رغم إن الكتابة العربية ولدت قبل الإسلام، إلا إن تطورهذه الكتابة جاء نتيجة الطلب الى الخطاطين بعمل نسخ متعددة من القرآن بسبب التوسع الكبيرللدولة الإسلامية. فأرتبط الخط العربي وجمالياته بالنص المقدس، وعلى مرور الزمن تطور استعمال الخط ليشـمل كل مجالات الحياة وليصبح فنا معاشـاً بدل التصوير والنحت في الحضارات الاخرى.
ارتقى الخط العربي جماليا في بغـداد عاصمة الدولة الإسلامية من القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر، ثم في مديـنة الـقاهـرة حتى القرن السادس عشر، وأخيـرا في اسطنـبول حتى القـرن التا سع عشر. ويواصل بعض الخطاطين جهود واسعة لحد اليوم كي لاتطفيء شعلة هذا الفـن الراقي.
خلال ما يقارب الالف عام تعدد ت اساليب الخط، وابُـتكرت طرق كثيرة لتحضـيـرآلة لخط ـ القلم ـ وهو نوع من القصب يـُبرى حسب تعاليم الخطاطين الكبار. كما اهتم الخطاطون كذلك بوصفات تحضير الحبر والورق.
وهكذا أصبح الخط العربي أحد أهم الفـنون في الحضارة الإسلامية. ورغم إن رسم الاشكال الحية ونحتها لم يكن ممنوعا إلا انه كان مكروها في المعالم المعمارية بالمدينة،لأنه يذكر بعبادة الأصنام. فـبقيـت رسوم الأشكال البشـرية والحيوانية في الكتب صغيرة جدا وبالالوان. أوعلى الحاجيات المصنوعة من قـبل المهنيــيـن. بينما تحول الخط الى ديكور عملاق يحتل جدران واسعة من المعالم المعمارية، كالمسجد والمدرسة والمقـبرة والمكتـبة فاحتل الخط مكان التـماثـيل والصور الجدارية، وتغـير وجود الفن داخل المدينة عما كان معروفا في الحضارات القديـمة.
*
با لنـسبـة لي شـخصـياً رأيت وعـشت هـذا الديكور الخطي منذ الطـفـولة. كنت أسبح في عالم الخط، في الدار والمـحلة والمدينة بأ كملها. مدينة النجف التي ولدت فيها هي مدينة مقدسة لم يكن فيها أي مظهرمرئي لصورالاشكال البشرية.
اكـتـشافي للخط يعود أيضأ الى خالي الهاوي للخط في دارنا بالمحلة القديمة بجانب مسجد الامام علي. في الخامسة من عمري كنت منبهـرًا برؤيته وهو يخط بقلم القصب والحبر الأسود السائل على الورق الأسمر. كان مؤِّلفا لكتب تاريخية.
وعندما كنت في المدرسة الابتـدائية أثـارت كتابـتي الواضحة اهتمام المعلم فأ ثـنىعليّ أمام بقـية الطلاب، وطلب مني الكتـابة أمامهم، وكان ذلك في عام 1954. ولازلت أذكر دائماً بالامتـنان هذا المعلم اذ جعلني أعي لأول مرة في حياتي بحسن كتابتي. ومنذ ذلك الوقت أسعى كل يوم الى التطور بهذا المجال. وهذه الا لتـفاتة من المعلم تزداد قيمة عندي لا ني أسجلها بذاكرتي كأول مرة أخط فيها أمام ا لجمهور. اذ ان الخط أمام الجمهورأصبح جزء مهم من عملي المهني ومنذ عام 1972.
والى جانب الخط كنت أحب الرسم أيضأ، في زمن كان معلم الرسم يضع اناء من الفخار، ويطلب أن نرسمه بشكل فوتوغرافي.
ولكن الطلب على الخط كان مستمراً في ذلك الزمان وكنت أنفذ الطلبات دائما. وخصوصا الخط على الباصات الخشـبية المصنوعة في النجف. ودائما ماأخط أمثالاً وحكما، وهذه الطريقة في الخط على الحافلات مستعملة بكثرة في دول المشرق. وكان هذا العمل يوفر لي بعض النـقود لشراء الورق والالوان.
في المدرسة المتوسطة حصلت على عدة جوائز في الرسم. واثـناء إحدى معارض نهاية العام في السنة الأولى للجمهـورية أي في عام 1959، كنت أقـف بجـدية أمام لوحاتي، واذا بأثـنـين من موظفي التربـية يتـكلمون فيما بيـنهم. يمتـدحون أعـمالي الفنية، ويـقـول أحدهم للآخر: يجب أن نرسله فيما بعد الى ايطالــيا للدراسة العلــيا في الفن. فأجابه الآخر: نرسل الى ايطاليا من يدرس النحت، ونفـضل أن نرسل الى فرنسا من يدرس الرسم والتصوير الزيتي. وهكذا بدات أحلم بفرنسا وباريس.
عام 1961 انهـيـت الدراسة المتـوسطـة، بأحداث لم أكن اتخـيلها أبدا. بداية العمليا ت العسكرية ضد الاكراد في الشمال. مظاهرة في النجف تدعوا للسلام.
أمضيت 40 يوما بالتوقيف بتهمة خط اليافطات، رغم انني لم اخطها. وتعرضت لمحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري، في معسكر الرشيد، استمرت لعدة جلسات ولم تـنته الا في عام 1969.
لابد من العمل اذ انني أنحدر من عائلة كبيرة، أخوة وأخوات خمسة أكبر مني وخمسة أصغر. ذهبت إلى بغداد وكان عمري أنذا ك سبعة عشرعاما. فوجدت عملا كمساعد لخطاط، ثم تـنـقـلت خلال 8 سنوا ت بين عدة خطاطين، فـتعلمـت عندهم الكثيـر من تـقـنـيـات المهنة وآدابـها، وأثناء العمل أتـقـنت الاسـالـيب المـسـتعملة آنذاك كا لخط الكوفي والنسـخ والديواني والرقعة والفارسي.
لم تكن في ذلك الوقت تـقـنيـات المطابع متطورة، بينما كانت في بغداد حركة اقـتصادية نشطة جدا لعمل الماركات التجارية والاعلانات في الصحف واللوحات التجارية. كان للخطاط مجالا واسعا في العمل الحر، في الصحافة والمطابع من جهة، ومن جهة اخرى الإعلانات الكبيرة بالألوان. وكنت أمزج الخط بالرسم، وأنجزُ الطلبات المتـنوعة باناقـة وأمانة. فانهالت علي الطلبات. ولكن ازدياد عـملي لم يجعلني أنسـى حلم السـفر الى باريس لدراسة الـفن.
من الصدف المفيدة انني كنت أعمل كخطاط عام 1961 في عقد الكنائس وفي نهاية العقد كان هنالك مقر جمعية الفنـانـين العراقيـين، قبل أن تـنـتـقـل الى مقرها الحديث. وهكذا شاهدت وتعرفت على الكثير من الفنانـين العراقـيـين، وكنت أحيانا أساعد لجنة التحكيم للمعرض السنوي بنقـل المئات من اللوحات وتمريرها أمام اللجنة، وفهمت فيما بعد لماذا كانوا يدعونني، لأني لم أكن عضوا في الجمعية ولا أعرف أكثر الفنا نين. لذا فأ ن لجنة التحكيم كانت حرة في توجيه نقدها اللا ذع للّوحات الرديئة.
مقابل هذا العمل كانوا يسمحون لي بالإطلاع على محتويا ت المكتبة الخاصة بالجمعية. فأطلعت على كتب كثيرة عن الفن الاوربي، والتي ساعدت في احياء الرغبة عندي بالتـغرب. واثناء هذه السنوات كانت أجواء بغداد ملبدة بما تتركه الانقلابات العسكرية. وما جلبته من سحق للحريا ت وتجميد للابداع. فـقررت ان اسافر الى باريس، وبعد الف مشكلة ومشكلة استطعـت الرحيل. ولم أكن أتصور أبدا، إن هذه السفرة المؤقـتة سوف تسـتمرعمرا كاملاً.
