يعتقد الروائي الانكليزي "فيليب هينشر" ان نجاح هذا الشكل الأدبي، الذي رفعهُ كبار الكُتّاب من أمثال "جويس" و"لورنس" و"بورغيس" الى مراتب عليا، بات في تناقص، ولم تعد المجلات الأدبية تُقبل عليه. وعندما تكون المردودات متواضعة جداً، والناشرون غير متحمسين؛ ما الذي يدفع الكاتب حتى لتجشم عناء كتابة القصة القصيرة؟
لعل الجواب يكمن أولاً في الرغبة لنشر تلك القصص (رغم كل شيء)؛ وثانياً، كما سيُخبرنا أغلب الكُتّاب، في البهجة التي يكسبها الكاتب من قصصه القصيرة، التي قد لا تمنحها رواية ذات مئة ألف كلمة.
كان "هينشر" مُحقاً بالقول ان شعبية ومكانة أي نمط أدبي ترتبط بالامكانيات المتاحة لمن ينتجه. فما هي الأسواق المفتوحة اليوم لكاتب القصة القصيرة العصري، وصولاً لجمهورٍ أوسع من قُرّاء المجلات الشعبية؟ يمكن للمرء أن ينشُر ما يشاء على مواقع الانترنت، دون ضمان قراءة الموضوع أو أي مردودٍ مالي. أما ما يُقرأ عبر الاذاعة فهو محكوم أيضاً بعدد الكلمات ومساحة البث؛ كما هو الحال في الصحف المطبوعة. وبعد هذا تتبقى حفنة صغيرة من المجلات الأدبية المتخصصة (محدودة التوزيع غالباً).
بين الشظايا والتفاصيل
في مقابل هذه المعادلات تبرز حقيقة ان شعبية القصة القصيرة غالباً ما تنحسر أو تتمدد وفقاً لمُحدِدات جمالية واقتصادية غريبة، يعجز حتى المعلقون الثقافيون والعارفون ببواطن تجارة الكتب عن استقرائها. أما العصر الذهبي للقصة القصيرة، من أواسط حتى نهاية القرن التاسع عشر فقد نبع؛ ليس بظهور جمهور حديث الثقافة، خلقتهُ الاصلاحات الفكتورية للمدارس فحسب، بل لحماس الكُتّاب الكبار مثل: "ديكنز" و"جورج أليوت" و"ترولوب"؛ لتجريب ذلك الشكل الأدبي. وبعد قرنٍ من الزمن، صار بإمكان الكُتّاب الواعدين؛ مثل "أيان ماك أوين" و"غراهام سويفت" و"وليام بويد" بناء شُهرتهم الأدبية عبر القصة القصيرة قبل غزو قمم الرواية.
من نتاج كبار الكُتّاب بدا ان القصة القصيرة لا تمتلك عموماً قالباً جمالياً مقبولاً واحداً. وعليهِ فان احدى أعظم مزاياها تكمن في قدرتها الظاهرة على الوجود وفقاً لقواعدها الخاصة، والاستمرار بمعزل عن الأدب السائد. الى حد وجود صعوبة التعريف الدقيق (أحياناً) بماهية القصة القصيرة.
ليس طول القصة بالدليل القاطع على شكلها الأدبي؛ فقد فاقت بعض نتاجات "وليم ثاكري" الثلاثين ألف كلمة، بينما أنهى "دونالد بارثيلم" أعماله بعد بضع مئات. وهي تأتي بكل الظروف والأنواع؛ من استحضار "تشيخوف" لمزايا الجو العام للقصة، الى تصوير "جاك لندن" لوحشية قوانين الطبيعة حتى مفارقات المقطع الأخير. هناك قصص قصيرة تبدو كروايةٍ مُصغّرة؛ تطفح بالتفاصيل الدقيقة لموقفٍ معيّن. بينما تقتصر أفضل أعمال "جيمس كيلمان" على شظية أو إثنتين من حوارٍ ذاتيٍ غامض لا يسمح للقارئ سوى بالتخمين لكشف دوافع الشخصيات.
حياة القصة
لماذا إذاً بات الطلب الحالي ضعيفاً على القصة القصيرة؟ يذكر أحد التفسيرات حقيقة ان مجموعة القصص القصيرة (12 قصة في الكتاب الواحد مثلاً) تفقد جاذبيتها للقارئ عندما يفهم طريقة عمل ذهن المؤلف. وطرح "جورج اورويل" تفسيراً آخر مفادهُ الكسل الذهني البحت للقارئ؛ وصعوبة تعودهِ على مجموعة جديدة من الشخصيات كل بضع صفحات، قائلاً في اطروحته "ذكريات متجر الكتب": "يريد أغلب القُرّاء التوغل في رواية لا تتطلب الكثير من التفكير بعد الفصل الأول"! لكنهُ آمن أيضاً ان اللوم يقع على الكُتّاب أكثر من القراء؛ لأن أغلب القصص القصيرة الحديثة (كان ذلك في منتصف الثلاثينيات) كانت.."خالية من القيمة ولا حياةَ فيها، ومتخمة شكلياً" مقارنةً بقصص مثل أعمال "د. ه. لورنس" التي تستحق شعبيتها. وكانت فترة بين الحربين هي الأخيرة التي كان بإمكان الكاتب فيها أن يعتاش من القصص القصيرة في انكلترا.
