحروفية العربية القديمة والحديثة، خلت من تمثيل القصة والشواهد والحكاية الدينية، كما هي عليه الفنون المسيحية عندما أعادت قصص، وحكايات الأنبياء، رسماً في الكنائس، نجد الحروفية العربية أعادت فكرة التوحيد عن طريق تفجير مكنونات الحروف ذاتياً، والبحث من داخلها عن مديات معرفية خاصة عند تجاورها مع غيرها، أو أن تجعل منها كتلة مالئة لمساحة اللوحة. وسنجد من خلال النماذج أن طرقاً فنية كثيرة سلكتها الحروفية كي تصل إلى أن تكون هي بذاتها عبادة عن طريق جماليتها الفنية. والمشكلة نقدية، عندما تقف أمام لوحة حروفية تحتار في أي اتجاه فني تضعها، وتكون الحيرة أكبر عندما لا تجد معايير نقدية لتفسرها في ضوئها. عندئذ تصبح الرؤية النقدية لها خبط عشواء، رأي يعيدها إلى جذورها الإسلامية وآخر يلحقها بالمدرسة التجريدية، وثالث يعيدها إلى فنانين قدامى ومحدثين عرب وغربيين.لذا فالرؤية النقدية تقع وفق تصورنا ضمن ميدان الفكر الصياني / التدميري للحروفية في الفلسفة العربية الإسلامية أيضا، وهو الخشية من أن يكون التفسير لها تكفيراً.. يقول أدونيس في هذا الصدد "الأبجدية تجريد، وهي لذلك أغنى، وأعمق كشفاً، وأكثر ثبوتية وديمومةً من الصورة. ثم إن اللغة الأبجدية أشدّ صلةً بالنفس والوعي من الصورة التشكيلية وهي لذلك أكثر قابلية لأن تشحن بالدلالات. هكذا يطابق التجريد الإلهي تجريد تعبيري بالكلام، وتتطابق الإشارة اللغوية مع الإشارة الإلهية.. ذلك أن الله كلمة لا صورة. ولا يدرك الله بالصورة، لأنها تقدم إدراكاً بصرياً خادعاً، وإنمّا يدرك بالكلمة( العقلية والقلبية) التي هي تجريدية" (8). شخصياً أميل إلى تضافر هذه المصادر كلها، في ما وصلت إليه الحروفية اليوم. فما نشاهده من لوحات وفية للحرف يخلو بعضها من الروح الديني ليتحول إلى لوحة فنية تتعامل مع الحرف تعاملا جمالياً وحدا ثويا، كلوحات مديحة عمر، في حين نجد بعضها روحياً والبعض الآخر جمالياً تزيينا، وهكذا. فالحروفية الحديثة تحولت إلى تيار فني حديث. لنخلص إلى أن الدائرة النقدية في هذه الورقة للحر وفية ستنطلق بعيداً عن أي توصيف مسبق ومحدد لها..
الهوامش
1 - الجميل والمقدس تأليف أنا ماري شيمل تحقيق وترجمة عقيل يوسف عيدان –الدار العربية للعلوم ناشرون هامش ص101 للمزيد عن الحروفية مجموعة مؤلفين ،1998 معجم العالم الإسلامي ط2 ترجمة جورج كتورة بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ص248
2 - نقلا عن الجميل والمقدس، محيي الدين بن عربي الفتوحات المكية ج1 القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 260
3 - المصدر نفسه ص 101
4 - المصدر نفسه ص 100
5 - لغة الفن التشكيلي في القرن العشرين د. صالح رضا مجلة عالم الفكر العدد الثاني المجلد 26 أكتوبر / ديسمبر 1997
6 - الجميل والمقدس ص100
7 - أدونيس، الرؤية الفنية بين عين الجسم وعين القلب. مجلد الفن العربي المعاصر العالم العربي، باريس ص 31 بلا تاريخ
8 - الجميل والمقدس ص.