حملت معي عند السفربعض أقلام القصب، فأعانـتـني على العمل في خط عناوين مجلة جزائرية موجهة للعمال المغـتربـين. مما مكنني من التـسجـيل في المدرسة العـليا للفـنون الجميلة.
درست الفن الغربي من حيث الـتقـنيات وتعرفت علىالاساليب الفنية المتعددة. وتاريخ وجماليات كل فترة. كما درست علم المنظور والمعمار والفريسك والموزائيك والسجاد واللوحات الزجاجية كما في الكنائس. كما تعلمت تحضير الالوان وقماش اللوحات.وهكذا أمضيت 5 سنوات الى جانب الدراسة النظرية للفن، أرسم الموديل الحي وأعمل اللوحات بالا لوان الزيـتية ككل الطـلبة آنذاك ، حتى عام 1975 حيث حصلت على الدبلوم العالي.
ولكن طريق التصوير الزيتي والرسم للأشكال البشرية الذي رَسَمتهُ لي هذه المدرسة، تبـين لي انه طريق مسـدود بالنسـبة لرغـباتي الداخلية. وتدريجيا بدأت أبحث عن طريق شخصي، وأتجهت بعـفوية مرة وبرغبة مرة اخرى نحو كل مايقــترب من الخط. نحو كل مايشـابه مظهر الخط العربي في عالم الـفن التشـكيلي العالمي. مثلا رسوم الـفـنان ماتيـس حيث بساطة الخطوط وقوتها التعبـيرية في آن واحد. أوطريقة الـفنان فرناند ليجيه في تحديد اشكاله بخطوط سوداء عريضة. وكانه يحبـس الالوان داخل شـبكة سـوداء.
وتدريجيا اتجهت نظرتي نحو الفـن التجريدي ومدارسه المتعددة وفنانيه. نعم انه الطريق الاقصر مابـين الخط العربي والفـن التشـكيلي الحديث. ان الفن التجريدي كذلك هو الأ قرب لصور الطفولة المغروسة في قلبي يوم كنت أتحسس وأتمعن النظر في الخط العربي على الجدران دون فهم المعنى، ولكن دائما ً كان هنالك شئ ما يجذبني اليه.
وتدريجيا دخلت الحروف العربية في لوحاتي الخطية، ثم اختـفت الاشكال البشـرية لصالح ظهور تكوينات آتية من الخط العربي وبنفـس الوقت متمردة عليه. كخصام المراهق مع الاب، ورغبة التحرر منه. لقد عـشت داخليا هذا التـمزق العاطـفي. فكنـت مع الخط وضد الخط في آن واحد، أريد ان أدخل الخط في لوحاتي ولكن بشكل يوحي بالمعاصرة. خط لا يشابه خطوط القرن التاسع عشر.
ثم هجرت المعنى لعدة شهور. أي عملت لوحات فيها حروف عربية فقط بلا كلمات ولا معاني. فاقــتـنعت بسـرعة من عدم جدوى هذه الطريق.
هجرت هذا الطريق نهائيا. لأني أحســسـت بضرورة حضورالمعنى الى جانب التكوين الفني. فالمعنى ينشـط مخـيلتي وصورها، ويتـفاعل مع العملية التـشــكيلية. بل اني أدركت ان سـبب خمول الفـن التجريدي العالمي، ودخوله طريق مسدود إنما يعود لابتعاده عن المعنى. فيــبقى الفـنان يدور في حلـقة داخلية تبرد شعـلتها مع الزمن.
لذلك قررت أن أخط كلمات وعبارات، حتى لو ان كسـرها وإعادة بنائها بشكل جديد يجعلها صعبة القراءة. فالمهم هو الحوار الداخلي مع الكلمات لحظة الخط، الحوار مع الشـاعر وافكاره وأحاســيسه؟
ولكوني أعيش في الغرب، وأقرأ الكثــير من نصوص الأدب الغربي فـترجمت الكـير من العبارات الآتية من الأدب الغربي الى اللغة العربية وأدخلتها في خطوطي كإضافات جديدة في التعبـير.
وهكذا تدريجيا اختـفت تماما الأشكال البشـرية من أعمالي، تاركة المكان لعلامات مجردة، لكلمات عربية أعيد خطها بهدف تشــكيلي قبل أن تكون كلمة للقراءة.
وبدأت اشــعر تدريجيا بتعادل داخلي، اذ كنت مقــتـنعا باني لســت بصدد إعادة القـديم كما هو ، ولن أسـتخدم الخط بشـكل تزويقي، بل انني على عتـبة عملية خلق فني.
كنت ولازلت أدرك صعوبة هذا الخلق الفني، اذ لا يعني ولوج هذا البحث ان كل شئ أصبح أكيدا، إنما هي مرحلة شك دائم، وكل بداية لمجموعة من للخط الحديث تبدوا وكأنها انطلاقة من نقطة الصفر. بل ان كل صباح هو يوم جديد في الفن.
في كل يوم أكون أزاء حالات جديدة من التعبير. البحث عن اللامرئي، عن الجوهري في عالم ضبابي. ولكن هنالك سعادة داخلية في اثــناء كل ممارسة خطية، فهي مغامرة في قـلب الخطوط وتحطيـمـهـا وإعادة بنـائها من جديد. لكنما الشــك الداخلي يســتمر. فهل ان ما أعمله هو شئ جدي؟ أم سيكون مضحكا ومثيرا للسخرية؟ ففي لحظة الانتهاء من الخط الحديث لا ادري ان ما عملته هل سيكون الخط المنتـظر. الخط الحديث بالمعنى الأكيد للكلمة أم سـيجد طريقه الى سـلة المهملات كالعديد من الخطوط في كل مرة .
حتما ان تأثيرات العيـش في اوربا ودراسـتي الفنــية ستغــير من شكل الخط الذي تعلمـته في بغداد، أنا أيضا تغـيرت. مثل نخلة نـقـلت من العراق الى فرنسا. هنا شــمس شحـيحة وماء وافر. في العراق شحة الماء ووفرة الشمـس، العطاء سيخــتلف تماما، وان كان الخط ـ كأي فن ـ هوانعكاس للوجود البشري فحتما انـني في بداية طريق جديـد. خط عربي يولد في باريس لجمهور لا يقرأ العربية، ولكن هذا الابتكار ليـس أكيدا، ولا يوجد أي شخـص يمكنه أن يحكم على ما أعمله. كم هو مؤلم هذا الـتأرجح في عالم صعب لا يسـمح با لتردد، عالم يكون فيه الوقت كالـذهب أو كالسـيف ان لم تقطعه يقطعك. كما يقول المثل الشعبي.
لابد من الإيمان والاعتـقاد بالـفن، انه عالم بطئ. كعالم الفلاح الذي عندما يضع البذور في الارض ، فا نه يعرف ان سنوات طويلة سوف تـتوالى، وأنه يتصور ويتـخيل بالحـدس شجرة المستــقبل، ودائما ما يدرك بان العـطاء سـيكون لأجيال أخرى.
كنت دائما في حوار مع نفسي، أحاول اقـناع ضـميري، بضرورة الاسـتمرار وعدم التراجع، وان الاستمرار سيكون ليس فـقط تطـويرا للخط العـربي، إنما ســينظر الآخرين للفـن العربي كفـن يعادل الـفنون الاخرى، فا نني أرى بوضوح ان نشـاطي الثــقافي يجلب الانـتباه الى الخط العربي بشكل عام.