في العشرينيات، كانت هناك ست جرائد مسائية في لندن تطبع كلها القصص القصيرة. وكان على القصة أن تكون جيدة جداً أو رديئة جداً لكي لا تحصل على موقعٍ لها في النشر. ولو شكا كاتب القرن الحادي والعشرين من قلة منافذ النشر، فقد كانت المشكلة قبل ثمانين عاماً في كثرة المنافذ. في حينها كتب العديدون بصيغ أدبية متشابهة، وصار لعمالقة صناعة الأدب؛ مثل "سومرست موم" الكثير من المُقلدين.
صياغة الشكل
من الطبيعي ان للقصة القصيرة علاقة حميمة بالرواية (التي تنبع منها بعض تقنياتها)، لكن هذا يبرر أيضاً نظرة الشك التي يوجهها البعض للقصة القصيرة. قال "كينغسلي أيمس" يوماً ان القصة ما هي إلاّ.. "شظايا تسقط من طاولة كاتب الرواية".. وبمعنى آخر أجزاء مهملة من أعمال قيد الكتابة، وأفكار لامعة لم يتم تطويرها قدماً لسببٍ ما!
سيُطالِب القارئ المهتم بتغيير هذا التعريف؛ وبكيانٍ أدبي قائم بذاته، وليس أجزاء من بقايا تتشظى. ولعل إثبات الفرق الجوهري بين الرواية والقصة القصيرة يأتي من حقيقة عدم قدرة جميع الروائيين على كتابة القصة القصيرة، وعدم إخفاق كاتبي القصة القصيرة غالباً في كتابة الرواية. لكن التركيز النقدي القديم على الرواية بأنها أعلى نقاط الابداع الأدبي شتّتَ الاهتمام عن كُتّابٍ كانت أفضل إنجازاتهم في القصة القصيرة.
إذاً لماذا يجلس الكاتب اليوم لكتابة قصة قصيرة، لسوقٍ غير موجودة؟ والجواب هو: أنهُ أمرٌ ممتع يطرح تحدياً في الوقت نفسه؛ وتمريناً في صياغة الشكل يكون فيه على كل جملة دفع مسيرة النص قدماً، حيث لا مكان للحشو أو الانزلاق نحو السطحية، بما قد ينتهي كشظايا على أرض الغرفة. وقدرة الكاتب هنا تتجلى في صياغة عالمٍ كامل على بضع صفحات.
عن صحيفة الاندبندنت البريطانية
* نقلا عن صحيفة الصباح
لعل الجواب يكمن أولاً في الرغبة لنشر تلك القصص (رغم كل شيء)؛ وثانياً، كما سيُخبرنا أغلب الكُتّاب، في البهجة التي يكسبها الكاتب من قصصه القصيرة، التي قد لا تمنحها رواية ذات مئة ألف كلمة.
كان "هينشر" مُحقاً بالقول ان شعبية ومكانة أي نمط أدبي ترتبط بالامكانيات المتاحة لمن ينتجه. فما هي الأسواق المفتوحة اليوم لكاتب القصة القصيرة العصري، وصولاً لجمهورٍ أوسع من قُرّاء المجلات الشعبية؟ يمكن للمرء أن ينشُر ما يشاء على مواقع الانترنت، دون ضمان قراءة الموضوع أو أي مردودٍ مالي. أما ما يُقرأ عبر الاذاعة فهو محكوم أيضاً بعدد الكلمات ومساحة البث؛ كما هو الحال في الصحف المطبوعة. وبعد هذا تتبقى حفنة صغيرة من المجلات الأدبية المتخصصة (محدودة التوزيع غالباً).
بين الشظايا والتفاصيل
في مقابل هذه المعادلات تبرز حقيقة ان شعبية القصة القصيرة غالباً ما تنحسر أو تتمدد وفقاً لمُحدِدات جمالية واقتصادية غريبة، يعجز حتى المعلقون الثقافيون والعارفون ببواطن تجارة الكتب عن استقرائها. أما العصر الذهبي للقصة القصيرة، من أواسط حتى نهاية القرن التاسع عشر فقد نبع؛ ليس بظهور جمهور حديث الثقافة، خلقتهُ الاصلاحات الفكتورية للمدارس فحسب، بل لحماس الكُتّاب الكبار مثل: "ديكنز" و"جورج أليوت" و"ترولوب"؛ لتجريب ذلك الشكل الأدبي. وبعد قرنٍ من الزمن، صار بإمكان الكُتّاب الواعدين؛ مثل "أيان ماك أوين" و"غراهام سويفت" و"وليام بويد" بناء شُهرتهم الأدبية عبر القصة القصيرة قبل غزو قمم الرواية.