من هنا يتضح أن للحروفية جذرا سياسيا، عبر تشكيل جماعة متجانسة لها، ترى في تأويل القرآن طريقة للمعرفة، ولها بنية عقلية رياضية في فهم الكون وعلاقة الأرض به، باعتمادها الحروف وقيمّها طريقة لحساب تلك المعرفة. ويذهب ابن عربي إلى أبعد من ذلك، عندما يعتبر الحروف كيانا اجتماعيا وأمة من الأمم فيقول: " إنَّ الحروف أمة من الأمم ، مخاطبون ومكلَّفون، وفيهم رُسُلٌ من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلاّ أهل الكشف من طريقنا، وعلم الحروف أفصح العالم لساناً وأوضحه بياناً" (2) يتضح أن الصوفية هي أكثر الفرق اهتماما بالحروف وقد أحصيت الحروف في القرآن الكريم التي تبتدئ بها السور فكانت 78 حرفا وهي عدد الحروف المقطعة في أوائل السور، الـ 29 سورة التي ابتدأت بالحروف ، وبدون التكرار فأن عددها 14 حرفا، ويرى البعض إن العدد 14 ضعف العدد 7 وهو من الأعداد التي ربما لها دلالات خاصة" (3) " فالصوفية اكتشفت في وقت مبكر المعنى الخفي وراء كل حرف، ومجموعات الحروف قد ألهمتهم تفسيرات مجازية مدهشة، ومعظم رؤوس الصوفية قد أعاروا هذا الموضوع اهتماماً "(4).
الحروفية والدين
يعني البحث أساساً أولاً، بفن الحروفية، بوصفه فناً ذا مرجعية دينية وتراثية قائمة على الفلسفة العربية الإسلامية. ثم تعني الورقة، ثانياً، بجماليات الحروفية عبر استخداماتها المختلفة، بما يؤكد أو ينفي الرؤية الفلسفية تلك؟ وثالثاً، دمج الاثنين؛ الحروفية والجمالية بمفهوم الحداثة في الفن التشكيلي المعاصر، وفيما إذا كانت الحداثة فيها مقيدة بتلك الفلسفة، أم متمردة عليها.
وابتداء نقول: أن الحروفية ليست الحروف الأبجدية فقط، بل هي فن يتشكل من امتزاج الشكل واللفظ. ويكون اللون لغة في الحروفية أيضا. " فاللغة سابقاً كانت بداياتها الأولى لغة تشكيلية، كما كان الصوت هو أيضا اصطلاحاً رمزيا لمعنى أو مدلول" (5) ويبدو لي أن هذه البدايات تحتاج لأكثر من بحث في جوانبها المتعددة، خاصة الرؤية الفلسفية التي تتحكم بالحروفية وتجعلها لغة تشكيلية دون أن تكون ثمة معرفة بالفن التشكيلي، ثم وهذا الأهم الكيفية التي انطلت بها تلك النواة لتصبح فنا حداثيا ومستقبلياً. من هنا يصبح المرور من بدايات الحروفية التشكيلية الأولى، إلى الجمالية وصولا للحداثة، بحاجة إلى جسور معرفية، تربط فيما بين مراحل تحولاتها، وأن هذه الجسور تستفيد من التجربة الذاتية للفنانين العرب، بوصفهم منغمرين دون أن يعرفوا بجمالية الحرف العربي وبنيته التشكيلية، ومن التجربة الفنية العالمية التي سبقتنا وحولت الحروف اللاتينية إلى جمالية فنية. أما خارج هذين المدارين فلسفيا وعمليا، فلن يكون حديثنا عن الحروفية العربية، بل عن حروفيات أخر. أعني لتكوين يخص كل نشاط فني أو عملي أو فكري.. أي الحرف بمعناه الحرفة.. وهي مهمة ليست هينة أيضاً، ولا يستطيع بحث مقتضب كهذا الإيفاء