وان أكون مقـتـنعا ًفي فـترة من الزمن، فان نوبات شــك عمـيقـة فـيما انتـجه من خطوط لا تلـبث ان تعود. وكأني عدت من جديد للنفــق المظلم، خــيـبة أمل كبــيرة، فبعدما كنت متـيقـنا بأني على الطريق الصحـيح، ها أنا أعيد التسـاؤلات ماذا سـأعـمل بهذا الخط في خضم هذا العالم المادي. وكيف سأعــيـش؟ والعــائــلة؟ كيـف أمارس فـنا يقـترب من التجريد، وكيف ســأطور هذا الــفن الزاهد البســيط في خضم موجات هذا العالم الصناعي الباهر وابتكاراته الزاهـية كل يوم؟
والخط الجمـيل الذي تركه لنا الخــطاط القــديم هل سأعـرف كيف أخطه؟ هل سـأنسـاه؟ هل ان كل شئ سوف يمحى من ذاكرتي، أم ان كل شئ امتـلكتـه سيـبقى ملكا لي أبد الدهـر؟ هل ان رؤى الخط منذ الطـفولة تـبقى محفورة في الذهـن باستمرار؟
هل أنا في خط مـستـقيم من تعلـيمات خطاطي بغدا د وأسـير به نحوالمســتقـبل؟
ماذا ســيقول خـطاطوا بغــداد؟ هل ســيلعـنوننـي؟ ام ســيكونون فـخورين بما أعمله ؟ وسيجدون فيه تياراً جديدا يمكن ان ينعش الحوار ويثري التجارب؟
ان هذه السطورالقليلة تمثل اختصارا لما عـشـته في سـنوات طويلة من التقدم والتردد. والحوار الداخلي قد يكون طويلا يخــترق الســنــين:
كيف أخذ الخـط انعــطافا في كل قرن مضى؟ فـهناك إضافات جديدة اقـبلت عندما ترك الخط صفحات الكتاب نحو الجدران. وعلى الجدران نفـسها فان الخط المرسوم للســيراميك لا يشــابه الخط المعمول من الطابوق، حيث هيمــنت الخطوط المســتـقـيمة على ما يسـمى الكوفي الهندسي .
لماذا لا أعمل خطوطا مسـتقيـمة كالهـياكل العالية؟ لماذا لا أعمل خطوطا عريضة جداً على الورق بشـكل مباشــر، فان الخطاط القــديم كان يخط كلماته بشكل رفيع، ويُــرســم الخط للتكبــيرعلى الجدران من قـبل المهـنيــين وليـس من قـبل الخطاط نفــسه. ولا اعرف خطاطاعربيا قديما يخط بشـكل عريض جدا؟
*
في هذا الوقت الذي أطرح فيه التسـاؤلات، وأبحث عن دعم داخلي يعطيني العزيمة للاستمرار، أبحث عن امل للوصول الى خط جديد. انـبثـق النور من جهة لم أكن أعرفها سابقا ولم أنتظر منها عونا، فقد زار باريس أكـثر من مائة خطـاط ياباني ، ليعـملوا طـيلة اسـبوع كامل بالخط أمام الجمهور، في جامعة السـوربون بباريس. كنت طـيلة هذا الأسـبوع حاضرا. أرى عشـرات الخطاطـين يتعاقــبون الواحد تلو الآ خر يمـسكون فرشــاً عريضة جدا، كـبيرة ككبر أجسادهم يركضون بها على الورق، ويضربون بها الارض بعنف.
يفرشـون الاوراق الكـبـيرة على الارض، وبعد لحـظات من التركيـز الداخلي، ينطلق الخطاط كالبرق يخط بالحبر الاسود العريض شكلا مابـين الرسـم والكـتابة.
عيوننا تبقى أســيرة هذه الاشكال، وكأنما الحبر سـلب طاقة الخطاط لتـبقى خالدة داخل الخط الاسود. فالمحتوى هنا ليـس النص انما ما أحتوى الحبر من طاقة الخطاط، فتــبدوا هذه الحركات الخطية وكأنها جوهـر الفن نفــسه. ولم يعد الفن هنا محاكاة ونقلا للطـبيعة كالفـوتوغراف، انما خلق شئ آخر يبــتكره الفنان، لم يوجد من قـبل.
عزز هذا الاسـبوع عندي الايمان بالاتجاه نحو خط حديث: تكـبـير الكلمات وإعطائها شكلا متجددا باســتمرار. وملئها وشـحنها بالأحاســيس لحظة الخط نفــسها .
*
وان بقـيت سـنوات عديدة أخط باللون الاسود، فان الألوان دخلت تدريجـيا في خطوطي.
ولعمل الألوان رجعت لوصفات الحبر القـديمة أيام كان الخطاط يحضر بنفـسه الحبر. ورغم ان الكثير من المواد الملونة القديمة التي تسـاهم بصناعة الحبر قد اختـفى، وابتكر بديلا عنه في عصرنا الحالي، مواد جديدة قســم منها صالح للاسـتعمال وقــسم آخر ردئ.
قد يتصور البعض بأن الوصفات القديمة لتحضير الألوان لم تعد نافــعة الـيوم. ولكن تجربتي اثبـتت لي العكس، فان الأصباغ المباعة بمحلات الفن الـتشــكيلي اليوم انما تخضع للطلب التجاري، والمصانع تنـتج الألوان بما هو متـوفر بسـهولة لإنتـاج كميات كبيرة. وكل ما هو نادر لا يهـمهم بيـنما يكون الفنان على العكس فأنه يبحث بأستمرارعما هـو نادر.
لذلك ان يريد الفنان إيجاد الوان جمـيلة وشخصـية، فما عليه إلا الاعتماد على نفسه. تماما كالفرق بين من يعمل الاكل هو نفسه في مطبخه، وبين من يشــتريه محضرا بشكل صناعي في العلب.
الحبرالــقديم كان يعطي الحروف اناقـة وشـفافـية حسـية، وبالنسـبة لي كنت وباستمرار اريد أن تعطي الالوان احساسا بالنور، ان تكون كالزجاج الملون، كي توحي الحركات الخطية ببعد ثالث، لما هو خلف الالوان، وعلى الرغم من ان ما أستعمله في خطوطي دائما هو حبر بلون واحد، يمثل بعد واحد على الورقة البيــضاء التي تمثـل البعد الثاني، ولكن المادة اللـونية الشـفافة يمكنها ان تعطي ايحاءً بالعمق اي البعد الثالث.
للحصول على هذه الألوان، فان هذا يتطلب معرفة أصل المواد المكونة للون، وخصوصا المادة اللاصقة التي تستعمل داخل اللون لتـثـبيـته على الورق، وقـديما استعـمل الخطاط الصمغ العربي ، وعندما نقـول الصمغ العربي، فمعنى ذلك العشـرات من الانواع وتأثـيرها على المظهر اللوني، وذلك يعود لموقع الشــجرة التي أعطت الصمغ، ودرجة الحرارة هـناك. وباختصار لابد من معرفة انواع الصمغ لاخـتيار الافـضل. كما لابد من تجربة كل مسحوق ملون، فقـسـم منها يكون مصدره طبيعي كالالوان الترابية المـسـتخرجة من الارض، أو من جذور بعض الـنباتات، بينما ما نسـتعمـله اليوم من أزرق وأحمر مثلا فهي الوان مصنوعة من قبل الانسـان. الازرق في الماضي كان يؤخذ من الأحجار الكريمة كاللازورد.
بدأت اولا بتحضـير الوان دافــئة، الوان ترابـية، كما لو كنت أبحث عن أول الوان سكـنت قلبي منذ الطفولة، الوان الصحراء والرمل الذهبي. ومناطق الفرات الاوسط. وبعد بضعة سـنوات من اسـتعمال الالوان الـترابـية دخلت في خطوطي الوان الفصول: الوان الربيع الزاهـية، وألوان الصيف المنـيرة، والوان الخريف الدافئة، وألوان الشــتاء القاتمة.
وللخط العريض بالالوان الكـثيـفة، تطلب ذلك ابتكار آلات جديدة يمكنها القيام بهذه المهمة. فمنذ الزمن القديـم يكرر الخطاطين: بان نصف الخـط هو في تحضـير الآلة. وتحضرني قصة ظريفة لأحد الشخصيات قديما إذ زار احد الخطا طين فسأله: من هو أحسـن تلاميذك؟ فأجابه الخطاط: انه أحـسن من يبري قلمه [ والمقصود القصبة ] فسال الملك ومن هو أحسن من يبري القلم؟ فأجاب الخطاط انه جلال ابنك لأنه يملك احسـن سكيـن لذلك. وهكذا ارتبطت جودة الخط بجودة الآلة. وهناك تعـبير صـيني يقول: عندما تكون الفكرة بطرف الفرشــة فلا داعي للذهاب الى نهاية الفكرة.