من نتاج كبار الكُتّاب بدا ان القصة القصيرة لا تمتلك عموماً قالباً جمالياً مقبولاً واحداً. وعليهِ فان احدى أعظم مزاياها تكمن في قدرتها الظاهرة على الوجود وفقاً لقواعدها الخاصة، والاستمرار بمعزل عن الأدب السائد. الى حد وجود صعوبة التعريف الدقيق (أحياناً) بماهية القصة القصيرة.
ليس طول القصة بالدليل القاطع على شكلها الأدبي؛ فقد فاقت بعض نتاجات "وليم ثاكري" الثلاثين ألف كلمة، بينما أنهى "دونالد بارثيلم" أعماله بعد بضع مئات. وهي تأتي بكل الظروف والأنواع؛ من استحضار "تشيخوف" لمزايا الجو العام للقصة، الى تصوير "جاك لندن" لوحشية قوانين الطبيعة حتى مفارقات المقطع الأخير. هناك قصص قصيرة تبدو كروايةٍ مُصغّرة؛ تطفح بالتفاصيل الدقيقة لموقفٍ معيّن. بينما تقتصر أفضل أعمال "جيمس كيلمان" على شظية أو إثنتين من حوارٍ ذاتيٍ غامض لا يسمح للقارئ سوى بالتخمين لكشف دوافع الشخصيات.
حياة القصة
لماذا إذاً بات الطلب الحالي ضعيفاً على القصة القصيرة؟ يذكر أحد التفسيرات حقيقة ان مجموعة القصص القصيرة (12 قصة في الكتاب الواحد مثلاً) تفقد جاذبيتها للقارئ عندما يفهم طريقة عمل ذهن المؤلف. وطرح "جورج اورويل" تفسيراً آخر مفادهُ الكسل الذهني البحت للقارئ؛ وصعوبة تعودهِ على مجموعة جديدة من الشخصيات كل بضع صفحات، قائلاً في اطروحته "ذكريات متجر الكتب": "يريد أغلب القُرّاء التوغل في رواية لا تتطلب الكثير من التفكير بعد الفصل الأول"! لكنهُ آمن أيضاً ان اللوم يقع على الكُتّاب أكثر من القراء؛ لأن أغلب القصص القصيرة الحديثة (كان ذلك في منتصف الثلاثينيات) كانت.."خالية من القيمة ولا حياةَ فيها، ومتخمة شكلياً" مقارنةً بقصص مثل أعمال "د. ه. لورنس" التي تستحق شعبيتها. وكانت فترة بين الحربين هي الأخيرة التي كان بإمكان الكاتب فيها أن يعتاش من القصص القصيرة في انكلترا.
في العشرينيات، كانت هناك ست جرائد مسائية في لندن تطبع كلها القصص القصيرة. وكان على القصة أن تكون جيدة جداً أو رديئة جداً لكي لا تحصل على موقعٍ لها في النشر. ولو شكا كاتب القرن الحادي والعشرين من قلة منافذ النشر، فقد كانت المشكلة قبل ثمانين عاماً في كثرة المنافذ. في حينها كتب العديدون بصيغ أدبية متشابهة، وصار لعمالقة صناعة الأدب؛ مثل "سومرست موم" الكثير من المُقلدين.
صياغة الشكل
من الطبيعي ان للقصة القصيرة علاقة حميمة بالرواية (التي تنبع منها بعض تقنياتها)، لكن هذا يبرر أيضاً نظرة الشك التي يوجهها البعض للقصة القصيرة. قال "كينغسلي أيمس" يوماً ان القصة ما هي إلاّ.. "شظايا تسقط من طاولة كاتب الرواية".. وبمعنى آخر أجزاء مهملة من أعمال قيد الكتابة، وأفكار لامعة لم يتم تطويرها قدماً لسببٍ ما!
سيُطالِب القارئ المهتم بتغيير هذا التعريف؛ وبكيانٍ أدبي قائم بذاته، وليس أجزاء من بقايا تتشظى. ولعل إثبات الفرق الجوهري بين الرواية والقصة القصيرة يأتي من حقيقة عدم قدرة جميع الروائيين على كتابة القصة القصيرة، وعدم إخفاق كاتبي القصة القصيرة غالباً في كتابة الرواية. لكن التركيز النقدي القديم على الرواية بأنها أعلى نقاط الابداع الأدبي شتّتَ الاهتمام عن كُتّابٍ كانت أفضل إنجازاتهم في القصة القصيرة.
إذاً لماذا يجلس الكاتب اليوم لكتابة قصة قصيرة، لسوقٍ غير موجودة؟ والجواب هو: أنهُ أمرٌ ممتع يطرح تحدياً في الوقت نفسه؛ وتمريناً في صياغة الشكل يكون فيه على كل جملة دفع مسيرة النص قدماً، حيث لا مكان للحشو أو الانزلاق نحو السطحية، بما قد ينتهي كشظايا على أرض الغرفة. وقدرة الكاتب هنا تتجلى في صياغة عالمٍ كامل على بضع صفحات.
عن صحيفة الاندبندنت البريطانية
* نقلا عن صحيفة الصباح