بجوانب هذه المديات. لأن الحروفية ليست حصيلة تجربة لفنان أو خطاط، واحد، ولا لتجارب منطقة معينة من مناطق العالم الإسلامي دون أخرى، بل هي تيار فني /فكري، ينهل من معين الفلسفة العربية الإسلامية، بوصفها مصدرا قارا، ويتمرد عليها، عندما بدأت تتحكم بآليات تطورها، ويحاكي التجربة العالمية ويتأثر بها، دون أن ينح مسارها ويتمرد على جذورها الدينية، ومن هنا تواجهنا مسألة معقدة، أن الحروفية العربية، ليست حروفية للغة فقط، بل حروفية لفنون اللغة والفنون الأخرى، ولذلك قٌيدت بما تحمله من جذورها الفلسفية لتبقيها ضمن نطاقها، ثم لتحدد تطورها.. إن من يتابع تطورات الحروفية اليوم، تلك التي كانت نتيجة التلاقح الثقافي، أو نتيجة للابتكار، يجدها قد شملت ميادين فنية، ومعمارية، وتزينية، وطباعية مختلفة. فعندما نقول فن الحروفية، نجد لها تاريخاً متشعباً وطويلا يمتد عبر قرون، من مرحلة ما قبل الإسلام وإلى يومنا هذا.ومن يدقق في جمالياتها، يجدها قد تداخلت مع ثقافات وممارسات أجنبية وفنية، أغنت واغتنت، إلى الحد الذي يجعلها اليوم، تياراً قائما بذاته، سواء أكان ذلك في منطقة الشرق، التي صانت أوليات الممارسات الفنية ومنهجها دينيا،التي تعني أيضا تجديداتها في الهند والصين، واليابان، وبلاد فارس، وتركيا، أم الشرق الأوسط،، وهو المركز الديني، أم شمال إفريقيا، حيث بدأ الانفتاح منه على العالم الغربي، أم العالم الغربي الذي تأثر إيجابياً بفنون الشرق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم طور فنونه بما ينسجم وروح الحداثة.... إذن ليس من بقعة جغرافية معنية يحدد بها فن الحروفية، ولا من مساهمة فنية محددة كانت هي الأساس، أو يمكن الانطلاق منها إلى ما وصلت إليه اليوم.
ونقول ثانياً، أن مفهوم الحروفية كمصطلح قابل للحياة، لأنه يختص، ليس بالأبجدية الكتابية فقط،، بل بأبجدية كل الأعمال اليدوية، والفكرية،والفلسفية، ومنها يمكن تلمس الخطوط الأولى لوضع مفهوم جمالي – فلسفي أطلق عليه لاحقا " الإطار" الذي وضع "حدودا" لكل فن وأوليات لأبجديته.. فالحرفة مشتقة من الحرف، ونعني بذلك أن أبجدية ما تشمل فنون النجارة، الزراعة، والأعمال اليدوية؛ من حياكة وسباكة وفنون شعبية ، وصولا إلى الفنون الجمالية من أدبية وفكرية فكل منها لها حروف مختصة بها.
هذا البحث غير معنى بجماليات هذه الأبجديات الواسعة للمهن والصناعات والإيديولوجيات والفلسفات، ولكن الإشارة إليها تعني، أن سعة فكرية ما، يمكن أن ينطوي عليها مفهوم الحروفية، خاصة ضمن تيارات الفلسفة العربية الإسلامية.
عتبة العنوان
لم إذن كل هذا الاهتمام بالحروف؟ والحروف العربية على وجه التحديد؟
يتألف عنوان الورقة من أربع كلمات هي " حروف، "يه" وتعني الجمالية، ثم حداثة، ثم مقيدة " وهذا بحد ذاته إشكالية نقدية، لأننا سنجمع بين ثلاثة حقول مفترقة المفاهيم أيضاً.