أستعمل قلم القصب باستمرار للخطوط الرفيعة، أما بالنسبة للخطوط العريضة، فكان علي أن أبتكر آلات تصلح للخط الجديد، لابد من آلة جديدة تشــابه قلم القصب ولكن أعرض منه وأكثر مرونة و طراوة.
إن قلم القـصب فيه منافـع مهمة للخطاط، على شرط أن يكون قد تعلم كيفية استعماله، فانه يأخذ حبرا قليلا يعادل قدرا ت الخطاط على حبس تنفـسه. فأن كل عملية الخط هي مرتبطة بعملية التـنفس، ومن لا يعرف هذا، فأنه سيجهد نفسه. ولا يسـتطيع الخط وسوف يتعب الدماغ بسـرعة. كيف يمكـنني أن أكون مفـهوما في شـرح موضوع شـائك كهذا؟
هنالك شئ طـبيعي لدى الإنسان منذ الطفولة، فعندما يرسـم الإنسـان خطا صعبا انما يوقف عملية التــنفس بنفــس الوقـت وبشـكل طبيعي. وبعض الأطـفال يعض لسـانه كي يوقف التـنفـس، ومعنى هذا انه خلال الخط وخصوصا عند خط المدات الطويلة، يقطع الخطاط تـنفــسه و يحرم فيها الجسم والدماغ من الأوكسـجين، تماما كـمن يغطــس رأسـه في الماء. لذلك فإن القصبة تأخـذ اعتــياديا كمـية من الحـبر تعادل قـدرة الإنـسان على حبـس النفـس.
ان الأقلام التي تحتوي على مخزن للحبر تكون مجهدة للخطاط، ولا يمكن الخط بها جيدا، لان سـيولة الحبر والاندفاع الداخلي تجعل الخطاط في استمرار للخط. مما يجهده، أما القـصبة فإنها تـتــناغم مع تـنفـس الإنسـان بمقـدار طول الحركات الخطية. والتي تكون قد درس طولها من قبل كبار الخطاطين ومنذ عصور قديمة.
الكثير ممن يتعلم لأول مرة الخط بقلم القصب يشـعر بالهدوء العمـيق الذي تجلبه له هذه الآلة، لانها تربي الإحساس وتغـذيه حسـب الهندسـية الخطية للحروف ، أي ترسل معلومات سليمة للفطرة الإنسانية.
البطء هنا يسـاعد الي دفع الخطاط نحو التأمل والتركيز. لذلك وللخط الحديث لابد ان أجد آلة حديـثة تـقتـرب من عطاء قـلم القصب. ويجب أن لا أضحي بالجوانب الإيجابيـة لهذه الآلة، ثم ان وجدت آلة قريبـة من القلـم. فان ما أعمله سـوف يوحي بالعلاقة العائلـية للخط الحديث مع الخط العربي القديم. وخلال ســنوات عــملت محاولات كـثـيرة. وجربت كل ما يمكن الخط فـيه: قطع من الخشب العريض أوالكارتون، الإسفنج والخشب.
أستعمل قلـم القصب باســتمرار وفي ســعادة، ولكن هذا القــلم له حدود، وهو السُــمك، إذ لا يمكن الخط فـيه أكـثر عرضا من الإصبع، لذلك لجأت الىعمل آلات تخط مباشـرة بشكل عريض ومن مواد مخــتلفة.
آن للآلة أهمــيتها ، فالخط بالقصـبة يوحي دائما بمظهر الخط العربي القــديم، بيـنما الخط بآلة عريضة جدا سـيوحي للمشـاهد بشيء جديد. وعند التعّـود على ابـتكار آلات للخط، فانه يمكن اختيار الآلة المناسـبة للخط المناسب. فمثلا لخط عبارة عن النار من الأفضل اسـتعمال آلة خفـيفة ، بينما عند التكلم عن الحجر فلابد من آلة توحي بالثـقل.
في فن الخط حيث يعيد الخطاط رسم الكلمات باستمرار، تتحول الكـتابة الي علامات يفسـرها كل مشـاهد حسـب احساساته، بعض الحروف اسـتخدمت في الماضي كرمز فلسـفي مثل حرف الواو عند الخطاط المتصوف.
إذ انه الحرف الوحيد وحرف التكرار بآن واحد. فهو الحرف الوحيـد في الأبجدية العربية، الذي يمكنه آن يكون وحيدا لقول شئ ما، بيـنما كل الحروف الأخرى تتـطلب آن تكون مرافـقة لحرف آخر. ثم آن حرف الواو هـو الحرف الذي يسـتعمل للوصل بين الكلمات. فيكون الواو حرف وحيد وحرف متعدد. فحمله الصوفيون الكثير من المعاني الغامضة في ديكور المعالم المعمارية. خصوصا ما يسمى ب [ المرآة ] أي الخطوط المتـقابلة.
كل كلمة أخطها أحمّلها أفكاري واحساساتي لذلك اليوم نفسه. بل لتلك اللحظة التي أخط فيها، فـتـتحول الكلمة آلي ما يشـبه تمثال تجريدي كبير، فان كان الموضوع يدعو للأمل فسـيكون كشـجرة متفـتحة مليـئة بالأزهار والثـمار. بـيـنما ان كنت أعيـش ظروفا محزنة فـستـتحول الكلمة الى ما يشـبه جذع أسود في قلب الشـتاء. وهكذا أضـفت ما تعلمته من تجارب في الفن التـشكـيلي على أشـكال الحروف والكلمات.
أمام الخط الحديث يواجه المـشاهد عملا تعبـيريا يفسـره هو نفسه. وحسب حاجته الآنية وثقافته، وقد يلـتقي معي بمشـاعري لحظة عملي للخط نفـسه. فالخط الذي أعمله انما هو انعكاس لتجربة معاشــة، وجزء من الحياة التي عـشـتها في تلك اللحظة. أو يتصور أشـياء لم أفكر بها أنا، فيـساهم المشـاهد آنذاك بعـملية الخلق الفـني.
التكوين الخطي الناجح هو ما يمـثـل توافـق تام مابـين أحداث الحياة وتأثــيرها على الروح والمشاعر، ومن ثم ما سـيـولد على الورقة. فـمنها خطوط تعكـس الهدوء أوالرغبة بالوصول للهدوء. وأحيانا أخري تكون الأزمة عـميقة جدا فيــبدوا القلـق واضحا في الحركات الخطية، وفي الانغلاق داخل التكوين. في بعض الأحيان تأتـي الخطوط الناجـحة بسهولة، وفي أحيان أخرى تكون الولادة عســيرة. ولابد من إعادة الخط عدة مرات، كما لو ان الرؤى تكون في أعماق بعـيدة. ولابد من التكرار للوصول للأحاســيس الخفـية الغامضة.
أريد أن أكون كمُخرج للحروف على مســرح الورق، أريد لحروفي أن ترقص على الورق. فأقلص حرفا وأطيل آخر. أعطي اسـتقامة لماهو منحني، وأدوّر ما هو مستقيم.
وليسـت هذه التغـيرات على الحروف مجانـية. انما اعملها بهدف ان تقـبل كلها الدخول في العملـية الجماعية للتكوين الخطي الذي احلم به. وعندما تقـبل الحروف كلها بذلك، وتطير فرحة فأطير معها، واهبط معها عندما تهبط. اشاركها بكل حركاتها، وتشاركني بكل أحاسيسي.
ان الطريق لهذا التوافـق مابين الأحاســيس والخط، إنما هو طريق صعب وطويل، ويفرض تمريناً متواصلا كي تولد الحركة المضبوطة، ولكن الصبر والمـثابرة تقــود دائما الى مكافـئة لا تــثمن، تعطي الخطوط التي احلم بها أو أكثر من ذلك. بل تعطي خطوط لم اكن أحلم بها. فتـزيد من التعرف على الذات. وعلى كل ما هو مغمور في الأعماق من صور منســية، من الذكريات الأولى للطفولة التي سجـلها القـلب وأنغـلق علـيها، والتي لن تعود إلا عن طريق
التعبــير الفني.