فالحروف هي الأبجدية العربية تحديداً، منتقلة من الخط، إلى المدونة، ومن المدونة إلى العلامة، ومن العلامة إلى الصورة، ومن الصورة إلى التجريد. ولكن الحروف التي يتعامل الفنان معها ليست معزولة عن الرؤية الفلسفية للإسلام، خاصة الدينية منها. فهي مهما اتخذت من أشكال فنية تعبيرية ورمزية، ومهما تنوعت مادتها وتراكيبها، تنتمي للفكرة الصيانية الكبرى التي تدين بها الفلسفة العربية الإسلامية، وهي التوحيد. ولهذه الفلسفة قوة معرفية تمارس حضورها على كل الأنشطة الفكرية والاجتماعية للمسلم. ومن هنا فالبنية الصيانية ليست مجرد أفكار، بل هي مؤسسات، لها دور الهيمنة على الفكر والحياة. فالمسلم يقر بالأهمية القصوى للأبجدية العربية، وهي ملازمة له مهما كانت قوميته أو لغته،" فهي الأحرف التي أوحيت فيها كلمة الله الخالدة. والقرآن بين أنه لو كان البحر مدادا، وكانت الأشجار أقلاما لما كان ذلك يكفي لسطر كلمات المولى" (...) فهي وعاء الوحي ولا يمكن التعبير عن أسماء الله وصفاته إلاّ بوساطتها ومع ذلك فإن تلك الحروف مختلفة عنه؛ فهي "حجاب المغايرة" الذي يجب على الصوفي تخطيه،لأنه مادامت الحروف تقيده فهو لا يزال أسيرا لشيء من الأصنام، كما يقول النفري (ت354هـ) إنه يعبد نفسه، بدلا من أن يكون حيث لا حروف ولا أشكال.(6).
الحروفية والفلسفة
على مستوى التجربة الفنية، لن نتفهم العلاقة بين الحروفية والفلسفة العربية الإسلامية عملياً إلا إذا كانت مقترنة بالمكانية، فوجود الحروفية كخطوط تتعانق مع المكان- الورقة – الحائط- القماش-.... الخ لتشكل كتلة بصرية مقروءة / مرئية وتتداخل مع غيرها من مكونات اللوحة، هي محاولة لتجسيد تلك الرؤية الفلسفية عيانا، وبشكل محسوس، ناقلة فكرة التوحيد من الماورائيات إلى الواقع.لذا فهي ليست استجابة من غير هدف لقدرة الحروف الذاتية على تشكيل رؤية روحية، بل وتشعرنا ونحن نقرؤها، أننا قريبون من الله. نعزو – كما سنرى- هذه الثورة الفنية في الحروفية إلى قدرة الفلسفة العربية الإسلامية على تطويع الحروف لأن تصبح جزءاً من بنية فلسفية تصون الدين، وتحميه، وتوسع من تأثيره، وتفتح له نوافذ جديدة تستوعب شطحات الفكر. فعندما تصبح الحروف ضمن تشكيلة بصرية /معملية سواء أكانت هذه التشكيلة لحرف واحد، أو لأحرف عدة تصبح تجريداً،تعبر عن معنى في مكان تجريدي أيضاً، بالرغم من امكانية تلمسه والتعامل معه. بمعنى أن الحروف، انتقلت عن طريق الفن، لتصبح صورة مركبة، ناقلة روح الدين إلى الحياة. ومن يتتبع هذه الانتقالة للحروفية، يجدها قد مرت بسلسلة من الممارسات الوظيفية، ابتدأت تزيينية نفعية، وانتهت جمالية فلسفية، مروراً بعدد غير محدود من التحولات الداخلية. "لقد اكتشفت الصوفية – في وقت مبكر- المعنى الخفي وراء كل حرف، ومجموعات الحروف المتفرقة في 29 سورة من القرآن قد ألهمتهم بتفسيرات مجازية مدهشة. (...) حتى أنها أصبحت لدى الصوفية لغة سرية..(7)
أما مفردة الجمالية، تعني، فلسفة تقييم، وتقويم، العمل، من خلال نماذج من 81 لوحة سنعرضها، مع الشرح لبعضها، كي نبين أين يكمن جمال الاستعمال. ولذا سيكون تعاملنا مع الحروفية بوصفها إبداعاً، تحرر الإنسان من الرؤية السطحية المباشرة للعبادات، لتذهب به، إلى ما وراء الصورة الفنية للحروف، أي إلى العقل، إلى الفكر، إلى تلك الوشيجة التي تربط الحروف بالله. وسنجد أن هذا المحور هو محور واحد من محاور الجمالية. وخلال الصور سنجد أن مبدأ الصيانية متحكما بسياقات اللوحات الفنية حتى الحديثة منها. نحن إذن في تحديدنا للجمالية كي نبحث في تطور الحروف، من إيقاع الشكل البدائي لها، إلى المطلق. نسعى لتبيان العلاقة بين الحروفية والدين، بين الحروفية والمساحة المكانية، بين الحروفية والكتلة. فالجمالية في الحروفية، نوع من العبادة، أو الصلاة، هي صيرورة للكائن، وشكل من أشكال الصلة بين الخالق والمخلوق. وسنوضح عبر النماذج تسلسلا للوحات الفنانين التي تتعامل مع الحروفية تعاملا متدرج الفهم والتشكيل.
في حين تكون الحداثة في بحثنا تحديداً، هي الأسلوب، أي الكيفية التي تحولت الحروفية فيها إلى فكر ومفهوم وطريقة شاملة لا تختص بالفن التشكيلي وحده، بل بعموم تطور الأساليب الفنية. ولذا فالحداثة فيها كما سنرى، حداثة مقيدة، ولكنها نقلة فكرية وأسلوبية كبيرة تحررت فيها من بعض القيود الدينية لتجاري تجارب عالمية ولكنها بقيت ضمن السياق الفلسفي العام ومن هنا فهي ليست حداثة حرة كالحداثة الغربية، بل حداثة مقيدة بأصولها الفلسفية كي لا تخرج الحروفية فنياً عن هدفها الأساس، وهو التقرب إلى الله عن طريق الكلمة. من هنا نجد الحداثة التي نعنيها في هذا البحث تشكل مفهوما محدداً، وغامضاً، وكبيراً، ليس من الهين أن نلم بأطرافه هنا، فهو يتصل بالبناء الاجتماعي فالحرف هنا لغة للجميع، وبالبناء الفلسفي والفكري والثقافي حيث الرؤية الفلسفية تتحكم بكل الأنشطة لتطوير المجتمع..
هذه أقانيم ثلاثة متسعة، ومن حقول معرفية غير متجانسة زمنياً. فالحروف قديمة قدم الإنسان، بينما الجمالية والحداثة نتاج فلسفات وأفكار حضارات القرون الأخيرة. وعلينا كي نؤلف منها سياقاً مقبولاً لهذه الورقة، أن نضحي بالكثير من الأطروحات التي تعرقل سير تكوين رؤية متسقة لهذا البحث. فالصعوبة تكمن أولاً، في اختزال المفاهيم، والثانية في تكييفها لسياق معاصر.
تنويع المصادر
تتكشف حقيقة الفنون الإسلامية،وخاصة الحروفية عند تجاورها مع فنون مشابهة لها.فهل جاءت الحروفية في الفن، نتيجة تأثر بعض الفنانين، بالحروفية الهيروغليفية والنبطية القديمة، وما وجد منها من بقايا في القرن الثالث الهجري عندما استخدمت في القبور واللوحات الفنية؟. أم هي منطلقة من جذور الفلسفة العربية الإسلامية ومدياتها المعرفية وحدها؟. أم أنها اكتسبت قيمة فنية بعدما اشتغل الخطاطون العرب، وغير العرب،على فكرة التوحيد في الخط؟ أم جاءت الفنية للحروفية العربية بعد أن تأثرت بالترجمات وبالاحتكاك بثقافات الشعوب الأخرى، خاصة ما نقله المستشرقون والفنانون الذين زاروا الشرق العربي، والشرق الأقصى، واطلعوا على تراث الأمم ومخطوطاتهم، واكتشفوا الطاقة الفنية التي تمتلكها الخطوط العربية، فنقلوها لحضارتهم؟. أم لا هذا ولا ذاك، إن من يراجع صلة الحروف بالدين سيجد أن تحولها إلى بنية صوفية تجريدية تستغرق عمليا طاقة التأمل بالخالق. في هذا المجال، نجد أن صلة اللغة العربية بالدين" الإسلام " تتحول من الصورة إلى الكلمة ومن الكلمة إلى الكتلة ولذا فهي بنية تجريدية دينية حملت الوحدانية في أبعادها الفنية. بالرغم من أن فنون الحروفية العربية القديمة والحديثة، خلت من تمثيل القصة والشواهد والحكاية الدينية، كما هي عليه الفنون المسيحية عندما أعادت قصص، وحكايات الأنبياء، رسماً في الكنائس، نجد الحروفية