حسن المسعود ـ باريس 2006
Massoudy Calligraphe
ارتقى الخط العربي جماليا في بغـداد عاصمة الدولة الإسلامية من القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر، ثم في مديـنة الـقاهـرة حتى القرن السادس عشر، وأخيـرا في اسطنـبول حتى القـرن التا سع عشر. ويواصل بعض الخطاطين جهود واسعة لحد اليوم كي لاتطفيء شعلة هذا الفـن الراقي.
خلال ما يقارب الالف عام تعدد ت اساليب الخط، وابُـتكرت طرق كثيرة لتحضـيـرآلة لخط ـ القلم ـ وهو نوع من القصب يـُبرى حسب تعاليم الخطاطين الكبار. كما اهتم الخطاطون كذلك بوصفات تحضير الحبر والورق.
وهكذا أصبح الخط العربي أحد أهم الفـنون في الحضارة الإسلامية. ورغم إن رسم الاشكال الحية ونحتها لم يكن ممنوعا إلا انه كان مكروها في المعالم المعمارية بالمدينة،لأنه يذكر بعبادة الأصنام. فـبقيـت رسوم الأشكال البشـرية والحيوانية في الكتب صغيرة جدا وبالالوان. أوعلى الحاجيات المصنوعة من قـبل المهنيــيـن. بينما تحول الخط الى ديكور عملاق يحتل جدران واسعة من المعالم المعمارية، كالمسجد والمدرسة والمقـبرة والمكتـبة فاحتل الخط مكان التـماثـيل والصور الجدارية، وتغـير وجود الفن داخل المدينة عما كان معروفا في الحضارات القديـمة.
*
با لنـسبـة لي شـخصـياً رأيت وعـشت هـذا الديكور الخطي منذ الطـفـولة. كنت أسبح في عالم الخط، في الدار والمـحلة والمدينة بأ كملها. مدينة النجف التي ولدت فيها هي مدينة مقدسة لم يكن فيها أي مظهرمرئي لصورالاشكال البشرية.
اكـتـشافي للخط يعود أيضأ الى خالي الهاوي للخط في دارنا بالمحلة القديمة بجانب مسجد الامام علي. في الخامسة من عمري كنت منبهـرًا برؤيته وهو يخط بقلم القصب والحبر الأسود السائل على الورق الأسمر. كان مؤِّلفا لكتب تاريخية.
وعندما كنت في المدرسة الابتـدائية أثـارت كتابـتي الواضحة اهتمام المعلم فأ ثـنىعليّ أمام بقـية الطلاب، وطلب مني الكتـابة أمامهم، وكان ذلك في عام 1954. ولازلت أذكر دائماً بالامتـنان هذا المعلم اذ جعلني أعي لأول مرة في حياتي بحسن كتابتي. ومنذ ذلك الوقت أسعى كل يوم الى التطور بهذا المجال. وهذه الا لتـفاتة من المعلم تزداد قيمة عندي لا ني أسجلها بذاكرتي كأول مرة أخط فيها أمام ا لجمهور. اذ ان الخط أمام الجمهورأصبح جزء مهم من عملي المهني ومنذ عام 1972.
والى جانب الخط كنت أحب الرسم أيضأ، في زمن كان معلم الرسم يضع اناء من الفخار، ويطلب أن نرسمه بشكل فوتوغرافي.
ولكن الطلب على الخط كان مستمراً في ذلك الزمان وكنت أنفذ الطلبات دائما. وخصوصا الخط على الباصات الخشـبية المصنوعة في النجف. ودائما ماأخط أمثالاً وحكما، وهذه الطريقة في الخط على الحافلات مستعملة بكثرة في دول المشرق. وكان هذا العمل يوفر لي بعض النـقود لشراء الورق والالوان.
في المدرسة المتوسطة حصلت على عدة جوائز في الرسم. واثـناء إحدى معارض نهاية العام في السنة الأولى للجمهـورية أي في عام 1959، كنت أقـف بجـدية أمام لوحاتي، واذا بأثـنـين من موظفي التربـية يتـكلمون فيما بيـنهم. يمتـدحون أعـمالي الفنية، ويـقـول أحدهم للآخر: يجب أن نرسله فيما بعد الى ايطالــيا للدراسة العلــيا في الفن. فأجابه الآخر: نرسل الى ايطاليا من يدرس النحت، ونفـضل أن نرسل الى فرنسا من يدرس الرسم والتصوير الزيتي. وهكذا بدات أحلم بفرنسا وباريس.
عام 1961 انهـيـت الدراسة المتـوسطـة، بأحداث لم أكن اتخـيلها أبدا. بداية العمليا ت العسكرية ضد الاكراد في الشمال. مظاهرة في النجف تدعوا للسلام.
أمضيت 40 يوما بالتوقيف بتهمة خط اليافطات، رغم انني لم اخطها. وتعرضت لمحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري، في معسكر الرشيد، استمرت لعدة جلسات ولم تـنته الا في عام 1969.
لابد من العمل اذ انني أنحدر من عائلة كبيرة، أخوة وأخوات خمسة أكبر مني وخمسة أصغر. ذهبت إلى بغداد وكان عمري أنذا ك سبعة عشرعاما. فوجدت عملا كمساعد لخطاط، ثم تـنـقـلت خلال 8 سنوا ت بين عدة خطاطين، فـتعلمـت عندهم الكثيـر من تـقـنـيـات المهنة وآدابـها، وأثناء العمل أتـقـنت الاسـالـيب المـسـتعملة آنذاك كا لخط الكوفي والنسـخ والديواني والرقعة والفارسي.
لم تكن في ذلك الوقت تـقـنيـات المطابع متطورة، بينما كانت في بغداد حركة اقـتصادية نشطة جدا لعمل الماركات التجارية والاعلانات في الصحف واللوحات التجارية. كان للخطاط مجالا واسعا في العمل الحر، في الصحافة والمطابع من جهة، ومن جهة اخرى الإعلانات الكبيرة بالألوان. وكنت أمزج الخط بالرسم، وأنجزُ الطلبات المتـنوعة باناقـة وأمانة. فانهالت علي الطلبات. ولكن ازدياد عـملي لم يجعلني أنسـى حلم السـفر الى باريس لدراسة الـفن.
من الصدف المفيدة انني كنت أعمل كخطاط عام 1961 في عقد الكنائس وفي نهاية العقد كان هنالك مقر جمعية الفنـانـين العراقيـين، قبل أن تـنـتـقـل الى مقرها الحديث. وهكذا شاهدت وتعرفت على الكثير من الفنانـين العراقـيـين، وكنت أحيانا أساعد لجنة التحكيم للمعرض السنوي بنقـل المئات من اللوحات وتمريرها أمام اللجنة، وفهمت فيما بعد لماذا كانوا يدعونني، لأني لم أكن عضوا في الجمعية ولا أعرف أكثر الفنا نين. لذا فأ ن لجنة التحكيم كانت حرة في توجيه نقدها اللا ذع للّوحات الرديئة.
مقابل هذا العمل كانوا يسمحون لي بالإطلاع على محتويا ت المكتبة الخاصة بالجمعية. فأطلعت على كتب كثيرة عن الفن الاوربي، والتي ساعدت في احياء الرغبة عندي بالتـغرب. واثناء هذه السنوات كانت أجواء بغداد ملبدة بما تتركه الانقلابات العسكرية. وما جلبته من سحق للحريا ت وتجميد للابداع. فـقررت ان اسافر الى باريس، وبعد الف مشكلة ومشكلة استطعـت الرحيل. ولم أكن أتصور أبدا، إن هذه السفرة المؤقـتة سوف تسـتمرعمرا كاملاً.
حملت معي عند السفربعض أقلام القصب، فأعانـتـني على العمل في خط عناوين مجلة جزائرية موجهة للعمال المغـتربـين. مما مكنني من التـسجـيل في المدرسة العـليا للفـنون الجميلة.