العربية أعادت فكرة التوحيد عن طريق تفجير مكنونات الحروف ذاتياً، والبحث من داخلها عن مديات معرفية خاصة عند تجاورها مع غيرها، أو أن تجعل منها كتلة مالئة لمساحة اللوحة. وسنجد من خلال النماذج أن طرقاً فنية كثيرة سلكتها الحروفية كي تصل إلى أن تكون هي بذاتها عبادة عن طريق جماليتها الفنية. والمشكلة نقدية، عندما تقف أمام لوحة حروفية تحتار في أي اتجاه فني تضعها، وتكون الحيرة أكبر عندما لا تجد معايير نقدية لتفسرها في ضوئها. عندئذ تصبح الرؤية النقدية لها خبط عشواء، رأي يعيدها إلى جذورها الإسلامية وآخر يلحقها بالمدرسة التجريدية، وثالث يعيدها إلى فنانين قدامى ومحدثين عرب وغربيين.لذا فالرؤية النقدية تقع وفق تصورنا ضمن ميدان الفكر الصياني / التدميري للحروفية في الفلسفة العربية الإسلامية أيضا، وهو الخشية من أن يكون التفسير لها تكفيراً.. يقول أدونيس في هذا الصدد "الأبجدية تجريد، وهي لذلك أغنى، وأعمق كشفاً، وأكثر ثبوتية وديمومةً من الصورة. ثم إن اللغة الأبجدية أشدّ صلةً بالنفس والوعي من الصورة التشكيلية وهي لذلك أكثر قابلية لأن تشحن بالدلالات. هكذا يطابق التجريد الإلهي تجريد تعبيري بالكلام، وتتطابق الإشارة اللغوية مع الإشارة الإلهية.. ذلك أن الله كلمة لا صورة. ولا يدرك الله بالصورة، لأنها تقدم إدراكاً بصرياً خادعاً، وإنمّا يدرك بالكلمة( العقلية والقلبية) التي هي تجريدية" (8). شخصياً أميل إلى تضافر هذه المصادر كلها، في ما وصلت إليه الحروفية اليوم. فما نشاهده من لوحات وفية للحرف يخلو بعضها من الروح الديني ليتحول إلى لوحة فنية تتعامل مع الحرف تعاملا جمالياً وحدا ثويا، كلوحات مديحة عمر، في حين نجد بعضها روحياً والبعض الآخر جمالياً تزيينا، وهكذا. فالحروفية الحديثة تحولت إلى تيار فني حديث. لنخلص إلى أن الدائرة النقدية في هذه الورقة للحر وفية ستنطلق بعيداً عن أي توصيف مسبق ومحدد لها..
الهوامش
1 - الجميل والمقدس تأليف أنا ماري شيمل تحقيق وترجمة عقيل يوسف عيدان –الدار العربية للعلوم ناشرون هامش ص101 للمزيد عن الحروفية مجموعة مؤلفين ،1998 معجم العالم الإسلامي ط2 ترجمة جورج كتورة بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ص248
2 - نقلا عن الجميل والمقدس، محيي الدين بن عربي الفتوحات المكية ج1 القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 260
3 - المصدر نفسه ص 101
4 - المصدر نفسه ص 100
5 - لغة الفن التشكيلي في القرن العشرين د. صالح رضا مجلة عالم الفكر العدد الثاني المجلد 26 أكتوبر / ديسمبر 1997
6 - الجميل والمقدس ص100
7 - أدونيس، الرؤية الفنية بين عين الجسم وعين القلب. مجلد الفن العربي المعاصر العالم العربي، باريس ص 31 بلا تاريخ
8 - الجميل والمقدس ص.