درست الفن الغربي من حيث الـتقـنيات وتعرفت علىالاساليب الفنية المتعددة. وتاريخ وجماليات كل فترة. كما درست علم المنظور والمعمار والفريسك والموزائيك والسجاد واللوحات الزجاجية كما في الكنائس. كما تعلمت تحضير الالوان وقماش اللوحات.وهكذا أمضيت 5 سنوات الى جانب الدراسة النظرية للفن، أرسم الموديل الحي وأعمل اللوحات بالا لوان الزيـتية ككل الطـلبة آنذاك ، حتى عام 1975 حيث حصلت على الدبلوم العالي.
ولكن طريق التصوير الزيتي والرسم للأشكال البشرية الذي رَسَمتهُ لي هذه المدرسة، تبـين لي انه طريق مسـدود بالنسـبة لرغـباتي الداخلية. وتدريجيا بدأت أبحث عن طريق شخصي، وأتجهت بعـفوية مرة وبرغبة مرة اخرى نحو كل مايقــترب من الخط. نحو كل مايشـابه مظهر الخط العربي في عالم الـفن التشـكيلي العالمي. مثلا رسوم الـفـنان ماتيـس حيث بساطة الخطوط وقوتها التعبـيرية في آن واحد. أوطريقة الـفنان فرناند ليجيه في تحديد اشكاله بخطوط سوداء عريضة. وكانه يحبـس الالوان داخل شـبكة سـوداء.
وتدريجيا اتجهت نظرتي نحو الفـن التجريدي ومدارسه المتعددة وفنانيه. نعم انه الطريق الاقصر مابـين الخط العربي والفـن التشـكيلي الحديث. ان الفن التجريدي كذلك هو الأ قرب لصور الطفولة المغروسة في قلبي يوم كنت أتحسس وأتمعن النظر في الخط العربي على الجدران دون فهم المعنى، ولكن دائما ً كان هنالك شئ ما يجذبني اليه.
وتدريجيا دخلت الحروف العربية في لوحاتي الخطية، ثم اختـفت الاشكال البشـرية لصالح ظهور تكوينات آتية من الخط العربي وبنفـس الوقت متمردة عليه. كخصام المراهق مع الاب، ورغبة التحرر منه. لقد عـشت داخليا هذا التـمزق العاطـفي. فكنـت مع الخط وضد الخط في آن واحد، أريد ان أدخل الخط في لوحاتي ولكن بشكل يوحي بالمعاصرة. خط لا يشابه خطوط القرن التاسع عشر.
ثم هجرت المعنى لعدة شهور. أي عملت لوحات فيها حروف عربية فقط بلا كلمات ولا معاني. فاقــتـنعت بسـرعة من عدم جدوى هذه الطريق.
هجرت هذا الطريق نهائيا. لأني أحســسـت بضرورة حضورالمعنى الى جانب التكوين الفني. فالمعنى ينشـط مخـيلتي وصورها، ويتـفاعل مع العملية التـشــكيلية. بل اني أدركت ان سـبب خمول الفـن التجريدي العالمي، ودخوله طريق مسدود إنما يعود لابتعاده عن المعنى. فيــبقى الفـنان يدور في حلـقة داخلية تبرد شعـلتها مع الزمن.
لذلك قررت أن أخط كلمات وعبارات، حتى لو ان كسـرها وإعادة بنائها بشكل جديد يجعلها صعبة القراءة. فالمهم هو الحوار الداخلي مع الكلمات لحظة الخط، الحوار مع الشـاعر وافكاره وأحاســيسه؟
ولكوني أعيش في الغرب، وأقرأ الكثــير من نصوص الأدب الغربي فـترجمت الكـير من العبارات الآتية من الأدب الغربي الى اللغة العربية وأدخلتها في خطوطي كإضافات جديدة في التعبـير.
وهكذا تدريجيا اختـفت تماما الأشكال البشـرية من أعمالي، تاركة المكان لعلامات مجردة، لكلمات عربية أعيد خطها بهدف تشــكيلي قبل أن تكون كلمة للقراءة.
وبدأت اشــعر تدريجيا بتعادل داخلي، اذ كنت مقــتـنعا باني لســت بصدد إعادة القـديم كما هو ، ولن أسـتخدم الخط بشـكل تزويقي، بل انني على عتـبة عملية خلق فني.
كنت ولازلت أدرك صعوبة هذا الخلق الفني، اذ لا يعني ولوج هذا البحث ان كل شئ أصبح أكيدا، إنما هي مرحلة شك دائم، وكل بداية لمجموعة من للخط الحديث تبدوا وكأنها انطلاقة من نقطة الصفر. بل ان كل صباح هو يوم جديد في الفن.
في كل يوم أكون أزاء حالات جديدة من التعبير. البحث عن اللامرئي، عن الجوهري في عالم ضبابي. ولكن هنالك سعادة داخلية في اثــناء كل ممارسة خطية، فهي مغامرة في قـلب الخطوط وتحطيـمـهـا وإعادة بنـائها من جديد. لكنما الشــك الداخلي يســتمر. فهل ان ما أعمله هو شئ جدي؟ أم سيكون مضحكا ومثيرا للسخرية؟ ففي لحظة الانتهاء من الخط الحديث لا ادري ان ما عملته هل سيكون الخط المنتـظر. الخط الحديث بالمعنى الأكيد للكلمة أم سـيجد طريقه الى سـلة المهملات كالعديد من الخطوط في كل مرة .
حتما ان تأثيرات العيـش في اوربا ودراسـتي الفنــية ستغــير من شكل الخط الذي تعلمـته في بغداد، أنا أيضا تغـيرت. مثل نخلة نـقـلت من العراق الى فرنسا. هنا شــمس شحـيحة وماء وافر. في العراق شحة الماء ووفرة الشمـس، العطاء سيخــتلف تماما، وان كان الخط ـ كأي فن ـ هوانعكاس للوجود البشري فحتما انـني في بداية طريق جديـد. خط عربي يولد في باريس لجمهور لا يقرأ العربية، ولكن هذا الابتكار ليـس أكيدا، ولا يوجد أي شخـص يمكنه أن يحكم على ما أعمله. كم هو مؤلم هذا الـتأرجح في عالم صعب لا يسـمح با لتردد، عالم يكون فيه الوقت كالـذهب أو كالسـيف ان لم تقطعه يقطعك. كما يقول المثل الشعبي.
لابد من الإيمان والاعتـقاد بالـفن، انه عالم بطئ. كعالم الفلاح الذي عندما يضع البذور في الارض ، فا نه يعرف ان سنوات طويلة سوف تـتوالى، وأنه يتصور ويتـخيل بالحـدس شجرة المستــقبل، ودائما ما يدرك بان العـطاء سـيكون لأجيال أخرى.
كنت دائما في حوار مع نفسي، أحاول اقـناع ضـميري، بضرورة الاسـتمرار وعدم التراجع، وان الاستمرار سيكون ليس فـقط تطـويرا للخط العـربي، إنما ســينظر الآخرين للفـن العربي كفـن يعادل الـفنون الاخرى، فا نني أرى بوضوح ان نشـاطي الثــقافي يجلب الانـتباه الى الخط العربي بشكل عام.
وان أكون مقـتـنعا ًفي فـترة من الزمن، فان نوبات شــك عمـيقـة فـيما انتـجه من خطوط لا تلـبث ان تعود. وكأني عدت من جديد للنفــق المظلم، خــيـبة أمل كبــيرة، فبعدما كنت متـيقـنا بأني على الطريق الصحـيح، ها أنا أعيد التسـاؤلات ماذا سـأعـمل بهذا الخط في خضم هذا العالم المادي. وكيف سأعــيـش؟ والعــائــلة؟ كيـف أمارس فـنا يقـترب من التجريد، وكيف ســأطور هذا الــفن الزاهد البســيط في خضم موجات هذا العالم الصناعي الباهر وابتكاراته الزاهـية كل يوم؟
والخط الجمـيل الذي تركه لنا الخــطاط القــديم هل سأعـرف كيف أخطه؟ هل سـأنسـاه؟ هل ان كل شئ سوف يمحى من ذاكرتي، أم ان كل شئ امتـلكتـه سيـبقى ملكا لي أبد الدهـر؟ هل ان رؤى الخط منذ الطـفولة تـبقى محفورة في الذهـن باستمرار؟
هل أنا في خط مـستـقيم من تعلـيمات خطاطي بغدا د وأسـير به نحوالمســتقـبل؟
ماذا ســيقول خـطاطوا بغــداد؟ هل ســيلعـنوننـي؟ ام ســيكونون فـخورين بما أعمله ؟ وسيجدون فيه تياراً جديدا يمكن ان ينعش الحوار ويثري التجارب؟
ان هذه السطورالقليلة تمثل اختصارا لما عـشـته في سـنوات طويلة من التقدم والتردد. والحوار الداخلي قد يكون طويلا يخــترق الســنــين:
كيف أخذ الخـط انعــطافا في كل قرن مضى؟ فـهناك إضافات جديدة اقـبلت عندما ترك الخط صفحات الكتاب نحو الجدران. وعلى الجدران نفـسها فان الخط المرسوم للســيراميك لا يشــابه الخط المعمول من الطابوق، حيث هيمــنت الخطوط المســتـقـيمة على ما يسـمى الكوفي الهندسي .
لماذا لا أعمل خطوطا مسـتقيـمة كالهـياكل العالية؟ لماذا لا أعمل خطوطا عريضة جداً على الورق بشـكل مباشــر، فان الخطاط القــديم كان يخط كلماته بشكل رفيع، ويُــرســم الخط للتكبــيرعلى الجدران من قـبل المهـنيــين وليـس من قـبل الخطاط نفــسه. ولا اعرف خطاطاعربيا قديما يخط بشـكل عريض جدا؟
*
في هذا الوقت الذي أطرح فيه التسـاؤلات، وأبحث عن دعم داخلي يعطيني العزيمة للاستمرار، أبحث عن امل للوصول الى خط جديد. انـبثـق النور من جهة لم أكن أعرفها سابقا ولم أنتظر منها عونا، فقد زار باريس أكـثر من مائة خطـاط ياباني ، ليعـملوا طـيلة اسـبوع كامل بالخط أمام الجمهور، في جامعة السـوربون بباريس. كنت طـيلة هذا الأسـبوع حاضرا. أرى عشـرات الخطاطـين يتعاقــبون الواحد تلو الآ خر يمـسكون فرشــاً عريضة جدا، كـبيرة ككبر أجسادهم يركضون بها على الورق، ويضربون بها الارض بعنف.
يفرشـون الاوراق الكـبـيرة على الارض، وبعد لحـظات من التركيـز الداخلي، ينطلق الخطاط كالبرق يخط بالحبر الاسود العريض شكلا مابـين الرسـم والكـتابة.
عيوننا تبقى أســيرة هذه الاشكال، وكأنما الحبر سـلب طاقة الخطاط لتـبقى خالدة داخل الخط الاسود. فالمحتوى هنا ليـس النص انما ما أحتوى الحبر من طاقة الخطاط، فتــبدوا هذه الحركات الخطية وكأنها جوهـر الفن نفــسه. ولم يعد الفن هنا محاكاة ونقلا للطـبيعة كالفـوتوغراف، انما خلق شئ آخر يبــتكره الفنان، لم يوجد من قـبل.
عزز هذا الاسـبوع عندي الايمان بالاتجاه نحو خط حديث: تكـبـير الكلمات وإعطائها شكلا متجددا باســتمرار. وملئها وشـحنها بالأحاســيس لحظة الخط نفــسها .
*
وان بقـيت سـنوات عديدة أخط باللون الاسود، فان الألوان دخلت تدريجـيا في خطوطي.
ولعمل الألوان رجعت لوصفات الحبر القـديمة أيام كان الخطاط يحضر بنفـسه الحبر. ورغم ان الكثير من المواد الملونة القديمة التي تسـاهم بصناعة الحبر قد اختـفى، وابتكر بديلا عنه في عصرنا الحالي، مواد جديدة قســم منها صالح للاسـتعمال وقــسم آخر ردئ.
قد يتصور البعض بأن الوصفات القديمة لتحضير الألوان لم تعد نافــعة الـيوم. ولكن تجربتي اثبـتت لي العكس، فان الأصباغ المباعة بمحلات الفن الـتشــكيلي اليوم انما تخضع للطلب التجاري، والمصانع تنـتج الألوان بما هو متـوفر بسـهولة لإنتـاج كميات كبيرة. وكل ما هو نادر لا يهـمهم بيـنما يكون الفنان على العكس فأنه يبحث بأستمرارعما هـو نادر.
لذلك ان يريد الفنان إيجاد الوان جمـيلة وشخصـية، فما عليه إلا الاعتماد على نفسه. تماما كالفرق بين من يعمل الاكل هو نفسه في مطبخه، وبين من يشــتريه محضرا بشكل صناعي في العلب.
الحبرالــقديم كان يعطي الحروف اناقـة وشـفافـية حسـية، وبالنسـبة لي كنت وباستمرار اريد أن تعطي الالوان احساسا بالنور، ان تكون كالزجاج الملون، كي توحي الحركات الخطية ببعد ثالث، لما هو خلف الالوان، وعلى الرغم من ان ما أستعمله في خطوطي دائما هو حبر بلون واحد، يمثل بعد واحد على الورقة البيــضاء التي تمثـل البعد الثاني، ولكن المادة اللـونية الشـفافة يمكنها ان تعطي ايحاءً بالعمق اي البعد الثالث.
للحصول على هذه الألوان، فان هذا يتطلب معرفة أصل المواد المكونة للون، وخصوصا المادة اللاصقة التي تستعمل داخل اللون لتـثـبيـته على الورق، وقـديما استعـمل الخطاط الصمغ العربي ، وعندما نقـول الصمغ العربي، فمعنى ذلك العشـرات من الانواع وتأثـيرها على المظهر اللوني، وذلك يعود لموقع الشــجرة التي أعطت الصمغ، ودرجة الحرارة هـناك. وباختصار لابد من معرفة انواع الصمغ لاخـتيار الافـضل. كما لابد من تجربة كل مسحوق ملون، فقـسـم منها يكون مصدره طبيعي كالالوان الترابية المـسـتخرجة من الارض، أو من جذور بعض الـنباتات، بينما ما نسـتعمـله اليوم من أزرق وأحمر مثلا فهي الوان مصنوعة من قبل الانسـان. الازرق في الماضي كان يؤخذ من الأحجار الكريمة كاللازورد.
بدأت اولا بتحضـير الوان دافــئة، الوان ترابـية، كما لو كنت أبحث عن أول الوان سكـنت قلبي منذ الطفولة، الوان الصحراء والرمل الذهبي. ومناطق الفرات الاوسط. وبعد بضعة سـنوات من اسـتعمال الالوان الـترابـية دخلت في خطوطي الوان الفصول: الوان الربيع الزاهـية، وألوان الصيف المنـيرة، والوان الخريف الدافئة، وألوان الشــتاء القاتمة.
وللخط العريض بالالوان الكـثيـفة، تطلب ذلك ابتكار آلات جديدة يمكنها القيام بهذه المهمة. فمنذ الزمن القديـم يكرر الخطاطين: بان نصف الخـط هو في تحضـير الآلة. وتحضرني قصة ظريفة لأحد الشخصيات قديما إذ زار احد الخطا طين فسأله: من هو أحسـن تلاميذك؟ فأجابه الخطاط: انه أحـسن من يبري قلمه [ والمقصود القصبة ] فسال الملك ومن هو أحسن من يبري القلم؟ فأجاب الخطاط انه جلال ابنك لأنه يملك احسـن سكيـن لذلك. وهكذا ارتبطت جودة الخط بجودة الآلة. وهناك تعـبير صـيني يقول: عندما تكون الفكرة بطرف الفرشــة فلا داعي للذهاب الى نهاية الفكرة.
أستعمل قلم القصب باستمرار للخطوط الرفيعة، أما بالنسبة للخطوط العريضة، فكان علي أن أبتكر آلات تصلح للخط الجديد، لابد من آلة جديدة تشــابه قلم القصب ولكن أعرض منه وأكثر مرونة و طراوة.
إن قلم القـصب فيه منافـع مهمة للخطاط، على شرط أن يكون قد تعلم كيفية استعماله، فانه يأخذ حبرا قليلا يعادل قدرا ت الخطاط على حبس تنفـسه. فأن كل عملية الخط هي مرتبطة بعملية التـنفس، ومن لا يعرف هذا، فأنه سيجهد نفسه. ولا يسـتطيع الخط وسوف يتعب الدماغ بسـرعة. كيف يمكـنني أن أكون مفـهوما في شـرح موضوع شـائك كهذا؟
هنالك شئ طـبيعي لدى الإنسان منذ الطفولة، فعندما يرسـم الإنسـان خطا صعبا انما يوقف عملية التــنفس بنفــس الوقـت وبشـكل طبيعي. وبعض الأطـفال يعض لسـانه كي يوقف التـنفـس، ومعنى هذا انه خلال الخط وخصوصا عند خط المدات الطويلة، يقطع الخطاط تـنفــسه و يحرم فيها الجسم والدماغ من الأوكسـجين، تماما كـمن يغطــس رأسـه في الماء. لذلك فإن القصبة تأخـذ اعتــياديا كمـية من الحـبر تعادل قـدرة الإنـسان على حبـس النفـس.
ان الأقلام التي تحتوي على مخزن للحبر تكون مجهدة للخطاط، ولا يمكن الخط بها جيدا، لان سـيولة الحبر والاندفاع الداخلي تجعل الخطاط في استمرار للخط. مما يجهده، أما القـصبة فإنها تـتــناغم مع تـنفـس الإنسـان بمقـدار طول الحركات الخطية. والتي تكون قد درس طولها من قبل كبار الخطاطين ومنذ عصور قديمة.
الكثير ممن يتعلم لأول مرة الخط بقلم القصب يشـعر بالهدوء العمـيق الذي تجلبه له هذه الآلة، لانها تربي الإحساس وتغـذيه حسـب الهندسـية الخطية للحروف ، أي ترسل معلومات سليمة للفطرة الإنسانية.
البطء هنا يسـاعد الي دفع الخطاط نحو التأمل والتركيز. لذلك وللخط الحديث لابد ان أجد آلة حديـثة تـقتـرب من عطاء قـلم القصب. ويجب أن لا أضحي بالجوانب الإيجابيـة لهذه الآلة، ثم ان وجدت آلة قريبـة من القلـم. فان ما أعمله سـوف يوحي بالعلاقة العائلـية للخط الحديث مع الخط العربي القديم. وخلال ســنوات عــملت محاولات كـثـيرة. وجربت كل ما يمكن الخط فـيه: قطع من الخشب العريض أوالكارتون، الإسفنج والخشب.
أستعمل قلـم القصب باســتمرار وفي ســعادة، ولكن هذا القــلم له حدود، وهو السُــمك، إذ لا يمكن الخط فـيه أكـثر عرضا من الإصبع، لذلك لجأت الىعمل آلات تخط مباشـرة بشكل عريض ومن مواد مخــتلفة.
آن للآلة أهمــيتها ، فالخط بالقصـبة يوحي دائما بمظهر الخط العربي القــديم، بيـنما الخط بآلة عريضة جدا سـيوحي للمشـاهد بشيء جديد. وعند التعّـود على ابـتكار آلات للخط، فانه يمكن اختيار الآلة المناسـبة للخط المناسب. فمثلا لخط عبارة عن النار من الأفضل اسـتعمال آلة خفـيفة ، بينما عند التكلم عن الحجر فلابد من آلة توحي بالثـقل.
في فن الخط حيث يعيد الخطاط رسم الكلمات باستمرار، تتحول الكـتابة الي علامات يفسـرها كل مشـاهد حسـب احساساته، بعض الحروف اسـتخدمت في الماضي كرمز فلسـفي مثل حرف الواو عند الخطاط المتصوف.
إذ انه الحرف الوحيد وحرف التكرار بآن واحد. فهو الحرف الوحيـد في الأبجدية العربية، الذي يمكنه آن يكون وحيدا لقول شئ ما، بيـنما كل الحروف الأخرى تتـطلب آن تكون مرافـقة لحرف آخر. ثم آن حرف الواو هـو الحرف الذي يسـتعمل للوصل بين الكلمات. فيكون الواو حرف وحيد وحرف متعدد. فحمله الصوفيون الكثير من المعاني الغامضة في ديكور المعالم المعمارية. خصوصا ما يسمى ب [ المرآة ] أي الخطوط المتـقابلة.
كل كلمة أخطها أحمّلها أفكاري واحساساتي لذلك اليوم نفسه. بل لتلك اللحظة التي أخط فيها، فـتـتحول الكلمة آلي ما يشـبه تمثال تجريدي كبير، فان كان الموضوع يدعو للأمل فسـيكون كشـجرة متفـتحة مليـئة بالأزهار والثـمار. بـيـنما ان كنت أعيـش ظروفا محزنة فـستـتحول الكلمة الى ما يشـبه جذع أسود في قلب الشـتاء. وهكذا أضـفت ما تعلمته من تجارب في الفن التـشكـيلي على أشـكال الحروف والكلمات.
أمام الخط الحديث يواجه المـشاهد عملا تعبـيريا يفسـره هو نفسه. وحسب حاجته الآنية وثقافته، وقد يلـتقي معي بمشـاعري لحظة عملي للخط نفـسه. فالخط الذي أعمله انما هو انعكاس لتجربة معاشــة، وجزء من الحياة التي عـشـتها في تلك اللحظة. أو يتصور أشـياء لم أفكر بها أنا، فيـساهم المشـاهد آنذاك بعـملية الخلق الفـني.
التكوين الخطي الناجح هو ما يمـثـل توافـق تام مابـين أحداث الحياة وتأثــيرها على الروح والمشاعر، ومن ثم ما سـيـولد على الورقة. فـمنها خطوط تعكـس الهدوء أوالرغبة بالوصول للهدوء. وأحيانا أخري تكون الأزمة عـميقة جدا فيــبدوا القلـق واضحا في الحركات الخطية، وفي الانغلاق داخل التكوين. في بعض الأحيان تأتـي الخطوط الناجـحة بسهولة، وفي أحيان أخرى تكون الولادة عســيرة. ولابد من إعادة الخط عدة مرات، كما لو ان الرؤى تكون في أعماق بعـيدة. ولابد من التكرار للوصول للأحاســيس الخفـية الغامضة.
أريد أن أكون كمُخرج للحروف على مســرح الورق، أريد لحروفي أن ترقص على الورق. فأقلص حرفا وأطيل آخر. أعطي اسـتقامة لماهو منحني، وأدوّر ما هو مستقيم.
وليسـت هذه التغـيرات على الحروف مجانـية. انما اعملها بهدف ان تقـبل كلها الدخول في العملـية الجماعية للتكوين الخطي الذي احلم به. وعندما تقـبل الحروف كلها بذلك، وتطير فرحة فأطير معها، واهبط معها عندما تهبط. اشاركها بكل حركاتها، وتشاركني بكل أحاسيسي.
ان الطريق لهذا التوافـق مابين الأحاســيس والخط، إنما هو طريق صعب وطويل، ويفرض تمريناً متواصلا كي تولد الحركة المضبوطة، ولكن الصبر والمـثابرة تقــود دائما الى مكافـئة لا تــثمن، تعطي الخطوط التي احلم بها أو أكثر من ذلك. بل تعطي خطوط لم اكن أحلم بها. فتـزيد من التعرف على الذات. وعلى كل ما هو مغمور في الأعماق من صور منســية، من الذكريات الأولى للطفولة التي سجـلها القـلب وأنغـلق علـيها، والتي لن تعود إلا عن طريق
التعبــير الفني.
حسن المسعود ـ باريس 2006
Massoudy Calligraphe